قاعدة مختصرة في وجوب طاعة الله ورسوله ﷺ وولاة الأمور
تأليف: شيخ الإسلام ابن تيمية – ﵀ –
تحقيق: عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام عل نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد. فإن منهج أهل السنة- والجماعة مع ولاة أمرهم منهجٌ عدلٌ وسطٌ يقوم على أساس الإتباع ولزوم الأثر كما هو شأنهم في سائر أمور الدين، فهم يقتدون ولا يبتدون، ويتبعون ولا يبتدعون، ولا يعارضون سنة رسول الله ﷺ بعقولهم وأفكارهم وأهوائهم.
آثار السلف في لزوم الأثر ... قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود- ﵁: "إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع ولن نضل ما تمسكنا بالأثر" ١. وقال: "إياكم والتبدع والتنطع والتعمق، وعليكم بالعتيق " _________ ١ رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (١/ ٨٦) .
آثار السلف في لزوم الأثر ... قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود- ﵁: "إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع ولن نضل ما تمسكنا بالأثر" ١. وقال: "إياكم والتبدع والتنطع والتعمق، وعليكم بالعتيق " _________ ١ رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (١/ ٨٦) .
1 / 3
وقال: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، وكل بدعة ضلالة".
وقال: "إنها ستكون أمور مشتبهات فعليكم بالتُّؤدة، فإنك أن تكون تابعًا في الخير خيرٌ من أن تكون رأسًا في الشر".
وقال: "إنكم اليوم على الفطرة، وستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثًا فعليكم بالهدي الأول ".
وقال: "عليكم بالطريق فلئن لزمتموه لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن خالفتموه يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا"١.
وكتب الخليفة عمر بن عبد العزيز- ﵀ إلى بعض عماله: "أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره وإتباع سنة رسوله ﷺ، وترك ما أحدث المحدثون بعده فيما جرت به سنته وكُفوا مؤنته، واعلم أنه لم يبتدع إنسان بدعة إلا قدم قبلها ما هو دليل عليها وعبرة فيها، فعليك
_________
١ روى هده الآثار الخمسة عن ابن مسعود- ﵁ ابنُ بطة في الإنابة (١/٣٢١، ٣٢٤، ٣٢٨، ٣٣٠، ٣٣٢) .
1 / 4
بلزوم السنة، فإنها لك- بإذن الله- عصمة، واعلم أن من سن السنن قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والتعمق والحمق، فإن السابقين عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وكانوا هم أقوى على البحث ولم يبحثوا"١.
وقال محمد بن سيرين- ﵀: (كانوا يقولون: إذا كان الرجل على الأثر فهو على الطريق"٢.
وقال الأوزاعي- ﵀: "نَدُور مع السنة حيث دارت"٣.
وقال أبو العالية الرياحي: "تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه وعليكم بالصراط المستقيم، فإن الصراط المستقيم الإسلام، ولا تنحرفوا عن الصراط المستقيم يمينًا وشمالًا، وعليكم بسنة نبيكم، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين أهلها العداوة والبغضاء"٤.
_________
١ رواه ابن بطة في الإبانة (١/ ٣٢١) .
٢ رواه ابن بطة في الإبانة (١/٣٥٧) .
٣ رواه اللالكائي في شرخ الاعتقاد (١/ ٦٤) .
٤ رواه ابن بطة في الإبانة (١/٣٣٨) .
1 / 5
فمن أراد لنفسه الفوز والنجاة عليه أن يلزم غرز هؤلاء ويسلك نهجهم ويتبع طريقهم، ومن كان كذلك فقد سبق سبقًا بعيدا وفاز فوزًا عظيما.
