النكت العصرية
في أخبار الوزراء المصرية
تأليف
القاضي الفقيه الأرشد
نجم الدين أبي محمد عمارة بن أبي الحسن الحكمي
ثم اليمني ﵀ وفيه قصائد من شعره، ومقاطيع من نثره وقد اعتنى بتصحيحه العبد الفقير المفتقر إلى رحمة ربه هرتويغ درنبُرغ
صفحه نامشخص
بسم الله الرحمن الرحيم
قال عمارة بن أبي الحسن اليمنّى الحمد الله الذي فضّل الإنسان بعقله ونطقه، ووعد الصادق أن يسأله عن صدقه، وصلى الله على محمد المختار من خلقه، المخصوص بثناه الله على المعظم من خلْقه، وعلى آله وصحبه الذين جلّوا وصلّوا في مضمار سبقه، صلاةً تقضى فرض حقّهم بعد حقّه، وبد فهذا مجموع لم أقصد به شيئًا مخصوصًا، ولا فنًّا ربّ يسّر برحمتك اخبرنا الشيخ الأجل الفاضل الرحيم البارع الأمين نبيه الدين أبو الطاهر اسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الأنصاري الكاتب غفر الله له ورضي عنه في شّوال سنة إحدى عشرة وسمائه بمصر قال القاضي الفقيه الأرشد أبو محمد عمارة بن أبي الحسن الحكمي ثم اليمنى وسمعت ذلك منه في شهر
1 / 5
منصوصًا بل ذكرت فيه نبذًا من الأخبار مختلفة المقاصد، متباينة المراصد، ولم أورد فيه إلا ما أملأه الخاطر، أو رواه من أقيمه في الصدق مقام الناظر، وبالله التوفيق وأشرت فيه إلى النكت العصرية، أي أخبار الوزراء المصرية، ومادام الليل والنهار دائمين، والشمس والقمر دائبين، فالعجائب المتولدة صيود، والتواريخ لها قيود، وما يخلو الإنسان من بداية مهده إلى غاية لحده، من الوقوع إما في حسن أحوال، أو قبح أهوال، وإذا لم تؤرخ النوازل، عفّى النسيان آثارها، وطمس الإهمال أنوارها، وتجنبت سجع المتكلّفين وفارقت ذلّه المتخلفين، وأطلقت أعنّة الكلام، وسامحت أسنّة الأقلام، فلا في سهل الهزالة أنا حاطب، ولا في حزن الجزالة أنا خاطب، وأشرت فيه إلى ما شاهدتّه من العجائب العصرية، في أخبرا الوزراء المصرية، من غير إفراط في أوصافهم، ولا تفريط في إنصافهم، وإن تخلل ذلك شيء ليس منه لا بالغرض، والحديث كما قيل شجون، والجدُّ قد
1 / 6
يخلط بالمجون وعسى أن يقول من وقع في يده هذا المجموع خبرتنا عن غيرك فمن تكون وغلى أي عشّ ترجع من الوكون، وأنا اقتصر واختصر واذكر من مولدي ووطني ونسبي طرفا أبني عليه حالي، وآخر مآلي، فقد قيل الإنسان من حيث يولد يوجد، ومن حيث يُنبت، يُثَبت، ولم تزل العرب تعدّ من أفضل أحسابها، ذكرها لأنسابها ومن عرف الشرف لقديمه، لم ينكر صحّة أديمه، فإما جرثومة النسب فقحطان ثم الحكم ابن سعد العشيرة المذحجي وإما الوطن فمن تهامة باليمن مدينة يقال لها مرطان من وادي وساع وبعدها من مكّة مهب الجنوب أحد عشر يومًا وبها المولد والمربي وأهلها وبقية العرب في تهامة لأنهم لا يساكنهم حضري ولا يناكحونه ولا يجيرون شهادته ولا يرضون بقتله قودًا بأحد منهم ولذلك سلمت لغتهم من الفساد وكانت رئاستهم وسياستهم تنتهي إلى المثيب بن
1 / 7
سليمان وهو جدي من جهة الوالدة وإلى زيدان بن أحمد وهو جدي لأبي وهما ابنا عم وكان زيدان يقول أنا أعدّ من أسلافي أحد عشر جدًّا ما منهم إلا عالم مصنّف في عدّة علوم ولقد أدركت عمّى على بن زيدان وخالي محمد بن المثيب ورئاسة حكم بن سعد العشيرة تقف عليهما وتنتهي إليهما وما أعرف فيمن رأيته أحد يشبه على بن زيدان في الودد وهذه اللفظة وهي السودد يدخل تحتها كلّ ما يوصف به سادات أشرف العرب من كل فضيلة. حدثني أخي يحيى بن أبي الحسن وكان عالمًا بأيام الناس وكان عهدي بهذا يحيى ومشايخنا مثل خالي محمد وأبي ونظرائهما يمشون إلى منزل هذا يحيى ولا يردون ولا يصدرون إلا عن رأيه ومشورته.
