فأثبت ما بقي على ما كنت أحفظه قديما ، واعتقدت إثبات كل ما أسمعه | من هذا الجنس ، وتلميعه بما يحث على قراءته من شعر لمتأخر من المحدثين ، أو مجيد | | من الكتاب والمتأدبين ، أو كلام منثور لرجل من أهل العصر ، أو رسالة أو كتاب | بديع المعنى ، أو حسن النظم والنثر ، وممن لم يكن في الأيدي شعره ولا نثره ، ولا | تكرر نسخ ديوانه ، ولا ترددت معاني إحسانه ، وما فيه من مثل طري ، أو حكمة | جديدة ، أو نادرة حديثة ، أو فائدة قريبة المولد ، ليعلم أن الزمان قد بقي من القرائح | والألباب ، في ضرورة العلوم والآداب ، أكثر مما كان قديما أو مثله ، ولكن تقبل | أرباب تلك الدول للأدب أظهره ونشره ، وزهد هؤلاء الآن في هذا الأدب غمره | وستره ، ولهذه الحال ما انطمست المحاسن في هذه الدول ، وردت أخبار هؤلاء | الملوك ، وخلت التواريخ من عجائب ما يجري في هذا الوقت ؛ لأن ذوي الفضل لا | يفنون أعمارهم بتشييد مفاخر غيرهم ، وإنفاق نتائج خواطرهم ، مع بعدهم عن | الفائدة ، وخلوهم من العائدة ، وأكثر الملوك وذوي الأحوال ، والرؤساء وأرباب | الأموال ، لا يجدون عليهم ؛ فيجيد هؤلاء لهم نسج الأشعار والخطب ، وحوك | الرسائل والكتب التي تبقى فيها المآثر ، ما أقام الغابر ، فقد بخل هؤلاء ، وغفل | هؤلاء ، ورضي كل واحد من الفريقين بالتقصير فيما يجده ، والنقص فيما يعتمده ، | وإلا فقد خرج في أعمارنا وما قربها من السنين ، من مكنون أسرار العلم ، وظهر | من دقيق الخواطر والفهم ، ما لعله كان معتاصا على الماضيين ، ومتنعا على كثير من | المتقدمين ، وجرت في هذه المدة من الحوادث الكبار ، والوقائع العظام والانقلابات | العجبية ، والاتفاقات الغريبة ، والحيل الدقيقة ، والأمور المحكمة الوثيقة ، التي لا يوجد | مثلها سالفا ، في أضعاف هذه السنين مضاعفا ، ما لو قيد بتأليف الكتب ، وحفظ | بتصنيف الأشعار فيه والخطب ، أو خلد على شرحه في تواريخ السنين والحقب ، | لأوفى على ما سلف ، وتقدم في علو الراتب .
وقد أثبت من هذا أيضا طرفا طفيفا ، ونبذا موجزا خفيفا لئلا تخرج هذه | الأخبار عن سبيلها ، ولا تخلو مع ذلك من فنون لا توجد إلا فيها ، وليستفيد منها | العاقل اللبيب ، والفطن الأريب ، إذا طرقت سمعه ، وخالطت فهمه ، من آداب | النفس ، ولطافة الذهن والحسن ، ما يغنيه عن مباشرة الأحوال ، وتلقي مثله من أفواه | الرجال ، ويحثه على العلم بالمعاش والمعاد ، والمعرفة بعواقب الصلاح والفساد ، وما | تفضي إليه أواخر الأمور ، ويساس به كافة الجمهور ، ويجنبه من المكاره حتى لا | يتوغل في أمثالها ، ولا يتورط بنظائرها وأشكالها ، ولا يحتاج معها إلى إنفاد عمره في | التجارب ، وانتظار ما تكشفه له السنون من العواقب .
صفحه ۳