لكن هذا تفكير محزن قائم على التمني. لقد خضع نيتشه للإغواء المحدق به من جانب صناع المثل؛ والمثل الأعلى بعيد كل البعد عن الواقع البائس لدرجة أن كل ما يمكن عمله هو التفكير في هول الواقع والتفوه بأن المثل الأعلى ليس هكذا. وهنا يتذكر المرء تجسيد سويفت، في روايته «رحلات جاليفر»، لمعشر الياهو المقززين (نحن) ومعشر الهونينم المستحقين للتقدير، الذين يعلق عليهم ليفيز عن استحقاق بأنهم «قد يتمتعون بالقدرة الكاملة على التفكير، ولكن معشر الياهو يتمتعون بالحياة ... البشرة النظيفة لدى الهونينم، باختصار، مشدودة فوق فراغ؛ أما الغرائز والمشاعر والحياة ، التي تعقد مشكلة النظافة والاحتشام، فمتروكة لمعشر الياهو بقذارتهم وعدم احتشامهم.» ثمة تشابه غريب هنا بين الإنسان والإنسان الأسمى، على الرغم من أنه قد لا يكون مفاجئا؛ نظرا للصعاب التي سيصادفها حتما أي شخص يحاول الإشارة إلى مثل أعلى يسمو على الإنسانية ويرفضها.
في جزء سابق من «هكذا تحدث زرادشت» ظهر بديل، أو ربما كان هدفه هو تقديم تفسير تكميلي لتقدم ما يسمى في هذا الكتاب «الروح». إنها أولى خطب زرادشت، التي لم يزل فيها حتى هذه المرحلة غير مرتاح إلى اللغة البلاغية، التي نحكم عليها من ركاكة هذه الفقرة التي تستحث، حسبما يعلق إيريك هيلر، «نوعا من الإزعاج الروحي والحيواني المفرط» («هيلر»، 1988: 71). تبدأ الروح هنا في صورة جمل، والذي يقصد به الإنسان العصري، أرهقه تراكم القيم التي يحملها فوق ظهره، وهو تراث قمعي من الالتزامات والإحساس بالذنب المرهون بحتمية انتهاك الذنوب. يترنح الجمل وهو يمضي مسرعا في الصحراء، ولكنه يتمرد في نهاية المطاف ويتحول إلى أسد، بنية محاربة التنين. يسمى التنين «يجب عليك»؛ وهو لذلك سبب العبء الثقيل الذي لا يحتمل فوق ظهر الجمل. وهو يدعي أن «جميع القيم خلقت منذ أمد بعيد، وأنا كل القيم التي خلقت.» يقاوم الأسد، مصمما على استبدال «يجب عليك» ب «أريد». ولكن على الرغم من قدرة الأسد على القتال، فإن كل ما يستطيع أن يحققه هو الحصول على الحرية من أجل إبداع قيم جديدة؛ فهو لا يستطيع أن يصنع القيم نفسها. إنه يقول «لا» على نحو غير قابل للجدل، وتكون هذه نهايته؛ فقد حقق الغاية الوحيدة التي كان يستطيعها. وهذا واضح حتى الآن. لكن التحول الأخير مفاجأة؛ لأنه يصير طفلا:
لماذا يجب أن يتحول الأسد المفترس إلى طفل؟ ذلك أن الطفل براءة ونسيان، بدء جديد، لعب، عجلة تدفع نفسها بنفسها، حركة أولى، عقيدة مقدسة. إن لعبة الابتكار، أيها الإخوة، تستلزم عقيدة مقدسة، فالروح الآن تطلب إرادتها، ومن هو غريب في العالم لا يشعر بالانتماء إليه، يريد الآن أن يجد عالمه الخاص.