قال لي لو كان عمّك على بن زيدان في زمن نبي لكان حواريًّا له أو صدّيقًا لفرط سودده وحدّثني الفقيه محمّد بن حسين الأوقص وكان صالحًا قال والله لو كان على بن زيدان قرشيًّا ودعانا إلى
1 / 8
بيعته لمتنا تحت راية لاجتماع شروط الخلافة فيه ما عدا النسب فإن النبي عم يقول الأئمة من قريش وقلت لأخي يحيى يومًا يا هذا إنّ الناس يلهجون بتفضيل جدّيك المثيب بن سليمان وزيدان بن أحمد على كثير من أسلافهما وأراكم تفضّلون عمّك عليّا عليهما فقال هما كما يحكى لك عنهما ولكن والله ما يعشران عليّا في خصلة من خصال أشراف العرب وذلك أن علينا لم يكن يغضب ولا يقذع في القول ولا يجبن ولا يبخل ولا يضرب مملوكًا أبدًا ولا يردّ سائلًا ولا عصى الله تعالى بقول ولا فعل وهذه همّة الملوك وأخلاق الصدّيقين وحسبك أنّه حجّ أربعين حجّة وزار النبي ﷺ عشر زيارات ورأى النبي ﷺ في النوم خمس مرّات وأخبره بأمور لم يُخرم منها شيء وقلت لأخي يحيى يومًا من القائل في جدّيك المثيب بن سليمان وزيدان بن أحمد.
[وافر]
إذا طرقتك أحداث الليالي ... ولم يوجد لعلّتها طبيبُ
وأعوز من يُجيرك من سطاها ... فزيدانٌ يجيرك والمثيبُ
هما ردًّا على شتيت ملكي ... ووجه الدهر من رغمٍ قطوب
وقاما عند خذلاني بنصري ... قيامًا تستكين به الخطوبُ
1 / 9
فقال هو السلطان على بن حبابة الفرودي كان قومه قد أخرجوه من ملكه وافقروه من ملكه وولوا عليهم أخاه سلامة فنزل بهما فسارا معه في جموع قومهما حتى عزلا سلامة ووليّا عليا وأصلحا له قومه وكان له قومه وكان الذي وصل إليه من برّهما وأنفقاه على الجيش في نصرته وحملا إليه من خيل من إبل وما ينيف على خمسين ألفًا من الذهب قال يحيى وفي أبي وخالي يقول مدبرٌ الشاعر الحكمي من قصيدة طويلة.
