وهناك يعلم قدر هذا الرجل في إطلاعه، وبسط ظله وغاية ارتفاعه. حتى قيل: إن نثره أشبه منه بالمنظوم.
وقد نثر ابن خلف الحماسة وزاد عليها في مجلدة وسمها بالمنثور البهائي وادعى فيه أنه هو الذي ابتدع حل المنظوم، كما أن الخليل بن أحمد اخترع العروض.
وأما ابن الأثير، فإنه أكثر من الحل، وأتى فيه بما حرم وما حل، وزاد من رقمه في بروده، وبالغ من نظمه في عقوده.
والخد بهجته بخالٍ واحد ... وتقلّ فيه بكثرة الخيلان
وأتى فيه بالسمين والغث، وما جاء فيه بجديد إلا وقرنه بالرث. وحل المنظوم إنما هو نوع واحد، وقسم لو فقد ما كان عليه واجد، وما لم تمكن فيه خفة تروجه، وحلاوة تقرنه بالسمع وتزوجه، لم يعلق بالسمع قرطه، ولم يجاز بالقبول شرطه. وما أمثله إلا بعقد نثرت حباته، وروض صوحت زهراته. فأي حسن لقريض خانه وزنه، وأي نضارة لروض جفاه مزنه. اللهم إلا أن يكون المنشىء سليم الفطرة، قويم الفكرة، يستدرك على الناظم ما فاته، ويرهف صارمه ويثقف قناته، إما باحتراز ما لم يحد عنه، أو الإتيان بملائم لم يتمكن لضيق الوزن منه، أو باختصار ما يقوم المعنى بدونه، أو بزيادة زهر غصونه، أو بجودة سبكه، أو بإتقان حبكه. وهنا تظهر القدرة المتمكنة، وتكون أدلة الفصاحة بينه.
فليس لوصل من يدعى فيأتي ... عذوبة وصل من يدعى فيأبى
وأما القاضي الفاضل ﵀، فإنه سلك طريقا غريبة، وأظهر فنونا عجيبة، زعم بعضهم أنه كان جل اعتماده على حفظ كلام ابن أبي الشخباء، وأنه كان يستحضر أكثر كلامه، وبعضهم زعم أنه اعتمد على كلام ابن أبي الخصال، وبعضهم زعم أنه اعتمد على كلام البديع وهيهات، ليس في كلام واحد منهم تلك النشوة، ولا لمتكلم غيره تلك الخطوة في نيل الحظوة، ولا لمترسل حسنه الذي شق قلوب الرجال إن لم يقطع أيدي النسوة. بينما هو يخاطبك بالكلام، إذا به قد عاطاك كؤوس المدام، وبينا هو يناوح مهبك، إذا به قد سحر لبك، وبينا هو يتكلم مثل الناس على العادة، إذا به قد سرد الكواكب الوقادة، وبينا هو قد ألفتك ظهره، إذا به قد أدار لك المحيا، وبينا هو يسايرك في الثرى، إذا به قد تبختر عند الثريا.
فإن كان من درٍ فما الدرّ هكذا ... وإن كان سحرا إن ذا لعجيب
وها أنا أورد هنا من كلامه نبذة تكون لباقيه عنوانا، وفلذة تكون بينه وبين غيره ميزانا، من ذلك كتاب كتبه في وصف كتاب كتبه موفق الدين خالد بن مهذب الدين القيسراني بذهب وهو: وقف الخادم على ما دبجته أنامل الحضرة التي إذا صاب سحابها روض لساعته، وإذا عدمت حقيقة السحر فهي التي نفثها بيانه في روع يراعته، فانتقل من الاستحسان إلى التسبيح لأن حروفه شذور السبح، وخلص التفضيل من الترجيح بأول ما صافح الطرف من الطرف واللمح من الملح. فتناول منها جنة قد زخرفت بنار، وليلة قد وشحت بنهار، وروضة قد سقيت بأنها عقار، وغصون أقلام قد فتحت بنوار نضار، وعارض ذهب قد أذيب يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار. فتعالى من ألان لداود ﵇ الحديد ولها الذهب، وأيقظ به جد هذه الصناعة بعد أن نام بين الأنام فهب، وأعلم الناس أن القلم في يد ابن البواب للضرب لا للطرب، وأن قيمة لك منها ومنه ما به في هذه الصناعة كتب، وحلاها بتمام البدور وأعطاه ما أعطى أباه هلالًا من المحاق، وأخر زمانها وقدم زمانه ورزقها السبق وحرمه اللحاق.
1 / 16