نقول عن السلف في ذلك ... وإن من نهج أهل السنة والجماعة وسبيلهم مع ولاة أمرهم: أنهم يرون وجوب السمع والطاعة لهم في المنشط والمكرة أبرارًا كانوا أو فجارًا، وإنما الطاعة في المعروف، فإن أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وينصحون لهم، ولا يدعون عليهم بل يدعون لهم بالصلاح والمعافاة، ولا يرون جواز الخروج عليهم ولا قتالهم ولا نزع يد الطاعة منهم، وإن جاروا وظلموا، بل يعدون ذلك من البدع المحدثة. قال إمام أهل السنة الإمام المبجل أحمد بن حنبل- ﵀: "أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ والإقتداء بهم وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين.
نقول عن السلف في ذلك ... وإن من نهج أهل السنة والجماعة وسبيلهم مع ولاة أمرهم: أنهم يرون وجوب السمع والطاعة لهم في المنشط والمكرة أبرارًا كانوا أو فجارًا، وإنما الطاعة في المعروف، فإن أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وينصحون لهم، ولا يدعون عليهم بل يدعون لهم بالصلاح والمعافاة، ولا يرون جواز الخروج عليهم ولا قتالهم ولا نزع يد الطاعة منهم، وإن جاروا وظلموا، بل يعدون ذلك من البدع المحدثة. قال إمام أهل السنة الإمام المبجل أحمد بن حنبل- ﵀: "أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ والإقتداء بهم وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين.
1 / 6
والسنة عندنا آثار رسول الله ﷺ، والسنة تفسر القرآن، وهي دلائل القرآن، وليس في السنة قياس ولا تُضِرَب لها الأمثال، ولا تُدرَك بالعقول ولا الأهواء، إنما هي الإتباع وترك الهوى، ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها ويؤمن بهالم يكن من أهلها١.
... فذكر أمورًا ثم قال: والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر، ومن ولي الخلافة فاجتمع الناس عليه ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين.
والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة، البر والفاجر لا يترك، وقسمة الفيء وإقامة الحدود إلى الأئمة ماضٍ ليس لأحد أن يطعن عليهم ولا ينازعهم، ودفع
_________
١ في كلام الإمام أحمد هذا تعريف لصاحب السنة المستحق للوصف بهذا اللقب الجليل، بأنه هو الملازم لخصال السنة اللازمة التي من ترك خصلة منها لم يقلها ويؤمن بها لم يكن من أهل الله، بل يكون من أهل البدع والأهواء.
1 / 7
الصدقات إليهم جائزة ونافذة، من دفعها إليهم أجزأت عنه برًا كان أو فاجرًا.
وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولَّى جائزة تامة ركعتين، من أعادهما فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنة ليس له من فضل الجمعة شيء، إذا لم ير الصلاة خلف الأئمة من كانوا برهم وفاجرهم، فالسنة أن تصلي معهم ركعتين من أعادهما فهو مبتدع، وتدين بأنها تامة ولا يكن في صدرك من ذلك شك.
ومن خرج على إمام المسلمين وقد كان الناس اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة بأي وجه كان بالرضا أو بالغلبة فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله ﷺ، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية. ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق ... "١.
_________
١ شرح الاعتقاد للالكائي (١/١٦٠،١٦١) وهو من رواية عبدوس عن الإمام احمد.
1 / 8
ثم ذكر بقية الأصول- أصول الله التي من فارقها لم يكن من أهل السنة-.
وذكر نحوًا من هذا وقريبًا منه االإمام علي بن المديني في عقيدته١.
وقال الإمام أحمد- ﵀ أيضًا:. "هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر، وأهل السنة المتمسكين بعروقها المعروفين بها، المقتدى بهم فيها، من لدن أصحاب النبي ﷺ إلى يومنا هذا، وأدركت من أدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج من الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق ".
وذكر أمورًا من أصول الاعتقاد منها قوله: " ... والانقياد إلى من ولاه الله أمركم، لا تنزع يدًا من طاعته، ولا تخرج عليه بسيفك حتى يجعل الله لك
_________
١ شرح الاعتقاد للالكائي (١/ ١٦٧، ١٦٨) .