[كامل]
أبواكما ردًّا على ابن حبابة ... ملكًا تبدد شمله تبديدًا
كفل المثيب عن الحسام بعوده ... مذ صال زيدان به فأعيدا
وبنيتما ما شيّدا من سوددٍ ... قدما فأشبه والدٌ مولودًا
قلت ليحيى فهل لعمّك علي مثل هذه النقبة العظيمة قال أنت صبي جاهل بل والله أمثالٌ في فنون لسودد ومكارم في سبيلي الدين والدنيا لا يصبر على احتمالها أحد سواه وحدّثني أبي قال مرض عمّك علي مرضًا أشرف فيه على الموت ثم أبل منه
1 / 10
فأنشدته لرجل من بني الحارث يدعى سلم بن شافع كان قد وفد عليه يستعينه في ديّة قتيل لزمته فلمّا شغلنا بمرض صاحبنا ارتحل الحارثي إلى قومه وأرسل إلي بقصيدة منها [وافر]
إذا أودى ابن زيدانٍ عليٌّ ... فلا طلعتْ نجومُك يا سماءٌ
ولا اشتمل النساءُ على حَنين ... ولا روّى الثّرى للسحب ماءٌ
على الدنيا وساكنِها جميعًا ... إذ أودي أبو الحسن العفاءُ
قال: فبكى عمّك وأمرني بإحضار الحارثي ودفع له ألف دينار وساق عنه الديّة بعد ستّة أشهر وكان إذا رآه أكرمه ورفع مجلسه وأخبرني خالي محمّد بن المثيب وكان في أخوالي بنى الخطّاب مثل والدي في بني زيدان بن أحمد قال أجدب الناس في بعض السنوات وهلكت المواشي وانقطعت الخضر من نبات الأرض فلا تعلم ومرّت علينا فرقاناتٌ سيّارةٌ وكان بعضها لعلي بن زيدان فأخذ منها مائتي ناقةٍ لبونٍ أربع مائة بقرةٍ ففرّقهما على المقلّين من الناس على جهة المنحة
1 / 11
دون التمليك والمنحة عند العرب عاريّة الحيوان اللبون والإباحة لدرّها دون ملكها فلمّا أخصب الناس واستغنوا شرعوا في ردّها إليه فوهب لكل إنسان ما كان منها في يده وأذكر وأنا طفل عمري ثماني سنين أن معلّمي واسمه عطيّة بن محمد بن محمد حرام بعثني إلى عمي علي ومعي لوح في إصرافه وتسمّى عندنا في اليمن الرّفعة وقال امض إلى الشيخ بهذا اللوح فلعله يدفع لنا بقرة لبونا فلمّا وصلت إليه ضمّني وأجلسني في حجره وتصفّح اللوح وكان فيه سورة ص ثم قال كم ندفع للأديب يا أبا حمزة قلت بقرة لبونًا فضحك ثم أمر له بمائة بقرة لبون معها أولادها ووهب له غلّة أرض زراعة سمسم حصل له منها ما ينيف على ألفي أردب من السمسم خاصة. وأما سعة أمواله فلم تكن تدخل تحت حصر بل كان الفارس يمشي من صلاة الصبح إلى آخر الساعة الثانية في فرقانات من الأنعام الثلاثة الإبل والبقر والغنم كلّها له وكان يسكن في مدينة منفردة من
1 / 12
البلد الكبير وأمر الناس مردود إلى والدي وخالي فأدركت الناس يقفون قيامًا بين أيديهما فإذا حضر عمّي علي كانا من جملة من يقف بين يديه وينطمس أمرهما بحضوره فلا يذكران ولا غيرهما حتى ركب مشيًا بين يديه وفي ركابه حتى يأمرهما بالركوب وكانت له حلّة كبيرة تسمّى حلة الصدقة يعزل فيها زكاة المواشي وقرية أخرى يخزن فيها غلال الزكاة الواجبة عليه وتسمّى قرية الزكاة وسمعت أبي وغيره يقول ما كان الفريك ينقطع عن علي بن زيدان في كل شهر طول السنة بل في كل شهر زرع وحصاد وذلك لكثرة ما يزرعه من بلاده وأما حماسته وشدّة بأسه فيضرب بها المثل وهي شيء يزيد على ما اعتاده الناس بنوع من التأييد وذلك أنه لم يكن أحد يقدر أن يجرّ قوسه وكان إذا رمى السهم أقسم أن سهمه لا يخطئ إلا أن ينكسر فوقه أو القوس أو ينقطع الوتر وكان سهمه ينفذ من الدرقة ومن الإنسان الذي تحتها ولم يكن الزّرد المدفون
1 / 13
