كان معاوية بديلا بينه وبين مروان بن الحكم في ولاية المدينة فكان مروان يعارضه، فلما دخل معاوية قال له: كيف تركت أبا عبد الملك أي مروان، قال: تركته منفذا لأمرك مصلحا لعملك، قال معاوية: إنه كصاحب الخبزة كفي إنضاجها فأكلها، قال: كلا يا أمير المؤمنين، إنه من قوم لا يأكلون إلا ما حصدوا ولا يحصدون إلا ما زرعوا، قال: فما الذي باعد بينك وبينه، قال: خفته على شرفي وخافني على مثله، قال: فأي شيء كان له عندك؟ قال: أسوؤه حاضرا وأسره غائبا، قال: يا أبا عواد، تركتنا في هذه الحروب، قال: حملت الثقل وكفيت الحزم، قال: فما أبطأك، قال: غناؤك أبطأني عنك، وكنت قريبا لو دعوت لأجبناك ولو أمرت لأطعناك، قال: ذلك ظننا بك، فأقبل معاوية على أهل الشام، فقال: يا أهل الشام هؤلاء قومي وهذا كلامهم، ثم قال: أخبرني عن مالك فقد نبئت أنك تتحرى فيه، قال يا أمير المؤمنين لنا مال يخرج لنا منه فضل، فإذا كان ما خرج قليلا أنفقناه على قلته، وإن كان كثيرا فكذلك غير أنا لا ندخر منه شيئا عن معسر ولا طالب ولا محتاج ولا نأثر عليه شيئا من المآكل اللذيذة والمناظر البهيجة، قال: فكم يدوم لك هذا؟ قال: من السنة نصفها، قال: فما تصنع في باقيها؟ قال: نجد من يسلفنا ويسارع في معاملتنا، قال: ما أحد أحوج أن يصلح من شأنه منك، قال: إن شأننا لصالح يا أمير المؤمنين ولو زدت في مالي مثله ما كنت إلا بمثل هذا الحال، فأمر له معاوية بخمسين ألف درهم وقال: اشتر بها ضيعة تعينك على مروتك، فقال: بل أشتري بها حمد وذكرا باقيا أطعم بها، وأفك بها العاني، وأواسي بها الصديق وأصلح بها حال الجار، فلم تأت عليه ثلاثة أشهر وعنده منها درهم، فقال معاوية: ما فضيلة بعد الإيمان بالله هي أرفع في الذكر ولا أنبه في الشرف من الجود، وحسبك أن الله تعالى جعل الجود آخر صفاته.
عبيد الله بن معمر وأحد أهالي البصرة
من جوده أن رجلا أتاه من أهل البصرة مع جارية له نفيسة، قد استأدبها بأنواع الأدب حتى برعت وفاقت في جميع الصفات الحميدة، ثم إن الدهر قعد بسيدها ومال عليه، وقدم عبيد الله بن معمر البصرة من بعض وجوهه، فقالت لسيدها: إني أريد أن أذكر لك شيئا وأخشى أن يكون فيه بعض الجفاء غير أنه يسهل ذلك على ما أرى من ضيق حالك وقلة مالك وزوال نعمتك، وما أخافه عليك من الاحتياج وضيق الحال، وهذا عبيد الله بن معمر قدم وقد علمت شرفه وقدرته وسعة كفه وجود نفسه، فلو أذنت لي فأصلحت من شأني ثم تقدمت بي إليه وعرضتني عليه هدية رجوت أن يأتيك من مكافأته ما يقلك الله به وينهضك إن شاء الله، قال: فبكى وجدا عليها وجزعا لفراقها ثم قال لها: لولا ما نطقت بهذا ما ابتدأتك به أبدا، ثم نهض بها حتى أوقفها بين يدي عبيد الله، فقال: أعزك الله هذه جارية ربيتها ورضيت بها لك فاقبلها مني هدية، فقال: مثلي لا يستهدى لمثلك، فهل لك في بيعها، فأجزل لك الثمن عليها حتى ترضى؟ قال: الذي تراه، قال: يقنعك مني عشر بدر في كل بدرة عشرة آلاف درهم، قال: والله يا سيدي ما امتد أملي إلى عشر ما ذكرت ولكن هذا فضلك المعروف وجودك المشهور، فأمر عبيد الله بإخراج المال حتى صار بين يدي الرجل وقبضه، وقال للجارية: ادخلي الحجاب، فقال سيدها: أعزك الله لو أذنت لي في وداعها قال: نعم، فوقفت وقام وقال لها وعيناه تدمعان:
أبوح بحزن من فراقك موجع
أقاسي به ليلا يطيل تفكري
ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن
يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري
عليك سلام لا زيادة بيننا
ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
قال عبيد الله بن معمر: قد شئت ذلك فخذ جاريتك وبارك الله لك في المال، فذهب بجاريته وماله فعاد غنيا.
صفحه نامشخص