1 / 9
فرجًا ومخرجًا، ولا تحرج على السلطان، وتسمع وتطيع، ولا تنكث بيعة، فمن فعل ذلك فهو مبتدع مخالف مفارق للجماعة، وإن أمرك السلطان بأمر هو لله معصية، فليس لك أن تطيعه ألبتة، وليس لك أن تخرج عليه ولا تمنعه حقه ... "١.
وقال الإمام البخاري- ﵀: "لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر ... وذكر جماعة منهم ثم قال: ما رأيت واحدًا منهم يختلف في هذه الأشياء ... فذكر أمورًا منها:
وأن لا ننازع الأمر أهله لقول النبي ﷺ: "ثلاث لا يَغِل عليهن قلب امرىء مسلم: إخلاص العمل لله، وطاعة ولاة الأمر، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم"٢. ثم أكد في قوله: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
_________
١ طبقات الحنابلة لابن أبي يعلي (١/ ٢٤-٢٧) وهو من رواية أبي العباس الإِصطخري عن الإمام أحمد.
٢ يأتي تخريجه.
1 / 10
الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ ١: وأن لا يرى السيف على أمة محمد ﷺ، وقال الفضيل: لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام، لأنه إذا صلح الإمام أمن البلاد والعباد. قال ابن المبارك: يا معلم الخير من يجزي على هذا غيرك"٢.
وقال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: "سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازًا وعراقًا وشامًا ويمنًا فكان من مذهبهم ... فذكرا أمورًا منها: ... ونقيم الجهاد والحج مع أئمة المسلمين في كل دهر وزمان، ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في
_________
١ سورة النساء: الآية ٥٩.
٢ شرح الاعتقاد للالكائي (١/١٧٢-١٧٦) . والمراد بكلمة ابن المبارك الثناء على الفضيل، لأنه لم يرد أن يخص نفسه بالدعوة المستجابة لو كانت له، بل أراد أن يجعلها لمن يعم نفعه إذا صلح وهو السلطان.
1 / 11
الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولاه الله ﷿ أمرنا، ولا ننزع يدًا من طاعة، ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة، فإن الجهاد ماض مذ بعث الله ﷿ نبيه ﵊ إلى قيام الساعة مع ولي الأمر من أئمة المسلمين لا يبطله شيء، والحج كذلك، ودفع الصدقات من السوائم إلى أولي الأمر من أئمة المسلمين ... "١.
وقال سهل بن عبد الله التُّسْتَري وقد قيل له: متى يعلم الرجل أنه على السنة والجماعة؟
قال: "إذا علم من نفسه عشر خصال:
لا يترك الجماعة، ولا يسب أصحاب النبي ﷺ، ولا يخرج على هذه الأمة بالسيف، ولا يكذب بالقدر، ولا يشك في الإيمان، ولا يماري في الدين، ولا يترك الصلاة على من يموت من أهل القبلة بالذنب، ولا يترك المسح عل الخفين، ولا يترك الجماعة خلف كل وال جَارَ أو عَدَل "٢.
_________
١ شرح الاعتقاد للاكائي (١/ ١٧٦-١٨٠) .
٢ شرح الاعتقاد للالكائى (١/ ١٨٣) .
1 / 12
وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم ولا ننزع يدًا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله ﷿، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والعافية"١.
وقال الإمام البربهاري- ﵀: "واعلم أن جور السلطان لا ينقص فريضة من فرائض الله التي افترضها على لسان نبيه ﷺ، جوره على نفسه، وتطوعك وبرك معه تام إن شاء الله تعالى، يعني الجماعة والجمعة والجهاد معهم وكل شيء من الطاعات فشاركهم فيه، وإذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله، يقول الفضيل بن عياض: لو كان لي دعوة ما جعلتها إلا في السلطان. فأُمرنا أن ندعو لهم بالصلاح، ولم نؤمر أن ندعو عليهم وإن جاروا وظلموا؛ لأن جورهم وظلمهم عل أنفسهم وعلى
_________
١ انظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص ٣٦٨) .
1 / 13
المسلمين، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين "١.
