اعتلاء الأراضي المرتفعة
ألف كتاب «هكذا تحدث زرادشت» في أعقاب التجربة الوحيدة الأكثر تدميرا في حياة نيتشه؛ وهي رفض لو سالومي إياه، بعد أن تقدم للزواج بها من خلال صديقه بول ري؛ ليكتشف بعد ذلك أنهما كانا قريبين أحدهما إلى الآخر مما كانا منه. كانت لو سالومي امرأة موهوبة للغاية، وقد أصبحت عشيقة ريلكه قبل أن تصبح لاحقا واحدة من أهم مريدي فرويد، الذي يعبر لها عن تقديره بعبارات ثرية غير معتادة لاكتشافاتها في مجال الإثارة الشرجية. تصور نيتشه باقتضاب علاقة يستطيع في إطارها مواصلة عمله، علاقة تفهمه وتساعده فيها امرأة يستطيع أن يعتبرها ندا له. وثمة صورة فوتوغرافية غريبة، التقطت بإصرار منه، يظهر فيها مع ري وهما يجران عربة، بينما تقف لو داخلها تلوح بسوطها تجاههما. تقدم هذه الصورة تشويها غير متوقع - بغض النظر أكانت هذه العلاقة قد خطرت لنيتشه أم لا - لتلك الملاحظة الشهيرة الواردة في «هكذا تحدث زرادشت»، عندما تقول امرأة عجوز لزرادشت: «هل أنت ذاهب إلى امرأة؟ إذن لا تنس سوطك!»
أهان الرفض نيتشه إلى درجة اليأس التام. وقد كتب يقول لأحد أصدقائه المقربين، فرانز أوفربيك في أعياد الميلاد عام 1882:
هذه «اللقمة» الأخيرة في الحياة كانت أصعب ما اضطررت إلى مضغه حتى الآن، وما زال من المحتمل أن «أختنق» بها. لقد عانيت من الذكريات المهينة والموجعة في هذا الصيف كالمعاناة من نوبة جنون، وما أشرت إليه في بازل وفي خطابي الأخير أخفى أهم شيء. وهو ينطوي على صراع بين عاطفتين متعارضتين لا أستطيع التأقلم معهما. أقصد من هذا أنني أبذل كل جهد لدي، ولكني كنت أعيش في عزلة لمدة طويلة وتغذيت طويلا على «دهوني»، ولهذا أنا الآن محطم، على نحو لا يطيقه إنسان، على عجلات عواطفي الخاصة ... ولو لم أكتشف الخدعة الكيميائية لتحويل هذا السماد إلى ذهب، لضعت . إنني هنا أمام أفضل فرصة لإثبات أنه بالنسبة إلي فإن «جميع التجارب مفيدة، وجميع الأيام مقدسة، وجميع الأشخاص رائعون!»
ميدلتون، 1969: 198-199، الجملة الواردة بين علامتي التنصيص مأخوذة من اقتباس في الطبعة الأولى من «العلم المرح» من إمرسون
وبناء على هذا بدأ كتابة «هكذا تحدث زرادشت»، وساهمت آلامه بلا شك في تلك الحالة المتضخمة التي جعلت من الصعب أحيانا تحمل الكتاب. ولكن بالنظر إلى خيبة أمله ووحدته، كلل مجهوده في أداء الخدعة الكيميائية بالنجاح المثير للإعجاب. وربما كانت عذاباته مسئولة أيضا عن النبرة غير الحاسمة التي طغت على جزء كبير من كتاب «هكذا تحدث زرادشت»، والتي لم ألق إليها بالا خلال معرض ملاحظاتي عنه. ولكن زرادشت عرضة للكآبات والانهيارات والغيبوبة والشعور المعرقل من عدم الثقة بالنفس، وكلها سمات تجعل التماثل بينه وبين مؤلفه أمرا لا مرد له.
تشير التوصيفات التي أطلقها نيتشه على كتابه «هكذا تحدث زرادشت»، باعتباره أهم كتاب على الإطلاق قدم للبشرية حتى وقته، إلى أنه على الرغم من أنه ينتهج الأسلوب الانتقادي في تقديم النصيحة إلى مريديه لكي يطبقوها، فإن نقد الذات لم يرد في كلامه، على الأقل وقتذاك. والأكثر إزعاجا من هذا أن نشر الأجزاء الثلاثة الأولى لم يكن حدثا كبيرا في الحياة الثقافية بأوروبا، وأن الجزء الرابع صدر على نفقة نيتشه الخاصة عام 1885. وهذا يبين إلى أي مدى كان نيتشه أبعد ما يكون عن التوصل إلى فهم دقيق لحالة معاصريه للدرجة التي كان ينبغي أن تسترعي انتباهه على أقل تقدير. لو كانت كتبه السابقة قد شهدت انهيارا سريعا مدويا، فماذا كان عساه أن يحدث لعمل كان أكثر إبداعا من ناحية وأكثر قدما من ناحية أخرى مقارنة بأي شيء أنتجه «فيلسوف» من بعد أفلوطين؟ ما يبدو غريبا هو أن كتابات نيتشه ظلت مستمرة، ولكن غالبا بنفس الحالة التي أحدثتها كتبه التي سبقت كتاب «هكذا تحدث زرادشت». وقد أصر على أن كل الأعمال التي كتبها بعد «هكذا تحدث زرادشت» كانت تفسيرا له وتعليقا عليه، ولكن يبدو أن هذه كانت محاولة لطمأنة الذات بدلا من تقييم صادق لطبيعة هذه الأعمال أو جودتها. فمن جانب، لم يأت على ذكر الإنسان الأسمى مجددا، كما أنه نادرا ما يتحدث عن التكرار الأبدي، أما إرادة القوة فتظهر من وقت إلى آخر. ومن جانب آخر، فإن التطور الحادث منذ صدور أول كتاب له بعد زرادشت، ونقصد «ما وراء الخير والشر»، مرورا برائعته «أصل الأخلاق وفصلها»، ووصولا إلى منشوراته المتدفقة خلال العام الأخير، لم يكن له علاقة من قريب أو من بعيد بأي شيء مذكور أو مشار إليه في «هكذا تحدث زرادشت».