بالخفاتين يحرز من سهمه ولا يمسكه وحجّ في بعض السنوات فاجتاز بعرب من جرش فحلفوا عليه وأضافوا فلما عاد من مكة وافق وصوله إليهم غارةً من عرب آخرين عليهم اجاحوهم وسبوا النساء وساقوا المواشي بعد أن قتلوا الرجال وكان لا يحجّ إلا وسلاحه كله محمول على بعير آخر وربّما حجّ من خيله بأفراس يجنبها إذ ليس بيننا وبين مكة غير تسعة أيام فنظر إلى ثنيّه بين جبلين لا طريق لهم غيرها وكانوا زهاء مائة فارس ومائتي من الرجالة وقاتلهم فنصره الله عليهم وخذلهم وأوسع الجرحى والقتلى فيهم فانهزموا واسترد المال والنساء فقالت له امرأة من جرش. [طويل]
أبا حسن اعتقت بالسيف نسوةً ... تجرُّ بأيدي العائثين شعورها
وانقذت سعدى من يد ابن مقرّبٍ ... وما في البدور التمّ إلا نظيرهما
أتخت لها يوم الثنية ناصرًا ... وليس لها من قومها من يجيرها
1 / 14
وحين عاد إلى الثاية أمر بدفن القتلى وتعلّق النساء به فارتحل بهنّ وبالمواشي حتّى قدم بهن إلى بلده فزوّجهن لقومه وكانت فيهن خمسة عشر امرأة من العقائل المعدومات ومنهن المياسة ابنة ثابت بن عرفجة وهو رئيس قومها وأدركتها ولا يحسن الوصف أن يأتي على محاسنها وتزوجها رجل من قومها دميم الخلقة وكان الناس يعجبون من جمالها ودمامته وحسنها وقبحه فاذكر ليلة أنّهما تخاصما إلى والدي فقال زوجها إني فد عجزت عن الاحتمال والصبر على ما اسمعه من كثرة الإعجاب وقولها لست من رجالي ولا أنا من نسائك فإن أجرتني منها أجبتها قال له الشيخ لست لأجير عليها إلا بأمرها قالت أجره ليقل ما أراد قال زوجها فإني خير منك لأني أبول فيك قال الشيخ فلا والله ما انقطعت ولا خجلت بل قالت له على الفور من غير رويّة إنك لم تأت بشيء ولا أفلحت وإنما افتخرت بأستين يلتقيان وأستك أوّل منهزم منهما فضحك الناس من
1 / 15
فصاحتها وحسن جوابها الذي ردّ الفضيلة رذيلة، والغنيمة هزيمة وهذه المادة من حسن العبارة وفضيلة البلاغة شيء خصّ الله به أمة العرب دون سائر الأمم وكان الناس في أشهر القيظ يسرحون أموالهم قبل الفجر إلى واد معشب مخصب مسبع بعيد من البلد يقال له وفيه من عبيد الحكميين طوائف متغلبة نحو من ثلاثة ألف راجل قد حموا ذلك الوادي وما جاوره بالسيف ومن ظفروا به من مواليهم نهبوه وقتلوه وهم معتصمون في شعفات الجبال وصياصيها لا يقدرون عليهم وكان العدد الذي يحرس المال ويسرّح معه في كل يوم خمس مائة قوس ومائة فارس تحرسه من العبيد المتغلبة فشكا الناس إلى علي بن زيدان أنّ فيهم من قد طالت شعره وانقطع حذاؤه ووتره وسألوه أن ينظر لهم في من ينوب عنهم يومًا واحدًا ليصلحوا أحوالهم فنادى مناديه بالليل من أراد أن يقعد فليقعد فقد كفى
1 / 16
ثم أمر الرعاء فسرّحوا على عاداتهم وركب وحده فرسًا له نجديًّا من كرام الخيل سبقًا وأدبًا وجنّب حجرًا له تسمى الحرية لا تخجل الريح إذا سبقتها، ولا البروق إن لحقتها فما هو إلا أن وردت الأنعام ذلك الوادي حتى خرج عليه العبيد المتغلبون فاستاقوها وقتلوا من الراء تسعة رجال وركب الرجل فأدرك العبيد وهم سبع مائة راجل أبطالٌ فقال لهم ردّوا المال وإلا فإنا علي بن زيدان فتسرّعوا إليه فكان لا يضيع سهمًا إلا بقتيل منهم حتى إذا ضايقوه اندفع عنهم غير بعيد فإذا ولّوا كرذ عليهم فنال منهم ما يريد ولم يزل دأبه دأبهم حتّى قتل منهم خمسة وتسعين رجلًا فطلب الباقون أمانة ففعل وأمرهم أن يدير بعضهم كتاف بعض ففعلوا وأخذ جميع أسلحة الأحياء والقتلاء فحملها بعمائمهم على ظهور الإبل وعاد والعبيد بين يديه أساري وقد كان بعض الرعاء هرب في أول النهار فنعاه إلى الناس وأنّه قتل فخرج الناس أرسالًا حتى لقوه عند صلاة العصر.
