نيويورك 80
فيينا 60
نيويورك 80
فيينا 60
نيويورك 80
نيويورك 80
تأليف
يوسف إدريس
نيويورك 80
1
هو :
من فضلك يا مدام، بالمناسبة ... أهذه هي الطريقة الصحيحة في الحديث إلى السيدات، أم يجب أن أقول يا «مام»؟ (نظرة مفاجئة منها، ثم دهشة، ثم امتعاض قليل.)
هي :
ولماذا لا؟ فليكن، قلها سيدتي إن شئت أو «مام» إن شئت ... لم لا؟ هذه طريقة شائعة جدا هنا.
هو :
سيدتي، من الواضح أنك ... أنك ...
هي :
أجل، أجل، لأختصر وقتي ووقتك، أنا
Call Girl
أتعرف معنى هذا؟ لأختصر وقتي أكثر، أنا ممن يسمونهم «المومسات». (رغم أن الإجابة لم تكن مفاجأة له، إلا أن الطريقة كانت منقضة سريعة، وعقله يعمل بسرعة البرق، يردد السؤال أو الإجابة عدة مرات، لا ليتأكد بل ليستوعب، بعدما استوعب وأنب نفسه على أنه هو الذي خجل، رفع رأسه وواجهها، كان وجهها يصنع زاوية 45 أفقيا ورأسيا، أما عيناه فقد كانتا في محجريهما، هذا صحيح، ولكن زاويتهما كانت في وضع المسقط الرأسي حيث الحدقة إلى أعلى، ولكنه كان كمن أصبح يرى ببياض عينيه.)
هو (مونولوج داخلي) :
مومس؟! لماذا يسمى كل شيء هنا باسمه تماما وعلى حقيقته؟ ألا يخجلون؟ على أية حال نحن أكثر أدبا، سموه نفاقا أو ادعاء، ولكنه أرحم من الحقيقة الصارخة، والأسماء التي بالضبط على مسماها، مومس! الكلمة بشعة بأية لغة تقال حتى لو كانت الفرنسية، ومومس سارترها الفاضلة، مومس، وابل من «التابوهات» والتابلوهات والمناظر يتساقط متوحشا كمطر نيويورك. (ولكن هناك حق.
والحق يجب أن يقال.
سيدته تلك التي خاطبها لا تمت إلى البغي شكلا أو موضوعا بأية صلة، ترتدي منظارا غير شمسي (نظارة نظر) على آخر صيحة، وهو يعبد مرتديات النظارات؛ عيون مرتدياتها في العادة تتضح وتدق وتفصح عن مكنونها من أخمص القدم إلى أدق شعيرات النوازع التي غالبا ما تتعلق بنيتها نحو الرجل.
مومس!
جديدة في الكار حتما، يبدو وكأنها لم تبدأ احترافها إلا منذ الأمس فقط، ولكن المحدد والمؤكد أن هذه فتاة داخلها مغناطيس قوي غير محترف يشدها إلى جنس الرجل، حتى قبل أن يشد الرجل إليها .)
هو (مونولوج خارجي) :
سيدتي، أو ما تنطقونه بالأمريكية «مام»؟ أريد أن أقول لك شيئا واضحا قويا ومنذ الآن: أنا جالس هنا قبلك، وقد لاحظت أنك حين جئت فتشت المكان بناظريك ورغم خلو معظم المقاعد اخترت الكنبة التي أجلس على طرف منها لتجلسي على الطرف الآخر، ثم لاحظت ثلاثة رجال على التوالي تركوا جلساتهم الانفرادية على البار وحاولوا التودد إليك. عن عمد كنت ألاحظك، بل بلغ من ملاحظتي أني رثيت لك وحمدت الله أنه لم يخلقني أنثى، ولم أختر من أنوثتي أن أكون نديمة رجال؛ فقد كان الرجل الأخير سمينا، مجعلصا، لا يصلح إلا للضرب على القفا، وقد لاحظت أيضا أنه يغريك ويذكر اسم الشركة ذات السمعة العالمية الرهيبة التي يعمل بها.
هي (مقاطعة) :
وكانت له رائحة.
هو :
شيء مؤسف ومقزز. ولكنك حرة، وأنت اخترت أن يختارك الرجال أو يفرضوا عليك اختيارهم. وأنت أيضا حرة، ولكن حريتك لا بد أن تتوقف هنا حيث أقول لك. إني أيضا لاحظت أنك رفضت الرجال وكان أغلبهم منتفخي المحافظ والأوداج؛ لأنك وضعت عينك علي، بل اختلست أكثر من نظرة لي أو ناحيتي. وأنا أحب أن أكون صريحا معك إلى آخر حدود الصراحة. أنا أحتقر تماما نوعك، ولا أستطيع أن أتصور أن إنسانة تبيع جسدها مهما بلغت حاجتها إلى النقود، وأنت لا يبدو أنك تتضورين جوعا، بالعكس في أصبعك خاتم من البلاتين لا يقل ثمنه عن الألف دولار. نوعك أشمئز منه، أحتقره، أتقيؤه وأنا أنظر إليه. وبصراحة أكثر، أنا لا أنتظر أحدا، لا صديقا ولا صديقة، ولكني متعب تماما وجلستي على طرف الكنبة مريحة وغير مستعد أبدا لتغييرها. (عجيب أمرها؛ تسمع، تستوعب، لا تغضب، وكأن الكلام تماما غير موجه إليها. خذي إذن.)
هو (مواصلا) :
أحتقر نوعك إلى الحد الذي لا يمكن أن يتصوره عقل كعقلك لا ينفعل حتى بالشتائم. وبلا لف أو دوران. لقد رفضت المتقدمين السابقين لك لأنك - لا أعرف لماذا؟ - واضعة عينك علي. وبكل وضوح أقول لك إني مستعد أن أصحب غوريللا ولا أصحبك أو حتى أكلمك، فالمسألة عندي مسألة مبدأ، وأنت وأمثالك أعتبرهن أعداء. لو كنت مجرما بالسليقة لقتلتهن. لست زبونك إذن ولن أكون، فإما أن تغادري المكان، وإما ابحثي لك عن زبون، فأنا يضايقني أن أكون السبب في خديعة حتى ولو كانت لمخلوقة مثلك. (استدارت ناحيته تماما، شده، المحترفات عنده كائنات ملطخات الوجوه بالماكياج المبالغ فيه، والشعر لا بد باروكة أو مصفف بطريقة تلفت النظر، هكذا كان يراهن ومن على بعد كيلو يتعرف على سحناتهن في القاهرة أو في أي عاصمة دنيوية أخرى. هذه الجالسة بجواره لا تضع إلا القليل جدا من الماكياج. وجهها طبيعي تماما أو يكاد، منظارها في استدارة أنثوية صارخة ولكنها غير مقصودة. لو صادفتها في مكان آخر لحسبتها نائبة رئيس العلاقات العامة في هيئة الأمم المتحدة (نائبة وليست رئيسة، فهي أبدا لا يمكن أن تكون إلا بين الخامسة والعشرين والثلاثين). لا ابتسامة دعوة صريحة لزبون. لا اهتمام صارخ بما يفعل أو يقول. أنفة وكبرياء دون افتعال. محترمة وكأنها تقدس عملها المحترم.) (بشبح ابتسامة أرجوانية تتواءم تواؤما أنيقا مع «روجها» غير اللامع، تقول):
هي :
أفهم من هذا أنك تريدني أن أغادر مكاني؟
هو :
أبدا أنا لم أقل هذا.
هي :
إذن لماذا لا تغادر أنت كنبتي؟
هو :
هذه ليست لك وليست لي، إنها ملك الكافتيريا، البار، وليس في نيتي أن أغير أبدا مقعدي.
هي :
المسألة إذن أنك لا تحب البغايا.
هو :
لا هن ولا أشباههن ولا حتى التي تقبل الحب لقاء عشاء أو هدية. إنه لشيء بغيض بغيض، وحتى لا يمت إلى الحيوانية نفسها. (أدرك أنها تستعمل طرف لسانها الناعم، لا، لا يمكن أن تكون قد بدأت الاحتراف من أمس، إنها أستاذة احتراف. الجملة التالية ستسحب الإجابة من لسانه مهما قاوم وعصلج. ماذا يفعل؟ هذه أول مرة في حياته يجلس فيها كتفا في كتف إلى محترفة، بله يبادلها الحديث. في إقامته في عاصمته وأسفاره تعرض للكثيرات، للهاويات بهدايا وللمحترفات بنقود، ولكنهن كن دائما خجولات، حساسات، ما إن يشيح بوجهه، أو تبدو عليه سيماء الامتعاض حتى ينصرفن عنه، إما بالنظر إلى الجهة الأخرى أو البحث بقرون الاستشعار الخفية عن زبون آخر، أو في أحيان بمغادرة الجلسة أو المكان. هذه نوع جديد، إما أنها واثقة من نفسها ولا ثقة «نيرون»، وإما أنه النوع الذي لا يخجل، ولكنه يخفف وطء التحايل، أو ربما لديها وقت تريد إزجاءه ... أو ... وهذا هو الاحتمال الذي يرضي الغرور حقيقة، فضلته أو تريد تفضيله، لا تداعب غرورك (أنت وليست هي) يا ولد.)
هي :
حقيقة لماذا لا تحب المحترفات؟!
هو :
لأني أومن أن الحب - حتى الجسدي - لا يشترى بمقابل. (ضحكة طويلة، فورية جدا، لا تشبه أبدا حتى ضحكات نساء نادي الجزيرة، أكثر تحفظا بكثير، على الأقل نابعة من القلب، يعقبها مباشرة، نفس جملته السابقة):
هو :
لأني أومن أن الحب - حتى الجسدي - لا يشترى بمقابل. (ضحكة أخرى، كمية السخرية فيها أوضح، وموضوع تحتها خط من رموش عينيها وكأنها تضحك على عبيط، أو على الأقل كلام عبيط.)
هو :
أفندم (بالعربي) ؟
هي :
نعم، ماذا تقول؟
هو :
أفندم؟
هي :
أية لغة هذه؟
هو :
لغة.
هي :
جريكي؟
هو :
لا.
هي :
بولندي؟
هو :
لا.
هي :
من أي بلد أنت؟ (لا أريد أن أنساق، طرف لسانها يتندي وكأنما بسائل معطر منزلق، خشونة لسانه، بدأ ريقها يزداد تمهيدا لما هو أخطر وأفدح، أن يجف تماما، لا يمكن أن يحدث هذا، تلك امرأة تبيع أعز ما تملك المرأة بنقود، تعامل جسدها على أنه كومة بطاطس، أو حزمة فجل. الاحتقار يتصاعد من جوفه ليملأ حلقه، حتى رائحتها (برفانها) ورائحته استحالتا إلى رائحة كرائحة سوق الخضار واللحمة في باريس «معدة باريس»، بل تهدد بأن تتحول إلى رائحة كرائحة رصيف الجلود على امتداد الطريق الخلفي لميناء الإسكندرية.)
هو :
أفندم؟
هي :
من أي بلد أنت؟ (جاوبها يا خجول بغلظة لكي تجلو.)
هو :
من مكان ما في العالم.
هي :
وماذا تعمل؟
هو :
أي عمل.
هي :
ماذا تعني أي عمل؟ كل إنسان لا بد له من عمل، ما عملك أنت؟
هو :
عمل من الأعمال التي يقوم بها هؤلاء الأنيقون الحليقون المكومون أمامك على مناضد الكافتيريا البار.
هي :
بزنس مان؟
هو :
مان من غير بزنس.
هي :
تحاول أن تبدو غامضا، لماذا؟
هو :
لأني لا آتمنك.
هي :
حتى على نوع عملك؟
هو :
حتى على نوع عملي. (واجهته تماما، يا ألطاف الله! أجمل أنثى، ليس في الكافتيريا البار فقط، ولكن منذ وقت طويل لم يلمح (بله أن يتحدث ويجاور ويحاور ويترازل على فتاة بهذا الجمال)، لا ليست عيونا خضراء وشعرا ذهبيا وفما كفم برجيت باردو: لونها قمحي فاتح أحمر، ملامحها صاغها عقل حساس قاذف لاقط. ذلك الجمال الذي صاغه الله بحلاوة، وصاغته صاحبته وشكلت ملامحه بأحد ما يكون الذكاء بحيث مغنطته؛ تراه فتنجذب عيناك ولا تريم. فتاة كان تماما لا بد يحبها، بل من أجلها يترك أدق مهامه؛ فمن أجلها وأجل أمثالها يستضاع العمل ويضيع الرجل.
ولكنها تبيع جسدها، هذه التحفة معروضة للبيع.
فجأة ينبثق من داخله حب استطلاع ذئبي تاجر، كالسيدات المصريات المتجولات في أكسفورد استريت يحببن في التو أن يعرفن كم الثمن، وآخر ما يفكرن فيه الشراء.)
هو :
كم ثمنك؟!
هي :
لمرة أو لساعة أو لليلة أو لشهر؟
هو :
يا نهار أبوك أسود!
هي :
أنت تتكلم الإنجليزية بطلاقة، فلماذا هذه اللغة الغريبة؟ أأنت خائف أن تواجهني أيها ... ال... رجل الذي لا يحتمل فكرة أن تعرض عليه سيدة نفسها بمنتهى الصراحة والمواجهة والوضوح.
هو :
كنت أسبك. (بمنتهى بذل الجهد قالها.)
هي (بمنتهى البساطة والتفتح) :
أي نوع من السباب، لدينا في نيويورك أشهر أنواع السباب. (بول شيت) - أي تبويلة الثور - إلى كافة أنواع الإفرازات والفتحات والنتوءات.
هو (مكملا) :
وأجساد الأمهات والآباء والأخوات.
هي :
لا أفهمك.
هو (مهاجما) :
وهل تبويلة الثور مفهومة؟! كل الشتائم أصلها غير مفهوم، وحبذا لو لم تكن مفهومة؛ لأنها حينئذ تصبح أقذع أنواع الشتائم.
هي :
وهل كنت تشتمني؟
هو :
كنت أندهش شاتما. (وقرر أن يصمت، مهما حاولت لن يتكلم، استدار إلى الكافتيريا البار. معظم النساء الحاضرات لا تعرف إن كن محترفات أو غير محترفات . (لم يعد ثمة فارق على الأقل في هذا المكان الغاص.) أحتقر النساء الحاضرات والغائبات والجميلات والقبيحات.
كل منهن استعار منها (أو أعارها هو) قناعا منها، فقد كان من الواضح أنها تملك سبعين قناعا.
نظرت ناحيته، أطالت النظر، الابتسامة تحولت إلى ابتسامة «شغل» أو «شبه شغل».)
هي :
كنت تسأل عن ثمني؟ (احتار، يجيب ويفتح باب حديث واربه تمهيدا لإغلاقه؟! شيطان داخلي صغير جدا من حب الاستطلاع ينقر كتكوتيا قشرة إرادته التي لا تزال رقيقة كقشرة بيضة نيئة.
صمت.
أجابت بابتسامة أدركت بذكائها أنها حملتها أكثر مما ينبغي الموقف من «بيزنس»، رغم النور الخافت والمخفت والمصوب لمح في عينيها شيئا دقيقا جدا، واهنا جدا، ولكنه قطعا وبالتأكيد يمت إليه.
رئيس الجرسونات، بدلة سوداء أنيقة خليقة بسير مايلز لاميسون آخر مندوب سام لبريطانيا في مصر، ولكنه أكثر منه وسامة ونحافة واستقامة. وجهه صخري وكأنه كبير القضاة في محكمة نقض، جاد، أقبل عليها، ظنه على طريقة زملائه في عواصمنا جاء يطردها أو يستدعيها، فقد لمح أجمل شعر فضي - أجمل من شعر عمر الشريف - يهمس له من مقعده العالي في زاوية البار البعيدة. كان قفاه وشعره الخلفي المفضض المفلفل هو الذي يواجهه، إذ بعد همسته لل «ميتر دي بلاس» استدار مواجها رجلا سمينا بيضاويا أسمر يضع فوق رأسه غطاء آسيويا.
جاء الكونت جرسون، بوجهه الجاد الدءوب، انحنى على أذنها، بضع كلمات، استمعت، ابتسمت، هزت رأسها رافضة، ببطء، ونظرات موجهة إلى مقعد الداعي البعيد ومؤدبة أيضا ومبتسمة رفضت.
من الواضح أن اختيارها تم، وأنها استقرت عليه - نقبك على شونة - يا سيدتي المومس المحترمة.
ناحيته، بلا ابتسام.)
هي :
كنت تسأل عن ثمني؟ (كسر الكتكوت المستطلع قشر البيضة وأطل برأسه إطلالة مرعبة، إطلالة أول مرة تتفتح عليها عين كتكوت ما رأى العالم ولا رأى شيئا أبدا، وفجأة عليه أن يسأل ويعرف ثمن البغي الجالسة في بار الكافتيريا النيويوركية أكثر احتراما واحتشاما من - على الأقل - جاكلين أوناسيس، بل وأكثر جاذبية وجمالا. من ذلك النوع الذي يتحول فيه كتكوته المدهوش إلى ذئب كازانوفي جيجولي مستعد لكسر القشرة الأرضية كلها والدخول في الحال إلى منطقة فقدان الوزن والجاذبية الأرضية والشمسية والقمرية والمجرية حتى.)
هو :
نعم، كم ثمنك؟
هي :
للمرة مائة دولار، لليلة ثلاثمائة.
هو (مواصلا وكأنه عادل إمام أو فؤاد المهندس، فالريحاني رحمه الله كانت ستفر من عينه دموع المسكنة) :
وثمنك لشهر بأكمله؟
هي :
إذا أعجبتك ثلاثة آلاف (السعر هنا مخفض لأنه كما ترى بمعدل مائة دولار في الليلة الكاملة الواحدة).
هو :
وإذا لم تعجبيني؟
هي :
أعتقد أني أتحدث إلى رجل ذكي، كيف لا أعجبك لليلة وتريد السؤال عن ثمن شهر؟ (نبتت نقطة عرق باردة واحدة في أخدود رقبته من الخلف، وكأن شعر قفاه أمطرها، رذة صيف.
إنه أمام امرأة ذكية جدا، هذا ليس حوار بغايا. أول مرة رآهن كان طالبا في الجامعة، وكان زميله في الشقة يغواهن مثل أبيه، بل أحيانا كان الأب والابن يشتركان معا، واشتهر هو بحجرته واشتهرت كذلك شقتهم بين بغايا شارع قصر العيني والمنيرة وحتى المدبح، وكان فتيات آخر الليل، على الأقل أولئك اللاتي لم يظفرن بزبائن، قصيرات نحيفات متواضعات الملابس والهيئة، معظمهن فيما كان يعتقد يعانين من أمراض سرية، بل إنه عالج واحدة منهن من الجرب، وظلت الشقة تحفل برائحة الكبريت زمنا. كن يأتين، ثلاثا، أربعا وربما خمسا ينمن في الصالة، على البلاط، بلا غطاء، على الأقل هذا مأوى أحسن من الشارع وعمود النور، ما إن يضعن رءوسهن على البلاط حتى يذهبن في نوم عميق. واحدة منهن كانت تستيقظ وتوقظهن فزعة تصرخ من كابوس مزعج، فسرته لهم في لحظة رعب أنه عمها الذي رباها واعتاد أن يضربها وينالها، ولماذا الصراخ؟ لأني اعتدت على أن أنام مضروبة معتدى عليها، ولماذا الفزع؟ لأن النوم العادي يسبب لي الكوابيس، العادي يسبب الكوابيس؟ أجل، كابوس أن أموت؛ فالضرب يشعرني أني حية، والاعتداء يجعلني أهفو وأحلم وأعيش على أمل ليلة أخرى.
لك الله يا عوض، دفعه حب الاستطلاع ذات مرة لتفتيش كيس نقود واحدة منهن (فلم يكن لأيهن سوى واحدة - اسمها تحية - حقيبة يد) في الكيسة خمسة قروش وتعويذة زرقاء، وبضع «بنسات شعر» وخطاب قديم جدا من أخيها ليس فيه سوى إهداء السلام. أما المحير فهو زجاجة صغيرة مملوءة لآخرها بصبغة يود مركزة، حسبها تستعملها للتطهير بعد مزاولة الشغل، ولكن في الصباح كان حب الاستطلاع أقوى، فصبغة اليود كاوية لاهبة، اعترف لها بتفتيش الكيس، وسألها عن صبغة اليود الزجاجة، بلا دراما مستقاة من الأفلام، وبلا انفعال قالت: هذه لأشربها إذا أمسكوني.) - من؟! - بوليس الآداب. - ولماذا تشربينها؟ إن هي إلا بضعة أيام حبس ولا تستدعي الانتحار.
قالت: معظمنا لدينا زجاجات مثلها، ومن علمتني الكار علمتني احتياطيا حمل الزجاجة. - لتنتحري؟ - وإيه يعني! - تموتين؟! - إني أعيش كالكلبة، ولا يجري ورائي سوى كلاب الصائدين (تقصد أفقر صائدين، أفقر من الكلاب الضالة.) - إذن لماذا لا تزالين تعيشين، ولماذا لم تشربيها إلى الآن؟ - الروح حلوة، وهذه آخر ملجأ. - هل استعملتها؟ - لا، واحدة زميلتي عملتها. - وأفاقت؟! - لا تزال بالمستشفى، وعلى العموم ماذا يحدث؟ سيحدث واحد من اثنين إذا انزنقت: إما أن أشربها وأموت وأستريح من لف الشوارع ونوم البلاط والكي بأعقاب السجائر جلبا للمتع الجنسية الشاذة، وإما ألا أموت ويأخذوني إلى المستشفى، بوليس آداب القسم غصب عنه يأخذني إلى المستشفى، ورغم ما يصورونه من دخول أنبوبة غسيل المعدة فهو كله أنابيب وكله سائل وإدخال وغسيل، إنما المهم أني سأضمن أن أقضي عدة أيام بالمستشفى، أكل وشرب ونوم، ولا توجد رائحة رجال. - ولكنك ستخرجين مرة أخرى للكلاب الصائدين. - أي نعم، ولكني أنتهز فرصة وجودي بالمستشفى وأعبئ زجاجة أخرى من صبغة اليود المركزة. - من يعبئها لك؟ - التومرجي. - ببلاش؟ - لا شيء ببلاش. خمس دقائق مع التومرجي في مرحاض من مراحيض قصر العيني الكثيرة.
هي :
إنك تبدو ذكيا جدا، فراستك لم أرها في إنسان، ولكنك أحيانا تقول أشياء ... آه ... أشياء لا تتفق مع ذكائك، آه فهمت، أنت عالم، أستاذ جامعة أنت، لا، أنت أصغر من أستاذ، مخرج مسرح، كنت سأقول إنك ممثل. ولكني لم ألحظ أنك أديت معي لحظة واحدة من التمثيل، من أنت بالضبط؟ ومن أي بلد؟ وماذا تعمل؟ (مصرة هي أن ينزلق.)
هو :
وماذا يهمك يا سيدتي من أكون أو ماذا أعمل؟ لم أصبح بعد، ولن أصبح زبونا ينزلق، فماذا يفيدك أن تعرفي من أكون؟
هي :
لأننا نتحدث، إننا تحدثنا الآن نصف ساعة بأكملها، ولقد عرفت أنت من أنا، وللآن أنا لم أعرف من أنت، وهذا ... وهذا ...
هو :
قلة ذوق.
هي :
لا، اسمح لي هناك كلمة أليق ... الخوف، أنت خائف مني إلى غضاريف مفاصلك، أشعر بمشدات ركبك الداخلية ترتجف، ماذا يرعبك؟
هو :
صبغة اليود المركزة.
هي :
صبغة اليود المركزة؟
هو :
نعم، في حقيبة مومس مثلك.
هي :
حقيبتي ليس فيها من سوائل غير رائحة «الأستيلويدر» أحدث وأروع بارفان في العالم اليوم. شم. (فتحت الحقيبة، أخرجت زجاجة البارفان، فتحتها. أمسكت يده فجأة، صبت على ظهر يده نقطة، اشتعلت النار في الجلد وكاد يطلق صرخة تعبر الأطلنطي على متن كونكورد، بدا الألم المروع واضحا على معالمه.)
هي :
شمها، إنها أعظم بارفان اكتشفته سونيا ماجدلينا، شم. (شم رائحة تحت الإبط لسيدة لم تعتد النظافة، ورغم هذا فالجو يحفل خارج - نقطة جلده - ببارفان تسكر رائحته وتعم جو الكافتيريا البار، وتحيل رائحة المشروبات «وفواكه البحر» والدخان المتصاعد من السجائر والسيجار إلى بخور في معبد هندي لا يدخله إلا الرهبان، ليستعينوا بما تشيعه الرائحة من قدم ضارب في أعماق الكهنوت والأسرار، القدم جنبا إلى جنب مع حداثة حملت الإنسان إلى القمر وأطلقته أثيرا في أثير، ولكن بقعة جلده (يعيد شمها) مصدر هذا كله فلا يجد سوى رائحة تحت الإبط الحامض بالعرق، وينتقل البواخ المتصاعد منه يجعد ملامح وجهه ويغلق طاقتي أنفه ويحس بالمعدة وصلت للهاة اللسان.
تنظر هي إلى ملامحه مرة، تتحسس بفمها شما رائحة المكان، تضعه على ظهر يدها وتستسلم للرائحة تدغدغ وتخدر خياشيمها الفراشية، يستحيل وجهها هو الآخر إلى أثير، ثم يندك فجأة إلى سابع أرض إثر لمحة إلى ملامحه.)
هي :
إنه أغلى عطر في العالم، ألا تعرف هذا؟
هو :
أعرف.
هي :
أتعرف كم ثمنه؟
هو :
أجل.
هي :
كم؟
هو :
خمس دقائق في مرحاض من مراحيض قصر العيني.
2
هي :
أنت «معقد» يا عزيزي عقدة خطيرة، أتعرف لماذا تكره تماما أن تزاول الحب مع امرأة محترفة؟ (أن تتحدث مع شخص، حتى لو كنت تكرهه، وتمضي في الحديث فإنه يحدث رغما عنك وعنه نوع من المعرفة، والمعرفة تقلل رغما عنكما العداوة، أو بالأصح تدفع بها إلى مناطق عدم الانفعال المباشر، يعرف لماذا يكره المحترفات، ولا حاجة به أن يعرف المزيد.)
هو :
لأني أقدس الجسم البشري وبالتالي روح الإنسان.
هي :
ماذا تعني بتقديس الجسم البشري؟ أم تقصد الجنس البشري.
هو (لنفسه) :
يا بنت الحرام وربيبة الحرام، كفي عن تدقيق المعاني، فلا أنت برتراند رسل ولا رئيس المجمع اللغوي للتعبيرات السكس جسدية. نعم لأني أقدس الجنس البشري، وبالتالي أقدس الجنس نفسه والعقل نفسه والإحساس البشري نفسه، فأنا لست ثورا، والمرأة ليست معزة أو بقرة، ولأني لست كلبا ضالا والمرأة ليست كلبة مصابة بسعار.
هو (لها) :
أفهمت ما لم أنطقه؟
هي :
أنت نصف مثقف، رغم أني أعرف الآن عنك على الأقل ثلاثة أشياء!
أولا: أنت كاتب.
ثانيا: أنت لا زلت طفلا عاطفيا ونفسيا.
ثالثا: ويبدو أن السبب الحقيقي أنك استكثرت ثمني.
هو :
تريدين أن تزاولي طريقتكم المحببة: الهجوم والاتهام، لأقف أنا موقف المدافع قليل الحيلة.
هي :
لا أريد أن أثبت لك أني أنا المرأة المحترفة أفهم في الطبيعة البشرية أضعاف ما فهمت أنت بكل خبرتك ودراستك وموهبتك.
هو :
أنت المرأة المحترفة بيع جسدها! (قالها باشمئزاز من تخيل أنها تعرض لحمها الحي في فترينة (ديب فريزر) في سوبر ماركت حديث، ولحمها ملفوف في ورق نايلون ومقطع قطعا، الساعة بمائة دولار والليلة بثلاثمائة وهكذا.)
