نیل در دوران فراعنه و عربها
النيل في عهد الفراعنة والعرب
ژانرها
وقد اجتهد هيردوت لما أتى مصر بمباحثه العلمية من الوجهة الجغرافية، وعالج كثيرا من طبقات الكهنة، فلم يبوحوا له بشيء من معلوماتهم، إلا فيما يتعلق بعظمته المشهورة ومكانته الراسخة في النفوس، كمعبود يؤدون له فرائض العبادة والإجلال ما استطاعوا، وخصوصا في الأوقات التي حددوها لذلك عند بدئه في الزيادة، وبلوغه منتهى الفيضان، ومبادئ تصريفه في الأقاليم، ورتبوا على ذلك الأعياد والمواسم الشهيرة، التي لا زالت تراعى في الاحتفالات والمظاهر السنوية ترحيبا بوفائه، وشكرا لما يغدقه على الأرض من نعيم الخصوبة والرغد.
وقد اكتشفوا في معبد بيلاق الذي شيده الإمبراطور «تراجان»، واحتفظ عليه خلفاؤه من بعده رسما يمثل لنا الإله حعبي «النيل» في مخبئه، وتفسير هذا الرمز أنه يوجد فوق صخور مرتفعة عليها رسما الصقر والباشق، وفي حجرة يرى بداخلها هيكل إلهي لإله راكع، حاملا في يديه آنية تخرج منها فيوضات النيل المباركة، ويجد الرائي مرسوما على رأس الحجرة حية ملتفة على نفسها، وبين رأسها وذنبها منفذ ضيق لمرور النيل، وهذا الرسم فسره كاهن مدينة سايس للمؤرخ هيردوت بأنه منتهى معلوماتهم عن منابع النيل، فهو فيض من عند الله لم تصل استطاعة أمثالهم لاكتشاف أوائله غير ما هو مشاهد للزائرين في أطراف وادي النيل ، ويقصد الكهنة بذلك وقوف الأمة عند هذه النقطة، وعدم التطلع إلى مباحث أخرى.
وكان علماء المصريين مع كثرة الرموز العلمية وسعة المعلومات المحفوظة في الصدور، والمرموز إليها في بعض المخلدات الأثرية، لا يسمحون لمعاصريهم ولا لزائريهم من فجاج الممالك بالتوسع في مباحث عن ينابيع النيل وأوائل مصدر فيضه؛ لأنهم يعتقدون سعة البحث في ذلك ممنوعة دينيا، وتعرض المشتغلين بها لحلول النقمات التي تنذر بها الكتب المقدسة كل من يسعى إلى عمل يؤدي إلى كفر أو ضلال، وكانوا يعتقدون أن النيل فيض من البركات الإلهية، يتنزل من السموات العلا إلى عالم الأرض، فيكون منها الرغد والسخاء وصلاحية الأرض لكل نبات يحتاجه الإنسان في أدواره المعاشية، ولهذا كانوا يسمونه أبا الآلهة «أتف نترو»، ولم يلتفت قدماء الباحثين من المصريين إلى أسباب الزيادة في النيل في أزمنة الفيضان؛ لاعتقادهم أنه قدسي في تكوينه، وفي تأثيره وفيما تبصر الخلائق عنه؛ لأنه سر من فيض البركات الإلهية، اختص الله بها هذا الوادي السعيد، وجعله إلى الأبد مصدر الرفاهية والسعة والإغداق بأنواع الأرزاق التي تفي باحتياجات قاطنيه، وبسد العوز لكل الطبقات التي تأوي إليه، ويجدون فيه ومن سجايا أهله حرما آمنا.
وقد اجتهد علماء المباحث المصرية عن النيل وينابيعه ومصادره العليا، مثل هيردوت وسترابون وديودور الصقلي، وعلماء الرومان كالمؤرخ بلين وسنيك وغيرهم من الفلاسفة، فلم يستطيعوا سوى الوقوف عند ما ألقاه إليهم الكهنة عن عظمة النيل، وإن عجائبه ترجع إلى قدسية مصدره الإلهي، فاضطروا للإذعان خاضعين لعقائد وتقاليد قدماء المصريين في شأنه، ولم يتجاوزوا في مباحثه إلى ما وراء الشلالات، وإلى ذلك أشار هيردوت بقوله: «إن النيل يعرف مبدؤه بعد سفر أربعة أشهر، سواء كان ذلك برا أو بحرا، وهي المدة التي كان يستغرقها المسافر في وصوله إلى جزيرة أسوان.»
واستمر الناس على الاعتقاد بأن ينابيع النيل مما يعسر على الباحثين حل غوامضه إلى عصر الرومان، فأرسل نيرون بعثة رسمية لاكتشاف هذه المنابع، فوصلت بعد مستنقعات واسعة إلى صخرين تجري فيهما المياه فظنوهما المنابع الأولى للنيل ، وعادوا يتوهمون لأنفسهم الظفر بما لم يستطع غيرهم الوصول إليه.
وقال بلين: «إن منبع النيل آت من موريتاني
Mauritanie
الواقع شمال أفريقيا.» وقال سنيك: «إن منبعه يبتدئ في ضواحي مدينة بيلاق.» وقال المؤرخ لوكين: «إن منبع النيل الحقيقي لم يعرفه أحد في العالم.» ووافقه على ذلك المؤرخ أميان مرسليان، أحد علماء القرن السابع للمسيح، وإن منتهى ما وصلت إليه الاجتهادات وتجوال البعثات في رحلاتها أن منابعه آتية من بحيرات أفريقيا الوسطى، وكان قدماء الباحثين يضربون الأمثال بمعرفة منابع النيل في استحالة الوصول إلى غرض يرضي ويقنع الباحثين.
وقال المقريزي في وصف مصر: «إن النيل يظهر على الأرض بقرب وادي القمر، الواقع بقرب الاستواء.» وقال جرانفيل: «إن النيل فردوس أرضي.» ولا تزال هذه العقيدة عند قدماء النوبيين رغما عن توالي السنين وظهور الاكتشافات العلمية التي تحتم بمقتضاها أن يتحول الناس عن عقائدهم الأولى التي توارثوها في أجيال ماضية.
خطاب أحد رؤساء كهنة قدماء المصريين إلى يوليوس قيصر الروماني بشأن منابع النيل
صفحه نامشخص