1 / 17
خارجًا من الوادي والمواشي سالمة والعبيد أسارى قال لي أبي أذكر أنّا لم نصل تلك الليلة صحبة عمذك إلى المدينة حتى كسرت العرب على باب دارى ألف سيف حين قيل لهم أن عليّا قتل وامتد الخبر إلى نبي الحارث وكانوا خلفًا فأصبح في منازلهم سبعون فرسًا معقورة وثلاثمائة قوس مكسورة والعرب تفعل ذلك إذا قتلت أشرافها وولاة أمرها ثم اصطنع العبيد واعتقهم وردّ عليهم أسلحتهم وثيابهم وتكلّفوا له أمن البلاد من عشائرهم ولم يكن منهم بعد ذلك مكروه إلى أحد من بلاده وكان السفهاء والشباب منّا ومن أخوالي لا يزالون يجني بعضهم على بعض جنايات تنتقل من الصغائر إلى الكبائر وربّما كثر فيها الجرحى ثم القتلى وبين منازلهم ومنازلهم ميدان واسع يلتقى الناس فيه فأي الفريقين غلب ملك الميدان فأذكر عشيّة أن القوم هزمونا حتى أدخلونا البيوت وهم في تلك الحال حتى قيل لهم هذا علي قد اقبل فنهزموا حتى مات منهم تحت أرجل الناس ثلاثة رجال ولمّا جاز علي ذلك النيدان نزل عن فرسه فجلس فيه ثم أرسل إلى خالي محمّد فخرج إليه
1 / 18
فأصلح بين الناس ولم تمض إلا أيام قلائل حتى ثارت الفتنة بينهم وكان لخالي محمّد تسع بنات وله ابن واحد اسمه العاطف وكان الناس يضربون به المثل في السودد والكرم ولشجاعة حتّى بلغ من حبّ عمّي علي بن زيدان في العاطف أنه جهّز ابنة له يقال لها زينب بمال كثير جزيل ثم دعا العاطف إلى مجلس الدخول فعقد به عليها وأدخله إليها من ساعته ولم يكلفه درهمًا واحدًا ولا كان عنده من ذلك علم ولا أعلم أباه بذلك ولا أبي حتى كان من قتال هؤلاء وقعة أخرى أجلت للسفهاء عن العاطف قتيلًا بين أبياتنا فحمل إلى منزل والدي وكان والده محمّد بن المثيب غائبًا فقدم في تلك الليلة وفي كل دار من منازلنا ومنازل أخوالي متاحة على ابنه العاطف فجّر بين الناس ذمّة وأمانًا تلك الليلة ودفن العاطف في مقبرنا فلمّا أصبح الناس نادى مناديه إني قد أهدرت دم ابني فلا يحمان
1 / 19
أحد سلاحًا وانصرف الناس من جنازته والذي كان تولى قتله هو ابن عمّي يسمى حمزة بن حسين وكان بطلًا من الأبطال لا يصطلى بناره وكان عمّي علي يقول إذا غبت عن حرب يحضرها حمزة فلم أغب ولما كان بعد ثلاثة أيام ظفر عمّي علي بهذا حمزة فأدار كتافه ومشى به إلى قبر العاطف فضرب رقبته ثم تمثّل وهو يبكي عليه بقول الشاعر.