مرة أخرى أقول لك: المرأة المحترفة بيع جسدها.
هي :
تسمونها هكذا في بلادكم، من أي البلاد أنت؟ ملامحك لا شرقية ولا غربية ولكنها مست في شيئا.
هو :
لن أقول لك أبدا من أنا وماذا أعمل، وحديثنا طال، ولكن الغريب أني لم أزهده، مع أني بصراحة محتقر مبدأ الحديث.
هي :
أنت لم تزهده لأنك تحس أنه يقترب بسرعة كبيرة من تعريفك من تكون أنت بالضبط.
هو :
أنا إنسان هذا العالم وهذا العصر.
هي :
أنت إنسان أمك وأبيك وعائلتك ومجتمعك، وتوقف نموك العاطفي والوجودي. (أهو يحلم؟ «مومس» بكل معنى الكلمة، تتكلم بكل معنى ومنطق وحتى مصطلحات، ليست مثقفة عادية، ولا حتى طبيبة نفسية، ولكن هذا فوق الاحتمال.)
هو (وكأنه أهين) :
تقولين توقف نموي العاطفي النفسي؟ (لم تقل هذا التعبير ولكنه إضافة من عنده ليكون فوق كل ذي علم عليم.)
هي :
أجل، أنت مكسح. (علمه المجتمع الأوروبي الأمريكي الغربي، بل ربما كافة المجتمعات، أنك إذا لم تهاجم هوجمت، وإذا ملكت فصاحة وحدة الهجوم كسبت القضية، أدبنا الزائد ومعاملتنا الدمثة اكتسبناها من كثرة ما تحدثنا بصوت خافت جدا، لا نسمعه حتى لا يسمعه طغاتنا. في الحقيقة غاظته كلمة توقف نموك.)
هو :
هل ترينني قزما؟
هي :
جسدك فارع، وقد لمست فخذك عن غير قصد، عضلاتك ليست لينة يكسوها دهن الحياة اللينة التي يبدو أنك أصبحت تحياها، عضلاتك - كل عضلاتك - هي الرجل الناضج الوحيد فيك.
هو :
أنا كاتب أيتها ال... (التردد هنا معناه أنه بدأ يشك في الوصف والصفة.)
هي :
قلها. أتحسب أني أخجل منها؟ الجميع هنا يعرفون أني مومس. أنا أقدم نفسي هكذا. ولماذا أخجل؟ أنا هكذا، فعلا مومس، وهل يخجل أحد من وظيفته؟
هو :
ولكن مهنتك مخجلة؛ فاللص يعمل لصا، ولكنه لا يفخر بعمله إلى درجة تقديمه لنفسه على أنه لص.
هي :
لأن اللص كلمة لا يطلقها على نفسه، وإنما الناس هم الذي يصفونه بها. ثم إن اللص يسرق ما لا يملك، وأنا أعطي ما أملك. الحقيقة أن الناس هم الذين يسرقون مني وليس العكس، وحتى معظم الناس يعتبرونها أحيانا مجرد تعبير آخر لمهنة «رجل أعمال»، وأنا أيضا «سيدة أعمال» بطريقتي، وأنت الآخر «رجل أعمال». (كالأمطار الهادرة الغزيرة تكاثرت عليه الخواطر، فجأة دوى في الخارج أعنف انفجار سمعه في حياته، خيل إليه أن الكرة الأرضية نفسها اصطدمت بكوكب ضال في الفضاء . ولم يكن الأمر سوى رعد نيويورك والساحل الشرقي. رعد يزلزل طبول الآذان، فتدق دقات الرعب والهلع. رعد لم يسمع بمثله في حيته، وبرق حقيقي لم يره إلا في أفلام السينما. هو لأول مرة بخلفية وأمامية من رعد وبرق يقف مجردا من كل هالاته أمام امرأة عملها أن تتعرى، ومع هذا فهي أمامه في كامل ملامحها وملابسها، وهو الذي يرتجف بردا ورعدا، وبصراحة رعبا وخوفا، في بلده يكفي أن يقول فلان حتى تنحني الأفكار وتنطق النظرات بآيات التمجيد والتسليم. خلال عشرات الأعوام تكونت له قلعة من أفكاره وشخصيته وعقله وفراسته وذكائه وموهبته. يخجل حين تنحني النظرات أمام قلعته، ولكن حين يصبح الخجل عادة والتسليم هو القاعدة، يستحيل إلى نوع من الجبروت المطلق والفرعنة، وفيه وفي كل إنسان فرعون محبوس ينتهز الفرصة ليتسيد.
هذه امرأة عرفته تماما ولم تعرفه أبدا، حادثها وكان الحديث محاكمة واضح أنه فيها المتهم. هو دائما حين يتكلم تنبع الكلمات من مصدر في داخله يعرفه تماما، مصدر التلقائية والصدق، هذه المرة، الكلمات ردا على صراحتها، موضوعيتها، وقاحتها، تخرج كالعادة تلقائية وصادقة، ولكن المصدر، المصدر الذي كان دائما متأكدا من صادق وجوده وصفاء صدقه، بدأ يهتز إيمانه به، اختلطت الكلمات بعروق الصدق والكذب، لم يعد بالضبط يدرك، الارتباك يهدد بأن يصبح شبه تام.
فليمسح هذه المرأة من على ظهر الوجود، وجوده على الأقل، بل فليمسح المكان نفسه من الوجود.)
هو (بصوت مبحوح بالغيظ ومشروع جريمة) :
اسمعي يا بروفسيرة.
هي :
نعم أيها، أيها الطالب. (ضحكة ذات ذيل.)
هو :
دعك من هذا العبث الذي ضيع وقتي ووقتك. لقد جئت إلى هذا المكان متعبا بعد يوم حافل شاق أريد ساندويتشا و«جنجرايل»، وقلت لك مرارا وتكرارا إني لست ولن أكون زبونا لك أو لأي ممن هن على شاكلتك، حتى لو قالوا لي إنك في الأصل ملكة أو ابنة ملك، حتى لو قالوا إن لم تفعلها فستنتحري. اسمعي، أنا بالتأكيد أعرف أنك أضعت وقتي، ولكنني لست متأكدا تماما أني أضعت وقتك. ورغم هذا ، ولوجود هذا الاحتمال، فإني سأقدم لك مشروبا أعوضك به عن الوقت الضائع.
هي :
أنت غير مضطر لهذا أبدا، وأنا أرفض، أنا لم أكن معك في «بيزنس» أو عمل، لقد كنت أزاول حديثا مع صديق أو شبه صديق، لا ثمن له.
هو :
تريدين أن تقنعيني أنه لا تزال لديكم بعض الاعتبارات؟ إن ما أزعجني في كلامك أني تبينت منه، بل وضعت أصبعي على نوع من التحلل المروع. لا أقول حضارتكم، ولكن أخطر ما في هذه الحضارة، وأي حضارة، المرأة فيكم. أنتن نساء مخربات روحيا وعقليا وفلسفة. والذي يذهلني أنكن تستطعن وجود الزبائن من الرجال، رجال نشئوا في مجتمع مفروض أنه راق وأنه غادر تلك المرحلة البدائية التجارية الحريمية من علاقة الرجل بالمرأة، كيف يقبل رجل يعيش في أرقى بلاد العالم في النصف الثاني من القرن العشرين أن يحصل على امرأة، جسد امرأة، بصرف النظر عن أي إحساس آخر لديها، مقابل بضعة دولارات ينقدها إياها ثمنا لأنها قبلت أن تتعرى له من داخلها وخارجها؟! إني لمشمئز من حضارة تصعد بسمو علمها إلى القمر ولا زالت تنحط بجسدها إلى مدارك الرقيق الأبيض والأسود، مشمئز لامرأة مثلك. وأنت لست سوى واحدة من جيش عرمرم، امرأة ذكية مثقفة، واسعة الاطلاع والخبرة، جميلة، أجمل من ممثلات أي سينما، أن تزاول عملا يمكن أن تفعله أي متخلفة عقليا، فهو لا يحتاج إلا ... طبعا أنت تدركين ما أعني. كيف تقبلين أنت التي تبدو حساسة ومرهفة الحس، أن يحتويك بكلكله وربما بكرشه وعرقه ولزوجته ورائحة فمه المخمور في مقابل، في مقابل ماذا؟ إن أي مبلغ من المال لا يساوي لحظة واحدة يسقط الإنسان فيها روحه إلى هذه المجاري الشعورية النتنة.
تتحدثين بمنطق وذكاء وخبرة، ولكنها أشياء جمعتها من فوق ملاءات الأسرة القذرة، جمعتها مما لحقك ولحق روحك من كدمات وجروح، ذكاء من باع نفسه ليشتري عقلا يقتل به البقية الباقية من روحه وجسده. لقد بدأت حديثي معك مشمئزا منك، والآن أحس أني مشمئز من نفسي، مشمئز أني أضعت كل هذا الوقت مع إنسانة نظيفة الخارج تماما، موبوءة الداخل، وأقذر شيء ليس هو أن يبدو الإنسان قذرا من خارجه، فربما نظافته الداخلية تضفي على روحه إشعاعا يغفر له بقع الخارج.
هي :
اسمع، سأقضي معك الليلة كلها لقاء مائة دولار. (دون أن يجيب، وبوجه يعرف أنه إذا تجمد بدا قاسيا مرعبا من قسوته، بدأ يجمع أشياءه وهو يحس باشمئزاز للجنس البشري كله، للصناعة والنهضة والفلاسفة والفن وصناع الأخلاق، فما فائدة هذا كله؟ وإنسانة مثلها يبدو أنها قرأتهم جميعا، ومع هذا فلم يفلح أي منهم، وربما لم يكن أي منهم صادقا إلى الدرجة التي كان لا بد أن تقنع إنسانة مثلها أن الإنسان شيء آخر غير عربات الرش والمراحيض.)
هو :
أولا إن كل ما معي عشرون دولارا، ولو كان معي عشرون ألفا أو عشرون مليونا وطلبت أنت دولارا واحدا لقاء ليلة لآثرت أن ألمع به حذائي، فعلى الأقل سأنظف به شيئا ولو كان حذاء.
هي :
اسمع، دعنا نتكلم «بيزنس»، جرب، من أجلك سآخذ عشرين دولارا فقط، على شرط إذا أمتعتك تعطيني مائة.
هو :
أنت قطعا متخلفة عقليا، ألم تفهمي بعد أن المسألة الجسدية المحضة لا تعني أية متعة بالنسبة لإنسان مثلي؟!
هي :
ولكنك لا تستمتع بها لأنك لم تنضج بعد للمتعة بها، وأنا التي سوف أنضجك.
هو :
لم أنضج بعد للمتعة بها؟! إن الذي يستمتع بهذا الشيء الجسدي المحض هو المراهق وحده، ولكن إنسانا في قمة تفتحه العاطفي والوجداني والإحساسي لا يمكن أن تمتعه مجرد تجربة جسدية لا علاقة لها بالشعور المتبادل أو الإحساس.
هي :
ذلك لأنك كما قلت لك لم تنضج بعد، إن العاطفية والإحساس المتبادل وما تسمونه الحب قبل التلامس كلها أعراض طفولة الرجل أو المرأة، والنضج الحقيقي هو المزاولة الحسية والاستمتاع بها دون أي مقدمات.
هو :
اسمعي أيتها البروفسيرة، آراؤك تلك احتفظي بها لنفسك؛ فأنت في رأيي إنسانة فعلا محترفة لا علاقة لها بالإحساس أو بالشعور أو حتى بالإنسانية.
هي :
اسمح لي.
هو :
لن أسمح أو أسمع لك. أنا صحيح أومن بمبدأ، ولكني إنسان عادل، وكان ممكنا أن تكسبي مع غيري في المدة التي استغرقها هذا الحديث، ولكن تقديري أنا لوقتك وما أضعته من وقتي، يجعلني أحس أن العشرين دولارا كرم مني زائد عن الحد. ها هي ذي، وإلى غير لقاء.
3 (في الفندق تعليمات تقضي بأن «تتربس» باب الحجرة جيدا ولا تفتح لطارق إلا بعد مكالمة تليفونية من الاستقبال، وإذا فتحت الباب أن تبقيه «مشنكلا» بحيث يسمح لك برؤية الطارق من خلال الباب الموارب، كل هذا لم يكن موجودا في الستينيات، في السبعينيات والثمانينيات، مع موجات العنف وجرائم العدوان حتى على رواد الفنادق، جاءت هذه التعليمات.) (طرق على باب حجرته.)
هو :
من الطارق؟
صوت :
أنا
هو :
من أنت؟
صوت :
المدير الليلي للفندق.
هو :
ولكنك سيدة.
الصوت :
أنا المديرة السيدة.
هو :
لا يا سيدتي المديرة، أنت هي، ولا داعي للكذب الساذج، أنا بملابس النوم وقد سئمت المطاردة، وإذا لم تتركيني فسأنادي المدير الليلي للفندق فعلا، وسأستعين بالأمن وربما البوليس أيضا.
هي :
أرجوك، أنا لم آت كمحترفة، لقد جئت كصاحبة رسالة، وأنت رجل مهم، مسألة حيوية تماما أن تقتنع برسالتي. أنا أخاطب، وأرجو، الفنان الذي فيك.
هو :
لست فنانا، أنا الآن حيوان غاضب، فاحذري غضبي.
هي :
عليك أنت أن تحذر رضاي، فكما قلت لك إني صاحبة رسالة، ورسالتي أهم لدي من أية كرامة شخصية.
هو :
من فضلك، صبري نفد، ورسالتك مهما كانت فإنها لا تهمني في شيء.
هي :
بل تهمك جدا.
هو :
قلت لك صبري نفد.
هي :
بل شجاعتك هي التي نفدت، أتخاف من امرأة صاحبة رسالة؟!
هو :
إذا كانت امرأة رسالتها التجارة في جسدها فهي قطعا تخيف.
هي :
ولكني لست كذلك، أنا رسالتي تضميد جروح الرجال، أنا طبيبة.
هو :
طبيبة بيطرية.
هي :
بل طبيبة ومعالجة نفسية، وأرجوك، هذه بطاقتي، اقرأها بسرعة فثمة أناس قادمون، وأنا لا أريد مشاكل لي أو لك. ((تدفع بالبطاقة، البطاقة لا يمكن تزويرها، عليها صورتها بالألوان، مستشفى سنترال بارك، باميللا جراهام، سيكولوجست معالجة نفسية) المستشفى واحد من أكبر مستشفيات نيويورك، بل أمريكا، البطاقة حقيقية. المرأة هي امرأة الكافتيريا البار فعلا، مجرد وجود البطاقة قلب الأمور رأسا على عقب، ما كان يبدو تبذلا خفيا في ملامحها أصبح له عمق ثقافي. الاحتقار الهائل توقف وانتفضت الحيرة كنافورة مياه ساخنة طال اختزانها تحت سطح الأرض.
أول خاطر داهمه أن حديثها معه الليلة لم يكن وليد الصدفة المحضة، وأنها مسائل مرتبة، ووجود إنسان من العالم الثالث في مثل تلك المجتمعات المتقدمة، حتى في جرائمها متقدمة، يجعله طوال الوقت يعيش حالة التوجس القصوى.
إذن هي مسلطة عليه، أو ربما اختيرت خصيصا لاغتياله؛ فهم بارعون حقا يعرفون أن نصف عقل الرجل الشرقي يطير لمجرد أن هذه امرأة، وأن النصف الآخر من السهل إلغاؤه إذا داعبت، حتى بأصبعها الخنصر، جلده.
أما أن كونها امرأة فيعني أنها وسيلة غير مضمونة للقتل أو لما هو أدهى، فتلك أيضا خدعة أخرى؛ فالمرأة، في مثل هذا المجتمع الشرس المتقدم، تعلمت من الرجل الشراسة، بل أصبحت هي التي تسقيه إياها.
فجأة يضحك ضحكة، نصفها حقيقي صادر من القلب، ونصفها كذب مبالغ فيه يغطي به خوفه.)
هو (محدثا نفسه) :
ولماذا يفكر أحد في قتلي هنا؟ ولماذا يلجئون إلى طبيبة نفسية متنكرة على هيئة فتاة ليل، أو فتاة ليل متنكرة على هيئة طبيبة نفسية، لتنفيذ مؤامرة اغتياله، وقد كان هناك ما هو أبسط؟ (ثم لماذا يقتلونه أصلا؟!
ومن هم الذين يهمهم قتله؟
بل حتى إذا كان السبب السرقة فهو لا يملك الآن سوى سبعة دولارات وبعض أرباع الدولار، ثم «شيكات سياحية» لا يستطيع أحد صرفها سواه.
فعلا، إنسان قادم من العالم الثالث بكل هواجسه ووساوسه، وله كل الحق، تجاه عالم أول متقدم، وأكثر وأعظم علامات تقدمه سهولة ارتكاب الجرائم فيه، رغم كل احتياطات الأمن ونعيق بوم عربات البوليس والإسعاف والمطافي. كلما نعق البوليس ازدادت المطاوي والمسدسات وكثر قطاع الطرق. الإنسان العادي، والغريب بالذات، مشدود العقل والأعصاب بين بوليس ينعق بلا فائدة، وجرائم ترتكب في صمت وبيد مجهول، وهكذا المهزلة، البوليس معروف ينعق، والمجرم كامن ينقض لا يعرف أحد متى ولا كيف يظهر.
أو أحيانا إذا ظهر، ظهر على هيئة ... هيئة بطاقة، تنكر آخر، لم لا يكون طبيبا أو طبيبة أو إمعانا في التنكر معالجة سيكولوجية؟
لحظة، جزء من لحظة، فاصل حاد كنصل الموسى، بين طفل كان مدرس العربي يخبطه على رأسه المحلوقة ويقول له: اقعد يا أصفر يابو علة. ومدرس الرسم يعلق رسوماته في الفصل شهرا ليسخر من بشاعتها التلامذة والمدرسون وحتى عم رجب الفراش. تلميذ كانت تقول عنه امرأة أبيه: لو نفعت أبقى أحلق مقصوصي. من بذور حشائشه تنمو هلعا ورعبا وخوفا من الأشجار العالية المنقبة الباسقة، فتتسلل متخفية تحت الأرض، وإذا واتتها نوبة جرأة عاتية وتغلبت على خجلها وترددها تظل ترتعش من الحشرات والديدان وأبو قردان، وإذا كبرت حصدها الموت المبكر أو حفر قنال السويس، أو حرب يساقون إليها بلا محاولة واحدة لشرح كنهها أو أحيانا بمجرد الجري وراء الأوتوبيس، حشائش كانت أجياله وأجيالنا، مجرد مرعى للثيران، مزود للأحصنة والحمير، وطعام للخرفان والديكة التركية المنفوخة.
وهو وحده مع امرأة كهذه من «حضارات متقدمة كونية» تفخر أنها بغي، لا ذرة واحدة من الخجل أو التأنيب. هو الخجول؛ لأنها لا تخجل لا منه ولا من مهنتها ولا مما فعلته معه، ولا حتى لكونها في النهاية تفعل هذا كله وهي طبيبة معالجة، يسمونها في بلاده قلة أدب، وعيب وعيون فاجرة يندب فيها الرصاص، يسمونها كذا وكذا وكذا ...
ولكن للقواعد شواذها، وهو الذي بدأ حشيشا متخفيا في الأرض تجاسر ورفع ذرات التراب وأكوام الطين، وشق برأسه السطح، قاوم الشجر السامق واعتلى جذوره ثم سيقانه ثم استقل لتصبح له أساساته ويستقيم وتستطيل جذوعه، ولا يمضي طويل وقت حتى يصبح أطول من الكافور وأشد استقامة وأوراقه أحد من أوراق الصنوبر.
وفي الرحلة من تحت الأرض إلى فوقها، إلى متسع السماء، إلى الهيمنة على الغابة ركبته الأمراض والعلل، وكادت الجذوع الضخمة تقتله خنقا؛ فإذا نجا منها نالته الأعشاب المحلية المتطفلة، وهزم السامق والمتطفل والزاحف والقاهر والظافر، وحفر الأرض وشق الهواء وأصبح أطول سار لأكبر سفينة، وعدى البحر وخاض المعارك وأفرج عن الأسرى واحتجز السبايا من الملكات إلى الجاريات ليصبحن حريمه. بقوة خارقة كامنة فيه فعل هذا كله، بساعده الأيسر والأيمن والأوسط والأعلى والأسفل، أتخيفه بعد هذا امرأة؟!
ولكنه فعلا خائف، لأول مرة خائف.
حتى لو كانت مومسا بكارنيه طبيبة، أو طبيبة بكارنيه ضابط بوليس آداب.
فهو خائف.
فهم لم يأتوه هذه المرة بمن على شاكلته أو هواه.
ولكنهم جاءوا له بنقيض.
بنقيضته.
نقيضة تثمله من أول الرجل الشرقي الكامن فيه يسحره البنطلون الطويل والقصير والبنطلون الأقصر الساخن، يسحره المايوه ترتديه أنثى بيضاء، ذات جسد وكأنما عبقري المقاييس، تلبس قبقاب الزحلقة على العجلات، وبرقصات باليرينا تتأرجح وسط الشارع الخامس والسادس والثالث. تتراقص ذات اليمين وذات اليسار، تتمايل مع موسيقى لا يسمعها أحد، فهي تتلقاها من راديو ترانزستور خفي لا تظهر منه سوى سماعات ستريو فونيك تضعها فوق أذنيها، تمنع عنها ضجيج الشارع وتسري بموسيقاها خلال «القد الملبني المياس»، فترى أنت المار أو الواقف الموسيقي، تراها معزوفة فوق الجسد ذي المايوه والقبقاب الراقص، تراها واقفا فتسير، وسائرا فتقف؛ فالجسد الراقص قد تحول إلى إشارات مرور حمراء وصفراء وخضراء توقف المرور وتسير المرور، وتوقف شعر الرأس وتدير الرأس، ويل للأعين وهي ترى السيقان تتباعد لتعود تنحسر وتضيق، تراها تتقدم باليمين وتتأخر باليسار، ويميل الجذع إلى الأمام ليعود يتقوس إلى الخلف ليتقوس العالم حتى لا تفوته انحناءة من انحناءات قوس الجسد.
وبكامل خوفه ورغبته فتح الباب، ودخلت.)
هي :
أممكن أن أخلع معطفي؟! (حتى لو كانت قاتلة، وسلطوها عليك لتقتلك، أليس هناك ميتة أبدع وأروع من هذه؟ هذا إذا كنت ستموت، والتي أمامك ليست قاتلة، بل هي فيما يبدو طالبة هوى مهما كان الثمن.
ولكن ما أنت متأكد منه تماما أنها قد تقتلك وقد تفعل أي شيء، ولكن المحال المحال أن تنالك كرجل، فهذا هو الأبشع من الموت قتلا أو ذبحا.
يتأملها بعيون مليئة بألف احتمال.)
هو :
إذن أنت لا تزالين مصرة؟!
هي :
على ماذا؟
هو :
أتتساذجين؟
هي :
أعذرك تماما، وأنا فعلا لا أزال مصرة، ولكن الهدف تغير نهائيا.
هو :
أأكون على حق إذا فهمت أنك صرفت النظر عني كزبون؟
هي :
ضعها كما تشاء، فمشكلتك ومشكلتي معك أننا لا نتحدث نفس اللغة، ولكن على أية حال تغير هدفي.
هو :
وأنا الآخر لم أصدق بطاقة تحقيق شخصيتك وحكاية أنك أخصائية علاج نفسي، أي جهة ... (هم بأن يقول: أي مخابرات زورت لك هذه البطاقة ذلك التزوير المتقن، ولكنه آثر أن يمثل وكأن اللعبة قد انطلت عليه، فإذا كانت تمثل مخابرات ما، سي آي إيه، أو إف بي آي، أو الموساد (المخابرات الإسرائيلية) أو ال ك. ج. بي الروسية، فالذكاء يحتم عليه أن يتجنب كشف أوراقها وإفهامها أنه فاهم ...)
هي :
جهة ماذا؟! أنت تشك في ... عيونك رغم خضرتها البحرية الهائجة تقول هذا، أستطيع قراءتها إلى القاع كما ترى قطعة النقود خلال ماء البحيرة المستتب تماما، ماذا بالضبط يدور في عقلك تجاهي؟
هو :
اقرئيه، أنت تقولين إنك تخترقين عيوني إلى قاعها السحيق، فلماذا السؤال؟
هي :
لأتأكد فقط من صدق إحساسي.
هو :
وماذا يقول إحساسك؟
هي :
إنك في بادئ لقائنا كنت ضيقا بي ورافضا مجرد مناقشتي، الآن أرى أنك بدأت تخاف مني. (يضحك ضحكة يدرك هو نفسه أنها أعلى مما يجب، وجوفاء تماما.)
هو :
أنا! أخاف من امرأة؟! وتحت رحمتي وأخاف منها؟ ها ها ها. (بدأ فعلا يخاف.)
هو :
ما الحكاية؟
هي :
أممكن أن أجلس هكذا ... (تضع ساقا فوق ساق، فيكشف ثوبها عن كل فخذها الأعلى وساقها.)
هو :
تفضلي، تفضلي. (ثم مواصلا)
ما دمت تقولين إن الهدف تغير، وإنك لم تحضري لتتمي الصفقة، ثم إظهارك هذه البطاقة، ما هو هدفك من المجيء بالضبط إذن؟ (هي تتمدد إلى الوراء في مقعدها، وفقط وهي تأخذ وضعها المريح فوق «الفوتيه» يكتشف أنها، مع حقيبة اليد، تحمل كتابا ضخما مجلدا بأناقة شديدة.
مع جلوسها يبدأ سكون وكأنما السؤال هو: من أين يبدأ؟ وكأنما السؤال عندها: فعلا لماذا أنا مهتمة جدا بهذا الرجل؟
أخيرا تنطق.
بسرعة المختلس المتلصص يمد يده إلى حيث وضعت حقيبة يدها والكتاب وبضعة كتيبات، الكتاب كرسائل الدكتوراه المطبوعة والمعدة للتداول. مكتوب على الآلة الكاتبة ومجلد، عنوانه غريب: السلوك الإنساني عند الحيوان، والمؤلفة: باميللا جراهام، قائمة بأسماء الشهادات تحت الاسم لم يفهم من اختصاراتها إلا
B A
وهي الشهادة المعادلة لليسانس الآداب عندنا.)
هي :
عرفت الآن فقط جنسيتك.
هو (مشغول بمشكلة أن يلقي نظرة على حقيبة يدها، ضمير الرجال يعترض بشدة. يسقط الحقيبة من يده، تنفتح، تجمع هي وهو محتوياتها) :
عرفت ماذا؟!
هي :
جنسيتك.
هو :
ما هي؟
هي :
لن أقول لك. (مونولوج طويل منها، لم يفهم منه حرفا، فقد كان الصراع في نفسه يتزايد ثم يحسم.
يتأمل ساقيها الطويلتين، هذا القوام الفارع نحن غير معتادين عليه في بلادنا، فتياتنا ونساؤنا الجميلات غالبا صغيرات الحجم، أما هذه الأرجل الطويلة، هذه الأفخاذ المسحوبة وكأنها لفرس عربي أصيل، وكأنها منحوتة مشدودة، لا انبعاجة دهن، لا حبيبة شباب حتى، القوام الفارع جعل جاكتة بيجامته التي استعارتها تبدو قصيرة لا تخفي إلا ما ليس هناك فائدة من إخفائه.
رائعة، هكذا بدت وهي واضعة ساقا عارية فوق ساعد مغطاة.
نيويورك مدينة تعدت مرحلة الأساطير، ناطحات سحاباتها ترعب، يسمونها الغابة المتوحشة الحديثة، والمرعب فيها أن الإنسان ضئيل ضئيل، والأجهزة قوية ومخيفة، والغنى فاحش، والفقر أيضا فاحش. إنك لا يمكن أن ترى هذا العدد من البغايا في أي عاصمة من عواصم العالم.
