وبدهي أن الحي الذي ينتج عن تلاقح فردين مختلفين عانى كل منهما ظروفا وكابد تجارب لم يعلنها الآخر، يحصل على امتيازات لا يحصل عليها ذلك الذي نشأ من فرد واحد؛ فالأول يولد وبه قبول للاختلاف والتغاير، ويكون حاصلا على كفايات تجعله أسرع في التطور.
فهذا هو معنى ظهور الجنسين في الحيوانات والنباتات العليا، فإذا التقى حي نشأ من فردين بحي آخر نشأ من فرد واحد تغلب الأول على الثاني في تنازع البقاء؛ لأنه أكفأ منه وأميز؛ لحصوله على كفايات اثنين، في حين أن ذاك لم يحصل إلا على كفايات فرد واحد.
وهنا يجب أن نقف هنيهة لنرى صفات الأنثى والذكر في الحيوان وأثرهما في التطور؛ فصفات الأنثى هي صفات البيضة، وهي الركود والبطء في الحركة، أما صفات الذكر فهي صفات الجرثومة المنوية، وهي النشاط والانبعاث والطلب؛ فذكورة الحيوان نشيطة خفيفة عادية، أما الإناث فراكدة بطيئة مستكينة، ولعل الأصل في ذلك أن البيضة أكبر من الجرثومة المنوية، فمن الاقتصاد أن تتحرك الجرثومة وتبقى البيضة في مكانها تتلقاها.
ومما هو ذو دلالة في معنى التناسل، أن بعض الأحياء تموت أو تقتل عند ظهور نسلها؛ فالقمح والذرة يموتان بظهور الحب، وبعض الحيوانات لا يخرج منها بيضها إلا بعد تمزيق بطنها، فتموت الأم على الأثر، وأنثى العنكبوت وأنثى العقرب كلتاهما تأكل الذكر بعد أن ينتهي من التلقيح، وهذا يتسق والنظرية التي ذكرناها في أول هذا الفصل، وهي أن التناسل ضرب من النمو يقصد به تخليد النوع، فما دام النوع قد ضمن بقاؤه بظهور النسل لم يعد من المهم بقاء الأبوين أو أحدهما إلا حيث تقتضي العناية بالنسل وجودهما.
بل ربما يكون موت الأبوين ضرورة يقتضيها بقاء النوع؛ لأنه ليس من مصلحة النسل الجديد أن يزاحمه على الغذاء الجيل السابق؛ لأنه يقتله - عندئذ - ويحرمه غذاءه، في حين أن ظهور النسل الجديد وبقاءه أنفع للنوع من بقاء الجيل السابق وأقبل للتطور منه، فمن مصلحته ألا يجد ما يزاحمه على البقاء وهو بعد في الطفولة.
وهذا هو معنى الموت وفائدته الكبرى لجميع الأحياء العليا؛ فالموت عامل من عوامل الحياة، والأحياء الدنيا لا تعرف الموت للآن؛ فالأميبة والنقاعيات خالدة، ولكننا نحن نموت لأننا أرقى منها، فإن نظرية التطور تقول بأن الجيل الجديد يفضل الجيل السابق؛ فأولادنا أفضل منا، فليس من مصلحتهم أن نعيش معهم ونزاحمهم على العيش، بل المصلحة أن نخلي لهم الميدان، وهذا ما تقوله وتفعله سائر الحيوانات العليا.
ولينظر القارئ كيف يلقي أكثر السمك وجميع القشريات والحيوانات الرخوة والشائكة والجوفاء بيضها في الماء ولا تعنى به، ثم كيف تتدرج العناية إلى أن تبلغ أقصاها في الإنسان، وأن هذه العناية لا تزال ناقصة في بعض الحيوانات العليا؛ إذ إن الأم تأكل أحيانا بعض أولادها، ومما هو ذو دلالة ويومئ إلى ذكرى قديمة سيئة أن الكلبة والذئبة كلتيهما تطرد الذكر من الدخول على جرائها؛ فالغريزة الأبوية لم تكمل للآن في الذئب أو الكلب.
والغريزة الجنسية لم تبلغ نهايتها، والحيوانات جميعها في تطور مستمر.
وإلى التناسل، أو بالأحرى إلى شهوة التناسل، يعزى الصوت وما تلاه من اللغة في الإنسان؛ فإن غاية الصوت الأولى النداء للأنثى، وذكران الطيور لا تغني إلا رغبة في اجتذاب الأنثى إليها.
ثم إلى التناسل قد تعزى ألوان الطيور وريشها المختلف الزاهي؛ فإن الأنثى تنتخب الذكر الذي يتطوس فتعجب بريشه وصوته، ومن رأى الدندي وهو يرف ويتبختر أمام أنثاه، أو رآه وهو يقاتل دنديا آخر لأجل الأنثى، عرف قيمة الانتخاب الجنسي.
صفحه نامشخص