[كامل]
أبكيك ملء مدامعي متحرّقًا ... وأقول لا شلّت يمين القاتل
فلم يقاتل أحد أحدًا منهم بعد ذلك ومات علي بن زيدان سنة ست وعشرين وخمسمائة وتبعه خالي محمد سنة ثمان وكان أبي يتمثّل بعدهما بقول الشاعر.
[كامل]
ومن الشقاء تفرّدي بالسود
وتماسكت احوال الناس بوالدي إلى سنة تسع وعشرين وفيها أدركت الحلم ثم أراد الله إنفاذ قدره فيهم فمنعنا الغيث سنة
1 / 20
كاملة وبعض أخرى حتى هلك الحرث والنسل ومات الناس في بيوتهم فلم يجدوا من يدفنهم وعمّت قطيفة البلوى فخرجت عنذا سنة ثلاثين وخمسمائة ونحن من أشبه الناس حالًا وفينا بعض التماسك بسبب مال كانت والدتي ورثته عن أبيها المثيب بن سليمان واستغنت عنه حتى احتاجت إليه في وقت الشدّة.
وفي سنة إحدى وثلاثين دفعت لي والدتي مصوّغًا لها لألف دينار ودفع لي أبي أربع مائة دينار وسبعين وقالا لي تمضي مع الوزير مسلم بن سخت إلى زبيد وتنفق هذا المال عليك ولا ترجع إلينا حتى تفلح فقد احتسباك عند الله وصبرنا عنك وكان بينا وبين زبيد في مهبّ الجنوب تسعة أيام فانزلي الوزير في داره مع أولاده ولازمت الطلب فأقمت أربع سنين لا أخرج من المدرسة إلا لصلاة يوم الجمعة ثم زرت الوالدين في
1 / 21
السنة الخامسة ورددت ذلك المصوغ إلى الوالدة ولم احتج إليه هذه إشارة إلى ما كنت ذكرته من التعريف بحالي وطنًا ونسبًا على جهة الاختصار وتخفيفًا عن كل سمع فقير من النسب والحسب ممن لعلّه أن يغتاظ من نبذة يسيرة أوردتها وأنا في إيرادها كما روى عن بعض ولاة خرسان حين خطب الناس فقال إن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أشهر فقيل له هذا إنما قال في ستة أيام فقال أمرأته طالق لقد قلت ستة أشهر وأنا مستحي منكم أن تكذبوني، ودخل بعض الهاشميين من ولد العباس على أبي جعفر المنصور فأكثر الهاشمي ذكر والده والترح ذم عليه فزبره الربيع وقال لا يترح
ذم على أحد بحضرة أمير المؤمنين فقال الهاشمي للربيع أنت معذور لأنك لم تذق لذّة الآباء ولم تعرف لهم شرفًا وإنما أنت لقيط ثم نهض.
فصل في ذكر الطاف الله ﷿ وحسن ما صنعه لي في تقلّبات الأيام وتغاير الأحوال بي فمن أول ما صنعه الله
1 / 22
تعالى ذكره معي وله الحمد على نعمة التي لا تحصي ولا تعد وألطافه التي لا تحدّ أنّي تفقّهت وقال الله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم وقال عم من يرد الله به خيرا يفقه في الدين وأقمت في زبيد ثلاث سنين وجماعة من الطلبة يقرؤون عندي مذهب الشافعي والفرائض في المواريث ولي في الفرائض مصنّف يقرأ في اليمن ولما كان في سنة تسع وثلاثين زارني والدي وخمسة من أخوتي إلى زبيد وأنشدته شيئًا من شعري فاستحسنه ثم قال تعلّم والله أنّ الأدب نعمة من نعم الله عليك فلا تكفرها بذم الناس واستحلفني أن لا أهجوا مسلمًا قط ببيت شعر فأقسم الصالح على أن أجيبه ففعلت متأولًا
1 / 23