ولا تجد في أي عاصمة من عواصم العالم هذا العدد الوافر من بيوت التدليك وما يسمى بحمامات السونا، والفتيات يعلن عنهن وكأن المدينة تحولت إلى ماخور كبير؛ لهذا كان من المحتم على بطل هذه الرواية أن يلتقي بواحدة منهن، ورغم كل عقائده واستنكاراته تفرض عليه نفسها إلى هذه الدرجة.
ولكن، هل المسألة مجرد بغاء وبغي؟ أم أنها عميلة لجهة ما؟
مرة أخرى يدق الخاطر في رأسه.)
هو :
هل من الممكن أن أسألك سؤالا وقحا؟
هي :
أنت لا تفعل سوى هذا من أول لحظة.
هو :
هل أنت عميلة لجهة ما؟ (على ملامحها ارتسمت علامات وكأنما أعجبها السؤال، استملحته واستعذبته، بل وأخذت عضلات وجهها تستطعمه على مهل.)
هي :
ولو فرض أني عميلة، أتعتقد أني وصلت في عشقك إلى الدرجة التي أعترف لك فيها أني مدسوسة عليك؟! ثم أحب أن أقولك لك: أنا ليس لدي مانع مطلقا أن أعمل مع أي جهة تدفع بسخاء، فالنقود أصبحت هي الولاء الأعظم، وحياة الترف حلم أي امرأة مسحوقة هنا في نيويورك وأي رجل، حتى لو كان الكرسي الكهربائي في نهايتها. ثم ... هل أنت مهم إلى هذه الدرجة؟
هو (سائلا نفسه) :
صحيح! ما أهميتي حقا حتى يوكلوا أمري إلى عميلة تتنكر على أبشع صورة أراها للمرأة، صورة المومس؟ (ثم لها)
كل إنسان يبدو لنفسه على الأقل مهما.
هي :
أعني هل لديك أسرار هامة؟ لا أعتقد هذا.
هو (لنفسه) :
صحيح! ماذا لديه من أسرار تستحق عناء المحاولة؟ إن كل أسراره مكتوبة ومنشورة ويعرفها الجميع.
هي :
أتقول شيئا؟
هو :
لا أهمية لما أغمغم به، فكثيرا ما أغمغم لنفسي كالمجانين، لا تلقي بالا.
هي :
أنا أيضا أفعل هذا في أحيان، أتعرف أني اكتشفت أن الناس متشابهون إلى حدود لا يمكن أن يتصوروها هم أنفسهم؟
هو (كأنما تذكر فجأة أمرا مخيفا) :
اسمك فعلا ... باميللا جراهام.
هي (بدهشة) :
ما الغريب في هذا؟ إنه اسمي فعلا.
هو :
إذن هذا الكتاب؟!
هي :
آه، تقصد هذه المخطوطة، لقد كانت أطروحة، ولكني عدلت فيها وأضفت لها وأحاول نشرها.
هو :
وهي جزء أيضا من «عدة الشغل»؟
هي :
ماذا تقصد؟
هو :
كانت البغايا في الزمن الغابر يحاولن أن يبالغن في مكياجهن وبهرجة ملابسهن ليظهرن مختلفات عن ربات البيوت. المودة الآن أن تبدو البغي مثقفة وتحمل وهي قادمة إلى البار أو مكان العمل مسودة كتاب.
هي :
لست من الغباء بحيث أغضب لكلامك، ولن تصدق أبدا أن المسألة حدثت بطريق الصدفة المحضة، فقد تركت هذه (مشيرة إلى المخطوطة والمطبوعات)
عند صديقي البارمان من عدة أيام؛ لأن «شغلا» جاءني وأنا على غير استعداد بالمرة؛ إذ كنت في طريقي إلى حجرتي بعد مقابلتي لوكيلتي الأدبية، ولم أشأ الرفض، وخجلت أن آخذ الأشياء معي فتركتها عند «جو»، والليلة هو الذي ذكرني بها. (لم يكن يبدو عليها مطلقا أنها تكذب.)
هو :
إذن ارتدي ملابسك فورا، ولنهبط إلى الكافتيريا البار. (فجأة ينتصب الرجل الذي فيه وكأنه المارد قد خرج من القمقم، وكأن مسودة الكتاب هي الأنثى. الدكتورة المجلدة المكتوبة فقرة وراءها فقرة وجدولا في إثر جدول، العالمة فيها هيجت العالم فيه، وأيقظ العالم الرجل، فالتهبت عيون الذكر. ولم يعرف بالضبط أهي العالمة هي التي قرأت بعقلها الرسالة ثم ترجمتها إلى لغة الإحساس والجسد، أم أن الجسد فيها هو الذي رفع متأخرا كثيرا فحوى العيون الملتهبة إلى مستوى الإدراك. طويلة باسقة ترتدي جاكتة البيجاما دون بنطلون حين وقفت تبحث عن ثقاب تشعل به سيجارتها لمس كتفها كتفه، ولأول مرة وهو الطويل يحس بكتف امرأة في مثل طول كتفه، بنصفه الأعلى عار بدون جاكتة، وبنصفها الأسفل عار بدون بنطلون. أفلت الزمام تماما على الأقل من يده، أما هي فقد انهار الزمام وهوت بركبتيها على الأرض تحيط خصره بيديها مقبلة كل ما يستطيع فمها أن يصل إليه من جسده، مغمغمة وكأنما تحلم متكلمة أو تتكلم حالمة قائلة):
هي :
حسنا! لقد سحقتني تماما وأنسيتني عملي، وأنا التي سأدفع، كم تأخذ؟ (الرجل الخائر الغائر فيه تجمد وكأنما بجملتها حولت أعماقه بضغطة من زر إلى لوح من الثلج، كم يأخذ؟ تبدأ الليلة بكم تأخذ هي، وتنتهي بكم يأخذ هو.
مودعا جسدها الطويل الفارع وصدرها النافر، في تحد وكأنما هو مفارقهما إلى الأبد، بلوعة الوداع ودموع المرارة وحسرة الأسف أمسكها بكل ما يملك من قوة من إبطيها وأنهضها، وبكلمات كلكمات حبذا لو كانت رجلا لتتلقاها فعلا لكمات، قال):
هو :
في لحظة واحدة، ارتدي ثيابك فورا.
هي :
ماذا؟ ماذا حدث؟ ماذا أغضبك؟ سأدفع لك كثيرا جدا، كل ما تطلب، وليس الليلة فقط، كل ليلة لو أردت، لقد ملكتني، سمها أحببتك، أحببتك، أرجوك، أرجوك ... (وفتحت حقيبة يدها تخرج حافظة نقودها الداخلية، وروعت فعلا وهي ترى نية القتل في عينيه، وشحبت تماما وكأنما تحولت إلى تمثال من الشمع لا يرتدي ملابسه، ولكنه يغطي نفسه بهلع، وكأنما ثانية عري واحدة ستكون فيها نهايته.
مشدوها، مشدوهة إلى درجة الخوف أن يفترقا، مرة أخرى إلى مقعديهما في الكافتيريا البار.
فلا بد - حتى لا يجن - أن يعود الحديث إلى الاتصال.) (الآن هما قد هبطا إلى البار الكافتيريا والصمت مطبق ومشحون، مخطوف الخواطر والهواجس لا يزال، حين يجلسان.)
هو :
طبعا أنت تتوقعين أني كالعادة سأكذبك في أن ما تحملينه هو رسالة دكتوراه حصلت عليها من وقت قصير، أو على أقل تقدير ستحصلين عليها حالا. تتوقعين أني لا أصدق أنك سيكولوجست معالجة نفسية حاملة دكتوراه. لا أنا أصدقك فعلا، ولكن أرجوك، أرجوك، حتى لا أجن، أعطني جوابا مقنعا عن هذا السؤال البسيط.
هي :
عن السلوك الإنساني عند الحيوان (موضوع رسالتها) ؟
هو (بانفجار) :
بالعكس، عن السلوك الحيواني لدى الإنسان، سلوك إنسانة مثلك، دارسة وعارفة ومدركة ومثقفة ولا تتضور جوعا وتقبل، بل وبإرادة راغبة تماما أن تعمل مومسا، وحتى إذا رغبت مومست من ترغبه. (اندهاشته طازجة ودائما طازجة وغريبة وبريئة، وكأنه لأول مرة يدرك أو يستنكر في بعض الروايات والأفلام المصرية. كان يفتح فم عقله مذهولا أن تقبل، بل تفخر إنسانة أنها مومس، وأبدا أبدا لا يستطيع أن يهضم أن يرضى رجل أن يعاشر، بل مجرد أن يلمس إنسانة يعرف أنها كالخرقة طوال يومها تتداولها الأيدي والأفواه والأبدان بطريقة تفقد فيها، لا بد أن تفقد فيها، خصوصيتها التي تصنع إنسانيتها، وبالتالي أنوثتها وآدميتها. دستوفسكي البغايا عنده ضحايا ومريمات، مريمات مجدليات داهمتهن الظروف وأرغمتهن إرغاما على بيع الجسد، هو مستعد أن يقبل هذا ويغفره. أما أن تفخر بكونها بغيا وتوغل في فخرها بمهنتها إلى حد أن تتباهى بها على الأخريات وعلى الناس وعلى رءوس الأشهاد، أما أن تتحول عاطفتها نفسها إذا استبدت إلى مومسة، فمسألة أبدا أبدا ما تصور إمكان حدوثها أو وجود نساء على نحو كهذا. بل أن يفسد خلق المرأة أو الرجل ويخون أو تخون، وحتى يفعل هذا ليل نهار، جريمة هذا صحيح، ولكن عملية البيع، بيع الجسد، بمقابل نقدي فوري مدفوع مسألة أخرى تماما.
وهذه ليست فتاة مضحوكا عليها في فيلم مصري، أو ضحية من ضحايا ذئاب دستوفسكي البشرية، هذه حاملة دكتوراه، مؤلفة، كاتبة، واضح حتى من عنوان كتابها أنها مكتشفة، وأنها ممكن أن توضع في مصاف فرويد ومدام كوري.)
هو (مرددا وبصوت أعلى) :
كيف؟! كيف؟!
هي (معدة نفسها لجلسة استرخاء تامة تجلس على «الفوتيه» ناقلة ساقها العليا السامقة كأصابع الموز الأمريكي الهائلة التناسق والطول، فوق الساق الأخرى محدقة ناحيته وقد قبلت التحدي) :
ماذا أقول لك؟ نكبر ومع هذا نظل نفكر وكأننا أطفال لا نزال. لا تستنكر فقط أن أعمل بغيا، ولكن تستنكر أي عمل آخر قد يعن لي أو لغيري أن يقوم به، وكأنني أمك التي سوف تراها خاطئة. منذ فجر التاريخ يا عزيزي والعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة صفقة، ولا بد أن تكون صفقة. من الذي يدفع، غير مهم. في أزمان كانت المرأة هي التي تدفع للرجل الثمن، وفي أزمان أخرى كزماننا ينقلب الوضع. الدوطة وما تسمونه عندكم المهر والشبكة والهدايا، في حقيقتها الواضحة جدا، ما هي؟ أليست ثمنا؟ لقد درست شرائع الزواج في كل الأديان السماوية والوضعية، في كل منها يوجد مقابل مادي لكي يكون الزواج حقيقيا ورسميا.
هو :
إنها كذلك ولكنها صفقة العمر، اتفاق الأزل، فارق كبير بينه وبين ...
هي :
وبين ماذا؟
هو :
أن تصبح المسألة حرفة وتجارة.
هي :
إذن المسألة ليست مبدأ، المسألة عدد مرات البيع والشراء، فقد سلمت بالمبدأ.
هو :
لم أسلم تماما.
هي :
حسن، فلنأخذك حسب رومانسيتك التي من الواضح أنها تؤرقك، لنفترض المسألة حبا، عاطفة ملتهبة وغرام روميو بجولييت وبيرتون بإليزابث تايلور.
أنت تدعو الحبيبة للعشاء والرقص والنادي الليلي، وبيرتون يقدم لها خاتما ماسيا بمليون دولار، أليس كذلك؟
هو :
أدعوها وتدعوني، أو بالطريقة الإنجليزية نقتسم.
هي :
وتقتسمون ولا أحد يشتري أحدا، ولكنك في نهاية الأمر تفكر في إسعادها وحتما تفكر في شراء هدية. بالضبط ما معناها؟ معناها أنك تقول: في مقابل ما منحتنيه أيتها العزيزة من متعة، هاك. أو خذ أيها الحبيب مقابل حبك.
هو :
هدية.
هي :
ثمنا، اسمه العلمي ثمن. ولكل متعة ثمن، ولكل سعادة تمنح مقابل؛ فالمبدأ إذن قائم وموجود.
هو :
ولكن هذه علاقات خاصة، مصحوبة بعواطف خاصة جدا. فرق كبير بين أن أكتب لحبيبتي قصيدة غرام وبين أن أصنع منها نسخا بالفوتوكوبي وأوزعها على العشرات.
هي :
أبدا، لا فرق، المسألة مسألة وقت.
هو :
وقت؟!
هي :
كانت قصة الحب تستغرق رواية بأكملها، والرواية تستغرق عمرا بأكمله، قصرت قصص الحب، وصلت عند فرنسوا ساجان إلى ستة أشهر، عندي أطولها تأخذ ليلة.
هو :
ولكنك لا تحبين، أنت تتاجرين.
هي :
أبدا، معلوماتك عن البغايا قديمة جدا، نحن في عصر البغايا «الألترا مودرن» أنت بنفسك رأيت أنني رفضت ثلاثة عروض، وكان ممكنا أن أرفض أكثر. ولولا مفهومك المتأخر، لكنت أنت قد استمتعت كما لم تستمع في حياتك.
أنا أنتقي من يروقني.
هو :
تنتقين؟
هي :
طبعا، فهدفي هو أولا متعتي.
هو :
الإنسان يا آنسة أو يا مدام أو يا دكتورة، هو في النهاية بعض القيم، خلاص ... انتهت عندكم القيمة تماما في نيويورك حتى لم يبق إلا الدولار قيمة والمتعة الأنانية الذاتية هي الهدف.
هي :
الدولار قيمة هذا صحيح. أما المتعة فما الضرر أن أستمتع طالما أني أمتع طرفا آخر ولا أضر أحدا؟
هو :
ألم تفكري أبدا وأنت الحاصلة على دكتوراه ثقافة، في هذا المدعو الجنس البشري؟ لو فعلت كل النساء ما تفعلين أليس في هذا بداية النهاية لهذا الجنس؟
هي :
أبدا، أبدا، ربما بداية النهاية لكثير جدا من النفاق الذي يعوق تقدم البشرية، فإذا كان تكويني النفسي كما شرحت لك، وأرغمني الجنس البشري أن أتزوج وأنجب و«أخلص» لزوجي، فالنتيجة أني سأرتكب عددا من الخيانات الزوجية أكثر من شعر رأس زوجي، وسأنجب أبناء لا أريدهم ولن يريدوني، وبالتالي سنضيف أسرة تعيسة أخرى تنتج أجيالا تعيسة أخرى لهذا المحترم الجنس البشري.
المسألة اختيارية تماما، وذاتية جدا، بعض النساء يحببن أن يكن زوجات وأمهات، ومثلك لا يتصورن أبدا تعدد العلاقات، حسن جدا، هؤلاء هن الزوجات الصالحات فعلا اللائي حين يتزوجن ويخلفن يضفن لجنس الإنسان أطفالا أصحاء مرغوبين، يضفن فعلا للجنس البشري نوعا وكما. لماذا هو محتم أن كل النساء يتزوجن كل الرجال، وكل النساء والرجال يخلفون أطفالا؟ ما الذي وضع هذا النموذج الواحد للوجود الإنساني؟ لماذا لا يوجد نموذج آخر يفضل كل فيه ما يشاء. الذي يحب النساء يحب النساء، والذي يحب نفس جنسه يحب نفس الجنس، والتي لا تريد الزواج نتركها لرغبتها، والتي تستمع بوحدانية العلاقة والرغبة في الأمومة نتركها تزاول هذا في سلام.
لماذا هذا الهوس غير البشري وغير الإنساني بتطبيق طريقة حياة واحدة على أربعة آلاف مليون كائن لا يتشابه منها اثنان، مجرد اثنين. (هذه الدعوات الزاعقة إلى الحرية الشخصية للرجل والمرأة ليست غريبة عليه منذ الستينيات، وهو يخوضها مناقشات ومساجلات وخناقات في أوروبا وأمريكا وحتى في روسيا نفسها بل وفي بعض بلاد الجزيرة العربية، ولكن إطلاق الحريات الشخصية إلى نهاياتها شيء وقبض أثمان للحرية الشخصية شيء آخر.
هو ترجم لها المونولوج العربي الداخلي بإنجليزية عالية باهرة.)
هي :
أنت أخلاقي جدا.
هو :
وهذا منتهى التحضر في رأي، فالأخلاق، قمة الأخلاق، قمة التحضر، هي الصدق مع النفس.
هي :
وعلى هذا المقياس نفسه فأنا الأخرى أخلاقية جدا.
هو :
كيف وأنت ...؟
هي :
لا أنا ولا أنت، المسألة يا عزيزي أن عملي كما عرفت الآن يسمونه معالجة نفسية، طبعا تعرف ماذا تعني معالجة نفسية.
هو :
أكاد أخمن أنها التي تتولى تطبيق العلاج اليومي الذي يشير به الطبيب النفسي ...
هي :
شيء كهذا، وكان تخصصي ولا يزال هو علاج «عدم القدرة» عند الرجال.
هو :
عدم القدرة؟!
هي :
أجل، في السنوات الأخيرة كثرت هذه الحالات جدا، حتى لقد تخصصت فيها عيادات بأكملها؛ إذ يبدو أنه مع تحرر المرأة الغربية، وربما المرأة في كل مكان، وأخذها الإرادة الأعلى فوق إرادة الرجل، قد بدأ يعمل عمله في قدرة الرجال الجنسية إذ أخذت في الانحدار؛ فكان عملي كمعالجة نفسية أن أساعد هؤلاء الرجال على استرداد قدراتهم.
هو (بحب استطلاع فهو لأول مرة يسمع أن هناك عيادات بأكملها مخصصة لهذا النوع من العلاج النفسي، ولأول مرة يعرف أن طبيبات ومعالجات يقمن بهذا العمل) :
وكيف كنت تساعدينهم؟
هي :
أولا هناك بعض حقائق لا أعرف إذا كنت على علم بها، ولكن لا يوجد مرض اسمه عدم القدرة عند الرجل إلا إذا كان مريضا عضويا، فعدم القدرة هو مسألة نفسية بحتة، إذ علميا يستطيع الرجل أن يزاول الجنس طالما هو حي، طبعا تقل القدرات والمرات، ولكنها أبدا لا تنعدم. نحن كنا نتولى علاجا نفسيا و«فزيكيا» يعيد لكثير جدا منهم القدرة. وكان عملي أنا أن أقوم بالجانب الجسدي باعتباره تخصصي. ولا تتصور مقدار السعادة التي كنت أحس بها كلما استعاد مريض من مرضاي قدرته مرة أخرى، لقد كان امتنانهم يصل إلى حد دعوتي في احتفالاتهم الثلاثينية وأحيانا الخمسينية بزواجهم وإغراقي بالعواطف والهدايا.
هو :
ولكن هذا يعتبر عملا علميا إنسانيا رائعا جدا ومفيدا تماما.
هي :
وهل تجد فارقا كبيرا بين عملي الآن الذي تسميه مومس وبين ما كنت أقوم به في العيادة النفسية؟
هو :
طبعا، ذلك كان علما وعلاجا.
هي :
وماذا أفعل الآن؟ أليس ما أقوم به في أحيان كثيرة، بل في معظم الأحيان علما وعلاجا؟ معك حق، هناك فرق واحد بين العملين، ذلك الفرق الذي دفعني لتفضيل عملي الحالي.
هو :
أي فرق؟!
هي :
كان أجري في العيادة يعادل بالضبط خمسة دولارات في الساعة، الآن الساعة عندي بمائة دولار وربما أكثر. (قالت هذا وضحكت.
ويندهش هو برهة وكأنما داهمه ضوء كاشف مفاجئ، ثم لا يلبث أن ينفجر ضاحكا. يقهقه وكأنه سيموت ضحكا ويخبط فخذيه ويتلوى ويضحك وبكل ما يملك من قوة وعصبية واكتشاف يضحك، حتى لقد بدأت منضدتهما تسترعي الانتباه رغم ازدحام المكان.
أخيرا يسكت، ثم بهدوء شديد.)
هو :
فعلا، ما الفارق؟ أو بالأحرى، الفارق كبير، كبير جدا (ثم يصمت ... يصمت طويلا ... في الحقيقة يعم الصمت بينهما حتى ليصمت المكان المكتظ والمدينة الماردة الكبيرة في الخارج، وكأن كل شيء مات فجأة وصمت، ثم على مهل شديد يبدأ ينطق).
ولكن فعلا، هناك فارق، أن تعالجي بهدف العلاج شيء وبهدف النقود شيء آخر، ذلك يسمونه العمل، وهذا يسمونه البغاء.
هي :
اختلاف في التسمية، هه ... (بول شيت).
هو (مواصلا كلامه الذي لم يعد مجرد كلام، ولكنه فعلا ما يؤمن به في الحياة) :
الأنثى التي كلفت الحياة ملايين السنين من الإيغار في التعديل والتبديل حتى أصبحت قمة الكون النامية، الأنثوية الإنسانية أرقى إبداع للخالق. بقرار أحمق ليس طفليا بل تافها وحقيرا، فالأطفال أعظم بكثير وأكثر براءة ونظافة، بقرار كهذا تلغي ملايين السنين من التطور وتقذف نفسها ساقطة هاوية إلى حيث توقف التطور بالقطط والكلاب والفئران، بل حتى هذه الحيوانات تحظى بالجسم ببطولة، بمعركة تدور بين الذكرين حول القطة وهي الهدية، هي الوسام، والفائز هو من فعلا يستحقها. إنها أبدا لا تطلب مقدما أو مؤخرا أو «تأخذ» أي شيء. إنها بكل الدلال والسخاء تمنح، تعطي ما نقيسه بالثمن وبالساعة نحن، لا تتحول إلى بضاعة ذات سعر، وتفخرين أنت بهذا باعتبارها مهنة كسب أكبر قدر من النقود في أقصر وقت. تكسبين الدولارات هذا صحيح، ولكن الحسبة مغلوطة تماما، فأنت حتى لو أوغلنا في التشبيه رأس مال، تكسبين مائة عاجلة وتخسرين مئات وآلافا من رأسمالك. «وطريقة» سهلة جدا لكسب النقود، ولكنها كمهنة من امتهن احتساء وجرع ماء النار: في دقيقة يأخذ مائة دولار، ولكن الكارثة هي كم ما يحدثه الداخل في أحشائه من تهرؤ وتآكل في صميم روحه وذاته، بل وفي جسده.
بل لا أقول إنك تخسرين كميات من نفسك رأسمالك، أنت تخسرين كل شيء، تماما كل شيء، تخسرين نوعك نفسه.
هي :
آه، جئنا للخطب والمواعظ! ماذا تقصد بقولك أخسر نوعي؟ هل أتحول إلى رجل مثلا؟
هو :
ولكن الرجل أيضا يمت إلى نفس النوع، أقول تخسرين نوعك نفسه.
هي :
أصبح حيوانة تريد أن تقول؟
هو :
ولكن هذا الحيوان لا يفعل ما تفعلين ، لا شيء في الحياة أو الطبيعة يخلق ليكون معروضا للبيع، إننا نخلق لأن من صفاتنا كحياة أن نتطور دائما وباستمرار للأسمى والأرقى.
هي :
الأسمى والأرقى كلمات أعرفها تماما، مجرد كلمات، كلماتك وكلمات خالي وعمي وجيراني، دائما تقال من وراء الظهر وكأنها تخدش الحياء، الأسمى والأرقى، كائنات متطورة عليا، لماذا لا يكون التطور من وجهة نظر سعادتك فقط؟ لماذا لا يكون التطور يحدث من وجهة نظري أنا؟
هو :
وما هي وجهة نظرك يا سيدة داروين؟
هي :
الأرقى عندي هو الأكثر نقودا بأقل جهد.
هو :
أنا الذي سيقول لك هذه المرة كلمات، مجرد كلمات، دعوة عظيمة كدعوة الحرية والتحرر تصبح تبريرا للتصرف في جسم الإنسان بطريقة غير إنسانية. هل هذا هو التحرر؟
هي :
طبعا، حريتي أن أبيع نفسي.
هو :
هذه ليست حرية، حرية أن يبيع الإنسان جسده! إنها أولا تحويل الإنسان إلى تجارة، إلى تاجر رقيق أبيض، ثم حتى تحويل هذا التاجر المفروض أن يتاجر في أجساد الآخرين إلى تاجر يتاجر في نفسه هو، يطرحها كأي سلعة عليها بطاقة السعر، ومن يدفع يشتر ويحصل، هل تتصورين هذا؟ يحصل عليك، عليك كلك، على روحك بأدق خلجاتها، إذ هو يدخل سر أسرارك.
هي :
إنه يتوهم هذا ولكني لا أسمح لهم إلا بما أريد أنا أن أسمح لهم به.
هو :
أتستطيعين إذن أن توقفي الصفقة في منتصفها وتلغيها؟
هي :
إلى الآن لم أفعل، ولكني لحظة أريد قطعا سأفعلها.
هو :
لا يا سيدتي، أبدا لن تفعليها، فهذه خطوة لا تأخذها إنسانة تحولت إلى بضاعة، هذه خطوة لكي تأخذها امرأة ما فلابد أن تكون أبية حرة، إنسانة لها كيان وإرادة، وأبدا ليست إنسانة باعت روحها لكل من هب ودب.
هي :
ولكن كل منا في عمله بضاعة، وهذا عمل مثل غيره من الأعمال.
هو :
مطلقا ليس هذا مجرد عمل آخر يمارسه الإنسان ليأكل به عيشه. إنه جريمة يرتكبها إنسان في حق نفسه يهدر بها آدميته وقيمه، ويظل سادرا في ارتكاب جريمته خالقا لها آلاف المعاذير. هذا أبدا ليس عملا، إنه تبرير لسلوك إنسان، وتبرير غير مستقيم حتى الطفل نفسه لا يقتنع به، فالعواطف أبدا ليست للتجارة. ما سمعنا عن إنسان يبكي بأجر أو يفرح بمقاولة أو يغضب بالساعة. هذا إنسان وليس دمية. نحن أمام الإنسان الذي حوله عالمكم، الذي يسمونه للأسف الأول، إلى بضاعة، إلى ترس، إلى سلعة، إلى جزء من آلة إنتاج واستهلاك كبرى اسمها المجتمع. وما دامت كل الأعمال تتشابه في رفض الإنسان أصلا لها، فيصبح الانتقال من عمل إلى عمل مسألة لا تزعج أحدا. ولكنك لم تنتقلي من إنسانة تعمل معالجة نفسية إلى إنسانة تعمل بغيا. أنت انتقلت من عمل عظيم يبني روحك لأنك تساعدين أرواحا معذبة إلى عمل يخرب روحك، إلى عمل يميتك حية. حية أسكنت روحها جسدا تستغله صاحبته شققا مفروشة مع عشرة في المائة خدمة. جسد الخدمة فيه ممتازة جدا، فالفام دي شامبر مثقفة معالجة متعلمة قطعا يفضل أي زبون السكن في شققها.
أنت - سأستعمل أخف تعبير ممكن - مريضة فعلا، تدعي لنفسها أنها تعالج وهي أكثر من زبائنها مرضا، فهي الشقة الفارغة الباحثة عن العواطف عبثا في أحضان زبائن، لا يفعلون سوى إشعارها بالحرمان أكثر.
