خرجت الكلمة من فمه والدهشة تسبقها وتتبعها، فالطفلة كانت كبيرة، حجمها يوازي حجم ابنته ذات العام والنصف العام، عجيب أمر هؤلاء الناس، أبناؤهم دائما أصحاء أقوياء ملظلظون، وأبناؤنا دائما يعانون المغص والإسهال وعشرات اللفف والعيون الحاسدة. ولكن أهم من تلك المقارنة التي راح يعقدها خفية بين ابنته وابنتها كان عليه أن يفكر في حل لهذه الفيولا الصغيرة الضخمة، فلا بد من نقلها من الحجرة، وأمر محرج غاية الحرج أن يطلب من أمها هذا.
وفوجئ حين قالت الأم بطريقة عملية جدا، وبلهجة خالية من الآهات أو الحسرات: ماذا نفعل بها؟ أعتقد أن علينا أن ننقلها إلى الحجرة الأخرى التي ينام فيها الأولاد.
فوجئ درش إلى الدرجة التي سألها ببطء: ننقل من؟
وبسرعة قالت له: ننقل فيولا طبعا. هذه حجرة النوم كما تعلم، وطبعا لا بد من نقل فيولا إلى الحجرة الأخرى. ألا تعتقد أن هذا ضروري؟
وابتسم ابتسامة بلهاء لا معنى لها، ولكي يعوض لخمته والغباء الذي ادعاه لصنع المرح والخفة قال: طبعا طبعا ... يجب هذا طبعا، هيا بنا. سأحمل أنا من هنا.
واتجه إلى طرف من السرير وحمله قبل أن تحمل هي من الناحية الأخرى. ويبدو أنه فعل هذا بحماس أكثر من اللازم، إذ سرعان ما قالت له: احترس! ليس بهذا الشكل، قد تستيقظ وتأخذ مدة طويلة لكي تعود إلى النوم. لا ترفع إلا إذا رفعت أنا ... هيه.
ورفعا السرير وراحا يسيران به في بطء واحتراس زائدين، هي بظهرها وهو بوجهه. وكان انتباهه طوال الوقت مركزا تركيزا خطيرا فوق وجه الطفلة النائمة في براءة الملائكة عله يلمح أي تغير بسيط يحدث لملامحها وينبئ عن قرب يقظتها، إذ كان خائفا خوف الموت أن تستيقظ ، لا لأنها ستأخذ وقتا طويلا لكي تعود إلى النوم، ولكن لأنه خيل إليه أنها لو استيقظت فستفسد الليلة كلها وتثور أعصابه ويتعكر مزاجه.
ولكنه كان أحيانا يرفع وجهه عن وجه البنت ويحدق في ملامح الأم محاولا أن يقرأ انفعالاتها. فالذي يحدث أمر غير عادي بالمرة ... أم تساعد طارق ليل مثله في نقل ابنتها ليخلو لهما الجو، أمر غير عادي تماما ... ولكن العجيب أنه لم يستطع أن يتبين أي تغيير خطير في ملامح الأم. كل ما استطاع أن يلاحظه أنها هي الأخرى تركز انتباهها على وجه البنت مخافة أن تستيقظ. ربما هذه طريقة النمساويين في الخجل.
ولحسن الحظ لم تستيقظ فيولا، رغم ارتطام السرير مرة بمنضدة الطعام القائمة في ناحية من الصالة. وحين وصل الموكب إلى باب حجرة نوم الطفلين، دلفت هي أولا من الباب، ودخل هو بحذر أشد، وفجأة غمغم صوت صغير حافل بالنوم: مامي.
وفي لمحة كان درش قد أنزل السرير من يده، وفي قفزة واحدة كان قد أصبح في الصالة، ومن ثم في حجرة النوم الأخرى التي كان بها منذ هنيهة. ولم يلتقط نفسه التالي إلا بعد أن أغلق الباب ووقف خلفه يتسمع أدق الأصوات، ويتنفس ببطء شديد وبهدوء حتى لا يطغى صوت تنفسه على سمعه. حدث كل هذا في لمحة خاطفة، وكأن الصوت الذي قال مامي كان صوت الزوج أو صوت رئيس عصابة مسلح بمدفع رشاش.
صفحه نامشخص