ومما يساعدنا على درس التطور أن الأحياء الدنيا لا تزال موجودة، فإذا نحن عرضنا أحياء العالم الباقية إلى الآن وجدنا فيها ما يدل على التطور دون حاجة إلى الرجوع إلى المتحجرات في طبقات قشرة الأرض، ولكن هذه المتحجرات تنفي أقل شبهة تعترينا عن التطور؛ فهي تاريخ قديم كتبته يد الطبيعة نعرف منه كيف نشأنا، وكيف ارتقينا إلى حالنا الحاضرة.
ومما يلاحظ أن كثيرا من الأحياء الدنيا لم ينقرض، مع أنه نشأ منذ نشأت الحياة على وجه الأرض تقريبا، وأن ثخانة الطبقات العميقة أكبر جدا من ثخانة الطبقات القريبة؛ فثخانة طبقات الدهر القديم، وهي أعمق الطبقات وأولى الطبقات التي ظهرت فيها الحياة، تبلغ 3000 قدم، ولم يظهر فيها سوى أحياء من ذوات الخلية الواحدة، وهذه الأحياء لا تزال موجودة، في حين أن طبقات الدهر الثالثي لم تزد ثخانتها عن 3000 قدم، وقد انقرض منها عدد كبير من الأحياء. (الحيوانان التي في اليمين هي الراهنة والتي في اليسار هي أصولها المتحجرة المنقرضة)
ونحن ندرك من ذلك أن الأحياء الدنيا بطيئة التطور، أما العليا فسريعة التطور؛ لهذا لا تزال الأحياء الدنيا التي ظهرت في «الدهر القديم» عائشة بيننا، كما نعرف ذلك من الميكروبات والبكتيريا والخمائر، أما الأحياء العليا فسريعة التطور، فهي لذلك سريعة الانقراض، ومن هنا نعرف السبب في أن «الدهر القديم» كان أطول جدا من «الدهر الثالثي» مثلا.
ونستنتج أيضا أن التطور الآن أسرع مما كان، ونحن نبصر شيئا من ذلك إذا قابلنا الأحياء الدنيا؛ فإذا وضعنا مئة محارة في صف واحد وأردنا تمييز كل واحد عن الأخرى صعب علينا ذلك، ولكننا إذا وقفنا مئة إنسان صفا واحدا وجدنا الاختلاف والتمييز ظاهرين بين كل شخص وآخر، وهذا الاختلاف داعية إلى التطور.
فالأحياء يسرع تطورها بنسبة ارتقائها، ولذلك سيكون التطور في المستقبل أسرع مما كان في الماضي؛ فالمئات ستأخذ مكان الآلاف، والآلاف تأخذ مكان الملايين من السنين.
وهذا طبق ما نعرفه من الحياة؛ فالحياة تختلف عن الجماد في رغبتها الدائمة في أن يخرج كل حي متميزا عن غيره بشيء ما؛ فالأحياء الدنيا قليلة النصيب من تحقيق أغراض الحياة، فهي لذلك جامدة تخرج على وتيرة واحدة، أو ما يشبه أن يكون كذلك، أما الأحياء العليا فقد تحققت فيها أشياء كثيرة من أغراض الحياة؛ فهي لذلك تسايرها في أهم خواصها، وهو التغير والاختلاف والتميز، أو بعبارة أخرى سرعة التطور.
التطور في الدواجن
منذ زمن بعيد عمد الإنسان إلى بعض الحيوان فاستأنسه ثم دجنه، وربما كان الأصل في الاستئناس ثم التآلف والتدجين، أن الإنسان كان يصيد بعض الوحوش، فإذا قتل أنثى الوحش أخذ صغارها فتكون لهوا للأطفال وللنساء، ثم تشب فتألفه وتصير من الدواجن.
وقد دجن الإنسان طائفة من النبات، ودواجن النبات والحيوان جميعها شاهد من شواهد التطور التي لا تنكر؛ فهذه الحيوانات المدجنة لو عادت الآن إلى الحال الوحشية لانقرضت في جملة أسابيع؛ لأنها قد اختلفت عما كانت عليه قديما، وفقدت آلات دفاعها، وتغيرت بعض وظائف أجسامها حتى صار تركيب جسمها يخالف مصلحتها ويناقض الغرض من نشوئها القديم.
فإذا نحن أطلقنا دجاجنا في غابة لما أطاق الحياة أسبوعا كاملا، ولو أطلقنا نعاجنا في برية لأكلتها السباع في أقل من شهر، بل نحن لو أهملنا زراعة النباتات المدجنة وحياطتها بصنوف العناية لماتت في جملة أعوام؛ لاعتداء الأعشاب البرية عليها وأخذها مكانها دونها.
صفحه نامشخص