أما الزوجة، فهي تحتقره للتكبر السخيف الذي يلازمه، فهو دائما منفوخ الصدر، يتكلم وكأنما كلامه وحي من السماء، ويخاطبها وكأنما يتنازل كل التنازل أن يمتد بينهما حديث.
وكم كان سهلا على بهيرة أن تبدي له الاحترام، وتشبع الغرور العجيب الذي ركب فيه، ثم هي بعد ذلك تصنع ما تشاء؛ لتشعر أنها تنتقم من غروره، وأنها قادرة دائما على تحطيم كبريائه، ولو في نفسها. والحب لا يستطيع أن يماشي الاحتقار مطلقا، وهكذا أصبح من المستحيل أن تحب بهيرة زوجها، وإذا انعدم الحب من البيت؛ فكل شيء غير شريف معقول وطبيعي.
أما ابناه فهما لم ينتهيا إلى احتقار كبريائه إلا حين تقدمت بهما السن، وعرفا آباء آخرين لأصدقائهما، وبالمقارنة تبين لهما أن أمر أبيهما عجيب.
لقد وجدا الآباء الآخرين يحبون أبناءهم، ويبدون هذا الحب في شتى صور، قد يبدو منهما الحب في كلمة إشفاق، أو حتى في كلمة تأنيب حانية، أو قد يبدو في منحة مالية، أو قد يبدو في اهتمام بدراسة أو إشفاق عند مرض. أما أبوهما فلا يبدي لأي منهما أي عاطفة، إنه يحبهما لا شك ولكنه بصلفه وتكبره يختزن حبه، ويضن به أن يظهر أنه يستكبر أن يبين منه حب؛ لعله كان ينتقم لنفسه أن أباه لم يظهر له حبه منذ بدأ هو يدرك الأشياء، أو لعله كان يظن أن الأجدر بالأب ألا يظهر منه حب، فما دام أبوه قد صنع هذا، فهذا إذن هو المثل الأعلى. أما حب أمه له وتفخيمها لشأنه، فهذا أمر مفروض؛ لأنه يرى نفسه فوق البشر، وأمه لم تزد على أن اعترفت بتفوقه وسموه، وهو بعد إذا سأل نفسه فيم هذا التفوق أو ذاك السمو؟ سارعت إليه نفسه بالكثير الكثير من توافه الأمور التي تجعله يتأكد أنه صنف فوق البشر، وأنه إنسان يسمو على الإنسانية.
وهكذا شب باسل وشهاب في منزل قاتم، الأم فيه تبدو تابعة للأب، وهي في حقيقة الأمر الشخصية المتبوعة لا التابعة؛ لأنها استطاعت في مهارة أن تجعل زوجها يصنع ما تشاء أن تصنع ببعض كلمات بسيطة من إشباع الغرور، ثم هي بعد ذلك تسحبه خلفها كيفما تريد، ويسير الأهبل خلفها وهو يظن نفسه يقودها، وينفذ كل ما تشاء، وهو يظن أنها هي التي تنفذ كل ما يشاء، والابنان يكبران ويدركان هذه الحقيقة، فتنقلب موازين الحياة عندهما، ويكرهان أباهما؛ لأنهما لم يريا منه شيئا يستحق الحب، ويعجبان من أمهما؛ لأنها جعلت من أبيهما هذا المسخ الشائه، وحين توثقت صلة الأب والأم بحامد عبد البديع وجد باسل وشهاب في حامد شخصية كريهة.
وربما كانت هذه الكراهية؛ لأنه دخل البيت الذي لم يتعود أن يستقبل أحدا؛ فقد كانت الأم تريد أن تستولي على الزوج، وكان الناس بطبعهم ينفرون من الزوج. وهكذا كان البيت مقفل الأبواب دون الآخرين، ولو لم يكن في البيت مع الأب والأم سهير أم يحيى؛ لكانت حياة الطفلين في البيت جحيما، فالأم مشغولة بخططها المشروعة وغير المشروعة، والأب مشغول بغروره، ولا أحد يسكب على الطفلين حنانا إلا سهير. وربما أحست سهير أنها هي التي جعلت ابنها مرسوما بهذا الجفاء والغرور، وكانت تعزي نفسها أنها لم تكن تتصور أن يتمادى فيه الغرور إلى هذا الحد، ولكن تلك هي مصيبة المشاعر في نفوس الناس؛ فإنها، قبيحة كانت أو حميدة، لا تعرف أين ينبغي لها أن تقف، وهكذا تصبح المشاعر القبيحة بالغة القبح، وتنقلب المشاعر الحميدة إلى شيء يدعو إلى الضجر أحيانا، أو السخف، أو الملالة، فتنقلب في أحيان كثيرة إلى شيء كريه هي الأخرى.
وحين ماتت سهير، كان الطفلان يشبان إلى بواكير المراهقة، وانقطع عنهما ذلك المنهل من الحنان في وقت كانا في أشد الحاجة إليه.
وحينئذ دخل إلى حياتهما حامد، وأحسا نحوه بذلك المقت، وإن لم يدريا لذلك سببا، وأغلب الأمر أن السبب كان في داخلهما، ولكن حامد استطاع في مهارة فائقة أن يتقرب منهما، وقد كانت السبل مهيأة له من قريب.
لقد عرف كيف يعاملهما كرجلين، وراح يصحبهما معه إلى مزارع أبيهما كلما ذهب لعمل في مزارع أبيهما، أو في مزرعته هو بعد أن أصبح مالكا لعشرين فدانا هناك.
وعرف أيضا كيف يكون واسطة لهما عند أبيهما، فاشترى كل منهما سيارة، وهو يدخل إلى الجامعة.
صفحه نامشخص