باحثة البادية
إلى باحثة البادية
ليس أعز لدينا من لطفك إلا حزمك وصراحتك، وليس أجمل من صدى صوتك إلا فعل معناك، وإني لأقبض بيدي لأعترف بأني أحب - أستغفر الله وأستغفرك يا سيدتي - آلامك النفسية الشديدة من جراء شقاء الإنسانية وضلالها، وأتمنى من أعماق فؤادي أن تجد دواما تلك الآلام منفذا رحبا إلى قلبك، وأن يبقى ذلك القلب كريما لينا ينجرح لجرح الغريب ويبكي لبكاء المظلوم، ويشفق على المتوجع أيا كان، بالاختصار: عفوك! عفوك! أتمنى لك العذاب المعنوي؛ لأنه النار المقدسة. أجل، هو النار التي تطهر النار التي تلين النار التي ترفع النفس على أجنحة اللهيب إلى سماء المعاني السامية والميول الرفيعة والرغبات الكريمة، والتحمس لإجراء الإصلاحات اللازمة وتنفيذ المبادئ الطيبة، والنهوض بالاجتماع نهضة تهتز لها القلوب حمية وطربا.
أتمنى لك ذلك، ولولاه لما وجدنا في كتاباتك تلك الأنة العميقة التي تنبه الفكر وتلمس العاطفة في آن واحد.
لا أنكر أن أنانيتي تتكلم الآن، غير أني قلت ما قلت مسرعة هامسة فابتسمي له إن شئت، وإلا فلا تصغي يا سيدتي ولا تسمعي، بل اسأليني عما أهمس به لأجيب أني أحمد الله على إبلالك وأني أسأله أن يديمك سالمة وما أغلى سلامتك لدنيا!
جئت أسر إليك أمرا وقفت عليه عندما شهدت صدى مقالتك لدى جمهور القراء، اسمعي يا سيدتي الباحثة، وصوني سري!
رأيت جميعهم يتقبل أقوالك بنظرة الفخر وابتسامة الإعجاب، ولكني رأيت أسيادنا الرجال - ... أقول: «أسيادنا» تخمد نار غضبهم - قلت: إني رأيتهم يطربون لتصريحنا بأنهم ظلمة مستبدون، نعم آنست ذلك في ملامح كل من قرأ مقالك أمامي من أسيادنا الرجال.
فذكرت إذ ذاك ألا سرور في العالم يضاهي سرور التفاهم، فإذا شعر المرء بأن من يفهمه كان سعيدا، سواء لديه إن تعرف منه على صفاته أو علاته؛ لأن معرفة العلات تتبعها حتما معرفة الصفات، وإن كان الخير أقل انتشارا من الشر، وما النقائص إلا فضائل مضخمة مكبرة تتسع وتستفيض دون أن تجد لها من الضمير مهذبا فتتجاوز الحدود المعنوية التي عينتها اصطلاحات الاجتماع - إذا كانت اجتماعية - أو رسمتها علوم النفس والأخلاق، إذا كانت أخلاقية.
فعملا برغبة التفاهم، وطبقا لنظام المباهاة، وتوصلا للاستمتاع بنتيجة هذه المباهاة وذلك التفاهم كان وسيكون السارق دائم المفاخرة بوقوف الناس على براعته في اختيار الطرق الجديدة واستنباط الحيل الغريبة، وكان وسيكون القاتل مسرورا بإعلان آثامه للورى آملا أن يجدوا فيها أعمال بطل من نوعه! وكان وسيكون السياسي جادا في إقناع الآخرين أن دهاءه اقتدار وسوء ظنه وروغانه فطنة وحكمة، كذلك الرجل يسر ويرجو ويريد أن تشعر المرأة باستبداده ظنا منه أن الاستبداد هو السيادة، وأن هذه مقياس ذاتيته التي يريدها كبيرة، رضيت المرأة عن تلك السيادة أم تمردت عليها في نظره سيان، بل أظنه - سامحني الله إن كنت مخطئة - مؤثرا تمردها على إذعانها؛ لأنها كلما زاد تمردها زاد شعوره بالسيطرة، وأشد الملوك فرحا بهز الصولجان وأرفعهم للرأس كبرا وتيها تحت ثقل التيجان، هم ذوو العروش المتداعية للهبوط، والرجل ملك متداع عرشه؛ لأن ريح الفوضى تهب عليه من كل جانب، وخطوات الارتقاء النسائي تتوالى متمكنة مع مرور الأيام.
لكنه ملك عزيز!
صفحه نامشخص