أقول: ما أدري ما معنى هذا. فإن الماء إذا انحرف عن مكان، إنما ينحرف باستفال الموضع الذي انحرف إليه عن الموضع الذي انحرف عنه. إما بأخدود يحفر، أو بتهدم من نفس الأرض. وحينئذ يرجع الماء القهقرى وينعطف عن المرتفع، وينحدر إلى المنخفض. هذا الذي يفهم من لفظة انحرف الماء. ومتى كان الأمر كذلك فلا يعود الماء إليه، اللهم إلا أن يدعي أن مدد الماء يقوى دفعه فيزيد إلى أن يعلو المنخفض، ولم يجد له حيزا يشغله غير ذلك الذي انحرف عنه. وهذا غير مفهوم من مجرد كلامه.
ولو قال: فإن الغيث إن أقلع صوبه عن مكان، فلا بد وأن يعود في وقت إلى ذلك المكان. أو فإن الماء إذا جفا موضع جريته في وقت، فلا بد أن ينعطف على ذلك المكان. أو إذا قطعت سقياه عن مكان أو ما ناسب ذلك، غير لفظة انحرف.
وما أحلى قول القاضي الفاضل: وقد يعود الماء إلى مشرعه، والكوكب إلى مطلعه.
وما أحسن قول القائل في معنى قول ابن الأثير:
سأصبر صبر الحر من غير قدرةٍ ... على الصبر لكن من طريق التجمّل
لعلك يومًا أن تردّك رحمةٌ ... عليّ فتلقاني بوجه التفضل
مناقشة مثال آخر لابن الأثير
قال: ومن ذلك ما ذكرته في وصف الخمر وهو: الخمر لا تفي لذة إسكارها بتنعيص خمارها، فهي خرقاء البنان، بذيئة اللسان، وتأنيثها يدلك أنها من ناقصات العقول والأديان. وقد عرف منها سنة الجور في أحكامها، ولولا ذلك لما استأثرت من الرؤوس بجناية أقدامها. وهذا أحسن من قول الشاعر وأغرب وألطف، لأنه قال:
ذكرت حقائدها القديمة إذ غدت ... زمنا تداس بأرجل العصّار
لانت لهم حتى انتشوا وتمكنت ... منهم فصاحت فيهم بالثار
أقول: أما إضافة البنان واللسان والعقل والدين إلى الخمر، فإنه من الغريب وأغرب من ذلك أن جعل للرؤوس أقداما، وأغرب من هذين كونه يدعي أن كلامه ألطف وأحسن وأغرب من قول الشاعر، والفرق مثل الصباح ظاهر. وكأنه أراد أن يد معاقرها خرقاء، ولسانه بذيء، وعقله ودينه ناقصان ولو نسب ذلك إلى الندمان في ذم الخمر لكان قادحا فيها. وإنما إضافة الجوارح والعقل والدين إليها فغير جائز إلا بتأويل بعيد إلى الغاية.
وما أحسن قول أبي تمام:
خرقاء يلعب بالعقول حبابها ... كتلاعب الأفعال بالأسماء
وقول القائل:
وصف المدامة شاربوها أنها ... تحوي السرور وتطرد الهمّا
صدقوا هفت بعقولهم وبدينهم ... أرأيت عادم دين مغتما
وقول ابن سناء الملك:
عروسكم يا أيها الشرب طالقٌ ... وإن فتنت من حسنها كلّ مجتلي
دفعت لها مالي وعقلي معجّلا ... فقالت وجنات النعيم مؤجلي
قيل: إن سليمان بن عبد الملك ناول نصيبا قدحا. فقال. يا أمير المؤمنين، إنما وصلت إليك بعقلي فإن رأيت أن لا تفرق بين عقلي وبيني فعلت وقول السراج الوراق.
شؤم أم الخبائث الخمر شومٌ ... جاوز الحد فاستمع ما يعدّ
فلها في الدنان حبسٌ وللرا ... ووق صلبٌ وللمعاقر جلد
وأما قوله: فاستثأرت من الرؤوس بجناية أقدامها. الضمير لا يخلو: إما أن يعود إليها أو إلى الرؤوس وكلاهما غير جائز.
وما أحسن قول ابن زهر إلا شبيلي:
وموسّدين على الأكف خدودهم ... قد غالهم في السّكر ما قد غالني
ما زلت أسقيهم وأشرب فضلهم ... حتى سكرت ونالهم ما نالني
والكأس تعلم كيف تأخذ ثارها ... إني أملت إناءها فأمالني
وقال أبو تمام من قصيدة:
إذا اليد نالتها بوترٍ توقّرت ... على ضغنها حتى استقادت من الرجل
وتصرع ساقيها بإنصاف شربها ... وصرعهم بالجور في صورة العدل
وأما قوله: وتأنيثها يدلك أنها من ناقصات العقول والأديان. ما أحسن ما استعمل المتنبي هذا في وصف الدنيا فقال:
شيم الغانيات فيها فما أد ... ري لذا أنث اسمها الناس أم لا
1 / 22