وبحسب فلامستيد، كان لفظ «تافه مغرور» أقل الألفاظ التي نعته بها نيوتن إهانة؛ فقد سأل فلامستيد عما أنجزه خلال العقود الأربعة التي تلقى فيها أموالا من الدولة، وهو ما دفع الفلكي الملكي الجريء لسؤال نيوتن عما كان يفعله لكي يحصل على 500 جنيه استرليني سنويا كرئيس لدار سك العملة. والأسوأ من ذلك ما ذكره فلامستيد عن أن هناك من ادعى أن فقرة في كتاب «البصريات» (وكان يقصد على الأرجح الملاحظات غير المصححة عن مركز الإحساس لدى الله) قد جعلت نيوتن عرضة للاتهام بالإلحاد. وفي سياق ادعائه أن نيوتن وأتباعه لصوص ، دفع ذلك نيوتن إلى نعته بالغطرسة والصلف. وظهرت طبعة هالي في العام التالي، مصحوبة بهجوم شبه صريح على تلكؤ فلامستيد في نشر ملاحظاته. واستمر البؤس حتى النهاية، إذ عاش فلامستيد عشر سنوات أخرى، ليخلفه في منصب الفلكي الملكي محرر النسخة الزائفة من كتاب «التاريخ السماوي لبريطانيا».
لايبنتز وقلبه المحطم
كان الألماني جوتفريد لايبنتز خصما فكريا أهم وأقوى بكثير، ولعله كان الند الفكري الوحيد لنيوتن في تلك الفترة. زار لايبنتز إنجلترا في عامي 1673 و1676، وبحلول الزيارة الثانية كان قد ابتكر نسخة مختلفة تماما من حساب التفاضل والتكامل الذي كان عمره آنذاك عشر سنوات. في هذه المرحلة، كانت العلاقة بين نيوتن ولايبنتز طيبة، وهو ما ظهر في الخطابين اللذين كتبهما نيوتن للايبنتز في عام 1676. وربما لجهله بأسبقية نيوتن في اكتشاف حساب التفاضل والتكامل (رغم أن كولينز قد أطلعه على نسخة من أطروحة «التحليل» خلال زيارته الثانية للندن)، نشر لايبنتز قواعد التفاضل والتكامل في عام 1684. وفي أواخر القرن السابع عشر، أشار فاتيو إلى أن تفاضل وتكامل لايبنتز كان أقل شأنا من تفاضل وتكامل نيوتن ومتأخرا عنه، مضيفا أنه من الممكن أن يكون لايبنتز قد «استعاره» من نيوتن. وفي المقابل، كتب لايبنتز مقالات نقدية مجهولة الاسم لكل من أطروحة «التربيع» الصادرة عام 1704 وكذلك أطروحة «التحليل» (التي ظهرت لأول مرة في مجموعة حررها ويليام جونز في عام 1711)، والتي ألمح فيها إلى أن حساب التفاضل المتدفق كان مجرد حساب التكامل التفاضلي الذي ابتكره ولكن بتنويت مختلف. وفي السنوات التالية، تفجرت القضية في شكل سلسلة من الحوارات اللاذعة بشأن اللاهوت، والميتافيزيقا، والفلسفة الطبيعية، والرياضيات.
وفيما كانت المشاكل مع لايبنتز على وشك الحدوث، عمل نيوتن مع روجر كوتس، أستاذ الفلك الموهوب وصاحب كرسي الأستاذية في الفلك بجامعة كامبريدج، لإعادة صياغة كتاب «المبادئ الرياضية». فمنذ بداية تسعينيات القرن السابع عشر، عمل نيوتن على نحو دوري على تصحيح رائعته، ولكن بعد أن تعاونا معا كفريق في عام 1709، حثه كوتس على إحداث المزيد من التغييرات الجذرية، خاصة على الكتاب الثاني. وفي بداية عام 1713، أنهى نيوتن مقال «ملاحظة توضيحية عامة» لضمه لكتاب «المبادئ الرياضية». وفيها شن هجوما ضاريا على «فرضيات» الدوامات، ومضى يؤكد أن الدور المجدد للمذنبات بل والبنية الكلية المنظمة للكون كانت دليلا على أن العالم قد خلق بيد إله حكيم وقادر على كل شيء. وكتب يقول إن هذا الكيان الروحاني يبسط حكمه على عبيد في أرضه باعتباره «ربا للجميع». لقد كان الله حاضرا في كل مكان وفي جميع الأزمان، وكان له حضور «قوي» دون أن يخضع للظواهر المعتادة التي تؤثر على الأجسام. وكانت هناك أمور يمكن معرفتها عن الله بالقياس، وعاد نيوتن بالذاكرة إلى التحليل الوارد في أطروحة «الجاذبية» بادعاء أن الله كان «بصيرا وسميعا ومدبرا للأمر وجبارا وعليما ومطلعا وقادرا». غير أن هذا لم يكن «على نحو بشري على الإطلاق ... وليس ماديا، بل كان بأسلوب لا نحيط به علما على الإطلاق».
وفي اللحظات الأخيرة، أشار نيوتن إلى أن الحديث عن الله «يقع بالتأكيد في إطار الفلسفة التجريبية»، واتسع نطاق هذا التعبير ليغطي جميع أجزاء الفلسفة الطبيعية في طبعة 1726 الثالثة والأخيرة. وفي تعظيمه لدور الله لمثل هذا الحد، كان نيوتن كعادته يعبر بحذر عن جانب من معتقداته اللاهوتية الجوهرية. ففي عام 1713، كانت لا تزال كارثة أن يذاع عن أحدهم أنه مناهض للعقيدة الثالوثية - مثلما كان ويستون قبل بضعة أعوام فقط - على الرغم من أن عددا من علماء اللاهوت كانت لديهم شكوك حول صحة مقال «ملاحظة توضيحية عامة» عند نشره.