وقال الإمام ابن بطة العكبري: " ... ونحن الآن ذاكرون شرح السنة ووصفها وما هي في نفسها، وما الذي إذا تمسك به العبد ودان الله به سُمى بها واستحق الدخول في جملة أهلها، وما إن خالفه أو شيئًا منه دخل في جملة من عبناه وذكرناه وحذر منه من أهل البدع والزيغ، مما أجمع على شرحنا له أهل الإسلام وسائر الأمة مذ بعث الله نبيه ﷺ إلى وقتنا هذا".
وذكر جملة من هذه الأصول ثم قال:
"ثم من بعد ذلك الكف والقعود في الفتنة ولا تخرج بالسيف على الأئمة وإن ظلموا.
وقال عمر بن الخطاب- ﵁: "إن ظلمك فاصبر، وإن حرمك فاصبر".
وقال النبي ﷺ لأبي ذر: "اصبر وإن كان عبدًا حبشيًا" ٢.
_________
١ انظر: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (٢/٣٦) .
٢ يأتي تخريجه.
1 / 14
وقد أجمعت العلماء من أهل الفقه والعلم والنسك والعباد والزهاد من أول هذه الأمة إلى وقتنا هذا: أن صلاة الجمعة والعيدين ومنى وعرفات والغزو والحج والهدي مع كل أمير بر وفاجر، وإعْطَاءَهم الخراج والصدقات والأعشار جائز، والصلاة في المساجد العظام التي بنوها، والمشي على القناطر والجسور التي عقدوها، والبيع والشراء وسائر التجارة والزراعة والصنائع كلها في كل عصر، ومع كل أمير جائز على حكم الكتاب والسنة، لا يضر المحتاط لدينه والمتمسك بسنة نبيه ﷺ ظلم ظالم ولا جور جائر إذا كان ما يأتيه هو على حكم الكتاب والسنة، كما أنه لو باع واشترى في زمن الإمام العادل بيعًا يخالف الكتاب والسنة لم ينفعه عدل الإمام، والمحاكمة إلى قضاتهم ورفع الحدود والقصاص وانتزاع الحقوق من أيدي الظلمة بأمرائهم وشرطهم، والسمع والطاعة لمن والوه وإن كان عبدًا حبشيًا إلا في معصيته الله ﷿، فليس لمخلوق فيها طاعة، ثم من بعد ذلك اعتقاد الديانة بالنصيحة للأئمة وسائر الأمة في الدين والدنيا
1 / 15
ومحبة الخير لسائر المسلمين، تحب لهم ما تحب نفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك"١.
وقال أبو منصور معمر بن أحمد الأصبهاني في رسالته التي جمعها في السنة لما رأى غربة السنة وكثرة الحوادث واتباع الأهواء.. قال: "ثم من السنة الانقياد للأمراء والسلطان بأنه لا يخرج عليهم بالسيف وإن جاروا، وأن يسمعوا له وأن يطيعوا وإن كان عبدًا حبشيًا أجدع، ومن السنة الحج معهم والجهاد معهم وصلاة الجمعة والعيدين خلف كل بر وفاجر ... ".
وقال في تمامها: "ويشهد لهذا الفصل المجموع من السنة كتب الأئمة، فأول ذلك كتاب السنة عن عبد الله بن أحمد بن حنبل وكتاب السنة لأبي مسعود وأبي زرعة وأبي حاتم، وكتاب السنة لعبد الله بن محمد بن النعمان وكتاب السنة لأبي عبد الله محمد بن يوسف البنا الصوفي- ﵏ أجمعين، ثم كتب السنن للمتأخرين مثل أبي أحمد العسال، ألفوا كتب السنة، فاجتمع هؤلاء كلهم على
_________
١ انظر: الشرح والإبانة (ص ١٧٥ و٢٧٦-٢٨١) .
1 / 16
إثبات هذا الفصل من السنة.."١.
وقال الإمام أبو إسماعيل الصابوني: "ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم برًا كان أو فاجرًا، ويرون جهاد الكفرة معهم وإن كانوا جورة فجرة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح وبسط العدل في الرعية، ولا يرون الخروج عليهم بالسيف، وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف، ويرون قتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى طاعة الإمام العدل"٢.
