نزعة فکر اروپایی در قرن نوزدهم
نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر
ژانرها
هنالك وراء المشاهد التي تتمثل أمامنا في الحوادث الخارجية، والتقلبات التي يكشف لنا التاريخ عنها جلية أمام حواسنا، يقع العالم الخفي، عالم الرغبات والبواعث، ومحركات الفكر، متبوعا بالانفعالات النفسية وقوى الحياة التي تنتج تلك الظاهرات أو تصحبها.
هنالك وراء مظاهر الحياة، نجد العالم الخفي، عالم الفكر، وما كان للتاريخ - حسب ما يفهم اليوم من معناه في اللغات الحديثة - أن يكون تاريخا حقا حتى يتناول الحقائق والحوادث متتابعة متلاحقة، متواصلة غير مفصومة الحلقات، فيظهرها لنا مترابطة الأسباب، جماعها عائد إلى قصد أو غرض ما، فيرجع بنا إلى الماضي سعيا إلى علة جوهرية، أو يسوقنا إلى الأمام ابتغاء غاية محدودة، كذلك الحال في محركات الفكر وبواعثه، والرغبات وقوى الحياة التي تقع وراء الحوادث الظاهرة؛ فإنها تحتاج للاتصال، وأن تظهر على حال من النظام والتتابع حتى نستطيع أن نبلغ منها بفهم، أو نتقصاها بتأريخ ووضع.
على أن ذلك العنصر الخفي، عنصر الفكر، لهو الذي جمع بين شتاتها، ووصل بين أطرافها، وهو الذي يجب على المؤرخ - إذ يتصدى للكشف عن هذه الحقائق - أن يستوعب شارده ووارده. والفكر وحده، مهما تعددت مظاهره، وتنوعت مشاهده، سواء أكان مبدأ للعمل وبذل الجهد، أو واسطة يتلوها التأمل والاستبصار، في مستطاعه أن ينظم المتفرقات المبددة، ويربط بين فروعها، ويجمع بين شتاتها، وفي طوق استطاعته أن يحرك ما ليس بمتحرك، وأن يدفع بالحركة إلى الأمام ما هو ثابت، لا متقدم له ولا متأخر. ولا جرم أنك إن استطعت أن تذهب إلى الدنيا بعالم الفكر؛ فإنك لا تلبث أن تجد أن اطراد النسق، ووحدة الوتيرة، والتجانس التام قد أصبح المبدأ في نظام الطبيعة.
وهذا القول قد يظهر للسواد الأعظم من الناس غريبا، وفيه كثير من التطرف والجرأة. أما أولئك فهم الذين يتدبرون ظاهرة الطبيعة العظمى أكثر من تدبرهم تلك الحدود الضيقة التي ينحصر فيها عمل الإنسان ونشاطه ودائرة تبصره، على أن بضعة ملاحظات لتكفي للدلالة على أن ما أوقن به لا ينافي وجهة النظر التي ينظرون؛ فقد يقول البعض: إننا نجد، بعيدا عن عالم الفكر الإنساني برمته، أن للأرض تاريخا، وأن للنظام الشمسي تدرجا ونشوءا، وأن النشوء على نظريات العلم الحديث هو المبدأ الأوحد الذي يخضع له العالمان: الحي، وغير الحي، وأن السكون والتجانس لا وجود لهما في الكون، وأنك أينما وليت وجهك باحثا في نواحي الطبيعة لا تقع إلا على ضروب من التغير، وأوجه من الحركة.