هي :
المريضة! أتسمي الحب مرضا؟
هو :
أتسمين هذا الذي نتحدث عنه حبا؟
هي :
إذن لماذا اخترته ولا أزال حريصة عليه؟
هو :
لأنك مريضة فعلا، فالإنسان الصحيح أبدا لا يقبل أن يلمسه، مجرد اللمس، أحد إلا حين يسمح له بذلك. أما أنت فحين تقولين إنك مومس أو حتى مومس لبعض الوقت، فمعنى هذا أنك علقت لافتة تقول: ممكن لمس وجس واختبار المعروضات، شرفوا تجدوا ما يسركم ... إنسانة تفعل هذا بنفسها لا بد أنها أصيبت بمرض في عقلها جعلها تفعل أشياء لا يقبلها أي عقل بشري سوي.
هي (مبتسمة في سخرية راثية) :
أنا إذن مريضة يا طبيبي، السؤال هو في الحقيقة من فينا المريض؟ لماذا لا تكون أنت المريض بهذه الأفكار التي تزحم بها رأسك، مريض بقيمك ومثلك، وأكون أنا الطبيبة؟ لماذا لا يكون الوضع فعلا هكذا؟
هو :
أنا يا مدام (قالها هذه المرة قاصدا)
متحضر جدا، لإيماني أن الإنسان ليس فقط أرقى الكائنات، ولكنه أخطرها على الإطلاق، أخطرها حتى على نفسه، وأنه ما لم يزود هذا الإنسان أو بالأصح ينقى من ذرات الغبار، حتى ذرات الغبار التي تعلق بهذا الشيء المخبأ خلف جبهته، لاستحال من أرقى إلى أخطر وأحط كائن في الوجود؛ لأنه في هذه الحالة يستعمل أرقى ما وصل إليه التطور الخلاق في عكس اتجاه التطور الخلاق، يدمر، بادئا أو منتهيا بنفسه ومن حوله، وكل أولئك الذين كان من الممكن أن يكونوا أحباءه وأصدقاءه وحتى معارفه.
هي :
ولكني سعيدة، وأسعد كل من تلقيه الصدفة في طريقي.
هو :
تكذبين على نفسك! فقطعا أنت تعانين من اشمئزاز تلمحينه في كل وجه يلقاك، ولا يمكن أن نسعد والناس يشمئزون منا.
هي :
أنا أمارس الحب فأنا موجودة.
هو :
للأسف أنت موجودة وإنما ليس لأنك تمارسين الحب، في الحقيقة أنت موجودة، مجرد موجودة لأنك لا تمارسين أحلى وأروع أنواع الوجود، الوجود المحبوب المرغوب. أنا أمارس الحب فأنا موجودة؟!
هل تقبل الطفلة منطق الطفلة أن يدفع لها مقابل نقدي لقاء حبها لعروستها أو لقطتها؟ هل لا تحس بوجودها إلا وهي فقط تبيع الحب وتمتهن الجسد وتعتدي على كبريائها هي وكرامتها؟ هي المعتدية، والكبرياء المحطم كبرياؤها، هي قطعا أما عمياء، لا ترى شيئا بالمرة، أقصد عمياء سلوكيا، أو مفتحة الأعين، وإنما لا ترى من الكون إلا حافظة الرجل وأجر الساعة، هذه هي النهاية المحتمة لتقييم الرجل أو المرأة لنفسه ولغيره بحساب (الدولار- ساعة)، ما دام قد وضعناها على أول الطريق - دولار - ساعة، فالبغاء هو النهاية المحتمة.
إنسانة مثلك لا ترى أبدا وجه رجل يضع يده في حنان على كتفها وبرفق يضمها، وينظر معها إلى صورتهما معا في مرآتها. رجل هي التي اختارته، وانتقت ملامحه، وحتى ما كان لا يعجبها فيه أصبحت تحبه أكثر. رجل اختارها هو الآخر وانتقاها لأنه يعتبرها أسمى وأثمن إنسانة عرفها. رجل ترضيه ويرضيها وليس لها أو له من عمل إلا إرضاء أنفسهما. رجل تحترمه وهو الآخر يكن لها أعظم احترام وإلا ما رضي أن يقتسما اسما. رجل بجذوره، بأرضه، بسمائه، بالهالة الكونية الكاملة المحيطة به.
أبدا، أنت لا ترين وجه الطفل أو الطفلة، طفلكما إذا تسلل إلى المرآة محتضنا سيقانكما، ملامحه منكما بعيونكما لو فتحا عيونه. حدة طبعه منك، والشقاوة من ذكاء أبيه، معا عرفتماه، معا انسجمتما وانسجم معكما الكون والطبيعة فكانت الشرارة، وكانت اللحظة التي تتجسد الآن بينكما، لا ترين أشياء كثيرة جدا، لا ترين نفسك أنت نفسك.
هي :
إنك أيها الأستاذ العالم تخاطبني وكأنما تخاطب العالم من فوق برج إيفيل، الشرف والصدق والإنسان المتحضر الراقي، أين؟ على سطح كرة أرضية مكونة من وحل وطين؟ ماذا أفعل أنا التي ولدت في غابة لم أصنعها أنا ولكنها كائنة وموجودة، أحافظ على بقائي وأظفر بالمأوى والطعام والمتعة، وإن لم أجد أسرقها، وإن لم أستطع أقتل وأغتصبها؟ أنت تملك ترف أن تعيش شريفا، ولكن غيرك حتى لو أراد لا يملك هذا الترف.
هو :
أنت تكذبين على نفسك. إن في أصبعك خاتما يعول عائلة بأكملها في بلادي لثلاثة أعوام. أنت لست جائعة إلى هذه الدرجة.
هي :
لأن جوعكم هو أبسط أنواع الجوع، جوع الحيوان إلى الطعام، ولكن جوعي هو جوع الإنسان إلى حياة الإنسان، جوع الحياة بمتعة، فالحياة لمجرد البقاء هي حياة حيوانات متخلفة. إني جوعى للسفر والرحلة والحياة اللذيذة. الفرق أنكم حيوانات جوعى، بينا جوعي أنا وجوع غيري هنا هو جوع الإنسان، أبشع أنواع الجوع؛ لأنه ليس جوع معدات، إنه جوع مراكز عليا وخيالات وأحلام، جوع النوازع العليا يا أستاذ.
هو :
ومن أجل تلك النوازع العليا تنحطين بجسدك إلى ما هو أدنى من مراتب الحيوان.
هي :
فليكن، إني أغوص بالحيوان في، لأمتع كل ما يجعل مني إنسانا.
هو :
وتفقدين بهذا الحيوان والإنسان معا، فالإنسان لا يرتفع فوق حيوان هابط. الإنسان يصبح إنسانا حين يشبع فيه الحيوان، ويحترم فيه الحيوان حيوانيته لكي يستطيع الإنسان فيه بعد هذا أن يفخر ويزهو بإنسانيته. إن الوحل لا يصنع أساسا لناطحة سحاب مهما حفلت أدوارها العليا بالديكورات والتحف والزينات.
هي :
تقصد أساسا مما تسميه بلغتك القيم العليا.
هو :
وما تسمينه أنت خصائص الحيوان.
أي حياة لذيذة تلك التي تدفعين فيها الثمن - كدين شيلوك - من لحمك ودمك! إنها إذن تصبح كمدمن الهيرويين الذي يبيع كل يوم أصبعا من أصابعه ليظفر بالجرعة. اسمحي لي سيدتي أنت مريضة جدا. هيأ لك مرضك اقتناعا كاملا بحياة تعرفين من أعمق أعماقك أنها ملفقة وكاذبة ومليئة بخداع النفس.
هي :
لقد بدأت أمل حديثك.
هو :
لأنه اقترب من نقطة جنونك الحساسة. لقد صغت لنفسك كما تقولين الحياة المثلى، تحبين الرجال وتغيير الرجال، وفوق هذا تكسبين نقودا وسهرات، وكل يوم وجه وجسد جديد، ولكنك ستستيقظين ذات صباح لتجدي أنه لا جديد بالمرة، لا وجه ولا جسد ولا حتى إنسان يقول لك: صباح الخير. أنت كما تبدين في الثلاثين، ترى كم إنسانا سيحضر عيد ميلادك الخامس والأربعين، بل حتى الأربعين؟
هي :
لقد بدأت تصبح مملا جدا. ماذا تريد مني؟ ماذا تأخذه علي؟
هو :
نفس ما تفخرين به، أنك مومس.
هي :
ولكنك أنت الآخر مومس، وكل هؤلاء الحليقين المبتسمين المتحدثين في همس مؤدب خافت، كل من ترى من الرجال والنساء حولك مومسات ومومسون.
هو :
أنا مومس؟
هي :
بالتأكيد مومس، ماذا تفعل؟ آه، نسيت، قلت إنك كاتب، وقطعا تعمل في مؤسسة، أو تعيش في مجتمع يعولك ويدفع لك أجرك. هل تقول الحقيقة، كل ما تعتقد أنه الحقيقة لهذا المجتمع، أم تقول أشياء وتخفي أشياء؟ أليس هذا مومسة؟ المحامي الذي يترافع عن إنسان يعلم تماما أنه سارق أو قاتل لينال أجره وأتعابه، ماذا تسمي هذا؟ السياسي الذي يعرف أنه يبيع بلده أو يغمض عينا عن مصالحها، ماذا تسميه؟ القاضي التاجر، الزوجة التي لا تطيق رؤية زوجها وتتأوه حبا حين يلمسها، الابن الذي يكره أباه ويحييه كل صباح: هاللو، دادي! ماذا تسمي هذا كله؟ ماذا تسمي ما يقوم به العلماء الذين يخترعون قنابل الفناء، والسياسيون الذين يخوضون الحروب، والمثقفون والكتاب الذين يعرفون الحقيقة ويخافون الجهر بها؟ أليس كل هذا مومسة؟ كلكم، كلهن، بغايا، وبأجر فاحش مدفوع، ولكني أنا الوحيدة المصلوبة بينكم، أنا الوحيدة التي بخطيئة، وأنتم فقط قذاف الأحجار.
هو :
كل هذا كذب على النفس، هذا صحيح، ولكن بيع الجسد شيء آخر.
هي :
إنه أخف أنواعها، فما دمنا كلنا مومسين ومومسات، فأحسننا هو أقلنا ضررا، وأنا على الأقل لا أضر إلا نفسي، إذا سميت ما أفعله بنفسي ضررا. أما المومس الذي يخدع الملايين، ويفتك بقيم الملايين، ويسرق الملايين، ويقتل الملايين. (فترة صمت ... ثم تبدأ ببطء وصوت منخفض يظل يعلو.)
هي :
لقد أضعت ليلتي في نقاش لا جدوى منه، فأنا لا يغير حياتي نقاش رجل ألقاه ذات ليلة أو ذات صدفة. أنا قررت حياتي، وأنا للأسف أضعت الليلة معك.
هو :
ربما ضاعت الليلة، ولكن من يدري، ربما أنقذنا بها عمرا.
هي :
عدنا إلى المواعظ.
هو :
لم نعد ولن نعود، ولكني متأكد أنك ستفكرين فيما قلت.
هي :
لا يهمني كلامك أبدا. أنا قررت حياتي. أنا مومس، ولكني نظيفة. فأنا لا أقول أنا مدام فلان أو صديقة علان أو أرملة تلتان. أنا نظيفة أقولها لك وللجميع: أنا مومس. وبقولي هذا على الملأ أصبح أنظف منكم جميعا، فأنا لا أكذب عليكم ولا على نفسي. أنتم الكذابون والكذب أخدش للشرف من النفاق، إنه المومسة فعلا، وما أفعله مومسة ولكني نظيفة.
هو :
لا يا سيدتي، لا تخدعي نفسك. فأنت تفخرين أنك الوحيدة التي لا تخدعين نفسك. قولي أنا مومس، وأن بيع الجسد أحقر شيء يرتكبه بشر. ولكني لا أعرف لماذا أنا أفعله، ولا تهربي خلف رداء العموميات، قولي لنفسك أنك ستخربين نفسك وأنك بحاجة إلى من يعالجك أو يأخذ بيدك.
هي (محذرة) :
أنا نظيفة، نظيفة! (صوتها العالي يجذب الانتباه، وبالذات انتباه «الميتر». يقبل بقامته الفارعة ووجهه المكتئب الصارم، يبطئ الخطى حين يقترب من منضدتها ثم فجأة يبتسم ابتسامة تبدو بلهاء تماما ولا علاقة لها بصرامة ملامحه.)
الميتر :
يبدو يا دكتورة إنك الليلة عصبية.
هي :
أنا نظيفة (بصوت لا يزال عاليا جدا) .
الميتر :
أعرف تماما أن أبخس أجور هي تلك التي يدفعونها في العيادات والمستشفيات الجامعية، لماذا لا تتفرغين للعمل كل الوقت هنا مثلا أو حسبما تشائين؟ إن مزاولة عملين في وقت واحد أمر دائما مزعج، ألست معي يا سيدي؟
هو :
أأنت؟! (سائلا إياها) .
هي :
أنا سأتفرغ فعلا، سأتفرغ للنظافة، فأنا نظيفة، أنظف منكم جميعا. (والميتر مشدوه تماما ومشلول، هو أيضا بدأ يضطرب. صوتها تحول إلى صراخ، تقف فجأة وبعصبية شديدة تلم حقيبتها وكتابها وأوراقها وتصرخ بأعلى صوتها.)
هي :
أنا نظيفة، نظيفة، بل أنا قذرة، قذرة جدا، ولكني أقولها، ها أنا ذا أصرخ بها، أنا نظيفة جدا لأني قذرة جدا جدا. أنا أنظف قذرة، أنظف منكم كلكم. (بول شيت) عليكم جميعا. (القاعة يخيم عليها سكون مشلول تام. الذهول لبرهة طويلة على الوجوه. دبدبة خطواتها المسرعة إلى الخارج هي وحدها المسموعة. بخفوت شديد يبدأ شيء وكأنه الهمس، يظل يرتفع ويرتفع وتنفك دهشته الشديدة، وتعود الوجوه تبتسم بل وتضحك، وتمتلئ القاعة بنفس الضجة التي كانت عليها، وكأن شيئا ما كان.
يصنع من كفيه كأسا يملؤها بذقنه ويحدق إلى أبعد نقطة في الكون ويقول):
هو :
متى يا إلهي تعطي بعض الرجال شجاعة بعض البغايا.
القاهرة
في يونيو 1980
فيينا 60
السيدة فيينا
أكاد الآن أتصور مصطفى، أو «درش» كما كنا نسميه، وهو واقف وقفته المشهورة في ذلك الميدان الواسع من ميادين فيينا، وكل معلوماته عن الميدان أنه لا بد أحد ميادين فيينا، وأن فيينا هذه هي عاصمة النمسا، والأهم من هذا أن له فيها يومين بليلتين بخمسة جنيهات أجر للفندق، بلا فائدة.
والميدان لم يكن واسعا بالمعنى المفهوم من تلك الكلمة، فأوسع ميدان من ميادين فيينا لا يمكن أن تبلغ مساحته مساحة أضيق ميادين القاهرة، ميدان والسلام تحده بناءات عجوز مهيبة الطلعة، مزخرفة بعدد لا نهاية له من التجاعيد والأفاريز، ومطلية بألوان طوبية وقورة غير زاهية، وكأنما اختيرت خصيصا لتلائم الجو شبه المظلم الذي يحيا فيه أهل الشمال. بناءات تحس أن الذين بنوها لا بد أناس أوروبيون، بشرتهم حمراء من شرب النبيذ، وعيونهم صغيرة زرقاء ماكرة. ودرش كما هو واضح من اسمه مواطن مصري سافر كما يسافر الناس إلى أوروبا، موفدا في مهمة مصلحية اسما، وللتفرج والفسحة في حقيقة الأمر. موظف في وزارة التجارة عمل ألاعيب الدنيا والآخرة، وظل أكثر من ستة شهور يكافح ليوفد دونا عن بقية زملائه في تلك المهمة الرسمية الخاصة بالتبادل التجاري مع هولندا، وتم له الانتصار ووقع عليه الاختيار، وقضى أياما كثيرة يجري من إدارة الجوازات إلى مراقبة النقد إلى القنصليات والسفارات وحتى إلى مشايخ الحارات ليستخرج «الباسبور». وركب البواخر والقطارات، ووصل إلى أمستردام عاصمة هولندا، وأنهى مهمته الرسمية بنجاح، وغادرها، وها هو ذا في قلب فيينا بالذات. فالأمر يتطلب منا كشف ناحية من نواحي صديقنا درش لا يزال يحرص حرص الموت على إخفائها؛ ذلك أنه لم يأت إلى أمستردام أو لأوروبا لمهمة رسمية، ولا حتى للتفرج أو الفسحة، ولكنه جاء بهدف واحد فقط، للنساء، رغبته الدفينة كانت أن يجرب تلك المرأة الأوروبية ذات الشخصية، وقد شبع من نساء بلده وإيقاعهن في حبائله.
ونقول إنه شبع مجازا، فدرش لا يشبع من النساء.
هو محترم جدا في مظهره، طويل أنيق، على الأقل أكثر زملائه وموظفي مصلحته أناقة، له شامة سوداء كبيرة إلى جانب فمه، حليق اللحية والشارب، لونه قمحي، ومع هذا فشعره أكرت أسود، جاد وقور يحدثك بصوت الواثق من نفسه، ويستعمل دائما كلمة يا حبيبي، حتى إذا حادث الغرباء، وهو مصري حرك، لا يترك فرصة للقفش والتنكيت إلا وانتهزها، وكلمة والثانية وينظر إليك بعينين عسليتين وبزاوية خاصة ويقول لك: ما تبقاش كروديا أمال. وكأي مصري طبعا إذا غضب يقول لك: وديني أحط صوابعي في عينيك. ويزعل وينفعل، ولكن أقل كلمة ترضيه. وموته وموت من يحاول استكراده أو الضحك عليه. وفرق كبير بينه في العمل وبينه في حياته الخاصة، فسمعته في المصلحة حريص عليها كل الحرص، ومعاملته للناس بالأصول، وتلك الأصول لا تمنعه طبعا من زجر مرءوسيه أحيانا وإزجاء بعض الملق لرؤسائه ... ودرش متزوج وله ابنة صغيرة (كما جرت عادة الصحف عندنا في تعريفها للشخصيات)، هوايته هي النساء. وهي هواية سرية يزاولها في تكتم شديد، حتى إن بعض أصدقائه ليذهلون إذا عرفوا عنه تلك الهواية. هواية يمارسها بفن وحذق، ومن نظرة واحدة إلى المرأة يستطيع أن يعرف أي الطرق يوصل إليها، وفي كم من المرات تقع، وهل يوقعها بتجاهلها أو بالإقبال عليها أو بأن يمثل أمامها دور الفارس المغوار. وهواية النساء هواية واسعة الشعب: فهناك هواة البيض، وهواة السمر، وهواة الخادمات، وهواة نجوم السينما، وهواة التلميذات، وحتى العجائز لهن أيضا هواة. أما درش فقد تخصص في نوع غريب على هذا كله هو النوع الخام، مزاجه كله أن يظفر بامرأة يكون هو أول ظافر بها، إذ هنا تتبدى عبقريته ويتفنن في استدراجها خطوة خطوة، وعلى مهل الصائد الماهر الذي يستمتع بكل ما في عملية الصيد من صبر وتمهل وحنكة. ومن كثرة تجاربه في ذلك المجال أصبحت له ثقة بنفسه لا حد لها، حتى إن أحد أقواله المشهورة بيننا قوله: المشكلة أبدا ليست في إيقاع المرأة، المشكلة الكبرى هي في التخلص منها.
كان درش إذن قد انتهى من النساء في مصر، وذهب وفي نيته أن يغزو أوروبا المرأة. ومن لحظة أن وضع قدمه على سلم الباخرة بدأت عيونه تزوغ هنا وهناك، كمن فقد لتوه شيئا راح يفتش عنه في وجه كل امرأة يراها أو يلمحها.
وصحيح أنه خلال الرحلة وخلال إقامته في أمستردام، تعرف إلى فتيات ونساء، ولكن الظروف كانت دائما ضده، ولم تحن له فرصة واحدة. وفي أمستردام بالذات كانت المدينة تعج بالقادمين إليها من كل مكان يحتفلون بمناسبة لا يعرف ماذا كانت، وخلال هذا الازدحام الهائل بآلاف الزوار لم تحن له أيضا الفرصة. ولم يضايق هذا درش في شيء إذ هو صاحب مزاج، والحمى التي تجتاح أمستردام في أثناء الاحتفال لا يمكن أن تتيح له ذلك التلذذ الذي يريده. ولكنه عرف أين يمكن أن يتاح له هذا، فقد قابل بعض مواطنيه الشرقيين الخبراء في هذه المسائل، وما أسرع ما كان صريحا معهم، ولم تكن صراحتهم أقل من صراحته، فقد قالوا له: إذا أردت النساء يا أخ فاذهب إلى فيينا. وحتى بغير نصيحتهم كانت فيينا هي ضالته المنشودة، فيينا التي كان يسمع أسمهان تغني بصوتها الحلو الرنان: ليالي الأنس في فيينا. كان جسده يقشعر بأحلام لا حدود لها، أغنية وقشعريرة ربما كانتا من أهم العوامل التي جعلته يدبر هذه الرحلة.
وها هو ذا له يومان في فيينا، وتلك هي ليلته الثالثة في مدينة الأنس والأحلام ولم يحدث شيء، مع أن النساء أمامه وخلفه وحوله وفي كل مكان، نساء نمساويات فيهن تتركز روح أوروبا، نساء من مختلف الألوان والأعمار والأشكال، وكلهن بلا استثناء يتمتعن بقسط وافر من الجمال. حتى القبيحة لا بد أن جسدها جميل، أو لا بد أن تجدها صاحبة ذوق رفيع في اختيار ملابسها. كل واحدة فيها شيء، شيء من أوروبا، وكل واحدة لها ميزة. وعقله مشتت موزع، وبصره لا يزال كما بدأ الرحلة حائرا زائغا.
كانت الساعة تقترب من الثامنة والميدان مضيء، كل ما فيه مضيء، وكانت هناك جريدة مضيئة تتوالى كلماتها فوق أعلى مبنى في الميدان تذيع آخر الأنباء، كلمات مضيئة بلغة لا يعرفها، وهو الوحيد الذي يحدق فيها، إذ هو الوحيد الغريب الذي انقطعت عنه أخبار بلده منذ غادره.
قرأ كلمة مصر. ودق قلبه بانفعال، فلا بد أن الجريدة تتحدث عن شيء حدث هناك. وفي غمضة خاطر واحدة كان قد احتوى مصر بكل ما فيها وما له فيها، غمضة جاءت سريعة وذهبت سريعة، ولكنها خلفته خجولا لا يكاد يطيق النظر إلى نفسه، إذ كان لا يزال واقفا في الميدان يفتش بعينيه عن المرأة.
وتحرك. ولم تكن هذه أول مرة يتجول فيها، فله يومان وهو يتجول في المدينة سيرا على قدميه، ويقف أمام واجهات المحلات ويتناول القهوة الفرنسية التي لم يستسغها أبدا، ويجرب مع النساء كل الوسائل التي أتقنها في بلده، فيبتسم تلك الابتسامات الخفيفة الباهتة الموجهة، ويهيم بعينه بطريقة خاصة لا تلحظها إلا المقصودة فقط، ويدعي أحيانا أنه لا يعرف ثمن تذكرة الأتوبيس، وينتقي أجمل راكبة بجواره ليسألها عن الثمن. ومن جهة الإحراج فإن كل سيدة أو فتاة سألها كانت في غاية الأدب ولطيفة إلى آخر حد! لم تكسفه واحدة، ولم تشح إحداهن بوجهها وتقول: يا سم ... كن يرشدنه بدقة، ويبتسمن له بظرف، ويرددن على أسئلته بطريقة مهذبة للغاية، ويتعمد أن يقول للواحدة مثلا محاولا إدهاشها: أنا مصري. فتدهش صحيح وتقول: أحقا؟ إنه لشيء مثير! ولكن دهشتها لا تلبث أن تزول، ولا تلبث ابتسامة الاستئذان أن تلوح على فمها، ثم تنسحب من أمامه أو من جواره بكل خفة ورشاقة وبرود. لقد خدعوه ما في ذلك شك، هؤلاء الملاعين الذين قالوا له: يكفي أن تمشي في الشارع بلونك الأسمر وشعرك الأكرت حتى تجد النساء يتساقطن تحت أقدامك، بل يكفي أن تقول لأي واحدة إنك مصري حتى ينتهي كل شيء ... وها هو ذا قد قالها إلى الآن ألف مرة، ولم يبدأ أي شيء ...
ظل مصطفى يدور في الميدان بلا هدف، بل حتى دون أن يستطيع تغييره أو الانتقال إلى سواه، فهو الميدان الوحيد الذي يعرف منه الطريق إلى الفندق، وهو لا يريد أن يتوه في بلاد الناس، خاصة إذا كانت كل حصيلته من اللغات هي الكلمات الإنجليزية التي ما زالت عالقة بذهنه من دراسته في كلية التجارة، وبعض جمل بالفرنسية من التي كان يحفظها في أثناء دراسته بالثانوي من أمثال: كل المراكب من كل البلاد راسية في الميناء، وعلي كامل تلميذ مجتهد في المدرسة الثانوية.
وجد نفسه في طرف الميدان الآخر، ولم يجد نفسه هكذا صدفة أو لله في لله. لقد لمح من بعيد فتاة واقفة وحدها في ذلك الجزء من الميدان، فخف القدم إليها وهو يدعو الله في سره ألا تتحرك أو يظهر لها زميل. وفعلا حين وصل إليها وجدها وحيدة، ليس هذا فقط، بل دهش حين اقترب منها وابتسم لها فابتسمت له، وعلى هذا وجد نفسه يقول: مساء سعيد.
فكادت تضحك وهي تقول بإنجليزية ذات لكنة ألمانية غريبة على أذنيه: مساء سعيد.
وتهلل وجهه وقلبه وكل جسده بشرا ... هنا مربط الفرس. وهكذا وقف أمامها وسألها عن الساعة، سؤال سخيف عنف له نفسه، فقد كان من الممكن أن يبدأ الحديث بطريقة أذكى، ولكنه لم يكن في حاجة إلى أي ذكاء، فقد ردت عليه قائلة وهي تتمايل: ماذا يهم أن تكون الساعة، فلتكن العاشرة أو الواحدة، ماذا يهم؟
وأدرك أنها «شاربة» واستغرب، فقد كانت صغيرة لا يتعدى عمرها السادسة عشرة، وكانت حلوة جدا، تقاطيعها بريئة جميلة مسمسمة، ودمها خفيف، وجسدها يتموج أمام عينية كالبالوظة. قال لنفسه: هيه سكرانة وحلوة وموش على بعضها، منتظر إيه ياللا!
واقترب منها جدا حتى بدأ جسداهما يتماسان، وضحك في خبث وقال لها: هل ممكن تصحبيني لنأخذ شيئا ... هنا في هذا المحل؟
وقالت له: غير ممكن. - ليه؟
قالت: إنني أنتظر صديقي.
وتعكنن. - وأين صديقك؟
قالت: في التواليت.
وأشارت إلى باب نفق مضيء قريب لا بد أنه يؤدي إلى التواليت.
وأمسك بذراعها قائلا في فوضوية مصرية: هيا بنا يا شيخة، ودعينا من صديقك هذا.
ولكنها أصرت على موقفها وهي تتلوى وتتملص منه وتقول: غير ممكن، إني أنتظر صديقي ولا يمكن أن أتركه.
ثم لم تلبث أن أضافت: ولكن شكلك عاجبني جدا لدرجة أنني أريد أن أقبل حسنتك الجميلة هذه التي بجوار فمك.
وسرته الملاحظة، بل دفعته إلى مزيد من الفوضوية، فجذبها بعنف قليل ودمه كان قد بدأ يسخن، وقال: أنا حاضر وصديقك غائب؛ دعينا من الغائب واكتفي بالحاضر. وتلوت في يده كالعجينة ولكنها لم تتحرك.