وقال التيمي: "فصل يتعلق باعتقاد أهل السنة ومذهبهم ... وطاعة أولي الأمر واجبة، وهي من أوكد السنن، ورد بها الكتاب والسنة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ٣.
والنقول عن أهل السنة والجماعة في تقرير هذا الأصل
_________
١ انظر: الحجة في بيان المحجة للتيمي (١/٢٣٥-٢٤٢) .
٢ عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص ٩٢، ٩٣) .
٣ الحجة في بيان المحجة (٢/ ٤٧٨) .
1 / 17
الثابت كثيرة جدًا، ولا يخلو كتاب من كتب أهل السنة والجماعة المؤلفة في شرح السنة وأصول الاعتقاد من تقرير هذا الأصل وبيانه وشرحه.
من الأمثلة العملية لتطبيق أهل السنة والجماعة لهذا المنهج ... ثم إن من الأمثلة العملية في تطبيق أهل السنة والجماعة لهذا المنهج القويم مع ولاة الأمر؛ موقف الإمام أحمد إمام أهل السنة- ﵀ عندما جاءه نفر من فقهاء بغداد وشاوروه في ترك الرضا بإمرة الواثق وسلطانه الذي ظهر القول بخلق القرآن ودعا إليه وأمر بتدريسه للصبيان في الكتاتيب، وقرب من القضاة وغيرهم من قال به، وعزل وأبعد من خالفه، فأنكر الإمام أحمد عليهم ذلك وأكثر من نهيهم عن ذلك وقال: "لا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تَشُقُّوا عَصَا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ولا دماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم، ولا تعجلوا ... ". هكذا أوصاهم وصية العالم السني الحكيم، فخالفوه وكان ما كان. قال حنبل بن إسحاق بن حنبل: " ... لما أظهر
من الأمثلة العملية لتطبيق أهل السنة والجماعة لهذا المنهج ... ثم إن من الأمثلة العملية في تطبيق أهل السنة والجماعة لهذا المنهج القويم مع ولاة الأمر؛ موقف الإمام أحمد إمام أهل السنة- ﵀ عندما جاءه نفر من فقهاء بغداد وشاوروه في ترك الرضا بإمرة الواثق وسلطانه الذي ظهر القول بخلق القرآن ودعا إليه وأمر بتدريسه للصبيان في الكتاتيب، وقرب من القضاة وغيرهم من قال به، وعزل وأبعد من خالفه، فأنكر الإمام أحمد عليهم ذلك وأكثر من نهيهم عن ذلك وقال: "لا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تَشُقُّوا عَصَا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ولا دماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم، ولا تعجلوا ... ". هكذا أوصاهم وصية العالم السني الحكيم، فخالفوه وكان ما كان. قال حنبل بن إسحاق بن حنبل: " ... لما أظهر
1 / 18
الواثق هذه المقالة، وضرب عليها وحبس، جاء نفر إلى أبي عبد الله من فقهاء أهل بغداد: فيهم بكر بن عبد الله، وإبراهيم بن علي المطبخي، وفضل بن عاصم، وغيرهم فأتوا أبا عبد الله وسألوا أن يدخلوا عليه فاستأذنت لهم فدخلوا عليه، فقالوا له: يا أبا عبد الله: إن الأمر قد فشا وتفاقم، وهذا الرجل يفعل ويفعل، وقد أظهر ما أظهر، ونحن نخافه على أكثر من هذا، وذكروا له أن ابن أبي دؤاد مضى على أن يأمر المعلمين بتعليم الصبيان في الكتاب مع القرآن، القرآن كذا وكذا.
فقال لهم أبو عبد الله: وماذا تريدون؟
قالوا: أتيناك نشاورك فيما نريد.
قال: فما تريدون؟
قالوا: لا نرضى بإمرته ولا بسلطانه.