يجب أن يكون هذا، من بين أمور أخرى، نسخة نيتشه من قول المسيح: «إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات» (إنجيل متى، الإصحاح الثامن عشر، الآية الثامنة عشرة). وفي مواضع أخرى يستخدم نيتشه عبارة «براءة التحول». في اللحظات التي كان يعتريه فيها الإجهاد أثناء الكتابة، كان يلجأ أحيانا إلى صيغ لفظية متناقضة أو عاطفية لأقصى درجة؛ لأنه يعلم أن عنصرا واحدا في التركيب مترسخ بعمق داخلنا لدرجة يصعب معها صرفه، في حين أن الآخر هو ما كان سيحرره، على الرغم من تعارضه الواضح. لهذا فمنذ «مولد المأساة» نسمع عن «سقراط الذي يعزف الموسيقى»، في حين أن نيتشه يصور سقراط في جوهره بأنه معاد للموسيقى. وفي ملاحظة لم تنشر كتب عن «القيصر الروماني الذي يحمل روح المسيح».
هل هذه مجرد محاولات مؤثرة لتغيير المألوف وتحقيق المستحيل، أم تراها تعني شيئا؟ ثمة أسباب مقنعة لاختيار الحالة الأولى؛ لأن نيتشه كان رجلا منقسما على نحو يائس. ولم يسعه إلا أن يعجب بأمور عن سقراط أكثر مما كان يجب عليه. وكما سنرى، فإن كتاب «نقيض المسيح» يخرج تقريبا عن نطاق السيطرة بعد أن اتخذ تصويره ل «الفاسد المثالي» المزعوم منحى غنائيا. وإذا عدنا إلى «هكذا تحدث زرادشت»، فإن موقفه العام تجاه الحياة كان على غرار ما تسميه نوادي الفيديو الآن «للكبار فقط»، ومع هذا فهو مفتتن بفكرة طفل مستغرق كلية في اللعب، فيكون منشغلا ومنهمكا؛ بريئا وفي الوقت نفسه أيضا جاهلا. هل من الجائز أنه كان يريد أن يصبح الإنسان الأسمى مثل شخصية سيجفريد في أوبرا فاجنر، تلك الشخصية التي تربت دون معرفة بالعالم، ومنيت بالفشل لرغبتها إياه؟ يبدو هذا أمرا مستبعدا. فهذه العبارة «بدء جديد» خطيرة؛ لأن نيتشه عادة ما يتميز - بوصفه خبيرا بالفساد - بإدراك أن التغاضي عن عثرات الماضي وأخطائه وبدء صفحة جديدة بيضاء ليس من بين الخيارات المطروحة أمامنا. إذ يجب أن تكون لدينا ذات لنتغلب عليها ونكبح جماحها، وهذه الذات ستكون ثمرة الفكر الغربي كله، التي ستستطيع بطريقة ما «الإلغاء»، وهي كلمة يمقت نيتشه استخدامها، بسبب انتمائها الفعلي إلى هيجل، والتي تعني في الوقت نفسه «المحو»، و«الاستبقاء»، و«الصعود». أليس هذا ما يطالب به الإنسان الأسمى، أو إذا أسقطناه، ما يتعين علينا عمله في أثناء انتقالنا من حالتنا الحالية لكي نتمكن من الوصول إلى «الخلاص»؟ تتسم فكرة الطفل، أو صفة الطفل، بعيدا عن ارتباطاتها المسيحية، بجوانب رومانسية، وهو أمر نستغرب أن يوافق نيتشه عليه. أما العنصر الذي يريد التأكيد عليه، وأزعم تيقني منه، فهو حالة عدم الوعي بالذات التي يتسم بها الأطفال. أما بالنسبة إلينا، أو ما يعتبر تقدما بالنسبة إلينا، فإن تحقيق ذلك الآن أمر يصعب تخيله مطلقا.
وهكذا نعود إلى الإنسان الأسمى باعتبار أنه يتبنى التكرار الأبدي. وقد ثبت أن هذا الأمر هو الأكثر غموضا في جميع آراء نيتشه. فهل ينظر إليه ببساطة كاحتمال، أم كفرضية جادة حول طبيعة الأكوان؟ بالتأكيد هي الحالة الأولى، حسبما يتضح في القسم قبل الأخير من الكتاب الرابع في «العلم المرح». ولكن في دفاتر ملاحظاته، بما في ذلك على وجه الخصوص تلك التي نقحت بعد موته بعنوان «إرادة القوة»، فإنه يحاول إثباتها كنظرية عامة، بناء على واقع أنه لو كان عدد الذرات في الكون محدودا، فإنها يجب أن تأخذ شكلا كانت عليه قبلا، وهذا سيؤدي حتما إلى أن يكرر تاريخ العالم نفسه. ويعد هذا من أقل الجوانب فائدة في تأملاته، وفشله في نشر هذه الأفكار التجريبية مدعاة للابتهاج، أو كان سيصبح كذلك لو لم يصمم الباحثون على دراستها بدقة؛ بحثا عن تلميحات حول ما كان يفكر فيه بالفعل. وقد شجعهم واستحثهم على ذلك انفعاله بالفكرة التي خطرت له في وادي إنجادين السويسري، «ستة آلاف قدم فوق الإنسان والزمان» والتي اعتبرها، فيما يبدو، إحدى تلك الرؤى الحدسية التي يقتنع المرء بعمقها وصدقها، على الرغم من أنه لا يستطيع أن يحدد ماهيتها بدقة.
