وماذا بي أن أمعن عنده النظر، والحياة نفسها خلقته في عجلة، فلم تجعل له عمقا يقف عند محب للتعمق؟
إنه ابن خالة خديجة، وكان طبيعيا أن تقوم بينه وبين عدلي هذه الصداقة التي تجمع السخفاء والضائعين في مواكب التفاهات، يزيدهم الغنى تفاهة ولا يستر عليهم حقيقة أمرهم. ومن عجب أن تصحب فضيحة عدلي مع أبيه فضيحة لعزت في الدوائر التي تحيط بهما.
كان عزت على صلة بسيدة طلقت حديثا من زوجها، وأعجبها جمال عزت، وربما أعجبها أيضا فراغه. فالسيدات في أحيان كثيرة يستطعن أن يعجبن بما لا يعجب به آخرون. ولم يكن عزت في صلته بهذه السيدة يطلب منها وفاء أو ولاء، فلقد عرف أنها اتصلت بعد أن عرفته بباشا عجوز أرغمته ظروف خارجة عن إرادته أن يعمل في الحياة السياسية؛ فإذا هو يتصدر منصبا خطيرا وليس له في نيل منصبه سابقة فضل، ولا عرف عنه الذكاء، لا قدر الله، وإنما هو منصب يتمنى كل حزب أن يكون شاغله من أعضائه. وحتى لا يزيد هذا المنصب الخلافات بين الأحزاب استقر الرأي أن يشغله شخص لا ينتمي إلى أي حزب، ولا يعرف عنه أنه يميل إلى حزب بعينه. وبين شخصيات مصر جميعا لم يكن هناك إلا عبد المحسن باشا وفيق؛ فشغل المنصب.
وتعرف في إحدى الحفلات بنجاة طلبة، وفي خبرة أدركت نجاة أنه طلبتها؛ فعزت وإن يكن غنيا إلا أن غناه ليس بالقدر الذي يتيح لها أن تنال ما تشاء، أما عبد المحسن باشا فغناه لا نهاية له.
كان الباشا في السبعين من عمره، وحين خرج من هذا الحفل كان موعد لقائه بنجاة قد تحدد.
والتقيا.
كانت نجاة حاملا منذ لقائها الأول بالباشا، وكانت قد أخبرت عزت أن يحدد موعدا مع طبيب يعرفانه ليخلصهما من الجنين في شهره الأول، ولكن بعد أن تعرفت بالباشا اتجه رأيها إلى تفكير آخر. - أنت لا تعرف منذ متى وأنا أحبك. - هل كنت تعرفينني؟ - ومن في مصر لا يعرف عبد المحسن باشا وفيق؟ - لم أكن أتصور أن سيدة في جمالك تحب رجلا في ... - لا تكمل! إن أجمل سيدات مصر يتمنين منك نظرة. - أنت تبالغين؛ إنني رجل عجوز. - عجوز؟ أنت عجوز؟ فليسألني من لا يعرف وأنا أدله على الخبر اليقين. - فأنت ترين أنني ... - شاب في العشرين؛ صحة تأكل الحديد، ولكن هناك شرط. - اؤمري. - تحتفظ بهذه الصحبة لي أنا وحدي. - أنت تعرفين أن زوجتي ماتت. - وأنا من أين أعرف، ربما لك زوجات أخريات تخفيهن. - زوجات بالجمع؟ - صحتك هذه لا يكفيها عشر نساء. - طمأنك الله. - احلف. - أحلف. - أنا لا أصدقك. - لا تصدقين يمين الباشا؟ - أنت معي لست الباشا، إنك هنا الولد الشقي الذي لا أضمن كلمة من كلامه. - وماذا تريدين حتى تضمني؟ - هناك حكاية لم أتأكد منها، إذا تأكدت سأخبرك ما الذي أريده. ••• - اليوم لا بد لنا من حديث. - أنا تحت أمرك. - لا بد أن نتزوج. - ماذا؟ - لا شك أنك سمعت. - لماذا؟ - أولا هذا هو الوضع الطبيعي. فأنا سيدة مطلقة، وأنت مهما تكن فأنت غريب، ومقابلتي لك ستثير الأقاويل. - ولكن مركزي .. ماذا سيقول الناس إذا أنا تزوجت؟ - أتخاف أن يقال تزوج بسنة الله ورسوله ولا تخاف أن يقال اتصل بسيدة عن غير طريق مشروع؟ - ولكن .. ولكن. - ولكن ماذا؟ أنا لست من أسرة بسيطة . - هذا مؤكد، فأنا أعرف المرحوم والدك، وليس هذا هو الاعتراض مطلقا، إنما أخشى أن يضحكوا من رجل في السبعين. - سنك هذا شأني أنا وحدي، وأنا وحدي التي أعلم حقيقة سنك حين تخلو بنا الحجرة. - يا حبيبتي. - ومع كل هذا فأنا لم أقل لك الخبر المهم. - وهناك أيضا خبر مهم. - إني حامل! - ماذا؟ - الذي حصل.
لقد عشت مع زوجتي أكثر من خمس وأربعين سنة ولم أنجب منها فأرا. - ولكنك في شهور قلائل ستنجب مني طفلا، وإني واثقة أنه سيولد بهذه الشوارب التي تحلي وجهك، والتي يرسمها رسامو الكاريكاتير بدلا منك. ويقهقه الباشا من فرح أو من سعادة أو من النكتة؛ فقد اختلط عليه الأمر ولم يعد يدري.
ويعود إلى الجد لحظة. - ولكن اسمعي .. اسمعي. - قل. - ألا يحسن أن يكون الزواج عرفيا؟ - ولماذا؟ - أنت تعرفين أن ثروتي كبيرة والطامعون فيها كثيرون، وإذا عرفوا أنني تزوجت سيرفعون دعوى سفه علي، إذا كان الولد الأهبل عدلي رفعها على أبيه وهو أبوه، وإذا كانت دعوى السفه رفعت على زكريا باشا عبقري السياسة والقانون؛ ألا ترفع علي؟ أما الزواج العرفي المستور فأنت تنالين به حقوق ابنك. - بعد الشر. - اسمعي الكلام، ومع ذلك لا يشعر به أحد. - أنا موافقة.
وتم الزواج بشهادة عبود عبد القادر السفرجي، وسمهان عبد المولى السائق.
صفحه نامشخص