فناظرهم أبو عبد الله ساعة، حتى قال لهم- وأنا حاضرهم-: "أرأيتم إن لم يبق لكم هذا الأمر، أليس قد صرتم من ذلك إلى المكروه؟ عليكم بالنكرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا
1 / 19
تسفكوا دماءكم ولا دماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم، ولا تعجلوا، واصبروا حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر.
ودار بينهم في ذلك كلام كثير لم أحفظه، واحتج عليهم أبو عبد الله بهذا فقال بعضهم: إنا نخاف على أولادنا، إذا ظهر هذا لم يعرفوا غيره ويُمحى الإسلام ويدرس.
فقال أبو عبد الله: كلا، إن الله ﷿ ناصر دينه وإن هذا الأمر له رب ينصره، وإن الإسلام عزيز منيع.
فخرجوا من عند أبي عبد الله، ولم يجبهم إلى شيء مما عزموا عليه، أكثر من النهي عن ذلك والاحتجاج عليهم بالسمع والطاعة، حتى يفرج الله عن الأمة فلم يقبلوا منه.
فلما خرجوا، قال لي بعضهم: امض معنا إلى منزل فلان رجل سمو حتى نوعده لأمر نريد.
فذكرت ذلك لأبي، فقال لي أبي: لا تذهب واعتل
1 / 20
عليهم، فإني لا آمن أن يغمسوك معهم فيكون لأبي عبد الله في ذلك ذكر، فاعتللت عليهم ولم أمض معهم.
فلما انصرفوا دخلت أنا وأبي على أبي عبد الله، فقال أبو عبد الله لأبي: يا أبا يوسف هؤلاء قوم قد أشرب قلوبهم ما يخرج منها فيما أحسب، فنسأل الله السلامة، ما لنا ولهذه الآفة، وما أحب لأحد أن يفعل هذا. فقلت له: يا أبا عبد الله، وهذا عندك صواب؟ قال: لا، هذا خلاف الآثار التي أمرنا فيها بالصبر، ثم قال أبو عبد الله: قال النبي ﷺ: "إن ضربك فاصبر، وإن حرمك فاصبر، وإن وليت أمره فاصبر".
وقال عبد الله بن مسعود: كذا، وذكر أبو عبد الله كلامًا لم أحفظه.
قال حنبل: فمضى القوم، فكان من أمرهم أنهم لم يحمدوا، ولم ينالوا ما أرادوا، اختفوا من السلطان وهربوا وأُخد بعضهم فحبس، ومات في الحبس"١!؟
_________
١ ذكر محنة الإمام أحمد بن حنبل لحنبل بن إسحاق بن حنبل (ص٧٠-٧٢) وراجع الفتاوى لابن تيمية (١٢/٤٨٨) .
1 / 21
وفي هذه القصة أبلغ عظة في خطورة مخالفة منهج أهل السنة والجماعة في هذا الأصل العظيم، وأن مفارق منهجهم لا يجنى من ذلك إلا مثل هذه العواقب الوخيمة، إضافة إلى مجانبته للحق ومفارقته الصواب.
ومثال آخر: فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية- ﵀ قد عاش في زمن كانت السلطة فيه لديها قصور وتقصير بَيِّنٌ، بل إنه- رحمه اطه- أوذي من قبل السلطة بسبب تقريره ونشره لعقيدة أهل السنة والجماعة، ورده على الفرق الضالة كالصوفية والأشعرية، وسجن بسبب ذلك مرارًا، حتى إنه- ﵀ مات محبوسًا بقلعة دمشق١.
ومع ذلك كان شديد التحذير من الخروج عل الولاة ونزع اليد من الطاعة، ويبين أن هذا المسلك يترتب عليه من الفساد ما هو أعظم مما يقع من الولاة من فسق أو ظلم أو حور.
_________
١ وقال قبل موته ما معنا: "إني قد أحللت السلطان الملك الناصر، من حبسه إياي لكونه فعل ذلك مقلدًا غيره معذورًا، ولم يفعله لحظ نفسه، بل لما بلغه مما ظنه حقًا من مبلِّغه، والله يعلم إنه بخلافه". الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية للبزار (ص٨٢) .
1 / 22