ولمح شخصا يصعد سلالم النفق فترك يدها. واستمر الصاعد في طريقه تجاههما، وحينئذ أحس درش بالحرج، وتراجع عن قربه الشديد منها، وجاء الشاب، وقال بأدب بارد: مساء سعيد.
فأجابه درش: مساء سعيد.
ولف الشاب ذراعه حول الفتاة وقال: هيا بنا يا تيدي.
ومضت الفتاة سكرانة تتلوى، وحتى لم تلتفت لتلقي نظرة على درش وقد خلفته واقفا وقفة لا تسر عدوا أو حبيبا.
ولكنه لم يقف طويلا. ما لبث أن عاد إلى تجواله في الميدان وهو شبه يائس، خائف جدا أن يتقدم الوقت ويفرغ الميدان من الناس، ومن النساء بالذات كما حدث في الليلتين السابقتين. ولكن الميدان لم يفرغ، والنساء والفتيات كن لا يزلن كثيرات كشعر الرأس. ومشكلة درش الحقيقية لم تكن في هذا؛ فحتى لو تعرف بفتاة أو بامرأة فماذا يفعل وهو لا يستطيع اصطحابها إلى الفندق الذي نزل فيه؟ فبوابه كئيب يبدو أنه ليس أبدا من النوع الذي يمكن أن يسمح بشيء كهذا. فأين يذهب بها وهو لا يستطيع استصحابها لبيتها؟ قد تستطيع أن تدله على بنسيون أو فندق آخر ممكن أن يذهبا إليه سويا، ولكن أن يصل به الأمر إلى هذا الحد يستلزم أن تكون معرفته بها قد توثقت إلى درجة كبيرة، وهو يريد أن يحدث هذا كله في ليلة واحدة، بل في جزء صغير من ليلة. فكيف يمكن أن يتعرف إلى فتاة وتتوثق معرفته بها ويستصحبها إلى فندق في ظرف ساعة أو ساعتين؟ والأهم من هذا أنه لا يريد واحدة من فتيات الأزقة أو الشوارع؛ إذ ما أكثر ما اعترضن طريقه وأزاحهن عن نفسه بنظراته وتكشيراته، وهو يريد أن يتم كل هذا مع سيدة أوروبية أصيلة ذات شخصية، تريده هو ولا تريد نقوده، وتعطيه نفسها بإرادتها، بمطلق إرادتها، المشكلة إذن عسيرة وحلها يكاد يكون مستحيلا.
وفجأة بدا مصطفى يلاحظ شيئا. بدأ الميدان يمتلئ بجنود بحرية حين تمعن فيهم وجدهم شبانا صغارا أعمارهم تتراوح بين السابعة عشرة والعشرين، ومع هذا يرتدون زي البحرية. وحين التقطت أذنه إنجليزيتهم أدرك أنهم أمريكان. من أين يجيء بحارة أمريكيون لفيينا وهي ليست ميناء؟ سؤال وجد الإجابة عليه صعبة جدا. ممكن أن يكونوا قد جاءوا في إجازة مثلا، أو في رحلة في أوروبا، كل شيء جائز. المهم أنه بعد قليل كان قد أدرك أنهم هم الآخرون يجوبون الشوارع مثله في جماعات صغيرة وكأفراد. بل تبين أن بينهم بعض الزنوج، ولدهشته وجد أن لونهم فاتح وليس كما تخيل دائما أن زنوج أمريكا غامقو السواد. وكانوا صغارا هم الآخرون وفي عيون البيض والسمر والسود كان يلمح نفس النظرة، هم أيضا يبحثون عن النساء مثله، فلنر ما يحدث يا أمريكان؟ قالها لنفسه ساخطا حانقا، فقد ظهر له من حيث لا يدري أو يتوقع مئات المنافسين الذين يبحثون مثله عن النساء، غير أنه كان مطمئنا إلى حد ما، فالنوع الذي يبحث عنه هو غير النوع الذي يبحث عنه أولئك البحارة الصغار. إنه يبحث عن أوروبا السيدة، وهم يبحثون عن أوروبا العابثة، وشتان ما بين الأوروبتين. ولأمر ما كان يتوقع لهم نجاحا كثيرا، إذ كان يعتقد أن الفتيات الأوروبيات لا بد أنهن «ناقمات هن الأخريات على هذا الاستعمار الأمريكي الجديد»، ولا بد أنهن سيقفن من هؤلاء البحارة العابثين موقفا مشرفا.
غير أنه فوجئ، ولم تكد تمضي نصف ساعة على دخول البحارة المدينة، بأن كل بحار أمريكي صغير قد أصبح في صحبة فتاة نمساوية صغيرة، بل أحيانا سيدة كبيرة. كيف تعرفوا عليهن بهذه السرعة؟ ومن أين جاء كل هذا العدد من الفتيات والسيدات؟ لم يكن يدري بل بدا واضحا أن المعرفة ليست سطحية بالمرة، فسرعان ما بدأت عيناه تلمحان أيدي البحارة الصغار وهي تمتد إلى الخصور وفتحات الأثواب امتدادات غير بريئة، لا بد أن هؤلاء الخواجات يتفاهمون مع بعضهم البعض بطرق لا نعرفها نحن الشرقيين، وكان طبيعيا جدا أن بدأت تتكون جماعات من عدد من البحارة وعدد من الفتيات متخاصرين، سكارى، صاخبين، يغنون معا، وأحيانا يرقصون في الشوارع هكذا عيني عينك.
ثم بدأ ازدحام أزواج الفتيات والبحارة يقل، وبدأ يلاحظ أن كل زوج يتسرب إلى شارع مظلم أو في اتجاه المنتزه أو الطرق المؤدية إلى مدينة الملاهي والخالية تقريبا من المارة ... طبعا لتحقيق كل ما يمنع النور تحقيقه. والناس، أهل فيينا الكبار في السن والرجال والوقورون ذوو القبعات الغامقة والوجوه الجادة، والسيدات المسنات المتشحات بالسواد، يرون كل هذا ولا يحركون ساكنا، وكأن ما يحدث يحدث لبنات غير بناتهم ، أو في مدينة غير مدينتهم، وكأنه وضع طبيعي جدا لا غرابة فيه بالمرة.
وبلغ حنق درش على أهل فيينا منتهاه، ولكنه وهو في قمة حنقه لم يفته أن يلاحظ أنه هو الآخر يبحث عن امرأة، وأن بعض حنقه راجع إلى فشله فيما نجح فيه البحارة الأمريكان. وقال لنفسه: لن يذهب هذا النحس الذي أصابني ولن ينفك كربي إلا بكوبين محترمين من البيرة. قال هذا مع أنه لا يحب البيرة ولا الخمر عامة ويضيق بطعمها. ودخل إلى أقرب بار وتأكد أنه ليس من نوع فاخر، فكم أخذ من مقلب! وطلب من البارمان العجوز بيرة، وحين أحضرها له الرجل رمق الورقة المكتوب فيها الثمن بربع عينه، ولما تبين فداحة ثمنها قرر أن يكون هذا هو الشوب الأول والأخير، ومضى يحتسيه محاولا أن يخلق البهجة في نفسه خلقا، ويقنع نفسه أنه في أوروبا، في فيينا الساحرة الجميلة، في ليلة من لياليها، وأن هذا يحدث له حقيقة. ولا بد له أن يستمتع بكل دقيقة وكل ثانية، فغدا تستحيل كل هذه الأشياء إلى ذكرى لا تعود. وكان كلما حاول هذا أحس بالشجن أكثر، وبأنه غريب وحيد، إذ حتى في البار كان لا يزال وحيدا، والمشهد حوله هو نفس المشهد في أي بار: فتاة من فتيات البارات جالسة قرب الباب، ورجل في منتصف العمر ذو صلعة وكرش صغير يجلس إلى سيدة في مثل سنه في ركن، وبينهما كأسان لا تزالان ممتلئتين، وكل منهما ينظر بتدله إلى الآخر، سابحين في قصة حب غريبة، والضجة الوحيدة في المكان كانت تنبعث من رجال يقفون معه على البار بينهم سيدة متصابية تشرب وتدخن، ولها فم سجائر طويل وتضحك بصوت مزعج. هنا أيضا كان واضحا أنه لن يعثر على ضالته المنشودة.
وحين خرج كانت البيرة قد بدأت تعمل عملها، وكان قد بدأ يحس أن خجله وعقده ومخاوفه تتوارى في ركن من نفسه، بل كان قد بدأ ينتابه شعور أهوج جعله يضرب عرض الحائط بكل شيء، ويقول لنفسه: وإيه يعني؟ البلد اللي ما حدا يعرفك فيها اعمل اللي تعمله فيها.
وهكذا بدأ يلقي بتحيات المساء ذات اليمين وذات اليسار بصوت مرتفع ضاحك، غير مبال أن يرد عليه أحد. وإذا توجه بتحية إلى امرأة وأشاحت بوجهها في استنكار وتقزز، أخرج لها لسانه وكاد يقول: يلعن أبوكم، يعني ما ينفعش إلا الأمريكان؟
أما الأمريكان فعددهم كان قد خف كثيرا، والظاهر أن ميعاد أوبتهم كان قد حان، فبدءوا يقفون على محطات الأوتوبيس مع فتياتهم لتوصيلهن، والسكر كان قد بلغ ببعضهم حد الثمل، فبدءوا يصخبون بطريقة مزعجة، وبدأت التكسيات تقف ويحمل الفائقون زملاءهم السكارى فيها حملا. بل بدأ يشهد مناظر وداع بين الفتيات والبحارة الصغار ... وداع ضاحك في معظم الأحيان مدوي القبلات في أحيان أخرى، ولم يخل الأمر من مشهد مؤثر واحد رآه: أمريكي أسمر صغير وفتاة نمساوية صفراء الشعر قصيرة كالتلميذات وقفا على محطة الترام ساعة، ويدها في يده، وعيناه هائمتان في عينيها، ودرش واقف قبالتهما يتفرج ويعجب، أهكذا ينشأ الحب ويستبد بالقلوب في ساعة زمن؟ لا بد أننا حقيقة في عصر الذرة.
ولم يجد درش غضاضة فيما فعله بعد هذا، فقد كان ينتظر إلى أن ينصرف الرفيق الأمريكي ثم يتبع رفيقته. ولكنه حتى وهو ليس في كامل وعيه لم يحاول أن يبدأ إحداهن بالحديث، كان على الدوام ينتظر أن تلحظه هي فتتلكأ أو يبدو عليها أقل بادرة من بوادر القبول ليقدم هو. لم يكن يريد أن يجرح كرامته حتى وهو في البلد الذي لا يعرفه فيه أحد، ولكن الفتيات كن ينصرفن مهرولات إلى بيوتهن وكأنما شبعن واكتفين.
وحين دقت ساعة الكاتدرائية الكبيرة اثنتي عشرة دقة، كان الميدان قد خلا من البحارة الأمريكان تماما، ومن الفتيات الصغيرات، ولم يبق فيه إلا مجاميع صغيرة من الناس تنتظر الترام أو الأوتوبيس. ها هو ذا مرة أخرى مع الأوروبيين أهل فيينا وحدهم بلا أمريكا ولا منافسين، ولكن نفسه لم تكن تحفل بانتعاش أول الليل، كأن اليأس قد بدأ يزحف عليه بلا شفقة، فبالأمس وأول الأمس حدث مثلما حدث له الليلة تماما، وعاد في آخر الأمر إلى فندقه وحيدا في الشوارع الضيقة المهيبة التي يعرفها، ونام والغيظ يملؤه، وكل الظواهر تدل على أنه ملاق الليلة نفس ما لاقاه بالأمس.
ومن جديد راح درش يجوب الميدان ويتصفح وجوه المارة والواقفين لعله يبعثر على ضالته ... وجوه كثيرة متشابهة، وكأنها نسخ مكررة لوجه واحد. أناس أنوفهم تنحدر من الجبهة بنفس الزاوية، وعيونهم يكاد يكون لها جميعا نفس اللون والبريق. أناس يعرفون بعضهم، ويفهمون، ولغتهم الألمانية ذات «الناخت» و«الفوخت» و«الأنين» تسري بينهم كالأسلاك الكهربية الخفية، تربطهم وتجمعهم وتجعلهم يبدون كالجسد الواحد المتجانس الكبير. وهو الوحيد الغريب اللون والأنف والشعر واللغة ... هو الوحيد النشاز. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يعاوده فيها إحساسه بالحنين إلى بلده. كلما شم رائحة السجق وهو يقلى، كلما سمع رطانة ألمانية لا يفهم منها حرفا، كلما حدق في سيدة ولم تأبه له ... عاوده الحنين إلى بلده وشقته المحندقة في شارع ابن خلدون، وزوجته النقية الصافية كدعوات المجاذيب في حي الحسين. الطيبة الراقدة الآن تغط في نوم عميق وتحلم برجوعه وتنتظره، تماما كما كانت تنتظره كل ليلة وهو عائد من سهراته المتأخرة كالولد العاق، كلما عاوده الحنين إلى ابنته الصغيرة التي تسنن، وبالذات إلى سنتيها الأماميتين الصغيرتين اللتين تطلان من فمها كلما فتحته لتقبله حين يقول لها بوسة بابا، وإلى صندلها الصغير الذي اشتراه لها من زمن وكاد يبلي صوفه الأحمر، ومع هذا فنعله لا يزال جديدا لأنه لم يلامس الأرض قط. وهو هنا، في قلب فيينا، يبحث عن امرأة يجرب طعمها الأوروبي، والساعة قد جاوزت منتصف الليل!
ونفض رأسه بعنف، نفضة حقيقة وهو ماش في الشارع. فليكن هذا كله، ولكنه لا يمكن أن يحول بينه وبين الشيء الوحيد الذي أراده وجهز له عاما طويلا، لقد فعل المستحيل لتتاح له هذه الفرصة، فهل يضيعها بعد أن أتيحت له؟ لا بد أن يستغل الفرصة أولا، وهو عارف أن ضميره سيؤنبه حتما، وسيؤنبه كثيرا، ولكن فليحدث هذا التأنيب في مصر بعد عودته، فساعتها سيكون لديه الوقت الكافي لمحاسبة نفسه. أما الآن فلم يبق لديه وقت، الدقائق تتسرب من ساعته بسرعة مجنونة، والليل يوغل في التقدم، ولا وقت حتى لتأنيب الضمير.
وفي زاوية من الميدان لمح مجموعة لا بأس بها من الفتيات لها نفس الوجوه والبلوزات التي رآها تجوب الشوارع مع البحارة الأمريكان، وأقبل عليها بخطى محترسة، غير أنه لم يقبل كثيرا، فما لبث أن توقف عن اقترابه ومضى يحملق فيهن وعلى فمه ابتسامة استنكار لا تخلو من رثاء. كان يتوسط المجموعة شاب بدا لأمر ما وكأنه الرئيس، يقف مرفوع الرأس، يرتدي ملابس الفتوات النمساويين الجدد: بنطلون محزق يضيق جدا حين يصل إلى الأقدام، وبلوفر جلد، وشوشة العصر الحديث تطل من رأسه، ونظرة وقحة مصطنعة ومبالغ فيها كثيرا تطل من عينيه. والفتى صغير السن يكاد لا يتعدى العشرين، ومع هذا فقد كان مشتبكا في نقاش متنمر مع البنات ومع زميلين له. والتقطت أذنه كلمات. أمريكان ... دولارات وشتائم من كل نوع بالإنجليزية والألمانية ولغات الفئة والحي التي لا يفهمها سوى الخبير بالمهنة. كان واضحا أن في المسألة تجارة وخلافا خطيرا حول المكسب، أخيب نهاية لقصة منافسيه الأفاضل البحارة الأمريكان.
وحين تحرك درش من مكانه، وقد بدأت المسألة تتطور من معركة بالألسن إلى صراع متوحش بالأيدي والبواني، كان قد صمم على أن يغير ذلك الميدان النحس، وليكن ما يكون، وانتقى أوسع الشوارع المتفرعة من الميدان ومشى فيه. لم تكن المدينة قد خلت بعد من الناس، كان المارة لا يزالون كثيرين، وكان مطر خفيف جدا قد بدأ يتساقط. وتردد درش برهة بين ارتداء المعطف البلاستيك الرخيص الذي اشتراه ليقي أوجه حلله من أمطار الصيف في أوروبا، وبين أن يسير بلا معطف؛ فإذا ارتداه فقد يقلل المعطف من قيمته في عيون النساء، وإذا لم يرتده فقد تتلف السترة، خاصة وهي أكثر ستراته جميعا أناقة، وعلى الأقل دفع في كيها بالأمس الشيء الفلاني، وآثر السلامة وارتدى المعطف.
كانت «فتارين» الشارع مضاءة كلها، فتارين حافلة بما يسيل له لعاب كل مسافر، كاميرات وأجهزة تسجيل، وتحف دقيقة الصنع وولاعات. وكان درش في أزمة، فرغبته في التفرج على محتويات الفتارين، ومقارنة الأسعار الموضوعة على المعروضات بأسعار القاهرة، وانتقاء أحسن الأنواع وأرخصها، كانت رغبة ملحة لا يكاد يستطيع مقاومتها. ومع هذا فله يومان وهو يقاومها بعنف، فشيء من اثنين: إما أن يتفرغ لها، أو يتفرغ للمهمة التي أوفد نفسه إلى أوروبا من أجلها. وكان وهو سائر في الشارع الواسع يتألم ألما حقيقيا؛ فالمعروضات في أضوائها الليلية التي تفنن أهل فيينا في زخرفتها وتنسيقها تكاد تخطف البصر. درش مخطوف كله وموجه إلى رواد الشارع القليلين، يكاد ينظر بأربع عيون، عين على الرصيف الذي يمشي عليه، وعين على الرصيف المقابل، وعين على الرصيف الممتد من أمامه تستكشف، وعين على الشارع الممتد من خلفه تفتش، لعل شيئا قد مر غير ملحوظ من عيونه الثلاث الأخرى ... وعيونه كلها تميز في الكائن أول ما تميز ملابسه، لتفرق بين الرجل والمرأة. وحين بدأ المطر يتساقط أصبح همه الأول أن يميز مظلة السيدة ومظلة الرجل، فإذا ما تم تله هذا كان عليه أن يدقق ليميز نوع هذه المرأة، العجوز ينبذها كالرجال، والطفلة طبعا يتركها، وكذلك كل من يشتبه أن تكون من المتبرجات فتيات الليل. وهكذا تبقى أمامه نسبة ضئيلة جدا عليه أن يوجه اهتمامه إليها، ومن أجل هذا كانت طريقة سيره في الشارع أعجب طريقة، فهو يسير على الرصيف مثلا، وفجأة ينتقل إلى الرصيف الآخر، ويسير إلى الأمام مثلا، وفجأة تجده قد استدار وسار في عكس اتجاهه، وهذا كله يحدث مصحوبا بحركة خلع للبالطو البلاستيك الرخيص وارتدائه قائمة على قدم وساق، كلما تبين في الشبح القادم امرأة خلع البالطو. فإذا لم تكن من النوع المطلوب عاد وارتداه، فإذا لمح على الرصيف المقابل واحدة تصلح انتقل إليه ... وانتقل البالطو هو الآخر من يده إلى أكتافه.
وعلى هذا حين لمح درش شبحا مشكوكا في أمره قادما من بعيد، تجهز لكافة الاحتمالات، فخلع البالطو ووضع يده فوق رأسه ليطمئن على هيئة شعره، وتأنى في مشيته وجعلها تبدو رشيقة في وقار تنم عن جاه وشخصية. وحين اقترب الشبح تبين أنه كان على حق، وأنه امرأة فعلا، وأنها فوق هذا من النوع المطلوب، وطبعا لم يتوقع درش أن يتغير الحال معها كثيرا عما جرى عليه منذ أول الليل.
تخطى درش الشارع متجها إلى الرصيف الآخر الذي كانت تمشي عليه السيدة المقبلة وسار في اتجاهها، ومن كثرة ما تدربت عيناه على الرؤية كانت قد تكونت لديه قدرة مؤقتة على معرفة الملامح الجميلة حتى من لون الفستان الذي ترتديه صاحبته، وكان واضحا أن القادمة ليست باهرة الجمال ولكنها على الأقل وسيمة: طريقة مشيها، الزاوية التي تمسك بها المظلة، حتى إمساكها للمظلة نفسه وقد كف المطر. المرأة الجميلة وحدها هي التي تبالغ في الحرص على ملابسها، ومساحيقها، وكل ما يمت إلى جمالها بصلة.
وقبل أن يلتقيا حاول درش أن يجذب أنظارها حتى تمتد أمامها فرصة رؤيته، ولكنه لم ينجح، فلم تره إلا حين أصبح وجهه في وجهها.
وبينما كان درش يلتهمها بعينيه، لم تفعل هي أكثر من أن ألقت عليه نظرة خاطفة سريعة لا تعني شيئا، نظرة مثل آلاف النظرات غير المحبة للاستطلاع التي كانت تلقى عليه في أي مكان ذهب إليه في أوروبا. ألقت عليه النظرة واستمرت في طريقها لا تلوي على شيء. لم تكن بالجمال الذي كان يطلبه أو يحلم به: كانت طويلة تدانيه تقريبا في الطول، ترتدي معطفا من الصوف البيج ذا ياقة عالية، وشعرها طويل على عكس المودة السائدة وغزير أيضا، وكان وجهها طيبا وأنيقا في الوقت نفسه، ولا تضع غير الروج (أو على الأقل هكذا خيل إليه). ولم تكن تبتسم، وكذلك لم يكن بوجهها أي عبوس. امرأة تصلح أن تكون ربة بيت ممتازة أو طبيبة أو عازفة «فيولنسل» في أوركسترا من الدرجة الثانية.
ودون أي قصد أو هدف إلا المحاولة لعل وعسى، غير درش من وجهته وسار وراءها بعدما جاوزته، وأسرع في خطوه. وحين اقترب منها كثيرا حتى كاد يحاذيها تردد كالعادة بين أن يتجاوزها أو أن يتبعها. وآثر أن يتبعها، إذ في هذه الحال سيكون هو سيد الموقف، واستمرت المرأة سائرة في طريقها، وعند منعطف يؤدي إلى شارع جانبي غيرت وجهتها.
واستمر درش في متابعتها، ويبدو أن المرأة أحست أن إنسانا ما يتبعها؛ فالشارع الذي دخلا فيه كان قليل المارة ساكن الحركة نوعا ما ... يبدو أنها أحست بشيء كهذا فقد أسرعت في خطوها.
ومع أن درش لم يكن يعرف أبدا ما يمكن أن تؤدي إليه تلك المطاردة، إلا أنه أسرع هو الآخر في خطوه حتى لا تختفي عن نظره. ولكنه في نفس الوقت لم يشأ أن يضيع نفسه، فقد كان دائم الفحص والحفظ لجغرافية الشارع وموقعه وعلاماته حتى لا يتوه في طريق عودته بعد أن تفشل المطاردة.
والغريب أنه كان مقدرا تماما أنه سيفشل. أما لماذا كان مصرا على متابعة التجربة مع علمه بفشلها، فذلك أمر قد يدفعنا إلى التفكير في طبيعة الإنسان نفسه ... الإنسان الذي حين ييأس من النجاح يعوض هذا بالإكثار من تجاربه الفاشلة، ففشل واحد يعد فشلا، أما فشلان أو ثلاثة أو عشرة فممكن أن تعتبر ربع نجاح أو نصفه.
ما علينا من هذا، فقد خطر لدرش خاطر، نفس الخاطر الذي كان يواتيه وينفذه كلما طارد امرأة، أن يكلمها. وعلى هذا أسرع في خطوه حتى حاذاها. وابتلع ريقه مرة وأدب صوته أكثر من اللازم وروضه، وسألها بلهجة إنجليزية حاول أن تكون سليمة ومنخفضة في الوقت نفسه، سألها عن الطريق إلى فندق «زاخر».
وطبعا لم يكن في حاجة لسؤالها عن شيء كهذا، إذ هو أولا لا ينزل في «فندق زاخر»؛ لأنه من فنادق الدرجة الأولى العريقة التي تغوص الأقدام في أبسطتها العجمية الأصلية الفاخرة، ثم ثانيا لأنه يعرف الطريق جيدا إلى فندق فيكتوريا المتواضع الذي ينزل فيه.
كل ما في الأمر أنه أحب بسؤاله هذا أن يفهمها ويفهم كل من سألهن من النساء ثلاثة أشياء: يفهمها أنه أجنبي، وأنه أجنبي من النوع الفاخر، والثالثة أنه ضال وفي حاجة لمساعدة. يعني يفتح الباب على مصراعيه أمام أية واحدة لديها أقل رغبة في المغامرة.
ورد الفعل الذي حدث كان مفاجئا! فقد التفتت المرأة إلى الناحية الأخرى وكأنها خافت، ولكن روعها سكن في لحظة، وسكن في اللحظة التي كان درش يتم سؤاله بصوت أكثر امتلاء واعتدادا ...
ويبدو أن حالة الخوف والمفاجأة كانت لا تزال تتملكها، فالساعة كانت تقترب من الثانية عشرة والنصف، والشارع نوره قليل، والسؤال غريب ومن غريب، إذ قالت بكلمات إنجليزية مدشدشة النهايات ملخبطة الفاعل والمفعول أنها لم تفهم.
وللمرة الثالثة أعاد درش سؤاله، وقد كاد يزهق ويتركها وينصرف، فامرأة تخاف فقط من مجرد التوجه إليها بسؤال، لا يمكن أن تكون لديها الجرأة للقيام بمغامرة، أي مغامرة. وفقط بعدما انتهى درش من سؤاله للمرة الثالثة، تنفست ملامحها الصعداء وتهلل وجهها وقالت: يا ... يا ... (أي: نعم ... نعم.) وأوقفته، وأخذت المسألة جدا ومضت أيديها تشير ومظلتها توضح ولسانها يتلجلج بالإنجليزية في عجز الأخرس حين يريد أن ينطق، محاولة أن تريه الطريق إلى فندق زاخر.
ودرش لم يكن في هذا كله فاهما، كان يهز لها رأسه بحماس وهو يتابع شرحها مدعيا أنه فاهم كل الفهم، ولكنه يقرأ ملامحها بعين خبير محاولا أن يعثر على الشيء الذي يعرفه جيدا، الشيء الذي تنطق به ملامح المرأة حين تريد الرجل أو لا تريده، ولكنه لم يجد شيئا من هذا. ملامحها كانت جادة لا هزل فيها، وحماسها الصادق لإرشاده هو كل ما هنالك.
وبالابتسامة الباردة المعهودة استأذنت منه، وما لبثت أن تابعت طريقها. ودرش هو الآخر لم يلبث أن تابع طريقه خلفها ضاربا بكل إرشاداتها عرض الحائط. وحاول أن يعثر في مشيتها من الخلف على الشيء الذي لم يجده في ملامحها من أمام. حاول أن يضبط ارتباكا ما في خطوتها؛ لأنه يتبعها ولأنها تحس أنه لا يزال - رغم إرشاداتها - يتبعها، ولكنه لم يعثر على أي هزة أو ارتباك، كل ما حدث أن المرأة حين وصلت إلى عسكري كان واقفا على ناصية الشارع بقبعته المعهودة وقفت، وحدثته سريعا بالألمانية مشيرة إلى درش الذي كان قرر التلكؤ نهائيا على بعد وتجهيز نفسه لأي اتهام قد يوجهه له العسكري.
وقبل أن يكيل درش ما شاء من لعنات للمرأة النمساوية التي خدعته هكذا واشتكته إلى العسكري كما تفعل أي واحدة بملاءة لف في القاهرة، اقترب منه الرجل وحياه بأدب وابتسامة ودخل في الموضوع مباشرة، وراح يصف له بلغة سليمة الطريق الصحيح إلى فندق زاخر.
وهدأ قلب درش بين ضلوعه، المرأة بريئة، فواضح أنها اعتقدت أنه ظل يتابعها لأنه لم يفهم شرحها، وعهدت للعسكري بالمهمة.
