19
وفي المكان الذي يجوب الأباي فيه البحيرة متوجها إلى الجنوب توجها منظورا، ومن غير أن تختلط مياههما (وهذا هو جري اثني عشر كيلومترا، وهذا الجريان من القصر ما يعدل جرية النيل الأبيض في أقصى بحيرة ألبرت) بالقرب من شبه جزيرة جرجس، في خليج واسع عميق، يبدأ النيل الأزرق جريانه الحقيقي، وفي الحقول تبصر أشجار بن ذات ثمار حمر وشبه برية. والحبشة هي موطن هذه الأشجار، ومنها هاجرت إلى بلاد العرب، وفي الحقول - وبالقرب من شجر البن - تبصر بهارا أحمر، وتبصر برديا على مساحات واسعة حتى في الأرض الجافة منها، ويستر المنحدرات الوعرة زهر أصفر على شكل النجوم، وهو ضرب من شوك الشيطان الذي ينشب في الثياب والجلد فيسبب للسائح آلاما لا تحتمل، ويكسو الجزر الصخرية صدف وسراطين، وتبني البلاشين والشفانين
20
أوكنها
21
هنالك، ويكون ماء النهر البالغ من العرض مائة متر صافيا عند خروجه من البحيرة متدحرجا من غير انحدار كبير.
ويدل جريان النيل الأزرق على الوجه الذي يبلغ النهر فيه مصيره - كالإنسان - مقتحما مجاوزا جميع الحواجز مدركا مكان نهايته وزمان غايته وفق السنة المفروضة عليه، ومع ما في الخرائط الطبيعية - التي يبدو الجبل لنا بها سبب كل التواء - من وضوح كيف تنكر القوى السحرية التي تجر نهرا إلى نهر آخر على الرغم من كل مقاومة تنشأ عن الشلالات والصحراوات والمنعطفات المستمرة المستغربة؟ ولو أمكنت دراسة حياة رجل بأسرها على خريطة أو البصر بها من طائرة لبهرتنا السنن التي تهيمن عليها، ولا شيء يثبت القدر أحسن من وقائع هذه الحياة الظاهرة، والرجل الملحد وحده هو الذي يرد إلى الطبيعة مدار ارتيابه العقلي.
وفي البداءة يبدو الأباي الأكبر مبتعدا ابتعادا تاما عن اتجاه الأباي الأصغر، وهو يجري نحو الجنوب الشرقي وصولا إلى الشمال الغربي؛ وذلك لأن الجبال التي ولد فيها تسد طريقه، ويدور الأباي الأكبر بانحناء منسجم حول جبال غوجم منعطفا مرتين ليصل إلى النيل الأبيض الذي كان أقرب إليه في منبعه، وتجري عليه سنة الأقوى من حين دخوله في السودان. فمع أنك لا ترى جبلا يقفه تبصره لا يسلك أقصر السبل، بل يتجه إلى الشمال الغربي مثل اتجاه النيل الأبيض في شبابه ومثل اتجاه جميع روافده الشرقية.
والحركة الأولى للنيل الأزرق - عند خروجه من بحيرة طانة - تكشف عن عبقرية في سجيته، تكشف عن عنف ممزوج بسخاء، فهو يجوف لنفسه ممرا عميقا في الصخر، وتبلغ أمواجه الفائرة من سرعة الاندفاع ما تهبط معه 1300 متر في ثمانين كيلومترا، ويحمل عنصر عمله المقبل، يحمل الغرين مبديا حيويته وإنتاجه من أول الأمر.
وتكون الصخور عارية قبل المطر ولدى التقاء الجلاميد والماء عند الشلال الأول، وحينما يزلج
صفحه نامشخص