ثم ظهر حوالي أواخر القرن الماضي عنصر «الراديوم» فتبين منه أن الجماد في تطور أيضا، وأن العناصر كما نعرفها الآن ليست على حال ثابتة، فقد كانت تختلف قديما وستختلف في المستقبل عما هي الآن. وأن من الممكن مثلا أن نحول الزئبق إلى ذهب.
فنظرية التطور تشمل الآن كل شيء حتى أخذ الأوربيون يفكرون في كيفية إنشاء إنسان تكون نسبته إلينا كنسبتنا إلى القرد، وهم يطلقون عليه اسم «السبرمان» أي: الإنسان الأعلى.
وهم يتحسسون هذا الموضوع الآن، ويكتفون بالتخيل، فلا يجرؤ منهم أحد على التخطيط والترسيم. وأجرأهم يقنع الآن بالقول بمنع ذوي العاهات والبله من التناسل بتعقيمهم. وكثير من الأمم الراقية يفعل ذلك الآن.
وبعد فإن نظرية التطور قد فتحت ميدانا بل ميادين لنظر الإنسان، فقد كان المأثور قديما في كتب السلف أن الإنسان خلق كما هو الآن، وسيبقى كذلك إلى الأبد، ولكن نظرية التطور قد بسطت لنا الماضي فجعلتنا نرى الإنسان في غير حاله الآن، وبسطت لنا آفاق المستقبل فملأتنا رجاء بأنه سيكون أفضل مما هو الآن .
فنظرية التطور هي نظرية الرجاء والرقي، وهي المفتاح الذي يفتح لنا مغاليق الماضي المبهم ويرسم لنا مصير الإنسان.
فكرة التطور وقيمتها
الفرق بين الرجل قد أشرب عقله وصبغ ذهنه، بنظرية التطور، وبين الرجل يجهل هذه النظرية، كالفرق بين إنسان قد اكتشف ملكوتا رائعا عظيما، وبين آخر عاش عمره محبوسا في صومعة يظنها جماع ما في هذا الكون من خلائق ومكنونات وأسرار.
فرجل التطور يرى أنه قد عاش في الكون ملايين السنين، وأنه مرتبط وسائر الأحياء من نبات وحيوان برباط قوي متين، فعلاقته بهذا العالم، بل بهذا الكون أجمع، أشبه شيء بديانة علمية قد ارتكزت على أصول العقل والتجربة. وإذا كان أحد القديسين قد قال مرة بدافع النزعة الدينية الشريفة التي كثيرا ما رفعت رجل الدين في المسيحية والإسلام فوق نفسه: «أخي الطير» فإن رجل التطور لا يقول هذا القول فقط، بل هو يحسه في أرجاء نفسه وتلافيف دماغه ومسارب دمه. بل هو يمكنه أن يقول ويشعر بصدق ما يقول: «أخي السمك، بل أخي الشجر.»
وهو لا يعتقد هذا القول اعتقادا يقهر نفسه عليه إرضاء لسلطة خارجية، بل هو يعقله ويحس بصدقه؛ لأن هذه الحقيقة قد استبطنت عقله وصبغت تفكيره.
فالإحساس بحقيقة التطور هو نوع من الديانة الطبيعية، بها نشعر أننا وجميع الأحياء أسرة واحدة نشترك وإياها في وحدة وجودية، وهذا الإحساس يحملنا على احترام الحياة كائنة ما كانت.
صفحه نامشخص