وفي الفقرتين الختاميتين، عاد نيوتن إلى البندين الرئيسيين لمشروعه العلمي برمته. فأكد أولا أن لا داعي لاختلاق سبب افتراضي للجاذبية في حين أثبتت الملاحظات والتجربة وجودها. كذلك لفت الانتباه إلى «روح معينة ودقيقة إلى أقصى حد تتخلل جميع الأجسام الكبيرة وتختبئ فيها»، مما أدى لنشوء ظواهر التماسك، والضوء، والكهرباء، والطاقة التي نملكها لتحريك أجسادنا. غير أن هذه الأشياء، حسبما أشار، لم يكن من الممكن شرحها في بضع كلمات، ولم يكن هناك تجارب كافية لتحديد القوانين التي تحكمها. على الجانب الآخر من العمل، كتب كوتس على سبيل المساعدة تمهيدا في فصل الربيع أطلق من خلاله مصطلح «زاحف بائس» على أي شخص يعتقد أن بإمكان المرء أن يستنتج نظام العالم من خلال التفكير وحده، أو يؤمن بأن الله قد خلق كونا ليس في طريقة عمله المثالية أي دور للإرادة الحرة أو تدخل من قوة خارقة للطبيعة. ومع تطور المشكلة مع لايبنتز ومؤيديه، أصبح الهدف المجهول واضحا.
قضايا الأسبقية
أخذ ما يسمى بنزاع الأسبقية مجراه كما ينبغي حين رد لايبنتز في مارس عام 1711 على بحث أجراه جون كيل أكد فيه أن نيوتن كان أول من اخترع حساب التفاضل. وقد قدم نيوتن، الذي كان آنذاك قد اطلع على المقال النقدي «مجهول الاسم» لأطروحة «التربيع» التي امتعض منها كيل، قدم المساعدة لكيل لإعداد رد مفحم على ادعاءات أسبقية لايبنتز، ورد لايبنتز ردا وافيا في بداية عام 1712. بعد ذلك بقليل، تلقى نيوتن نقد لايبنتز السلبي لأطروحة «التحليل»، وعلى الفور شرع في تكوين لجنة من الجمعية الملكية للوقوف على حقيقة الأمر فيما يتعلق بنزاع الأسبقية (بناء على طلب لايبنتز). وكما حدث في حالة فلامستيد، شكل نيوتن لجنة تابعة ولكن محايدة ظاهريا، لم يكن من المحتمل أن يكون قرارها في صالح لايبنتز. واستخدم مهاراته البحثية الواسعة في استعراض أبحاثه وخطاباته (بما فيها تلك الواردة في مجموعة جون كولينز، والتي استخدمها جونز من أجل طبعته) بحثا عن الأدلة، وقدم للجنة كل ما كانوا يحتاجون إليه للوصول إلى قرار. وقد جرى تجميع ونشر البيانات والمعلومات ذات الصلة تحت عنوان «مراسلات دكتور جون كولينز وتحليلات متقدمة» والذي ظهر في بداية عام 1713.
رد لايبنتز الذي تعرض للشجب والاستهجان طوال النص، تحت اسم مجهول من خلال ما أطلق عليه «البيان الطائر». كذلك استعان بشهادة «عالم رياضيات علامة» (هو يوهان برنولي) التي أشارت في معناها العام إلى أن نيوتن يفتقر للخبرة الكافية في التفاضل والتكامل لكي يعتبر مخترعه. وأطلقت الهجمات والهجمات المضادة على صفحات الصحف الأوروبية الكبرى، وحين شعر أن موقفه لم يوضح بالشكل الكافي ، نشر نيوتن بيانه عن «المراسلات» الذي أطلق فيه العنان لأهوائه لأقصى درجة وذلك في بداية عام 1715.
ثمة سياق كان على نفس الدرجة من الأهمية لهذا النزاع هو موقف لايبنتز كمؤرخ رسمي لنظام الأمير جورج في هانوفر. فحين توفيت الملكة آن دون أن يكون لها أبناء في صيف عام 1714، وأصبح الحاكم الهانوفري ملكا لبريطانيا بموجب قانون توارث العرش، الصادر عام 1701، سرعان ما شرع نيوتن وحلفاؤه في إقناع الهانوفريين بحقيقة الفلسفة النيوتنية. ورتب نيوتن لإجراء تجارب بصرية لعرضها على خليلة الملك، فيما بدأ صامويل كلارك، وهو قس ملحق بقصر الملك، في التأثير على الأميرة الموهوبة كارولين، زوجة أمير ويلز. غير أنه في نوفمبر عام 1715، أشار لايبنتز إلى الأميرة أن أتباع نيوتن حذوا حذو لوك في اعتبار أن الأرواح مادية، وأنهم يعتقدون أن الفراغ هو عضو في جسد الله كان يدرك به ما كان يدور في الكون. وقد كان مثل هذا الاتهام يحتاج إلى رد، فقدم كلارك نفسه، وهو أكثر أصدقاء نيوتن الموثوقين في العقدين الأخيرين من حياة نيوتن، بوصفه المدافع عن قضية نيوتن.
صفحه نامشخص