لم ينظر عموما إلى الرؤية الكونية للمذهب باستحسان. ومع هذا فقد أثار حماس نيتشه تجاه المذهب إعجاب المفسرين كثيرا، أو حتى اسمه بأية حال، لدرجة أنهم يعتمدون على براعتهم في شرح ما كان يقصده به فعلا. وكل ما يسعني قوله هنا أنهم في أثناء محاولتهم شرح هذا المذهب وتقديمه باعتباره فكرة مثيرة للإعجاب، فإن ما ينتجونه يجعل المرء يتساءل عن السبب الذي دفع نيتشه إلى إعطائه تلك التسمية المضللة. باختصار: إذا لم يكن يقصد ب «التكرار الأبدي» تكرارا أبديا، فلماذا لم يسمه بما كان يعنيه بالفعل؟
وهكذا نجد أنفسنا مع نظرية الاحتمال. كان رد فعلي الأولي التصريح بأنني لا أكترث بالارتقاء على نحو مفاجئ إلى حالة الإنسان الأسمى، بناء على الدليل التالي: إذا كانت كل دورة، كما يجب أن تكون، هي بالضبط مثل سابقتها ومثل تاليتها، إذن فلن تكون لدينا معرفة بما حدث، وخصوصا بما فعلناه، في آخر تكرار، ومن ثم لا نستطيع أن نخطو خطوة نحو تفادي تبعات ما كان كارثيا، ولا أن نفكر بفزع أو فرح فيما ينتظرنا تاليا. لو كان التكرار الأبدي صحيحا، فستكون هذه المرة اللانهائية التي أكتب فيها هذا الكتاب، ولكن لن يحدث هذا فارقا يدفعني إلى تغيير محتوياته! هكذا سيبدو الأمر. ولكن بالنسبة إلى الكثيرين ممن ناقشت الفكرة معهم، على الرغم من أنهم يوافقون على أنها لا تستطيع أن تحدث فارقا في أي شيء، فإنهم ما زالوا يرفضون التصريح بأنها لا تؤثر على شعورهم تجاه الأشياء. وحسبما سألني أحدهم مؤخرا: أيهما أسوأ، كون يقع فيه معسكر أوشفيتز مرة، أم كون يقع فيه المعسكر عددا لا نهائيا من المرات؟ يبدو أن الأمر يحتاج إلى شخص عديم الشعور ليقول إنه لا يهم، وهذا أقل ما يقال. فالتكرار، حتى لو لم يكن مهما من الناحية العملية، فإنه لم يزل يستثمر بعبء شديد ما يحدث «بالفعل».
لقد جعل كونديرا من هذا المذهب - فيما يعتبر الآن فقرة شهيرة نسبيا في بداية روايته «الخفة غير المحتملة للكينونة» - جوهر أفكاره المختصرة، والثرية في الوقت نفسه، عن الموضوع:
دعونا لهذا السبب نتفق على أن فكرة التكرار الأبدي توحي بمنظور تظهر من خلاله الأشياء بخلاف ما نعرفها؛ فهي تظهر من دون الظروف الملطفة التي تتسم بها طبيعتها العابرة. وتمنعنا هذه الظروف الملطفة من التوصل إلى حكم. فكيف يمكننا أن ندين شيئا عابرا وسريع الزوال؟ ومع غروب الانحلال وأفوله، يشع كل شيء بهالة الحنين، حتى المقصلة.
صفحه نامشخص