ولكن ألا يعرفون أن التغيير والحركة وحدهما لا يبعثان على وضع التاريخ وتكوينه؟ فإن التغيير والحركة ليصبحان من الاطراد والثبات على نمط معين، بحيث يكون حكمهما في الطبيعة حكم السكون التام، إذا تكرر وقوعهما متعاقبا على وتيرة واحدة، وشكل غير متناه، أو إذا لم تحدث الحركة شيئا زائدا على ماهيتها، بأن يكون ذلك الشيء الزائد على ماهية الحركة أكبر خطرا، أو أحسن صفة من نقطة الابتداء، ولكن مصطلحات الكلام إذ نستعملها لتدل على ذلك الشيء الذي نخصه «بعظم الخطر» و«حسن الصفة»، تلك التي تحتاج في المقارنة والقياس إلى كائن مفكر يجعل لشيء من الخطر والعظم ما ليس لغيره، ويحكم على الأشياء بالقياس على أمثال عليا يتخذها قاعدة لأحكامه. جماع هذه المعاني ليست بكائنة في تضاعيف الموجودات أو ظاهرات الطبيعة ذاتها، بل إنك لا تجد لها من أثر إلا في ثنيات العقل المفكر وحده. وقد يصح أن يكون في مقدور سلسلة من التغيرات الآلية - الميكانيكية - غير العاقلة، أن تستحدث أعدادا لا نهاية لها، أو صورا لا نهاية لتنوعها.
غير أن النهج الطبعي لا يمكن أن يصبح تاريخا إلا إذا بلغ حدا عنده يستطيع عقل مفكر أن يفقه منه طريقة الانتقال من حالة الوحدة إلى حالة التضاعيف والكثرة، أو أن يستوعب منه طريقة إبراز تلك الصور التنوعية الشتى، أو أن يكشف عما إذا كان من شأن تلك الظاهرة الطبعية أن تنتج شيئا ماديا ذا قيمة، أو أن تنتج اتصالا بفائدة معينة، أو أن يستشف منها ضررا يسبب خسارة، أو نفعا يحدث كسبا.
فالرقاص إذ يمضي في الحركة يمنة ويسرة على نمط واحد غير ذي انتهاء، والسيار إذ يتحرك حول الشمس مكررا حركته إلى لا آخر ولا قصد، والجوهر الفرد إذ يهتز متراوحا في مكان معين؛ جماع هذه الأشياء لا تبعث فينا شيئا من حب العناية بها لأبعد من معرفة القانون الرياضي الذي يضبط حركاتها، ويحملنا دائما على أن نستوعبها عقليا؛ أي نفكر فيها.
فاتحاد عدد غير متناه من هذه الحركات الأولية لا يبعث فينا شيئا من العناية به، ما لم نعتقد أن من اتحاد مثل هذا العدد قد ينتج شيء جديد غير مرئي؛ شيء ينبه فينا الشعور بحس من الجمال أو الفائدة إذا عرفناه وملكناه، شيء ذو قيمة غالية في نظر العقل المفكر، مهما كان المعنى الذي يؤديه لنا اصطلاح «العقل المفكر» كبيرا أم صغيرا، عظيما أم حقيرا.
غير أننا إذ ننظر في العالم غير الحي، فنجد أن نهج الطبيعة في التغير وعدم الثبات يبعث فينا شيئا من اللذة والعناية به، ونلحظ أن لذلك العالم تاريخا ترجع معرفته كما يعود استكناهه إلى عقل مفكر يدونه ويتفهمه وينميه ويقدره، فإلى أي حد تتضاعف تلك اللذة، وتذهب هذه العناية، إذا ما نظرنا في أعمال العالم الإنساني؛ حيث يصبح الإنسان أول مصدر للعمل، فضلا عن أنه القوة المفكرة وينبوعها، ما دام ذاك مبلغ لذتنا وعنايتنا من النظر في العالم غير الحي!
فإذا لم يكن في مستطاع السنين وتعاقبها، والعصور وتلاحقها، أن تحدث تغيرا ما، وإذا لم يكن في مقدور سنن الوجود ونظام الحياة إلا أن يتكرر وقوعها على نمط واحد غير متناه؛ فلا جرم أن هنالك يتعطل التاريخ، ويمسك عنه أن يبعث فينا من اللذة ما يسوقنا إلى العناية به؛ فإن لقبائل أفريقية المستوحشة تاريخا، ولكن تاريخها قد يصبح معروفا برمته إذا وقفنا على نظام حياتهم اليومية أو السنوية على الأقل، أو نظام حياتهم خلال جيل على الأكثر.
صفحه نامشخص