في واقع الأمر إنه يفكر، على أقل تقدير، في هؤلاء الأفراد الذين يستطيعون قراءته بتفهم، على الرغم من أنه لم يقل هذا على حد علمي. ولكن إذا لم يستطع المرء فعل ذلك، فإن فرص شحذ الطاقات المطلوبة لكي «يتبع المرء طريقه الخاص» ستكون بلا قيمة. ويقلص هذا بالفعل عدد الأشخاص الذين يتحدث عنهم ليصبحوا نسبة محدودة للغاية من السكان. فماذا عن الباقين؟ كيف يدين منتهجي سياسة القطيع وهم لا يملكون القدرة على أن يصبحوا أي شيء آخر؟ ولكنه لا يدينهم، وإنما هو فقط غير مهتم بهم. ويثير هذا مسألة سياساته، أو غيابها، التي تؤدي إلى مزيد من الرياء وسط مفسريه مقارنة بأية سمة أخرى في فكره. سأتناول هذا لاحقا. ولكن ماذا عمن يستطيعون قراءته بتفهم ولكنهم مع هذا ما زالوا يشعرون بأنه ما من طريق خاص بهم؟ هل يرى نيتشه أنهم يخدعون أنفسهم لكي يريحوا بالهم، أم أنهم محقون؟ لو كانت الحالة الأولى هي الصواب، فيبدو أنه أمام نفسه يقيم إمكانات الأشخاص على نحو مذهل. ولو كانت الحالة الثانية هي الصواب، فإن ما يقوله إذن بشأن إكساب حياة المرء أسلوبا مميزا غير مهم، وقد يتساءل المرء عما يجب أن يفعله بنفسه الآن، وهو ذلك الموهوب والذكي والمثقف والحساس والمتفتح الذي لا ينزع إلى الشهرة؛ لأنه على الرغم من مواهبه فإنه سلبي. أم ما من أشخاص سلبيين؟ مزيد من الأسئلة نستكشف إجاباتها لاحقا.
ثمة سؤال آخر مهم علينا أن نمعن النظر فيه قبل أن نترك مسألة الأسلوب التي ستظل مثار حديثنا دائما. أثار هذا السؤال أحد أبرز مفسري نيتشه، وهو ألكسندر نيهاماس (نيهاماس، 1985)، وفشل في الإتيان بإجابة مقنعة إلى حد ما. والسؤال هو: هل يستطيع شخص يتسم بشخصية بائسة تماما - حسب معايير لا يتخيل المرء أن يرفضها إلا قلة قليلة، وبالتأكيد ليس من بينهم نيتشه - أن يجتاز اختبارات الأسلوب الفردي المميز؟ لو كانت معايير نيتشه شكلية تماما؛ أي إن جميع التفاصيل متوافقة معا ولا يهم ما هي عليه كل على حدة، إذن ففيما يبدو ستكون الإجابة المروعة بالإيجاب. كتب نيهاماس يقول: «أعتقد أن ثمة شيئا يثير الإعجاب في حقيقة الاتسام بشخصية أو بأسلوب مميز» (نيهاماس، 1985: 192). ماذا عن جورينج؟ أسلوبه لا يمكن إنكاره أو إغفاله، ولكن يأمل المرء ألا يعجب به سوى القليل. يقول نيهاماس:
ليس من الواضح بالنسبة إلي إن كان الشخص الشرير على نحو دائم وغير قابل للإصلاح يمتلك بالفعل شخصية أم لا؛ فتلك السمة التي يصفها أرسطو بأنها «بهيمية» ربما ليست كذلك. وبصورة ما، فثمة ما يستحق الثناء ضمنيا في الاتسام بشخصية أو بأسلوب مميز، وتحول الحالات المتطرفة لمرتكبي الرذيلة دون الثناء عليها، حتى ولو بحس نيتشه الشكلي.
نيهاماس، 1985: 193
هذا أمر محير؛ الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها نيهاماس إثبات ادعائه ستكون من خلال الاشتراط اللغوي الصريح، الذي أتت منه هذه الفقرة.
