وليست نظرية التطور معرفة فحسب؛ لأننا لا نقتصر فيها على الوقوف على تاريخ الأحياء، بل نكتسب منها مزاجا واتجاها؛ لأنها تجعل التطور مذهبا حيويا، والارتقاء ضرورة اجتماعية، ومن هنا قيمتها العالية للفرد والجماعة؛ إذ هي تشعر الفرد الذي استوعبها أنه يجب ألا يركد أو يجمد؛ لأنه بهذا الركود، أو بهذا الجمود، يناقض سنة الوجود، كما أنها تشعر الجماعة أن تقصيرها في الارتقاء هو مخالفة خطيرة، وتحطيم مدمر لأسباب وجودها؛ فالنظرية هنا ليست معرفة علمية فحسب، وإنما هي مذهب اجتماعي أيضا، يحمل الأمة على أن تطالب بحقها في التطور، وتدافع عن حريتها، وتحطم الأغلال التي تعطل ارتقاءها وحيويتها، كما هي منهج فلسفي للتفكير.
وليس شك في أن المستوعب لهذه النظرية - إذا كانت قد استحالت في نفسه مزاجا ومذهبا - يشعر بتحرره من أغلال التقاليد، ويستطيع لذلك أن ينظر النظرة البكر لشئون هذا العالم، وهو يسمو على الاختلافات الدينية التي مزقت أوربا في القرون الماضية ولا تزال تمزق أقطارا عديدة في آسيا وأفريقيا الآن؛ وذلك لأنه يرى أن فكرة «الإخاء» التي دعت إليها الأديان تجد التعليل المادي في نظرية التطور بالمعنى الأوسع والمغزى الأعم، حتى إننا لنعود بها إلى ذلك الوجدان الديني الذي أحس به القديس فرانسيس عندما كان يقول «أخي الطير».
وهو وجدان شعر به آحاد معدودون في الماضي، ولكن سوف يشعر به جميع الملايين من البشر عندما يعرفون هذه الصلة التي تربطهم بجميع الأحياء، وتجعل منهم وحدة، فيحترمون الحياة أينما كانت؛ لأن كل حي هو قريب وأخ بقرابة، إذا لم تكن رحمية، فهي تطورية.
وبهذا الوجدان الجديد ننظر إلى كوكبنا؛ فلا نلهو بنباتاته وحراجه وجباله وبحاره، نصيد فيها الحيوان أو نبدد النبات، بل نعد هذه الأمكنة كنوزا ومتاحف ومقادس، نحمي فيها هذه الأحياء، ونمنع عنها الأذى، ونحوطها بالعناية في تطورها وتكشفها، ويجب أن نحزن على كل حيوان أو نبات يؤدي اعتسافنا في اللهو به أو إهمالنا له إلى الانقراض، وقد أوشكت طيور جميلة، اقتضى التطور وجودها مئات الملايين من السنين، أن تنقرض؛ لأن نزق النساء كان يحملهن على التزين بريشها الزاهي، ولكن الحكومات الممتازة بهذا الوجدان الجديد حرمت صيدها فعاشت، وكذلك عاش الصيادون المتوحشون من الأمم المتمدنة في حراج إفريقيا وغاباتها حتى أوشكوا أن يبيدوا الأسد والفيل والزرافة، فعمدت الحكومات المتمدنة أيضا إلى حمايتها، ومنعت الصيد إلا في أماكن معينة.
وهذا الكوكب هو كوكبنا، وهذه الأحياء هي قرابتنا التي يجب أن تجد الحرمة الدينية من كل إنسان متمدين.
وكسب آخر كسبناه من هذا المزاج التطوري، هو النظر للمستقبل والجرأة على تخطيطه في حرية تامة من التقاليد والعادات المتحجرة، وأولئك الذين ينفرون من نظرية التطور إنما يفعلون ذلك لإحساس خفي بأن هذه النظرية تحريرية في دلالتها، تفكك الأغلال وتفتح المستقبل للتفكير الجريء، كما هي موطرية في وجهتها، تحرك المجتمعات إلى التغيير والارتقاء، وتجحد الركود والجمود باعتبارهما أكبر المعاصي والذنوب.
وأرجو أن يكون في هذا الكتاب بعض التنبيه حتى لأولئك الذين يجهلون الغاية الدينية السامية لنظرية التطور التي فتحت أبوابا للرقي البشري كانت مسدودة من قبل بالغيبيات الجامدة.
مقدمة الطبعة الثالثة
بقلم سلامة موسى
1957
صفحه نامشخص