وعلى أحر من الجمر انتظر درش إلى أن انتهى العسكري من شرحه المؤدب الطويل، بينما عيناه زائغتان ترصدان تحركات المرأة بدقة لتكمل متابعتها بعد التخلص من هذا المأزق.
وفعلا ما كاد العسكري يدير ظهره حتى دلف مصطفى إلى شارع جانبي آخر، إلى الشارع الذي اعتقد أن المرأة قد سارت فيه. وهنأ نفسه على ذكائه حداقته، فما أسرع ما تلقت أذنه دقات كعب حذائها العالي على أحجار الشارع المربعة. وفي تلك اللحظة فقط أدرك أن الشيء الذي خافه كثيرا قد وقع، إذ أدرك أنه في هذه المرة - وبحق وحقيق - قد ضل الطريق، وويله من تلك الشوارع المتشابهة ذات المنازل المتشابهة والأسماء المتشابهة والغموض حين يتوه فيها إلى ما شاء الله.
غير أنه لم يقلق كثيرا، فإذا حدث وسدت في وجهه كل أبواب الأمل فما عليه إلا أن يركب تاكسيا وليطالب السائق بما يشاء من شلنات نمساوية، الشلن منها ثمنه أكثر من عشرة قروش، بل وصل به الأمر إلى حد الضحك. فهل إذا كان قد دأب على سؤال النساء عن الطريق إلى الفندق وهو يعرف الطريق، فها هي ذي الحجة تصبح حقيقة واقعة، وها هو ذا فعلا مظلوم تائه في حاجة إلى مساعدة حقيقية. حبذا لو جاءت من تلك المرأة التي يتبعها بالذات، والتي ترن دقات كعبها على حجر الشارع رنينا حلوا يتصاعد في سكون الليل، ويهيج كامن أشجانه، ويجعله ينتظر بعد كل دقة من الكعب دقته المثيرة التالية.
وأحيانا كان يفيق ويتهم نفسه بالجنون، فهو يرتب الأمور في نفسه ترتيبا جميلا جدا، مع أن المرأة مثلها مثل غيرها لم يكن قد بدا عليه أبدا أقل لمحة ممكن أن تفسر عل أنها علامة قبول، بل حتى لم يكن بدر منها ما يدل على الشعور بوجوده.
الاحتمال الكيد هو فشله الحتمي، بل لو سلم جدلا بأنه قد ينجح في محادثتها فالوقت متأخر، وهي على ما يبدو عليها ذاهبة إلى بيتها، بل لو حدث المستحيل وأخذ منها ميعادا مثلا وقابلها في الغد، فماذا يكون أن يحدث في ذلك الميعاد سوى جلسة في بار أو في مقهى، وقهوة فرنسية سخيفة الطعم له، ومشروب فادح الثمن لها، ثم ضغطات على اليد وبضع ابتسامات وينتهي كل شيء؟
بتلك المرأة أو بغيرها هذه الليلة، ولا بد سيقضي معها أجمل الأوقات في مكان متلق أمنية مستحيلة التحقيق، ولكنه مصر عليها وكأنها وشيكة الوقوع، نفس الإصرار الذي دفعه للمجيء إلى أوروبا وهو متأكد لسبب ما أن ما يريده إصرارنا نحن المصريين العنيد الغريب، إصرار الأب الجائع، الذي لا يكاد يجد اللقمة، على أن يجعل من ابنه الطفل الذي يلعب الذباب الاستغماية حول عينيه مهندسا أو طبيبا، إصرار الفلاح الذي يريد سقي مساحة شاسعة من الأرض بشادوف يحمل في كل دفعة حفنة ماء، والغريب أنه إصرار لا يخيب: فالأب فعلا يظل يعاند حظه وحاجته وطبقته حتى يجعل من ابنه مهندسا أو طبيبا، والفلاح يظل ينحني ويعتدل ألف مرة، مليون مرة ... عددا لا نهاية له من المرات، حتى ينجح في ري الأرض.
درش هو الآخر كان لا يزال على إصراره، وقد بدأت المسافة بينه وبين المرأة تتناقص بينما أفكاره وخططه تتزايد؛ إذ كان عليه أن يتقدم خطوات أخرى، ووجد أن أحسن طريقة هي أن ينتقل إلى الرصيف الآخر ويسبقها ثم يعود من نفس رصيفها ويقابلها وجها لوجه، فلا بد أن يشعرها بوجوده وبأنه لا يزال يتبعها ولير ما يحدث. وعبر الشارع، واستدار وقابلها، وقبل أن يصبح في مواجهتها تماما توقف وادعى أنه فوجئ وقال: ها نحن مرة أخرى، عالم صغير، أليس كذلك؟
وواجهته بملامح فيها هي الأخرى بعض المفاجأة وخالية من أية نوايا، وفعلت هذا كله وهي ماضية في طريقها دون أن تنطق بكلمة أو حتى تشير بإيماءة.
وكان قرار درش قاطعا بعد خطوتين أن يتوجه توا إلى أي شارع رئيسي ويأخذ تاكسيا وينطلق إلى فندقه، وكفى ما كان. بل لا بد أن المرأة الآن تعتقد أنه من الغرباء المصابين بلوثة، أو من يدري ربما تستدعي له البوليس بجد في المرة القادمة. ولكن قراره لم ينطبق إلا على عشر خطوات خطاها أصبح بعدها القرار في خبر كان، فما لبث أن استدار وتابع سيره وراء المرأة، ولكنه آثر أن يترك مسافة أطول بينهما على سبيل الاحتياط.
وظلت هي ماضية في طريقها، وهو وراءها يلوم نفسه أحيانا وأحيانا ينظر في ساعته فيجد أن المسافة كلها لم تأخذ سوى دقائق، مع أنه خيل إليه أنه ظل يتبعها لعشرات الكيلومترات، حتى خرجت السيدة من الشارع الضيق إلى ميدان غير فسيح يشبه كثيرا ميدان الخازندار في القاهرة، فواجهته محل كبير قبة تحتل ضلعا من أضلاعه، ومحطات كثيرة للأتوبيس والترام تتناثر فيه، ولم يكن في الميدان وقوف كثيرون ... مجرد خليط متنافر غريب من زبائن آخر ترام وأوتوبيس. ووقفت المرأة على محطة، وظل هو سائرا في طريقه يتطلع هنا وهناك وفي الهواء، متخذا هيئة من يحاول أن يحل لغزا استعصى عليه حله، حتى وصل إلى ذات المحطة ووقف في طرفها الآخر. وقف قليلا ثم ما لبث أن غير الهيئة ووضع يديه في جيوب بنطلونه، وعوج رقبته إلى ناحية، متخذا هيئة من يترقب شيئا ويتمشى جيئة وذهابا في انتظاره. وكان يغير من هيئته وطريقته وكأن عينا غير مرئية تراقبه، وتحصي عليه حركاته وسكناته، وتحاسبه وهو يرد على حسابها له، ويقنعها أنه بريء لا مقصد له، مع أن أحدا في الميدان لا يكاد يلحظ وجوده، حتى ولا السيدة التي كان يتبعها. كانت واقفة مرتكزة على مظلتها ولا يبدو عليها أي شيء سوى القلق الممل الذي يصاحب انتظار الأوتوبيسات والترامويات حين لا تجيء ... إلى أن وصل درش إلى خطوة أو خطوتين منها. إلى هنا كان قد تم له ما أراد، وها هو ذا أصبح قريبا منها، وبعد؟ أدخل يديه في جيوبه وأخرجها أكثر من مرة، وغير من اتجاه وجهه أكثر من مرة، وحدق ناحيتها طويلا لعل عينيها تلتقيان بعينيه ... ولكن شيئا من هذا لم يحدث. وأصبح عليه أن يقدم على عمل إيجابي أكثر، وفجأة ومرة واحدة عاودته حالة اللامبالاة التامة واقترب منها حتى وقف أمامها وابتسم كثيرا قبل أن يقول: هل تسمحين لي بسؤال؟
ولم ينتظر إجابتها، انطلق من فوره يقول: أنا غريب هنا كما ترين، ولا أعرف الألمانية، وكانت فرصة عظيمة أنك تعرفين الإنجليزية، فهل من الممكن أن أسألك عن بعض الأشياء هنا؟
أتم الجملة وأحس بسيال من الخجل الحقيقي يسحب روحه من صدره ويكاد يسقطها بين أقدامه، حتى إنه لم يرفع عينيه ويحس بروحه تعود إلى مقرها بين جنبيه إلا حين جاءه ردها: ماذا تريد أن تعرف؟
وتطلع إليها، وتفاءل. كانت هناك ابتسامة ... صحيح ابتسامة لا معنى لها بالمرة، ولكنها خير على أية حال من تكشيرة أو كلمة نابية. عليه أن ينتهي إلى رأي بسرعة في أمر هذه المرأة، فإما فيه أو ما فيش ... ويكفي ما أصابه من كسوف. ولكن كان عليه قبل أي شيء أن يسألها عما يريد معرفته. قال مثلا موعد آخر ترام. سؤال بدا له سخيفا جدا، أسخف من أي شيء قاله في حياته، ولكنها أجابته بنفس ابتسامتها التي لا تعني شيئا: الواحدة إلا ربعا.
وخجل لسبب غير ظاهر وارتبك، وما لبث أن غير خطته وقال: إني أردت فقط أن أتحدث معك قليلا، أممكن هذا؟
وقبل أن تجيب كان هو يعمل عقله بسرعة ويفكر في الأمر من زاوية جديدة؛ فما لا شك فيه أنها عرفته وعرفت أن ذلك الأجنبي ذو الشعر الأسود الذي سألها عن الطريق إلى فندق زاخر، والذي لم يحفل بأخذ الطريق إليه ومضى يتبعها. معنى هذا أنها لم تغضب منه. إذن فهي لم تستنكر سيره وراءها ولا مطاردته لها على هذا النحو. أو يجوز أن حب الاستطلاع فقط هو الذي يجعلها تستمع صابرة إلى أسئلته السخيفة هذه. وهو نفسه الذي لا يزال يرسم على ملامحها تلك الابتسامة التي لا معنى لها.
وقالت ردا على سؤاله: أبدا.
هيه ها هي ذي تقول له إن ليس لديها مانع من الحديث، فتكلم يا درش ... تكلم.
وحاول درش أن يتكلم ويختلق موضوعات للحديث، وصمت برهة كي يستجمع كل ذكائه ولباقته، وتمخض هذا عن سؤاله: أنت طبعا لا تعرفين جنسيتي.
فقالت: طبعا!
فقال وهو يبتسم ويحاول أن يمزح: أتستطيعين تخمينها؟
صمتت برهة وكأنها لا تحس للسؤال ولا لشخص سائله بأهمية، ثم قالت: برتغالي؟
وكاد أن يقهقه قهقهة حشاشية عالية، ولكنه قطعها فجأة، فقد تذكر أنه في أوروبا وقال: لا.
قالت وكان لا حول لها ولا قوة: لا أعرف.
فقال له مزهوا: أنا من مصر.
وضايقته جدا حين قالت: حقيقة؟! أمر غريب.
قالت «أمر غريب» بطريقة لا غرابة فيها بالمرة، إذ هي نفس الكلمات التي لا بد أن يقولها أي إنسان في أي موقف كهذا، ولكنه التقط الكلمة وأمعن فيها وسألها: أمر غريب! لماذا؟
ولم تتكلم، ابتسامتها التي لا معنى لها ظلت مرتسمة على ملامحها بلا أي اندهاش، أو انفعال، أو رغبة خفية كانت أو ظاهرة في متابعة الحديث.
وأحس درش أنه لو استمر أكثر من هذا فسوف تكون كل ثانية على حساب كرامته وكبريائه، وأن أحسن طريقة هي أن يلايمها وينصرف. وفعلا قال: أنا سعيد جدا بلقائك. وذهب.
ذهب إلى الطرف الآخر من المحطة، وعندما وجد نفسه يقف فقد واتاه خاطر: محتمل أن يكون حديثها إليه ناشئ عن حب الاستطلاع، ولكنها لو كانت راغبة عن الحديث لأشعرته بذلك. ما الذي منعه إذا من مواصلة الحديث، ولماذا لا يعيد الكرة؟ يعيدها كيف؟! وبأي وجه يكلمها وهو الذي ودعها وانصرف. فليختلق سببا ذكيا هذه المرة ، ودار على عقبيه عائدا، وحين اقترب منها بدأ يتكلم قائلا: أرجو أن أكون غير متطفل عليك، ولكن اسمحي لي هل أنت متأكدة أن آخر ترام يأتي في الواحدة إلا ربعا.
قال هذا وهو يتفرس في ملامحها، واطمأن بعض الشيء حين لم يجد فيها أي استنكار لعودته أو لسؤاله الذي حاول أن يكون ذكيا فجاء أغبى ما يكون.
وقالت له: أجل، في الواحدة إلا ربعا تماما. وإذا أردت الذهاب إلى فندق زاخر يمكنك أخذ الأوتوبيس الذي يقف هناك. سيجيء بعد دقائق.
وقال لها: أشكرك كثيرا.
وسكت ولكنه لم يتحرك، ولم تتغير ملامحها هي الأخرى أو تتحرك، وفجأة سألها: نمساوية أليس كذلك؟
قالت: أجل طبعا. - تنتظرين الأوتوبيس؟ - الترام. - ذاهبة بعيدا؟ - إلى الضاحية.
كان يسألها محاولا أن يجد خيطا واحدا يجذبه ليمتد الحديث، ووجد في إجابتها الأخيرة فرصة. فقال لها: الضاحية بعيدة؟ - نصف ساعة. - ياه ... مسافة طويلة.
قالها وهو يرسم اندهاشا أكثر من اللازم على ملامحه. وقال لنفسه: امض خطوة أخرى وليكن ما يكون.
وهكذا مضى يحدثها ذلك الحديث الذي أتقنه كثيرا في الباخرة والقطارات والفنادق التي حل بها، الحديث الذي يدور بين أي أجنبي وأي صاحب بلد. الجو. كم هو رائع في مصر! ويا لفظاعة أوروبا في الشتاء! النمسا عانت من الاحتلال طويلا، والآن أصبحت بلدا مستقلا ... نحن أيضا أصبحنا بلدا مستقلا. المصريون يحبون النمساويين جدا، ونحن أيضا نسمع عن مصر والمصريين.
وطوال الحديث وبينما كان درش يسأل ويجيب وينكت كانت حاسته السادسة، والحاسة السادسة عند درش حاسة جنسية مائة في المائة وظيفتها استقبال أي تجاوب يبدو من أية امرأة تحادثه.
كانت تلك الحاسة تحاول أن تستقرئ طيف انفعال، أو لمحة أو بادرة تدل على أن هناك أي استجابة ... تحاول بلا فائدة، فقد عجزت تلك الحاسة تماما عن معرفة كنه موقفها الحقيقي، وهل هو رغبة أو رفض، وكأن ملامحها مكتوبة هي الأخرى بلغة ألمانية لا يستطيع فهمها أو إدراكها، بل خيل إليه أنه كان من الممكن أن تتحدث هكذا مع أي إنسان غيره حتى ولو لم يكن أجنبيا أو بشعر أسود أكرت مثله، مع أن الحديث كان قد تكفل بتشكيل ابتساماتها وتغيير ملامحها فأصبحت تضحك أحيانا وأحيانا تدهش، وتصغى وأحيانا يبدو عليها الاهتمام.
وتضايق درش فمع أن أهدافه منها كانت قد تبلورت في إجراء حديث ما معها، إلى أن يأتي ترامها وتمضي، إلا أن هذا الموقف منها قد ضايقه، بل جعله يحس مرة أخرى باللامبالاة حتى لو غضبت منه. إنها لحظة خاطفة يقضيها معها، ولن يرى وجهها بعدها أبدا. فليحدث ما يحدث ... إذن فها هو ذا أخيرا وبعد كل تلك الجهود المضنية الضائعة قريب من امرأة نمساوية أصيلة تحادثه ويحادثها، وتضحك لكلامه وتصغى إليه. وكادت لا مبالاته تبلغ به حد أن يطلب منها مثلا أن ترافقه إلى فندقه.
ولكنه لم يفعل، ففي تلك اللحظة جاء ترامها ووقف، وبنفس ابتسامتها غادرته وهي تشير له لتريه المحطة التي يمكن أن يأخذ منها الأوتوبيس إلى فندق زاخر. صعدت إلى الترام المضيء ذي الركاب القليلين وبقي هو واقفا على المحطة لا يدري ماذا يفعل. ينظر لها عبر نافذة الترام ويبتسم، وهي أيضا تنظر إليه وتبتسم، وأشار لها إشارة مع السلامة، فأومأت برأسها مجيبة. وكان معنى هذا أن خلاص، انتهت تلك المعرفة الخاطفة، وعلى كل منهما أن يذهب لحال سبيله.
ولكن ... فجأة وجد درش نفسه يصعد إلى الترام ويجلس على المقعد الذي بجوارها وبدا عليها انزعاج، لم يكن - كما توقع - انزعاجا كبيرا مذهلا. وقالت له: ولكن هذا الترام ليس ذاهبا إلى فندق زاخر، إنه ذاهب في الاتجاه المضاد.
فقال لها بكلمات إنجليزية وبابتسامة مصرية ماكرة: ولو.
فعادت تسأله بدهشة: إلى أين أنت ذاهب إذن؟
وتردد قليلا، ولكنه ما لبث أن قال: ذاهب إلى حيث تذهبين.
وقالت له وثمة قلق بدأ ينتاب ملامحها: ولكني ذاهبة إلى بيتي في الضواحي. - حسنا! سأذهب معك.
وازداد الانزعاج في وجهها وقالت: اعذرني، ولكن تصرفك هذا شاذ.
فقال لها وهو سادر في مصريته: اعذريني، إنه ليس تصرفا شاذا، إنه في الحقيقة تصرف مجانين .
وأصبح انزعاجها خوفا، أو بمعنى أصح بوادر خوف، فقد انكمشت بعيدا عنه في المقعد وسكتت، وكان واضحا أن سكوتها سكوت عجز ... إذ ماذا يمكن أن تقول أو تفعل؟
وطبعا درش لم يكن مجنونا أو شاذا أو به خبل. كل ما في الأمر أنه كان في تلك اللحظات يتصرف بوحي من إحساسه أو بوحي من حاسته السادسة تلك التي كانت تعمل بلا هوادة، ومنفعلة إلى أقصى حد. لم يكن قد ظهر في تصرفات المرأة أي شيء يدل على أي شيء، ولكنه كان يعمل كمستكشفي البترول الذين تقول لهم أجهزتهم إذا حفرتم هنا وجدتم الذهب الأسود، هو أيضا كان شيء ما ... شيء أعمق من إحساسه وتفكيره وفراسته يهيب به أن يداوم على إصراره وأن يمضي في الطريق إلى نهايته، والطريق، كخط الترام محطات، وها هو ذا قد غادر المحطة الأولى بركوبه إلى جوارها في الترام. عليه الآن أن يتبين إن كانت هناك محطات أخرى ... كيف يعرف طريقه إذن؟ ومن أين يبدأ؟
وقال لها: أنت ذاهبة إل بيتك إذن؟
كانت في تلك اللحظة تنظر من نافذة الترام، والترام بدأ يتحرك وقطع في تحركه شوطا، فالتفتت إليه وكأنها لم تسمع ما قاله. وأعاد السؤال فقالت بوجه جاد: أجل.
وضايقه جدها في تلك اللحظة، ولكنه مضى بخبث هذه المرة يسأل: تقطنين مع عائلتك. أليس كذلك؟
فقالت ببراءة: أجل. - متزوجة؟ أعتقد هذا. - طبعا متزوجة.
وكاد لسانه يزلف ويقول أنا الآخر متزوج وعندي بنت صغيرة لها صندل أحمر وسنتان أماميتان، ولكنه رد لسانه إلى حلقه، فلا داعي لتعقيد الأمور، ومضى يسألها: - لك أولاد طبعا؟
فقالت، ولأول مرة منذ أن ركبا الترام قد عادت ابتسامتها التي لا معنى لها إلى وجهها: أجل، ولدان وبنت.
وقال لنفسه: لو كانت لا تريدني لقالت أجل، واكتفت بهذا، ولكنها استرسلت تعد أولادها، فمعنى هذا أنها تريد الحديث. ولكنه استدرك أن حديث الآباء أو الأمهات عن أولادهم شيء طبيعي جدا، يفرحون له ولا يملوه، فليطرق هذا الباب إذن عله يؤدي إلى شيء.
وسألها : كبار في السن؟
قالت: تومي الكبير عمره ست سنوات، والصغيرة ستة شهور.
غمغم لنفسه: عظيم! ها هي ذي تتحدث، وهذا شيء طيب. وابنها الكبير ست سنوات، معنى هذا أنها في حوالي الثلاثين، هذا شيء عظيم ... امرأة ناضجة خبيرة مستوفاة بكل معنى الكلمة.
وكان حريا بضمير درش أن يتحرك في هذه اللحظة فيذكره بأنه يحادث امرأة متزوجة وأما، وأنه يهدف من حديثه إلى أشياء يجب أن يتحرك لها الضمير. ولكن ضمير درش لم يكن يتحرك أبدا لمثل هذه الأشياء، فهو لا يؤمن بأي قانون يحكم هذا العالم إلا قانون ما يريده، ما يريده هو الحلال وهو الصواب. أما أن يكون ما يريده هذا بعيد المنال أو يمت إلى غيره أو إلى شيء من هذا القبيل، فتلك أمور لا تهم درش في قليل أو كثير. كل ما كان يفكر فيه في تلك اللحظة هو كيف يجعل الحديث يستمر ولا ينقطع.
قال لها: اسمحي لي، فقد تعتبرينني مرة أخرى متطفلا عليك، ولكن هذا شيء يحيرني، فالنساء عندنا في مصر لا يخرجن وحدهن في تلك الساعة المتأخرة من الليل.
وضحكت (وحين ضحكت اطمأن) وقالت: أبدا، كنت في الأوبرا مع صديقة لي.
وغمغم قائلا، وكأنما يداري خجله من سؤاله: ظننتك تعملين، والعمل هو الذي أخرك.
فقالت: عملي ينتهي في الثامنة.
وحملق فيها بعينين واسعتين وكأنما اندهش، وقال: أنت تعملين إذن؟
فقالت: طبعا. - شيء جميل. - أبدا شيء عادي جدا، معظم النساء يعملن هنا. - أعرف هذا ... أعرفه.
كان يردد الجملة الأخيرة وهو يفكر في سؤاله التالي، حين فاجأته قائلة: ولكنك بهذه الطريقة تبتعد عن فندقك كثيرا.
فابتسم وقال لها: لا يهم.
فقالت بدهشة حقيقية: أين ستبيت إذن؟
فقال بغير دهشة: لا يهم في أي مكان.
وهزت أكتافها وعادت مرة أخرى تنظر من نافذة الترام.
وكان معنى هذا أن الحديث سوف يؤدي إلى سكون، والسكون عدوه الأكبر، فعليه أن يتابع الحديث، خاصة والاضطراب قد استبد به إلى درجة أنه راح يهز ساقه هزات عصبية غير ملحوظة ... فقد بدا واضحا أن حاسته السادسة قد خانته، فالمرأة واضح أنها زوجة وربة بيت ومن إجابتها وطريقة حديثها يبدو أنها مثقفة ورزينة إلى حد كبير، والملابسات كلها تشير إلى أن عليه أن ييأس إذ ليس هناك أبدا أي بادرة تدل على النجاح. وفعلا كان اليأس قد بدأ يصبغ كل حركاته وأفكاره وحتى نظراته. وكان وعيه قد بدأ يرتد إليه ويهيب به أن يهبط في أول محطة ويستعد لرحلة تخبط في طريقه إلى فندق فيكتوريا. فقط كان عليه أن يقول شيئا يختتم به الحديث ويكون الوسيلة إلى تبادل الأسماء وأرقام التليفون؛ فحتى هذا الوقت لم يكن قد عرف اسمها ولم تكن قد عرفت اسمه. وبهذا تصبح المسألة كلها واحدة من عشرات الحالات المماثلة التي التقى بها، والتي انتهت بكتابة الأسماء بحروف واضحة في مفكرته وبجوارها أرقام التليفونات والعناوين ... أسماء وعناوين يعلم سلفا أنه لن يرى اصحابها أبدا ولن يراسلهم.
أجل عليه الآن أن يختم حديثه معها بأية حيلة، وسألها بلا قصد: صحيح أنت متزوجة؟
وعادت من التفاتتها وضحكت وقالت: طبعا! ألا يبدو علي أني كذلك؟
فقال وهو يحاول إطراءها: الحقيقة لا يبدو عليك شيء من هذا.
وحين أحس أنها سعدت بإطرائه قال مواصلا كلامه: أنا أتكلم جادا ... صحيح أنت متزوجة ولك أولاد؟
قالت وهي تكبت الضحك: طبعا! ألم أقل لك هذا؟ أنا متزوجة ولكن ...
ودق قلب درش بين ضلوعه وكاد يحبس أنفاسه انتظارا لما يمكن أن يكون وراء «لكن» هذه.
ولم يطل انتظاره، فسرعان ما أردفت قائلة: ولكني في الآونة الحاضرة لا أقيم مع زوجي.
وتوالت دقات قلبه عالية مملوءة بالفرح والانفعال ... وضحك.
ضحك هكذا بلا مناسبة، واحدة من تلك الضحكات التي نخفي بها انفعالاتنا ... ولم يفرح درش وينفعل لأنها لا تقيم مع زوجها، ولكن لأنها قالت هذا، ولو كانت لا تريده لاكتفت بقولها إنها متزوجة، وما حاولت أن تطلعه على أمر خاص بها وحدها.
وكان لا يزال في دوامة النشوة حين تطلعت هي من النافذة وقالت: نحن الآن في ليوبولد بلاتس ... إنك تبتعد عن فندقك كثيرا.
فقال لها وهو يطوح برأسه إلى الوراء: لا يهم! - أنصحك أن تهبط في المحطة التالية فلا يزال هناك أمل أن تلحق بآخر أوتوبيس. - لا يهم. - أين ستبيت إذن؟ - أعرف تماما أين سأبيت.
قال هذا وهو ينظر إليها مخفضا عينيه، محاولا قدر طاقته أن يضغط على حروف كلماته واتجاه نظراته، ليحمل الكلمات والنظرات فوق ما تحتمل.
وسكتت هي مستسلمة مبتسمة، وسكت هو الآخر سكوتا مؤقتا، فقد بدأ يتحرك في مكانه تحركات خفية هدفها أن يتزحزح ليقترب منها، وسواء كانت لاحظت هذا أم لم تلاحظه فالذي حدث أنها واصلت سكوتها وصمتها.
ودرش هو الآخر لم يكن يتحدث، فقد كان يحلم أحلاما رائعة للغاية، فهو إلى الآن لم يكن قد عرف عنها أكثر من أنها لا تقيم مع زوجها، ورغم هذا راح يحلم ويؤكد لنفسه أنه حتما سيقضي الليلة معها، وأن هذه مسألة مفروغ منها.
وهكذا دون أن يتوقع تحقق له الحلم الأكبر الذي كاد يؤمن باستحالة وقوعه. وتحقق ببساطة منقطعة النظير. الحلم الذي جاء به إلى أوروبا، ها هو ذا الآن يحياه، وها هي ذي المرأة التي طالما تصورها. ها هي ذي حقيقة من دم ولحم وابتسامات بجواره، يراقبها ويتأملها بدقة وعلى مهل كما تتأمل القطة الفأر وقد اطمأنت إلى وقوعه بين مخالبها. وهو سعيد بتأمله لها، سعيد بالتهامها بنظراته والغوص بها في أحلامه، ولا أحد يستطيع لومه إذا كان قد فضل أن يبقى هكذا لبعض الوقت، يستمتع بخياله الملتهب، عن أن يستأنف فورا مواصلة الجهود للاستحواذ عليها.