ليس من الضروري التملص بهذه الطريقة بالنيابة عن نيتشه. فكما قلت، ما يقترحه في «العلم المرح» يجب تبنيه باعتباره خطوات تمهيدية نحو هدف لم يكن واثقا منه بعد. وهو يفتخر بنفسه بفضل هذه التحفة الفنية، فالقسمان الأخيران من الكتاب الرابع، اللذان يمثلان نهاية الطبعة الأولى من «العلم المرح»، محملان بأفكار الكتاب الذي راهن على نجاحه. يطرح القسم قبل الأخير «الوزن الأثقل»، فكرة التكرار الأبدي، باعتبارها فكرة مرعبة لا يحتملها أي شخص، باستثناء القوي. ولكن سيسعد بها أولئك الذين يتسمون بالقوة، ثم نجد القسم الأخير، «مستهل التراجيديا»، منقولا حرفيا من افتتاحية «هكذا تحدث زرادشت»، باعتباره مقتطفا من هذا العمل يتسم بالغموض، باستثناء ما يتعلق بهذه القدرة. ويجب أن يسلم المرء بأن الكتاب يعتبر الأقل وحدة بين مجهودات نيتشه المعقدة طوال حياته.
الفصل السادس
النبوءة
لمدة طويلة ظل كتاب «هكذا تحدث زرادشت» كتاب نيتشه الأشهر. ولكنه لم يعد كذلك، وهذا حسب ظني تطور يستحق الإشادة بصفة عامة. يعرض الكتاب بوضوح، من خلال كتابته في صورة أسطر قصيرة ملهمة، أسوأ دلالات تلك الحالة، على الرغم من أنه يحتوي أيضا على بعض أفضل كتاباته. ما كان نيتشه يحاول عمله في هذا الكتاب هو إثبات نفسه بصفته شاعرا فيلسوفا، ولهذا الغرض استخدم مجموعة من العبارات الاصطلاحية التي تكشف على نحو مفجع فكرته عن الشعر. فهو يستخدم كما كبيرا من الصور المجازية والاستعارات، ولكنه يفعل ذلك في مواضع أخرى أيضا، وبتأثير أفضل بكثير. والانطباع الأول الذي يتكون لدى المرء هو عن المختارات الأدبية؛ فمعظمها يتضح أنه مختارات إنجيلية، تتنوع بين الأصداء المباشرة للإنجيل والمحاكاة الساخرة، ويسهل على القارئ الذي يتخدر نوعا ما بسبب تكرار جملة «هكذا تحدث زرادشت» في نهاية كل قسم أن يتغاضى عن تنوع الأمزجة. يحتوي الكتاب على قصائد، بعضها أصبح مشهورا واستخدمه عديد من المؤلفين الموسيقيين، ولعل أنجحهم كان مالر وديليوس. ويمكن للمرء ملاحظة السبب وراء إعجاب هذين الموسيقيين بصفة خاصة بهذه القصائد؛ فهما رجلان يتمتعان بقوة إرادة هائلة واستثنائية، وقضيا معظم وقتهما في تصوير الحياة بكل حيويتها وجمالها، وهما قادران على الصمود، بعكس حالة الزوال المحزنة التي تتسم بها الحياة الإنسانية القصيرة. إلا أن نجاحهما ينم عن عنصر موجود في شخصية زرادشت التي ابتدعها نيتشه، عنصر كان يحاول جاهدا إنكاره، ألا وهو الحنين.
إن النبرة الأصدق في «هكذا تحدث زرادشت»، والتي تلوح في مواضع مفاجئة، هي نبرة الندم. والنبرة الأقل إقناعا هي نبرة الإجلال والإقرار، وهما سمتان يحاول زرادشت جاهدا غرسهما في الأذهان، بما أنهما ضروريتان لتمهيد الطريق أمام وصول «الإنسان الأسمى»، الذي يعتبر زرادشت نبيه. ولكنه نبي مصمم على ألا يكون له مريدون، وهي رغبة نجده شديد الاهتمام بالتركيز عليها، بما أنها تميزه عن بقية الأنبياء. ولكن قد يسأل المرء كيف يعزف شخص يقول الحقيقة عن أن يكون له أكبر عدد ممكن من المريدين. والإجابة فيما يبدو أن زرادشت ليس متأكدا على الإطلاق من الحقيقة التي تجبره على ترك جبله و«النزول» أو «الهبوط»، وهو التباس في المعنى محسوب بعناية من جانب نيتشه. يعبر الساحر في الجزء الرابع عن الكآبة التي هي رفيق زرادشت الملازم له، عندما يغني: «لو ابتعدت عن الحقيقة، فسأكون أحمق! سأكون مجرد شاعر!» ومرة ثانية، في القسم الأخير من الجزء الأول، «الفضيلة الواهبة»، يتحدث زرادشت إلى مريديه بكلمات كان نيتشه فخورا باختيارها لدرجة أنه يقتبسها في نهاية مقدمته لكتاب «هذا هو الإنسان»:
صفحه نامشخص