وليس يمكن الجزم بنوع الزواج في المستقبل البعيد، وهل يجري على مقترح أفلاطون أو مقترح جماعة أونيدا، وإنما الغرض في كل حال هو تأصيل الإنسان كما تؤصل الحيوانات أو النباتات الآن. (قانون مندل، وهو أهم ما عرف في الوراثة؛ خلاصته أنه إذا تلاقح حيوانان كانت بعض صفات أحدهما غالبة في النسل على صفات الآخر، ولكن إذا تلاقح أفراد هذه النسل ظهر نسلهما بنسبة لا تتغير. ففي هذا الشكل - مثلا - نجد أننا إذا ألقحنا خنزيرا أسود من سلالة سوداء خالصة «من خنازير الهند» بخنزيرة بيضاء من سلالة خالصة، كان الجيل الأول أسود هجينا؛ لأن صفة السواد هي الغالبة، فإذا لاقحنا بين أفراد هذا الجيل الأول ظهر النتاج هكذا في الجبل الثاني: واحد أسود خالص، إذا تلاقح مع السود لم ينسل أبيض، وواحد أبيض خالص إذا تلاقح مع البيض لم ينسل أسود، ثم اثنان هجان «في الوسط» ينسلان كما أنسل الجيل الأول)
ولا شك في أن تقوية العقل وتنقية العواطف وصحة الجسم من الصفات التي سيتجه إليها نظر المربين للإنسان، ويمكننا أن ننظر إلى إنسان المستقبل بعين الخيال، فنجد أضخم ما فيه رأسه؛ فهو يقوم على جسمه كالبلون الكبير فوق عنق قصير ضخم وأكتاف قوية، أما الجسم فيكون قصيرا ضامر البطن نحيف الأطراف، وستزول من القدمين أصابعهما كما زالت من بعض القردة (الأورانج أوتان) أظافرها.
أما من حيث العواطف، فإنسان المستقبل سيختلف عنا اختلافا كبيرا؛ لأن الغرائز ستضعف فيه إلى حد الانعدام تقريبا، فهو لن يعرف الحب أو الغضب أو الخوف؛ إذ هو سيتناسل عن عقل لا عن غريزة.
أما الغضب والحقد والخوف والغيظ فهي صفات صائرة إلى الزوال القريب؛ لأنه لن يعود لها فائدة في المستقبل؛ فقد كانت هذه الصفات تنفعنا في الماضي في حياة الغابة، فكان الخوف إنذارا للفرار، وكان الغيظ يحرك فينا الرغبة في التغلب على خصمنا، وكان الغضب يخيفه ويرده عن أذانا. (تمثال آدم كما تخيله المثال أبستين الأمريكي)
وستقتصر هموم إنسان المستقبل على درس هذا الكون والتملي بجماله واكتشاف مجاهله، ومن يدري لعله يفتح فتحا جديدا في أحد العوالم الأخرى، أو لعله يعرف لغة يتخاطب بها أفراده وهم سكوت بلا حاجة إلى ألفاظ، بل بلا حاجة إلى اقتراب الأشخاص. وكل هذا خيال، ولكنه خيال يستضاء فيه بالتطور الماضي والأحوال الحاضرة؛ فمن التطور نعرف أن بعض الحواس الخمس ارتقى في الإنسان أكثر من ارتقائه في أي حيوان.
مثال ذلك: الذوق والنظر، فبعض الطيور أبعد نظرا منا، ولكن نظرها غير دقيق؛ لأنها تنظر بعين واحدة ولا تجمع نظر العينين إلى جهة واحدة، ثم هي سيئة الذوق. ونحن أضعف من بعض الحيوان في حاستي السمع والشم، بل في حاسة اللمس أيضا، وهذه الحواس الثلاث الأخيرة تخدم الغريزة أكثر مما تخدم العقل؛ ولذلك فالأغلب أنها صائرة إلى الزوال في الإنسان الذي سيكون جل اعتماده في المستقبل على النظر، إلا إذا ارتقت فيه الحاسة الموسيقية فارتقى لذلك سمعه، على نحو ما حدث بين الطيور.
ثم ليس يبعد أن تنشأ حواس أخرى؛ كالإحساس عن بعد مثلا، وهو ما يدعيه بعض الناس الآن؛ فقد تكون هذه الدعوى صحيحة، وهي إذا كانت صحيحة فإنها تنشأ في أفراد قلائل، ثم تعم بين البشر على نحو ما نرى أناسا يولدون الآن وليس في أقدامهم أظافر.
وقد قلنا إن الحضارة تعيق تطور جسم الإنسان وعقله بعض الإعاقة؛ فالرجل السيئ الذاكرة يتذكر الأشياء بكتابتها في دفتر، والرجل الضعيف النظر يمكنه أن يقويه بالنظارة، وكلاهما ينسل وينشر نقيصته في النوع البشري، في حين أن الحدأة السيئة البصر تموت جوعا، والغزال البطيء في عدوه لا يستطيع البقاء أمام الوحوش التي حوله.
ولكن الناس في المستقبل سيعمدون - كما قلنا أيضا - إلى القصد في التناسل، فلن يكون التناسل حقا مشروعا لكل إنسان، بل يقصر على ذوي الكفايات الجسمية والخلقية والذهنية، وهناك في عصرنا أمم كثيرة تعمد إلى تعقيم الناقصين في الكفايات حتى لا يتناسلوا، وإن كان هذا التعقيم لا يحول دون الزواج؛ ولذلك لا خوف على الإنسان من الحضارة، فإن فيها الداء والدواء معا.
ونستطيع أن نبصر في إنسان المستقبل، بعد نحو مئة ألف سنة أو أقل، هذه الصفات التالية: (1)
صفحه نامشخص