نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
ژانرها
يبدو أن هيدجر يترسم هنا طريقا دائريا يشبه أن يكون عودا على بدء؛ فهو يقرر أن تحليل الموجود الإنساني مسألة مؤقتة، الهدف منها أن تعيننا على تحديد السؤال الأساسي عن الوجود، فإذا تم هذا التحديد كان علينا عندئذ أن نرجع إلى تحليل الموجود الإنساني فنعيده مرة أخرى، وهذا هو الذي سنراه بالفعل في القسم الثاني من الكتاب الذي يتناول الارتباط بين الإنسان والزمانية تناولا جديدا، وليس هذا من قبيل الصدفة؛ لأن الأفق الذي نستطيع أن نفهم من خلاله وجود الإنسان هو في رأيه أفق الزمانية؛ ولهذا كان من الطبيعي أن يعيد التفكير في مشكلة الزمان، وقد كان المأمول من هذا التفكير أن يمكننا من أن نفهم كذلك زمانية الوجود نفسه، غير أن هذا الجزء المهم هو الذي افتقده الناس، ولم يستطع هيدجر أن يكتبه حتى اليوم!
ونصل الآن إلى المهمة الثانية التي يتطلبها تناولنا للسؤال عن الوجود، ما الذي يقصده هيدجر من «تحطيم تاريخ الأنطولوجيا»؟ ها هو ذا يؤكد لنا أن الموجود الإنساني نفسه تاريخي، وأن هذا وحده هو الذي يجعله يتصور شيئا كتاريخ العالم، لنستمع إلى ما يقول الفيلسوف في هذا الصدد: إن الموجود الإنساني بأسلوبه الذي يتخذه في الوجود وتبعا لذلك أيضا بفهمه الخاص للوجود، قد نشأ في أحضان تفسير موروث للموجود الإنساني، إنه يفهم نفسه دائما من خلال هذا التفسير وفي ظل محيط معين، هذا الفهم هو الذي يفض إمكانية وجوده وينظمها، إن ماضيه الخاص، وهذا يعني دائما ماضي جيله، لا يسير وراءه ولا يتبعه، وإنما يسبقه في كل حين.
12
قد يبدو هذا مناقضا للموضوع الأصلي الذي فرغنا من صياغته؛ فتاريخية الوجود الإنساني - والإنسان العادي بوجه خاص - تغري بالسقوط في شباك التراث والامحاء فيه، وكما رأينا الموجود الإنساني يميل إلى أن يفهم ذاته على مثال الموجودات المختلفة عنه،
13
كذلك نراه يميل في فهمه للتاريخ إلى السقوط تحت رحمة التراث، فيترك له زمامه، ويدع له أمر اختيار قراراته الحاسمة، دون أن يكلف نفسه مشقة استشراف هذا التراث واستشفاف وجوده التاريخي الخاص.
لا بد إذا من إزالة الحجب التي تراكمت على التراث، فغطته أو شوهته أو ألقته في مهاوي النسيان، ولا بد من الرجوع إلى منابعه الأصلية التي استمدت منها المفاهيم والمقولات المأثورة التي ظلت المذاهب المتوالية تتناقلها وتنحرف بها عن أصولها، وعلينا أن نضع المفاهيم في سياقها التاريخي بدلا من أن نأخذها مأخذ الحقائق الأبدية الثابتة التي نكتفي بتلقيها وتسليمها للأجيال اللاحقة.
التحطيم (أو التكسير) للتراث الأنطولوجي لا يعني أن ننفي الماضي أو نقف منه موقفا سلبيا، وإنما الهدف منه هو اكتشاف إمكانياته الإيجابية، وإزالة الرواسب التي تراكمت عليه بغية الوصول إلى التجارب الأساسية التي حددت مفاهيمه الأولية، ومعرفة إن كان هذا التراث قد نظر حقا إلى مسألة الوجود من أفق الزمان.
14
إن تحطيم تاريخ الأنطولوجيا معناه في المقام الأول «كشف الغطاء» عن تاريخية تصوراته الأساسية، لا بل بعث الإحساس بمعنى التاريخية نفسها، على الرغم مما قد يكون في هذا التعبير من مفارقة، ومعناه أيضا أن نكشف عما وقع في هذا التراث المستقر من إهمال للسؤال الأساسي عن الوجود، بحيث نصبح على وعي بتاريخ الأنطولوجيا ونتبين حدودها ونفهمها.
صفحه نامشخص