إن ما يدهشني بالأحرى هو أن نيتشه بتأليفه كتاب «هكذا تحدث زرادشت» قد عبر عن الكثير مما بداخله دفعة واحدة، وهذا من حسن الحظ. وعلى الرغم مما قد يبدو من صعوبة في تبرير المحاكاة الساخرة الصادقة والغريبة لنيتشه التي شكلت مواضع الإعجاب التي أشرت إليها في الفصل الأول، فإنها استلهمت كلها من هذا الكتاب ولم يكن ممكنا أن تستلهم من الكتب الأخرى، حيث تمنع نبرتا التهكم والتردد اللتان تستمران حتى النهاية وسط حس القسوة والشجب، احتمالية ظهور معتقد ما. تتطلب جميع كتب نيتشه انتباها كاملا، ولكن للاستفادة من «هكذا تحدث زرادشت» يحتاج المرء إلى أن يتحلى بالمرونة واليقظة، وهو ما لن يقدر عليه سوى قلة من القراء من بعد ما التقوا به من تصريحات مدوية في الصفحات الأولى. ولولا النبي الذي ابتكره نيتشه، لما أتيحت الفرصة لشقيقته إليزابيث لإلباسه رداء أبيض لعرضه على السياح بصفته «النبي الممجد»، بعد أن بلغ حالة متقدمة من الجنون، ولما استطاع أيضا صديقه بيتر جاست أن يقول، بينما كان يوارى جثمان نيتشه تحت الثرى: «ليتقدس اسمك لدى جميع أجيال المستقبل!» عندما كتب نيتشه في الفصل الأخير من كتاب «هذا هو الإنسان»: «يتملكني خوف فظيع من أن تنسب إلي في يوم من الأيام صفة «القداسة»، وبإمكان المرء أن يخمن السبب الذي يدفعني إلى نشر هذا الكتاب «قبل أن يحصل ذلك الأمر» ... لا أريد أن أكون قديسا، بل أفضل أن أكون مهرجا» («هذا هو الإنسان»، «لم أنا قدر»، 1).
لقد تعمد أن يعطي كتابه الأول بعد «هكذا تحدث زرادشت» عنوانا مضللا: «ما وراء الخير والشر»، وأيا كان ما قد يقال من جانب نيتشه أو مفسريه، فإنه يوحي بإعادة تقييم «جميع» القيم، ولا يشير فقط إلى إنسان يستعد لإحلال قيم جديدة محل القيم التي نعتنقها حاليا، على الرغم من تطرف هذا القول. هذا الكتاب هو ما يقدم الحجة المزعومة (الغائبة، إن قرأه المرء بعناية) بأن نيتشه كان مصمما على التخلص من القيم الموجودة في العالم. فلا توجد قيمة يمكن اكتشافها في هذا العالم، ولهذا السبب يجب إكسابه قيمة. ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك؟ لطالما فعلنا ذلك، حسبما يصر نيتشه، ولكن حتى الآن ليس هذا ما نعتقد أننا كنا نفعله. ويجب إدارة الانتقال من تصورنا بأننا اكتشفنا في الواقع ما نصنعه، إلى الإدراك التام بأن هذا ما نفعله، بأقصى درجات الحذر والذكاء لكي نتجنب السقوط السريع في متاهة العدمية.
صممت اتجاهات الفكر الأولية في «ما وراء الخير والشر» بذكاء من أجل بلوغ أقصى درجات عدم الارتياح تجاه موقفنا مما نعتبره قيمتنا الجوهرية، ألا وهو: الحق. إذا استطاع نيتشه أن يجعلنا نشاركه بعضا من شكوكه حول مصير إرادة الحق لدينا، فسنكون طوع بنانه ننفذ مشيئته دون سؤال؛ لأنه ما من شيء آخر رئيسي يمكننا الاحتكام إليه. إنه أسلوب معتاد لديه في الانتقال من الحق إلى إرادة الحق، أو تفسير علاقاتنا بالعالم من وجهة النظر النفسية. وهو يصوغ الأمر في صورة لغز؛ إذ يعترف بقوله إنه من الصعب التمييز بين أوديب وسفينكس هنا. «لقد سألنا بدلا من ذلك عن «قيمة» هذه الإرادة. افترض أننا نريد الحق: «لماذا لا نريد بدلا منه» الباطل؟ وعدم اليقين؟ وحتى الجهل؟»
صفحه نامشخص