غير أن أمرا مفاجئا قطع عليه أحلامه، فقد تبين له أن من الغريب أن تكون السيدة متزوجة وفي نفس الوقت لا تكون مقيمة مع زوجها.
وكالعادة ما كاد السؤال يخطر بباله حتى قفز إلى لسانه وقال: اعذريني، ليس هذا محاولة مني للتدخل في شئونك الخاصة، ولكن لماذا لا يقيم زوجك معك؟
وتلكأت قبل أن تفتح فمها لتجيب، ومع أنه لم يعرفها إلا مع دقائق قليلة، إلا أنه كان قد بدأ يدرك بعض عاداتها. وعلى هذا عرف أن تلكؤها معناه أنها محرجة وأن لا داعي للسؤال.
وهكذا ولينقذ الموقف ... ولينقذ هذا النسيج الدقيق الواهي الذي يربطه بها ولا يريده أبدا أن ينقطع، والذي قد يقطعه سؤال سخيف محرج أو كلمة غير مناسبة. أتبع بسؤال آخر عن كنه عملها.
وقالت له إنها تعمل سكرتيرة مدير إحدى الشركات الكبرى التي تنتج الأدوات الكهربائية والإلكترونية. وليزيل كل ما تبقى من الحرج قال لها وقد استبدت به القفشة المصرية: آه. لعل هذا هو السبب في أني أحس أني مكهرب وأنا جالس بجوارك.
فضحكت وقالت: حذار إذن فقد تصاب بصدمة.
وبتلك الجملة منها أصبح درش كالهبلة حين تمسك الطبلة، فقد رد عليها قائلا وهو يزداد التصاقا بها: المصيبة أني المريض الوحيد في العالم الذي يتمنى لو يصاب بها.
وحين طقطقت بشفتيها محتجة، ازداد التصاقا بها وهو يقول: أعتقد أني فعلا في حاجة إلى صدمة أخرى.
وكل هذا يحدث في غمرة الخجل من جانبها والخجل من جانبه، وأنصاف الكلمات، والوجوه التي تتفادى أن تلتقي حتى لا ترتبك، إلى آخره.
ومن تلك اللحظة بدأ درش يعاملها كما لو كان قد عرفها من عام، فالكلفة رفعت نهائيا وأصبح لا يهتم بوقع أسئلته عليها ولا ما يمكن أن تأخذه عليه، ولكنه في واقع الأمر كان يفعل هذا في الظاهر فقط، أما في أعماق نفسه فقد كان لا يزال مرتبكا ولا يزال غير متأكد إن كانت قد رضيت به وقبلته فعلا، أو أن ما يراه منها إن هو إلا سلوك عادي لا يمكن أبدا أن يؤدي إلى الشيء الذي يحلم به.
وكالعادة ترك درش تحديد الوضع للأحداث المقبلة، فمحطتها لا شك تقترب، وقد انتوى أن يهبط معها في نفس المحطة.
وهي التي سوف تتولى بنفسها تحديد كل شيء.
وفعلا، بعد قليل بدأت تستعد لمغادرة الترام، وقالت: أتركك هنا وحدك.
وابتسم ولم يعلق بشيء، وآثر ألا يصرح لها بما انتواه، فقد يجره التصريح إلى نقاش واختلاف هو في غنى عنهما. كل ما حدث أنه حين وقف الترام وقامت هي لتهبط هم هو الآخر، وعندما نزلت نزل وراءها.
وكان يتوقع منها أي تصرف إلا ما حدث، فلم تفعل شيئا حين رأته قد غادر الترام وأصبح يمشي بجوارها إلا أن هزت كتفها وابتسمت.
وبعد قليل سألته: إلى أين؟
ولم يجب درش.
فعادت تقول: إلى اين؟
وأيضا لم يشأ أن يجيب، فالوضع لن يحسمه الكلام ... الوضع يحسمه العمل ... وعلى هذا لف يده حول يدها وسارا سويا. كانت كل الشواهد تدل على أنها لا مانع لديها من أن يرافقها إلى بيتها، ولكنه لم يكن مطمئنا أبدا ولا مصدقا أن يكون كل شيء قد تم بمثل تلك السهولة والبساطة التي لا يتصورها العقل. - البيت بعيد؟
قالها وكأنه يسألها سؤالا عابرا لا يحتمل تأويلا.
فقالت: هناك بعد قليل.
وانتابه شعور خاطف؛ فهذه المرأة تكاد تفجر عقله من الحيرة. لم يعد يدري إن كانت شيطانا أو ملاكا، ساذجة أو ماكرة، تضحك عليه أم هي معجبة به.
وقال لنفسه: لف يدك حول وسطها ولنر ما يكون.
ولف يده حول وسطها، ولم يصدق أبدا أن اليد التي التفت حول وسطه هو ... هي يدها. وقال لها في صمت هامس مبحوح: هل معك أحد في البيت؟
قالت: طبعا أولادي.
وعاد يقول كمن لا يعرف: كبار في السن؟ - ألم أقل لك؟ تومي الكبير عمره ست سنوات، والصغيرة ستة شهور. - أتعلمين شيئا؟ أنا ذاهب معك إلى المنزل.
وابتسمت نفس ابتسامتها التي لا معنى لها. وهزت كتفيها نفس الهزة التي قد تعني لا ... وأيضا تعني نعم.
وقال لنفسه: لا بد مما ليس منه بد ... قبلها، فإن رضيت ارتاح بالك، وإن لم ترض كان لك معها شأن آخر.
وفعلا بدأ يرفع يده قليلا حتى احتوت عنقها، ثم أوقفها وضمها بشدة وقبلها.
ولم يعرف أبدا رأيها في قبلته، ولا إن كانت - حتى - راضية أم ساخطة. كل ما حدث أنها انتظرت برهة، ثم دفعته برفق قليل وهي تقول: ستكسر ظهري يا أفريقي.
وأهاجته كلماتها حتى بدأ وعيه يغرق في الدماء الساخنة التي تصاعدت إلى رأسه.
كان الشارع الذي يسيران فيه طويلا على جانبيه مصابيح بالغة الطول، والطريق بشكل عام كأنه أحد الطرق المؤدية إلى مصر الجديدة. ولأول مرة منذ أن التقى بها سار وقد بدأ يضمن أنها له في تلك الليلة ما في ذلك شك ولا ريب. ولأول مرة يحس بالاطمئنان، وبأنه لم يعد ثمة داع للسرعة واللهوجة، وعليه أن يثق في نفسه وتصرفاته، ثقة الظافر الذي اطمأن إلى استكانة الفريسة بين مخالبه.
ولكن شيئا ما بدأ يستبد به ... شيء صغير رفيع لا يدري من أين جاءه، ودفعه لأن يتساءل: لماذا رضيت به السيدة هكذا ببساطة؟ كان واضحا أنها ليست من ذوات الأخلاق اللينة، ولا يبدو عليها أنها - حتى - صاحبت أي رجل آخر غير زوجها، بل لم تكن حتى امرأة «ستاتي» أو حريمي خالصة. كان لها طابع من يعملن، طريقة مشيها وكلامها، وحتى ابتسامتها فيها طريقة المرأة الجد الدوغري التي تعودت الاختلاط بالناس والرجال، ومعاملتهم معاملة الند للند، فلماذا تهاونت ورضيت به؟
خواطر كهذه سرعان ما بدأت تدور في عقله، وكلما دارت بدأ الشك يخالجه، بل جاءت عليه لحظة بدأ يحس فيها أن شعوره يخونه، وأن من الممكن أن تكون المرأة بريئة كل البراءة، وأنه هو الذي يصور الأشياء كما يحلو له. بل دفعه الخوف إلى أن يتأكد، وهكذا ازداد التصاقا بها واقترب بفمه من رقبتها، ثم ظل يلامس رقبتها بشفتيه حتى أحس بجلدها يقشعر تحت لفح أنفاسه، وحينئذ رفع فمه قليلا والتقت شفتاه بشفتيها وقبلها، وفوجئ بها تضمه هي الأخرى وتقبله.
وغمغم يقول: أريد أن أقبلك مرة أخرى.
وغمغمت هي الأخرى: وأنا أيضا.
وفارت الدماء في عروقه، هذه هي المرأة وإلا فلا. النساء في الشرق جثث لا نستطيع أن ننالهن إلا رغما عنهن، حتى لو كن يذبن غراما فيك. لا يرضيهن إلا أن يؤخذن عنوة، ولكن المرأة هنا، يا سلام، تقبل المرأة فتقبلك، تحضنها فتحضنك، تأخذها فتأخذك. هذا هو الشغل المضبوط، هذه هي المساواة الحقيقية بين الرجل والمرأة . وأمسك بيدها يعبث بها وقد بدأ يحس ناحيتها بألفة وحنان، واسترعت أصابعها الرفيعة، القوية من الضرب على مفاتيح الآلة الكاتبة حتما، انتباهه، ومن لمس الأصابع أحس بلحظة زمالة غريبة تربطه بها.
ووجد نفسه يسألها: البيت بعيد؟ - هنا بعد قليل.
كانا قد قطعا شوطا كبيرا، والشارع بدأت المصابيح التي فيه تقل وبدأ الظلام يكثر، وعلى عكس ما كان يتوقع درش أحس للظلام بألفة عجيبة، فقد كان كستار أسود كبير مسدل على البقعة وعلى النمسا، وحتى على أوروبا كلها، يكاد يحجبها ويجعله ينسى إحساسه بالغربة.
سارا مسافة أخرى طويلة ولم يبد على ملامحها أنهما قد اقتربا من البيت، وبدأ درش يحس بالقلق بطول المسافة، فالموقف بينهما - وكان قد بلغ درجة من السخونة - إذا طالت المدة عليه ربما يبرد، وربما يؤدي الطول إلى حديث، والحديث في موقف كهذا غير مستحب، بل في الواقع بالغ الضرر. - لا بد أن بيتك في آخر الدنيا! - إذن فقد وصلنا إلى آخر الدنيا.
وضحك، وضحكت هي الأخرى وهي تقول إن البيت في الشارع الجانبي القادم. وتنفس درش الصعداء، فحقيقة بعد خطوات قليلة دلفا إلى شارع متفرع ضيق، ومع ضيقه فقد كان يكتنفه صفان من أشجار طويلة جدا، ربما تكون أشجار الصنوبر التي درسها في الجغرافيا، وكان الشارع سكنيا صرفا مكونا من بيوت منخفضة متقاربة.
وظلا سائرين إلى أن وصلا إلى بناية ضخمة مكونة من عدة أدوار وعدد من «البلوكات»، وأشارت هي إلى البناية وقالت: هنا أسكن في البلوك إلى اليمين.
وأضافت: أتعرف أن كل هذا يملكه مالك واحد؟
ولكنه أحس من إضافتها أنها تريد أن تخفي شيئا، وفطن إلى أنها ربما تريد أن تخفي عنه أن المالك الواحد هو الحكومة مثلا، وأنها بيوت مقامة لصغار الموظفين. عبيطة! حتى لو كانت تسكن في عشة، فالمشكلة ليست في سكنها، المهم فيها هي.
ودخلت المبنى الثالث الذي كان يحفل مدخله بعدد غير قليل من البسكليتات، ودخل وراءها، كان المدخل مظلما، وهمس لها: في أي دور؟ - هنا.
قالت هذا وهي تصعد بضع درجات إلى الدور الأول، ثم تقف عند باب الشقة المواجهة للمدخل.
وخيل لدرش أن كل ما يدور أمامه غير حقيقي ... لا بد أنه يحلم أو يخرف. ولكن المصيبة أنه لم يكن يحلم أو يخرف، فقد تمهلت عند الباب قليلا، ثم أدارت المفتاح، وانفتح باب الشقة، وتركت الباب مفتوحا. لم تكن الشقة مظلمة من الداخل، كان يضيئها مصباح كهربي خافت الضوء. وأحس درش برهبة ودارت بعقله الظنون: لماذا لا تكون هذه المرأة واحدة من عصابة تستدرج الناس والغرباء من أمثاله بوجه خاص لتقتلهم، كما كانت تفعل ريا وسكينة في مصر؟ خاطر تافه صحيح، ولكن ماذا يمنع أن يكون حقيقيا؟ واقترب من باب الشقة يتسمع مصمما أن يطلق ساقيه للريح لو سمع كلاما في الداخل أو صوتا، ولكنه لم يسمع شيئا. وغابت ... كان مفروضا أن تدعوه للدخول، فلماذا غابت في الداخل؟ لا بد أن هناك أمرا يدبر. - لماذا لا تدخل؟
ثم أردفت هامسة: ادخل.
ودق قلبه بلا خوف، وأحس باضطراب وهو يدلف من الباب، وخطا إلى الداخل بخطوات شديدة الحذر وكأنه يسير على حافة الهاوية، وكانت هي تسير أمامه، والغريب أنها كانت تسير عادية جدا بلا أي خوف أو حذر.
لم تكن الصالة واسعة، كانت صغيرة محندقة، كل ملليمتر فيها مستغل. ورغم الضوء الباهت فقد استطاع أن يميز قطع الأثاث ونوعها. لم تكن جديدة، ولكنها أيضا لم تكن تبدو وكأنها استعملت لفترة طويلة. ثم الصالة، والبيت كله له رائحة خاصة، رائحة بيت العائلة الصغيرة حين تدخله لأول مرة، وكأن لكل عائلة رائحة خاصة لا يدركها إلا القادم الغريب.
وقالت له وهي تهمس من بعيد همسا عاليا يكاد يصل إلى مستوى الكلام العادي: ألا تنوي أن تغلق الباب وراءك؟
وأدرك مرتبكا أنه نسي أن يقفل الباب الخارجي، وحتى لم يعرف كيف يغلقه. وجاءت هي تساعده، وقالت له بعدما انتهيا من إغلاق الباب: لا تحدث صوتا.
وكان في غير حاجة إلى نصيحتها، فهو لم يكن يحدث صوتا ولا حسا، ولم يكن في الواقع يحدث أي شيء بالمرة، كان الموقف غريبا عليه تماما، لا لأنها متزوجة، فهو قد عرف في حياته ومغامراته كثيرات متزوجات، ولكنه كان يقابلهن في أمكنة أخرى غير بيوتهن.
ولم يكن ارتباكه لإحساسه بأنه ينتهك حرمة بيت أو شيء من هذا؛ فكلمات مثل حرمات البيوت والأربطة المقدسة لم يكن لها أي مكان في قاموسه الخاص. كل ما في الأمر أن الوضع كان غريبا عليه، وجديدا في الوقت نفسه. بل أكثر من هذا كان بعض التزايد في دقات قلبه مرجعه إلى أن غرابة الوضع قد استثارته أكثر، فها هو ذا لا ينال امرأة أوروبية فقط، ولكنه ينالها في ظروف جديدة مثيرة.
ودخلت بابا في نهاية الصالة يقابل الباب الخارجي، وفهم من هذا أن عليه أن يتبعها، وبينما كان يعبر الصالة بدأت أذنه تتلقف صوتا خافتا منتظما.
وتوقف وتسمع برهة، كان غطيطا ما في ذلك شك، غطيط صادر من الحجرة ذات الباب الموارب على اليسار، وابتسم في طفولة، فقد كان الغطيط رفيعا صغيرا منخفضا كغطيط القطط، لا بد أنه غطيط أحد أولادها.
وخرجت هي من باب الحجرة التي دخلتها، وقالت بصوت لم تحاول أبدا أن تحيله إلى همس أو تخفضه: لماذا لم تدخل؟ أهناك شيء؟ - أبدا، أبدا.
قال هذا وهو يستغرب، فالواقع أنها منذ أن دخلت الشقة تحولت إلى كائن آخر غير الذي عرفه. أصبحت تتصرف بحرية وبطريقة عملية وبجرأة، ربما لإحساسها أنها في بيتها، أما هو فلم يعد سيد الموقف أبدا، أصبح هو الذي ينتظر حركتها ليتحرك، أصبح هو المقاد الذي يتهيب أي شيء ويحدق في كل شيء، وكأن كل شيء يحدق فيه ويحاول ضبطه.
ودخلت الحجرة مرة أخرى، وبهياب أكثر دخل وراءها.
ومنذ أول نظرة كان واضحا أنها حجرة نوم، أو على وجه الدقة حجرة نومها بالذات، ففي جانب منها سرير ... سرير يستلفت النظر فعلا. فلا يستطيع الإنسان أن يعتبره سريرا لشخصين أو لشخص واحد، سرير بين بين، وكأنما صنع ليتسع لشخص ونصف شخص. وبجواره منضدة مزدحمة بآلاف الأشياء: أدوية ومنبه وأدوات تواليت وكتب وفرش وإبر تريكو وشفرات حلاقة وأشياء لا تخطر على بال. وبجانب الحائط المقابل كان هناك سرير أطفال على هيئة أرجوحة، وفي السرير طفل صغير لا تعرف إن كان بنتا أم ولدا.
وحين رأته يطيل النظر إلى السرير الصغير قالت: هذه فيولا الصغيرة، ستة شهور. - حقيقة؟
خرجت الكلمة من فمه والدهشة تسبقها وتتبعها، فالطفلة كانت كبيرة، حجمها يوازي حجم ابنته ذات العام والنصف العام، عجيب أمر هؤلاء الناس، أبناؤهم دائما أصحاء أقوياء ملظلظون، وأبناؤنا دائما يعانون المغص والإسهال وعشرات اللفف والعيون الحاسدة. ولكن أهم من تلك المقارنة التي راح يعقدها خفية بين ابنته وابنتها كان عليه أن يفكر في حل لهذه الفيولا الصغيرة الضخمة، فلا بد من نقلها من الحجرة، وأمر محرج غاية الحرج أن يطلب من أمها هذا.
وفوجئ حين قالت الأم بطريقة عملية جدا، وبلهجة خالية من الآهات أو الحسرات: ماذا نفعل بها؟ أعتقد أن علينا أن ننقلها إلى الحجرة الأخرى التي ينام فيها الأولاد.
فوجئ درش إلى الدرجة التي سألها ببطء: ننقل من؟
وبسرعة قالت له: ننقل فيولا طبعا. هذه حجرة النوم كما تعلم، وطبعا لا بد من نقل فيولا إلى الحجرة الأخرى. ألا تعتقد أن هذا ضروري؟
وابتسم ابتسامة بلهاء لا معنى لها، ولكي يعوض لخمته والغباء الذي ادعاه لصنع المرح والخفة قال: طبعا طبعا ... يجب هذا طبعا، هيا بنا. سأحمل أنا من هنا.
واتجه إلى طرف من السرير وحمله قبل أن تحمل هي من الناحية الأخرى. ويبدو أنه فعل هذا بحماس أكثر من اللازم، إذ سرعان ما قالت له: احترس! ليس بهذا الشكل، قد تستيقظ وتأخذ مدة طويلة لكي تعود إلى النوم. لا ترفع إلا إذا رفعت أنا ... هيه.
ورفعا السرير وراحا يسيران به في بطء واحتراس زائدين، هي بظهرها وهو بوجهه. وكان انتباهه طوال الوقت مركزا تركيزا خطيرا فوق وجه الطفلة النائمة في براءة الملائكة عله يلمح أي تغير بسيط يحدث لملامحها وينبئ عن قرب يقظتها، إذ كان خائفا خوف الموت أن تستيقظ ، لا لأنها ستأخذ وقتا طويلا لكي تعود إلى النوم، ولكن لأنه خيل إليه أنها لو استيقظت فستفسد الليلة كلها وتثور أعصابه ويتعكر مزاجه.
ولكنه كان أحيانا يرفع وجهه عن وجه البنت ويحدق في ملامح الأم محاولا أن يقرأ انفعالاتها. فالذي يحدث أمر غير عادي بالمرة ... أم تساعد طارق ليل مثله في نقل ابنتها ليخلو لهما الجو، أمر غير عادي تماما ... ولكن العجيب أنه لم يستطع أن يتبين أي تغيير خطير في ملامح الأم. كل ما استطاع أن يلاحظه أنها هي الأخرى تركز انتباهها على وجه البنت مخافة أن تستيقظ. ربما هذه طريقة النمساويين في الخجل.
ولحسن الحظ لم تستيقظ فيولا، رغم ارتطام السرير مرة بمنضدة الطعام القائمة في ناحية من الصالة. وحين وصل الموكب إلى باب حجرة نوم الطفلين، دلفت هي أولا من الباب، ودخل هو بحذر أشد، وفجأة غمغم صوت صغير حافل بالنوم: مامي.
وفي لمحة كان درش قد أنزل السرير من يده، وفي قفزة واحدة كان قد أصبح في الصالة، ومن ثم في حجرة النوم الأخرى التي كان بها منذ هنيهة. ولم يلتقط نفسه التالي إلا بعد أن أغلق الباب ووقف خلفه يتسمع أدق الأصوات، ويتنفس ببطء شديد وبهدوء حتى لا يطغى صوت تنفسه على سمعه. حدث كل هذا في لمحة خاطفة، وكأن الصوت الذي قال مامي كان صوت الزوج أو صوت رئيس عصابة مسلح بمدفع رشاش.
وبقلب يدق بالهلع مضى درش يتسمع، والتقطت أذناه المرهفتان حديثا قصيرا خافتا بين الأم التي استطاع أن يميز صوتها وبين أحد أطفالها، ربما البنت وربما الولد لم يكن يعرف أيهما، ولكنه لأمر ما تمنى أن تكون التي استيقظت هي البنت.
وخيل إليه أن ساعة طويلة قد مضت قبل أن تتحرك أكرة الباب الذي يحتمي خلفه، وتدخل المرأة وهي تكاد تموت على نفسها من الضحك.
وقالت له باستغراب: ما الذي أخافك؟
وأحس بالخجل، فقد أدرك لحظة سؤالها فقط أن ما فعله كان عملا دل على رعبه الشديد، وقال: أبدا ... أنا خفت؟ أبدا ... فقط كما تعلمين، لا أريد إحراجك إذا كان أحد الأطفال قد اكتشف وجودي. طبعا هذا لا يصح ... أليس كذلك؟
فقالت وقد جلست فوق السرير ومدت يدها تخلع حذاءها: اطمئن، هم لا يدركون شيئا. والآن لا تخف، لقد أصبحنا وحدنا. أليس كذلك؟ أنا وأنت فقط
وأعجبته كلماتها، كانت أول كلمات تقولها منذ أن تعارفا.
ويحس منها أنها فعلا تريده بصراحة ووضوح ودون أدنى مواربة.
وكان السؤال لا يزال يؤرقه، فهو خبير بالنساء، ويستطيع أن يقسم على كل مقدس أن هذه المرأة خام مائة في المائة وأنها ليست عابثة ولا مغامرة، فلماذا رضيت به؟ وحتى لو كان قد أعجبها وسحرها لماذا قبلت وهي الزوجة والأم أن يصحبها إلى شقتها بمثل تلك الصورة؟ لهذا حين نطقت كلماتها السابقة اطمأن وأحس أنه لو سألها أي سؤال، حتى ذاك السؤال، فلن تغضب ولن تتحرج من الإجابة عليه.
ورأى أنه من اللائق أن يخرج سؤاله بطريقة بريئة ومؤثرة لا تجعله يبدو في نظرها ساذجا أو محبا للاستطلاع، فمن صفات الرجل الكامل في نظره ألا يكون ساذجا أو محبا للاستطلاع. وهكذا وقف أمامها وهي تخلع جوربها، ووضع يديه في جيب بنطلونه وقال بلهجة مغرية وبنبرة آثرة: أنا كما ترين أحب الصراحة، وهناك أمر يحيرني جدا وأحب أن تكوني صريحة معي فيه.
فسألته بقلق بريء: ما هو؟ - السؤال هو بصراحة: لماذا قبلتني؟ أنا أعلم أنك لم تفعلي هذا على سبيل اللهو أو العبث. وأعلم كذلك أنك لا يمكن أن تكوني قد وقعت في حبي من أول نظرة. السؤال محرج جدا، وقد أبدو سخيفا في نظرك، ولكني أستحلفك أن تقولي لي لماذا؟
وضحكت بل خجلت، وتأكد أن خجلها خجل حقيقي فعلا مثل خجل المرأة في القاهرة وفي كل مكان، فقد كان مصحوبا باحمرار خديها وسقوط أجفانها فوق عينيها. - أبدا ليس محرجا بالمرة، ولك حق فيه. ولا أعرف كيف أقول لك ما أريد قوله ... ولكن ... أنت تعلم ... لا تؤنبني على هذا ولكنه الحقيقة: الحقيقة أننا هنا في الغرب نسمع عن الشرق كثيرا، وعن غموضه ورجاله وسحره، وطالما داعب خيالي الأمير الشرقي الأسمر. داعب خيالي وأنا بنت مراهقة، وحتى وأنا متزوجة وأم. وحين رأيتك خيل إلي أني عثرت عليه وأنها فرصة العمر. لا تلمني أرجوك، ولكنها فرصة العمر، ولو لم تكن أنت قد صعدت إلى الترام ورائي لهبطت أنا في المحطة التالية وعدت إليك. وقد كذبت عليك: إني أقيم مع زوجي فعلا، ولكنه سافر إلى كوبنهاجن من أسبوع، وهو موظف في الخطوط الجوية الإسكندنافية.
كانت تقول هذا وعيناه منخفضتان حائرتان بين تتبع عملية خلع جواربها وبين استراق النظر إلى ساقيه المنتصبتين أمامها. وكان كلامها لا ينساب انسيابا طبيعيا، أحيانا تتوقف ... وأحيانا تتردد ... وأحيانا تدغم الكلمات. وتوقفت برهة ثم رفعت إليه عينيها وواجهته قائلة: أهل أجبت عن سؤالك يا أميري الشرقي؟ - أجل يا امرأة أحلامي الأوروبية.
قال درش هذا وقلبه يخفق خفقات يعرفها تماما، تلك الخفقات التي يحسها حين يقدم على أمر رائع خطير، هي الأخرى كانت لها أحلامها في الرجل الشرقي الممتلئ بالرجولة ذي الجواري والحريم، وهو جاء خصيصا ليبحث عن المرأة الأوروبية ذات الشخصية والحضارة، فيا له من لقاء.
إنه ينتظر منها الكثير، وهي بدورها لا بد تنتظر منه الكثير. فمن أين يبدأ المقدمات؟ لا بد من عمل قليل من المقدمات. وبدأ درش يهيئ نفسه ولم يكن هذا سهلا، فالأحداث كانت كثيرة ومتتابعة ... ولم يكن لديه أي وقت لاستيعابها. ولا يزال لا يصدق كيف أن المرأة التي قابلها في الشارع منذ ساعة بلا أي أمل حتى في الحديث معها، كيف أصبحت الآن طوع بنانه. ولكن سواء أستوعب عقله الوضع أم لم يستوعبه، عليه أن يظل سيد الموقف، عليه أن يحدد بالضبط متى يبدأ في المقدمات.
ولكنه وجد نفسه بعد ثانية واحدة في غير حاجة إلى المقدمات بالمرة، إذ هي لم تكتف بخلع الجوارب، فقد خلعت كل ملابسها، ووقفت أمامه كما ولدتها أمها.
ولم يكن الانزعاج الذي أحس به درش انزعاجا عاديا. كان واقفا فجلس على الكرسي وراح يحدق في جسدها العاري وقد تبخرت من عقله كل مشاكل المقدمات. إيه. ما هي حكاية هذه المرأة بالضبط؟ فلتكن قد حلمت بأميرها الشرقي كما يحلو لها، ولكن هل هذه هي الطريقة المثلى لمعاملة الأمراء الشرقيين؟
وفك رباط عنقه، وخلع جاكتته ليريها أنه ليس أقل منها جرأة، غير أنه بعد أن فعل هذا وجد نفسه يسألها: أريد الذهاب إلى الحمام ... ممكن؟
لماذا الحمام؟ لم يكن يدري، كل ما كان يريده في تلك اللحظة هو بضع ثوان يلتقط فيها أنفاسه ويهضم ما حدث.
