نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
ژانرها
إن فكرة الذنب تحمل طابع «اللا»، وإذا كان الذنب سيحدد الوجود الإنساني، فلا بد من تحديد الطابع الوجودي لهذه «اللا»، ويمكننا أن نصف الذنب وصفا شكليا خالصا بأنه «السبب» في وجود محدد ب «اللا»، أي سبب السلب والعدمية، وإذا استبعدنا عن «اللا» كل سلب لمطلب كان ينبغي الوفاء به أو لشيء مفتقد، كما استبعدنا عن الوجود-الإنساني كل تصور له كموجود حاضر، أمكن القول إن وجود الذنب لا يترتب على أي إحساس بالذنب (ولا بالدين، فالكلمتان مرتبطتان في الأصل)
88
وإنما العكس هو الصحيح؛ أي أن الإحساس بالذنب لا يكون إلا بسبب ذنب أصلي. كيف نوضح هذا من طبيعة وجود الموجود-الإنساني نفسه؟
إن وجوده هو الهم، والهم ينطوي على الوجود الفعلي هناك (الإلقاء) والتواجد (الشروع) والسقوط، والموجود الإنساني ملقى به بلا إرادة منه في «الهناك»، ولقد عرفنا وجوده بأنه إمكانية وجود متعلقة به ومع ذلك لا يملك تحقيقها، ولهذا فهو السبب في إمكانية وجوده كما أنه من ناحية أخرى ليس هو الذي وضع هذا السبب بنفسه؛ ولهذا يحيا في التناقض والهم الذي يكشف عنه التأثر والوجدان؛ فعليه أن يضع أساس هذا السبب (بأن يشرع نفسه على الإمكانيات التي ألقى فيها)، ولكنه في نفس الوقت لا يتمكن منه أبدا، ويعجز عن تحقيق إمكانية وجوده التي يتعلق بها همه فيبقى دائما وراءها، أشبه بمن يجري وراء ظله وظله يجري وراءه! فهو يحيا من خلال إمكانية وجوده، بل هو هذه الإمكانية نفسها، غير أنه لا يتمكن أبدا من تحقيقها، هذه «اللا» جزء من المعنى الوجودي «للإلقاء»، أي أن «اللا» أو العدمية تكون وجود الموجود-الإنساني الملقى به، من هنا كان عليه دائما أن يكون وأن يفهم نفسه من خلال إمكانياته، أو من خلال مشروعه، والمشروع في صميم تكوينه سلبي أو عدمي، وهذه العدمية مرتبطة بحرية الموجود-الإنساني تجاه إمكانياته، والحرية تكمن في اختيار إحدى هذه الإمكانيات دون الأخرى، فكيف نجمع بين هذه العدمية الأساسية وبين الهم والذنب؟
إن بنية الإلقاء والمشروع كليهما تنطوي على العدمية، هذه العدمية هي السبب في إمكان عدمية الموجود-الإنساني الأصيلة في حالة السقوط التي تلازمه في الواقع، والهم نفسه - من جهة ماهيته - تتغلغل فيه العدمية تماما، والهم - أي وجود الموجود-الإنساني باعتباره مشروعا ملقى به - يعني السبب «العدمي» للعدمية، وهذا يدل على أن الموجود-الإنساني من حيث هو كذلك مذنب، وذنبه الأساسي هو الشرط الأنطولوجي الذي يجعله مذنبا من الناحية الفعلية، كما هو الأصل في الخير والشر والأخلاقية بعامة.
ما هي التجربة المعبرة عن هذا الذنب الأصلي؟ أهي مرتبطة بالوعي بالذنب والعلم به، أم أن وجود الذنب أسبق من هذا الوعي والعلم؟ إن الموجود-الإنساني مذنب في صميم وجوده، ولا يمنع من هذا أنه في حياته اليومية الساقطة يحاول أن يتهرب من ذنبه الأساسي أو ينغلق دونه، وهذا الذنب هو الذي يجعل ظاهرة الضمير ممكنة، كما يجعلنا قادرين على الإنصات لندائه الذي يهتف بأننا مذنبون، «إن نداء الضمير هو نداء الهم، والذنب يكون الوجود الذي نسميه الهم ، والأصل في الموجود- الإنساني أن يتوحد مع ذاته في حال الهول الفظيع، وهذه الحال تضعه أمام عدميته الصريحة المرتبطة بإمكانية وجوده الحميم. ولما كان الموجود-الإنساني - باعتباره هما - يتعلق بوجوده، فإنه يهيب بنفسه من وسط هذا الهول أن تخرج من السقوط في الناس لتتجه صوب إمكانية وجوده، والنداء يتجه إلى الأمام والخلف، إلى الأمام؛ لكي يتحمل بنفسه وجوده الملقى به، وإلى الخلف؛ إلى كونه ملقى به، ليفهم أنه هو السبب العدمي الذي عليه أن يطويه في وجوده، مثل هذا النداء المزدوج الذي يهتف به الضمير ينبه الموجود-الإنساني، الذي هو السبب أو الأساس العدمي لمشروعه العدمي والذي يكون في إمكانية وجوده، بأن عليه أن يسترد نفسه من الضياع في الناس، أي يبين له أنه مذنب».
89
هكذا نرى أن نداء الضمير الذي يهتف بالموجود-الإنساني هو في الواقع نداء لا يحضه على الخطأ والشر، ولا يقلب وظيفة الضمير المتعارف عليها (فدعوته إلى الشعور الواعي بذنبه لا يعني بالضرورة أن يرتكب ذنبا من الذنوب التي ينكرها الناس وتحرمها القواعد والقوانين!) إنه على العكس من ذلك نداء منبعث من أعماق الموجود-الإنساني نفسه، يحثه على تحقيق إمكانية وجوده، ولو أحسن الإنصات إليه لفهم أخص إمكانياته، وتحرر للاستجابة لها، واختار نفسه بنفسه! عندئذ يصبح معنى الفهم لنداء الضمير هو أن أريد أن يكون عندي ضمير! وعندئذ يصير الضمير شهادة حية مجسدة - كامنة في أعماق الموجود الإنساني - على وجوده الممكن، أي على ذنبه الأصلي، ونداء يستحثه على أن يكون هو نفسه وأن يحقق وجوده ويتحمل مسئوليته ويصمم على اختياره. •••
ما علاقة هذا التصميم بالحقيقة؟
إن التصميم حال متميزة من أحوال انفتاح الموجود-الإنساني، وقد فسرنا الانفتاح أثناء كلامنا عن «السؤال عن الحقيقة» بأنه هو الحقيقة الأصلية، كما عرفنا أن الحقيقة ليست صفة من صفات «الحكم» ولا هي صفة لأي سلوك معين، وإنما هي عنصر أساسي في تكوين الوجود-في-العالم، ولا بد من فهمها من خلال التركيب الوجودي - أو بالأحرى التواجدي! - للموجود-الإنساني، وقد رأينا أيضا أن عبارة «الموجود-الإنساني يكون في الحقيقة» لا يمكن تفسيرها من الناحية الأنطولوجية إلا على أساس أن انفتاح الموجود-الإنساني يكشف لنا عن حقيقة الوجود وأصالته.
صفحه نامشخص