وقالت له وهي تغلق عينيها: أول باب على يمينك.
وخرج، وكان صحيحا ما قالته، فأول باب على يمينه كان باب حمام فعلا، فتحه ودخل. وظل يعسعس على مفتاح النور حتى وجده وأضاءه، ووقف يدير رأسه في كل اتجاه. كان الحمام صغيرا جدا، تماما مثل الحمامات في مصر، وكأن ذمم أصحاب البيوت ضيقها واحد في كل زمان ومكان، حمام تحس أنه يمت أيضا إلى عائلة تسكن في شقة مزدحمة صغيرة. ولم يتفرج درش على الحمام طويلا فقد راح يهيئ نفسه لاستعمال التواليت مع أنه كان متأكدا تماما أنه ليست به حاجة إلى استعماله، كل ما في الأمر أنه ما دام قد قال لها إنه يرغب في الذهاب إلى الحمام، فعليه أن يستعمل الحمام فعلا وكأنها ستراقبه من مكانها البعيد لتعرف إن كان قد ضحك عليها أم قال لها الحقيقة.
وبدأ درش يلاحظ أن هناك، في حذاء وجهه تماما يوجد حبل غسيل صغير ممتد بين حائطي الحمام، وهز كتفيه كمن يقول: كأننا يا بدر لا رحنا ولا جئنا. ففي حمام بيتهم أيضا يوجد حبل غسيل مثل هذا تعلق عليه زوجته ملابس ابنتهم الداخلية. ما فائدة أوروبا إذن إذا كان أناسها يستعملون نفس الأشياء التي نستعملها؟
غير أن ما استرعى انتباهه حقيقة هو أنه وجد الحبل يزدحم بعدد لا يحصى من الملابس الداخلية للأطفال أكثر من عشرين قطعة معلقة على حبل لا يتعدى المترين وكلها ملابس صغيرة في حجم الكف، وكأنها صنعت لترتديها عرائس أطفال . لا بد أن هذه المرأة نظيفة ونشيطة، كيف يا ترى تجد الوقت الذي توفق فيه بين عملها في الصباح والمساء وبين بيتها وهذه العناية التي توليها أولادها.
غير أن إعجابه بالمرأة لم يستمر طويلا، فقد لسعه شيء ما ... في هذه اللحظة فقط أدرك أن المرأة التي اصطحبته إلى منزلها حقيقة أم. وشيء غريب هذا! لقد نقل معها ابنتها، وحدثته طويلا عن أبنائها ولكنه أبدا لم يؤمن أنها أم إلا حين رأى هذا العدد الكبير من ملابس الأطفال الداخلية. هي أم ولها بيت وزوج وأولاد، والأعجب من هذا أنه ربما للمرة الأولى في حياته أيضا يدرك، في تلك اللحظة بالذات، إنه هو الآخر أب له بيت وزوجة وابنة لها ملابس داخلية مثل تلك الملابس التي تلاصق وجهه والتي تنفذ منها رائحة الصابون الذي غسلت به إلى خياشيمه.
وأحس أنه لم يعد في حاجة لاستعمال التواليت، فخرج، وذهب إلى حجرة النوم.
وحين فتح الباب ودخل لم يجدها عارية، كانت قد تمددت فوق السرير الذي صنع لشخص ونصف شخص، وغطت نفسها بملاءة السرير البيضاء، ولم يبق ظاهرا منها إلا وجهها وعيناها فقط، أو على وجه الدقة لم يبق ظاهرا منها إلا انفعال واحد التقطه درش من لحظة أن وضع قدمه في الحجرة ... انفعال تختلط فيه الرغبة بالاستسلام والأماني بالحقائق.
ودلف إلى جوارها في السرير وتأمل وجهها المبتسم ... كان به نمش صغير كرءوس الدبابيس لا يرى إلا عن قرب. وسمع دقا عاليا يتصاعد بجوار أذنه ويقلقه، والتفت ... كان المنبه الصغير هو الذي يرسل دقاته، فقال لها: هل باستطاعتنا أن نخرج هذا الشيء المزعج من الحجرة؟
وبدا أنها أفاقت قليلا من هيامها، وما لبثت أن قالت: لقد كدت أنسى، لا بد لي من ضبطه على السادسة. هل نسيت؟ لا بد لكي أصل إلى المكتب في الثامنة أن أستيقظ في السادسة.
ومضت تملأ جرس المنبه، وقالت بدلال وهي تضبط عقربه: الساعة الآن الثانية.
وحين انتهت أخذ منها المنبه ولفه في فوطة وجه ليخفي صوته، وقام من الفراش ووضعه في ركن الغرفة البعيد ليخمد أنفاسه نهائيا، وعاد إلى رقدته بجوارها. غير أنه ما كاد يستريح هنيهة حتى جاءته دقات المنبه منتظمة عالية في انتظامها، بل خيل إليه أنها أعلى مما كانت.
وتولته حالة عصبية، واحتضنها بقوة فقالت: ستكسر ظهري يا أفريقي.
أفريقي مين! لا ريب أنها تقول هذا لتستثير رجولته، أو بالأحرى مما تتخيله هي عن فحولة الأفريقي الشرقي المعهودة. لا بد إذن من أن يرفع درش رأس أفريقيا والشرق عاليا، وإلا خيب آمالها وجعل رقبة أفريقيا كالسمسمة. وكاد درش يضحك وقد خيل إليه أن شعوب أفريقيا مثلا قد اجتمعت كلها وانتخبته ليمثل رجالها في تلك المباراة، بين رجل أفريقيا وامرأة أوروبا، ولكنه لم يضحك. نظر إلى جسده هذا الذي سيدخل المباراة الخالدة فلم يجد فيه من علامات الأفريقيين شيئا كثيرا؛ فلا هو زنجي اللون، ولا قامته طول أشجار جوز الهند، ولا صدره مليء بالشعر الكث كألياف النخيل، وقال لها: هل تعتقدين أن الشرقيين والأفريقيين يعني ...؟!
قالت وهي تموء: ألا تعتقد أنت هذا؟
وضمها درش بحنان أول الأمر، ولكنه تذكر أن عليه أن يكون «أفريقيا»، فقسا في ضمته وقبلها قبلة متوحشة، فما كان منها إلا أن ضمته هي الأخرى بقسوة وقبلته.
وتضايق بعض الشيء: لماذا ترقد مستسلمة وتدع له مهمة الرجل؟ لماذا لا تتمنع قليلا؟ إن التمنع يضفي على الأنثى أنوثة ويكسب الرجل رجولة، وإيجابيتها هذه الزائدة عن الحد تضفي على أنوثتها رجولة، وعلى رجولته سلبية الأنثى، ولكن، أليس هذا هو ما أردته يا درش تماما؟ ألم ترد امرأة إيجابية تعطي نفسها بكل قوتها وإرادتها؟
وحدثت ضجة موسيقية في الصالة، ودقت الساعة نصف الساعة.
فقال لها: يبدو أن الساعات هنا أكثر من اللازم.
ولكنه في نفس الوقت كان يفكر في شيء آخر ... معنى هذه الدقة الثانية والنصف، الوقت يمضي بسرعة وهي موظفة، ودرش هو الآخر موظف ويعلم أهمية المواظبة على مواعيد الحضور. بل من المحتمل جدا أن يكون رئيسها في الشركة مثل رئيسه الدكتور نوفل ذي الشعر المشوش الذي يحمل دكتوراه لا يدري أحد فيم، والذي كل همه أن يراجع كشف الحضور والانصراف بنفسه، وكأنه أخذ الدكتوراه في مراجعة تلك الكشوف.
ولا يدري درش لم ألقى نظرة جانبية أخرى عليها، كانت صحيح عارية ولها ابتسامة لا معنى لها وبشرة صلبة بعض الشيء وأصابع رفيعة أنهكتها الكتابة على الآلة الكاتبة، ولكنها موظفة مثله.
وفي الثانية التالية كان ثائرا على نفسه، فالطريق الذي كانت تسلكه أفكاره طريق إذا داوم على السير فيه لانتهى الأمر بكارثة. عليه أن يركز خواطره ولا يجعلها تتشتت وتتبعثر. عليه أن يصم أذنيه ويغمض عينيه، ولتكن موظفة أو عاطلة، المهم أنها الآن أمامه أنثى عارية من دم ولحم، على فراش واحد معه في حجرة مغلقة، وقد عثر عليها بعد طول عناء وطول يأس.
وبدأ درش يعاملها كأنثى، أخذ يدها وقبلها ووضعها على خده، وأحس ببرودة معدنية تنغمش جلده فرفع يدها ... كان في أصبعها البنصر دبلة، فترك هذه اليد وتناول الأخرى وراح يجريها على خده. ولكنه في نفس الوقت كان يفكر في زوجها، لا بد أنه هو الشخص الذي رأى صورته موضوعة في برواز الكومودينو المجاور للسرير. وتحرك رأسه حتى أصبح في استطاعته أن يواجهه، كان سمينا بعض الشيء ويبتسم في سذاجة إذ لم يكن هناك أبدا أي داع للابتسام، وكان حليق اللحية والشارب وشعره خفيف، وقال لها: أنت متأكدة أن زوجك لن يأتي الليلة؟
قالت وهي تضمه: طبعا متأكدة، هو لن يأتي إلا في الأسبوع القادم. ذكر لي في خطابه الذي وصلني أمس.
ومضت تتكلم عن الخطاب.
ولم يصغ إليها، كان في ذلك الوقت يلعن نفسه ... ما له هو وما لزوجها وخطابه؟ لماذا يخرج عن «الموضوع» باستمرار. الزمن الذي أمامه محدد وقد أضاع وقتا كثيرا، وهي كانت أذكى منه، فهي لم تسأله أبدا عن شخصه ولا شغلت نفسها كثيرا بأحواله ولا يهمها إن كان متزوجا أم أرمل، كل ما يهمها أنها الآن معه في حجرة مغلقة واحدة.
وحل صمت.
أثقل صمت. وحاول درش أن يقطعه بحركة، بضمة أو حتى بقبلة، حتى هدأت تماما ونسيت ما كان. وما كاد هذا يحدث حتى هبط عليه خاطر عبقري فسألها: هل عندك مشروبات؟ - مشروبات؟ - أجل، نبيذ، براندي، ويسكي، أو بيرة حتى.
وضمت حاجبيها مفكرة بينما كان هو قد بدأ يرتجف بعصبية حادة كأنما مصيره معلق بالكلمة التي سوف تخرج من فمها. وبدأ عليه الارتياح الشديد حين قالت: أعتقد أن عندي بعض البراندي. - أين؟ - هنا.
قالت هذا وهي تشير له دون أن تتحرك إلى دولاب صغير قائم في ركن الغرفة. وبابتهاج زائد قام وفتح الدولاب وجرد محتوياته بنظرة، وفي قاعه عثر على زجاجة البراندي.
لم يكن بها الكثير، كأسان أو ثلاث تعوم فوقها فلينة ساقطة. وبينما كانت تقول له الكوب فوق الدولاب كان هو قد رفع الزجاجة إلى فمه، ودلق محتوياتها في جوفه مع أنه لا يطيق طعمها.
وطبعا لم يسر مفعولها في جسده حالا ... كان الأمر يستلزم بعض الوقت، ولكنه أحس بنفسه منتشيا حتى قبل أن يصل الخمر إلى رأسه. فجأة بدا له الأمر في غاية الروعة: امرأة جميلة، وليلة سوف يذكرها إلى آخر العمر، وجسد عار أبيض مشرب بحمرة، تماما مثلما يريده، وأبواب الجنة مفتوحة على مصاريعها أمامه، فماذا ينتظر؟
وذهب إليها في الفراش، واحتضنها وهو جالس، ورفع رأسها حتى أصبحت في متناول فمه، ومضى يقبلها ويمعن في إثارتها بتقبيلها في عنقها وأذنيها، ولم تكن هي في حاجة لكل هذا.
وقبل أن يسمع هو شيئا قالت له: الطفلة!
وقبل أن يسألها عادت تقول: اسمع ...
ومن بعيد وصلت إلى أذنيه ضجة صغيرة مكتومة يعرفها تمام المعرفة ... ضجة الطفل حين يصحو من النوم باكيا فجأة، وبلا سابق إنذار.
وقالت: وكأنها لا تدري حقيقة ما تفعل: ماذا أفعل؟
غير أنها قامت ولفت الملاءة البيضاء حول جسدها حتى بدت كالشبح الأبيض، ثم خرجت ملهوفة من الغرفة.
وما إن أغلقت الباب وراءها حتى أحس بنوع خفي من الارتياح، ومضى يدور في الغرفة على غير هدى ويعبث بمحتوياتها بحب استطلاع الأطفال حين يتركون وحدهم في البيت الخالي. وحتى حقيبة يدها فتحها، كانت تفوح منها رائحة غريبة ... خليط من العطر القديم المختلط برائحة الجلد والعرق والبودرة، وكانت فيها بطاقتها الشخصية، وكانت تبدو كالمراهقة في الصورة الصغيرة الملصقة بالبطاقة، ثم قبضة مفاتيح كثيرة، كل ما كان يميزها عن مفاتيح أي ربة بيت أن بينها مفتاحا أدرك أنه مفتاح درج مكتبها في العمل؛ فقد كان يشبه إلى حد كبير مفتاح درج مكتبه «الييل»، بل إنه أخرج سلسلة مفاتيحه من جيبه وقارن بين المفتاحين وضحك، فمجرد التشابه بين المفتاحين أضحكه، إذ في ذلك الوقت كان قد بدأ يحس بالسخونة تسري في رأسه، وبشيء يملأ تلك الحفرة الواسعة التي كان يشعر بها طوال الوقت عميقة جوفاء في صدره. وعادت وهي لا تزال ملتفة بالملاءة البيضاء، ولو كانت قد بقيت على حالها لمضى في إقدامه إلى نهايته، ولكنها حتى قبل أن تصل إلى الفراش رفعت الملاءة عن جسدها وألقتها جانبا، وبدت سخية في عريها، وأكمل طريقه إليها واحتواها بحماس مكسور الحدة. وقبل أن يحدث شيء آخر لمحها تبتسم وكأنها تريد أن تضحك، فسألها بانفعال: ماذا يضحك؟ - البنت كانت تريد الذهاب إلى التواليت.
وقال في سره وهو يلعنها: وماذا يضحك في شيء طبيعي كهذا؟ ولكنه - مجاملة لها - جاراها في ضحكها، وقالت هي: ألفريد هو الذي يفعل هذا في العادة. - ألفريد مين؟ - ألفريد زوجي، هو الذي يستيقظ على بكائهم ويذهب بهم إلى التواليت.
ولم تكد تقول هذا حتى كان درش يقهقه، وأخذت تتأمله وهو ينثني ويعتدل ويضحك، ثم سألته بعد أن انتهى! - لماذا تضحك؟
فقال وهو يكاد يموت من الضحك: لأنني أحسن من ألفريد. - لماذا؟
وكاد يقول لها: لأنني ليس من مهامي كزوج أن أذهب الأولاد إلى التواليت، ولكنه لم يقلها. ليس هذا وقته، الوقت وقت الفراش.
وفي الفراش حاول درش جاهدا أن يطرد عن نفسه كل الأفكار التي أرادت أن تأخذ بمجامع عقله ولكنه فشل. كان أحيانا يحيا معها في الموقف، وأحيانا يحس بأن عقله قد انفصل عنه ووقف قريبا من سقف الغرفة يراقبها ويراقبه. لا شك أن المشهد حينئذ سيكون مسليا للغاية. هو شرقي وهي أوروبية، وكلاهما متزوج، وكلاهما موظف، وكلاهما قد طال غيابه عن زوجه ورفيقه، وكلاهما يحاول أن ينال الآخر ويبذل في سبيل ذلك جهد المستميت.
وكل شيء يدور في صمت: الأعصاب تتوتر وترتجف، والعرق الصغير ينبت ويتبخر، والنظرات تخجل أن تلتقي فإذا التقت بدت جريئة لا خجل فيها، والضغطات الهينة أحيانا المجنونة في أحيان أخرى، وعيناه حين ارتفع صراخ طفلها مرة أخرى ... عيناه حين راحتا تأمرانها وترجوانها أن تلزم مكانها وألا تقوم وهو يحاول أن يجد في تفضيلها له على طفلها علامة حب أو رغبة خاصة. وتفضله على طفلها وتبقى فيتمنى لو كانت قد حاولت فعلا أن تقوم ومنعها هو بالقوة.
كل شيء يدور في صمت لا تقطعه سوى دقات المنبه العنيدة التي كانت تشق نسيج الثوب الملفوف حوله وتعبر فضاء الحجرة وتصر على الوصول إلى فتحات أذانه فتملؤها، وساعته في يده مقلوبة، ولكنه دائما يحاول عدلها لكي يعرف الوقت، والدقائق تمضي بطيئة جدا، ومع هذا فالوقت يمضي بسرعة هوجاء، ويقترب اقترابا جنونيا من السادسة حيث يجب عليها أن تستعد لمغادرة البيت.
كان هذا كله فوق احتماله، وأيضا فوق احتمالها. لقد حاولا المستحيل، حاول درش أن يغمض عينيه عن العالم كله إلا عنها وعما يدور في الغرفة، وحاولت هي بكل طاقاتها أن تساعده في إغماض عينيه، وليتها لم تحاول، ليتها لم تحاول مساعدته، ليتها فقط تكف عن ابتسامتها الممدودة المرتسمة أكثر من اللازم على فمها، بل والسائلة من فمها أيضا كروج أسيء وضعه. ليتها حاولت هذا، فبعد كفاح رهيب كان درش لا يزال يتصبب عرقا وخزيا، ولا يزال يلهث، وهي لا تزال تساعده وتبتسم.
وقال درش: لندخن سيجارة.
قالت: أجل ندخن.
وأعطاها سيجارة، أشعلتها بعد أن أدارتها لتعرف ماركتها، وبدت مسرورة بماركتها الثمينة، وأشعل هو سيجارة من الناحية التي فيها الفم الفل. ولو كان قد حدث هذا في أول الليل لألقى السيجارة وأشعل غيرها، ولكن لم يعد ثمة داع للتظاهر ... قطع الفم وأشعلها مرة أخرى.
وجلسا يدخنان.
وحاول أن يفكر بهدوء فيها، فوجد أن من المستحيل عليه حتى أن يفكر فيها. فكلما فكر فيها تأزم أكثر وعمقت الحفرة التي يحسها كائنة في صدره. بل ما حدث هو أنه وجد أنه كلما بعد عنها بأفكاره ارتاح، كلما أحس أنه هو نفسه، وأنه طبيعي جدا، وأن إرادته وأعصابه وجسده ملكه.
وهكذا وجد درش نفسه يفكر في ننوسته، وننوسته هي أنيسة التي يسميها أحيانا نوسته وننوسته وسنسنته إلى آخر عشرات الأسماء التي ابتكرها لها ... ننوسته التي تركها هناك في شقة متواضعة من شقق شارع ابن خلدون. بل ووجد نفسه يفكر بالذات في وقفتها بالمطبخ حين يجيء هو بهدوء من الخلف ويلف ذراعيه حولها، فتنزعج لثانية واحدة وتخاف، ولكنها في الثانية التالية تأمن إليه، وتحس حينئذ أنه الرجل الوحيد في العالم، وأنها المرأة الوحيدة التي تصلح له.
ولبرهة خاطفة ظن درش أنه يحلم، ولكنه كان فعلا يحيط امرأة بذراعيه، وكان يغمض عينيه، وخاف لو تحركت المرأة أن تطير نوسة من خياله، فأمرها ألا تتحرك، بل غمغم بكلمات لا تكاد تسمع، وحبذا لو أطفأت النور.
ولم ير شيئا، فقد كان لا يزال مغمضا عينيه، فقط سمع تكة زر النور المعلق بجوار الفرش وهو يطفأ، وحتى بعد أن اطمأن إلى أن الظلمة قد سادت الحجرة لم يفتح عينيه. كان لا يريد أن يرى شيئا، فهو لا يرى إلا فراشه ونوسته، ولا يسمع إلا همساتها الرقيقة له، وأصوات بائعي الفول «الحراتي» حين ينادون عليه من بعيد في شارع ابن خلدون. •••
وتنفس الصعداء وهو يربط حذاءه ... كان قد ارتدى كل ملابسه ولم يبق إلا أن يمر بالمشط على شعره ويغادر الحجرة والبيت، وكل ما كان يفكر فيه في تلك اللحظة هو مشكلة وصوله إلى فندقه؛ فالساعة كانت قد جاوزت الخامسة، وكيف يستطيع في مثل تلك الساعة، ومن تلك الضاحية البعيدة أن يصل إلى قلب فيينا حيث فندق فيكتوريا، الذي ينزل فيه؟
وسألها، قالت: في آخر الشارع يوجد موقف للتاكسي.
ونظر إليها وهي تجيب، ولأول مرة أحس أنه ينظر لها بقوة وسيطرة، كان قد اجتاز الأزمة بتفوق، كان وجهها هادئا مستريحا يحفل بالاكتفاء والابتسامة الزائدة عن حدها قد اختفت تماما من ملامحه.
وكاد يؤنبها بينه وبين نفسه على هذا الإحساس، لولا أنه كان قد انتهى تماما منها ولم تعد تهمه في شيء.
وبعد أن مر بالمشط على شعره، وتحسس كالعادة علبة سجائره وسلسلة مفاتيحه واطمأن إلى أن كل شيء على ما يرام، لم يبق أمامه إلا أن يغادر البيت وتنتهي الليلة، خاصة وأنها كانت قد انتهت فعلا وبدأت أضواء الصباح النابتة الزرقاء تمتد إلى الحجرة مخترقة حجب الشيش والزجاج.
ولكنه لا يدري لم وقف محرجا يتردد بين الخروج والبقاء. لقد تم له - ولو بعد مآس كثيرة - كل ما أراده، فما الداعي لكل هذا التردد بين الذهاب والبقاء؟
وأي شيء يريده؟ هو نفسه لم يكن يدري ... ولكنه كان يحس بشيء يؤرقه. لا، لم تكن خيبة الأمل، ولم يكن كذلك تأنيب الضمير، كان بالتأكيد شيئا آخر.
لقد كان طول الوقت الذي مضى مع نوسة زوجته، كان معها بجسده وعقله وكل ذرة فيه. ولولا هذا لما استطاع أن يلعب دور الرجل، بل دور الأفريقي. وهذه المرأة الراقدة تجتر إحساسها بالشبع كانت تظن أنه معها. لا وحياتك لم أكن معك، أما أنت يا نوسة، فلو عرفت ما حدث لظننت أني قد أخللت بعهدي لك، هراء لم يحدث شيء من هذا، لقد كنت طول الوقت معك.
أفكار صغيرة دقيقة لم يكن يستطيع أن يقبض على إحداها بمفرده، ولكنها كانت لا تكف عن مهاجمته ووخز جنبات عقله وخزا رفيعا حادا لا يدمي، ولكنه يوجع ويؤلم.
ربما لهذا السبب أقدم على هذا القول الذي بدا في الحقيقة سخيفا لا معنى له ... طرأ له أن يقول للمرأة إنه لم يكن معها ولكنه كان مع زوجته. وأول الأمر استنكر الأمر بشدة، ولكن عدم المبالاة كان قد استولى عليه وأصبح يحس أن باستطاعته أن يتصرف معها بمطلق حريته. يقول لها كل ما يطرأ له، ويفعل كل ما يريد فعله، ثم إنه لن يراها بعد الآن وهي أيضا لن تراه، هذا آخر لقاء يتم بينهما في الحياة، فلماذا لا يقول لها الحقيقة؟ وماذا يهمه لو غضبت وبكت ما دام ما يقوله صحيحا، وما دام حقيقيا، وما دام سيريح به ضميره؟
وهم أن يقول لها هذا، ولكن يبدو أن الجرأة قد خانته في آخر لحظة ... فقد خرجت كلمات أخرى من فمه. طلب منها أن تعطيه رقم تليفونها، ووعدها بأن يتصل بها في المساء، وطبعا لم تكن لديه أية نية للاتصال بها.
وكانت عيناه مغمضتين وهي تمليه، ولكنها بعد أن انتهت ولم تحدث حركة في الحجرة تنبئ عن خروجه ولا بدرت منه كلمة وداع، فتحت عينيها، ولما رأته واقفا تلك الوقفة الغريبة ابتسمت له نفس ابتسامتها الممدودة.
وأحس أنها محرجة هي الأخرى أن تسأله عن الداعي لبقائه، وكل شيء يهيب به أن يذهب.
وما إن لمح ابتسامتها الممدودة حتى زايله التردد، وبدأ يستجمع نفسه ليقول لها الحقيقة.
غير أنه فوجئ بابتسامتها تتسع وتتسع حتى تغمر وجهها كله، ثم تنقلب إلى ضحكة بدت غريبة باردة في تلك الساعة المبكرة من الصباح، وبعد ليلة حافلة كتلك، وعلى هذا بدلا من أن يقول لها ذلك الشيء سألها عما يدفعها إلى الضحك، فقالت وقد عادت إلى إغلاق عينيها: إنه لأمر مخجل. - قوليه. - مخجل جدا.
كان يقول هذا بلهجة الآمر، ولكنه خاف أن تستنكر لهجته فلا تجيبه.
فعاد يقول: أرجوك، أعتقد أنه لم يعد بيننا ثمة مجال للخجل، قوليه.
ولم تجب.
فتحت عينيها واستدارت وهي لا تزال راقدة وراحت تحدق في صورة زوجها الموضوعة على المنضدة القريبة من الفراش، تحدق عن عمد فيها، وما لبثت أن أخرجت يدها العارية من تحت الملاءة وتناولت الصورة وقربتها إليها.
وحينئذ نطقت وقالت: أتعلم أني كنت معه. - مع من؟ - مع ألفريد. - متى؟ - حين كنت معك.
وأكملت إجابتها بضحكة، نفس الضحكة التي بدأت بها الحديث.
وظلت ممسكة بالصورة بيدها وقد حجبت الصورة وجهها، ولم يعد باديا منها إلا ذراعها التي بدت في ذلك الخليط من النور الكهربي وضوء ما قبل الشروق باهتا شاحبا يكسوه شعر أصفر خفيف.
وقبلته.
قبلت صورة ألفريد، وما لبثت أن أعادتها إلى مكانها، وقالت وهي تستدير في الفراش ليصبح وجهها إلى الحائط وظهرها إلى درش - وكأنما هي الأخرى لم يعد يهمها من أمره شيئا - قالت في شبه غمغمة نائمة: لم أكن أعلم أنه رجلي الأفريقي الذي كنت أبحث عنه.
ولم ير درش شيئا بعد هذا، فقد أحس بغليان يملأ رأسه، واستدار على أعقابه فجأة، وخرج من المنزل غاضبا وكأنه أهين.
كانت الدنيا في الخارج تحفل بزهزهة ما قبل الشروق. كل شيء هادئ وساكن يتحفز مستعدا للنهار الجديد القادم. كل شيء جديد: اليوم جديد، والناس جدد، وحتى الهواء طازج لم يتنفسه أحد بعد. وكانت البقعة لا تزال خالية من المارة، والضوء الرمادي يكتسح أمامه أضواء مصابيح الشارع فيخمد بريقها ويجعلها تبدو كالثمار التي فات أوانها.
وقبل أن يجتاز آخر بلوك في المبنى سمع درش جرس منبه يدق من بعيد في إصرار مكتوم. لا شك أنه منبهها، ولا شك أنها الآن تناضل إرهاقها وسهرها والدفء، وتحاول أن تغادر فراشها لتلحق بعملها ودنياها.
وأحس درش أنه لم يعد غاضبا عليها، وحتى لم يعد غاضبا على نفسه. كل ما أصبح يشغله في تلك اللحظة هو شعور كان قد بدأ ينبثق في نفسه وحنين غريب جارف إلى بلده، وعائلته الصغيرة، والدنيا الواسعة العريضة التي جاء منها.
القاهرة
يونيو 1960
صفحه نامشخص