مقدمة
نوادر الحرب العظمى
مقدمة
نوادر الحرب العظمى
نوادر الحرب العظمى
نوادر الحرب العظمى
جمع
يوسف البستاني
مقدمة
إذا استعاذ الناس من هول الحرب الرائعة التي وقعت فأوقعت في القلوب رعبا وترويعا وفي البيوت يتما وترميلا وفي الميادين قتلا وتفظيعا، وإذا رغبوا عن ترجيح ذكرها على الخواطر، فإنهم لا يأنفون أن يتذكروها بما وقع في أثنائها من حوادث غريبة ولطائف ظريفة ونكت مستملحة تبعث في النفوس زهوا وسرورا وتفعم الألباب سلوى وطربا.
وعليه فإذا أعدنا على القراء الكرام ذكرى هذه الحرب المشئومة، فإننا إنما نعيدها مجلوة ببدائع الوقائع ومزدانة بطلاوة المستغربات من الأمور، فيجدون في مطالعتها جليسا في الخلوة وأنيسا في الوحشة ويلتهون في ساعات الفراغ باللذيذ النافع من مروياتها.
ولقد عانينا مشقة كبرى في البحث عن هذه الفكاهات اللطيفة واختيارها من بين منثورات الجرائد المختلفة والمجلات المتعددة رغبة في إطراف قراء العربية الألباء بمجموعة موفورة فيها اللذة والفائدة وحرصا على استجماع أسباب التفكهة - خلوا من مساس بالأخلاق والآداب - لمن اعتادوا قراءة مطبوعات مكتبتنا «العرب» التي - يشهد الله - لا تألو جهدا ولا تدخر وسعا في وجوه إرضائهم.
لعلنا في هذه المختارات قد أتينا على ما أردناه من الفائدة والسلام.
يوسف توما البستاني
مصر في 28 يناير سنة 1921
نوادر الحرب العظمى
يروي الكتبة في هذه الحرب بعض الروايات التي تقرب من الخرافة أو الأكاذيب منها الرواية الآتية: قيل إن الجندي المكلف بعمل القهوة في الخندق للجنود الفرنسوية في إحدى الليالي عمل إبريقه، وحمله واجتاز الحدود الفرنسوية إلى جوار الخندق الألماني، فصرخ بجنوده قائلا: «هو أنتم يا قوم ألا تريدون قهوة؟» فنظر إليه أحد الجنود مبهوتا ظانا أنه ألماني يمزح، فقال له «اذهب إلى مكانك قبل أن تتساقط عليك القذائف كالمطر.» فعمل الجندي الفرنسوي بنصيحته، ولما رأوا أنه يتوجه إلى الخنادق الفرنسوية تأكدوا أنه من الأعداء، فأصلوه نارا حامية ولكنها كانت عليه بردا وسلاما، فرجع إلى خندقه سليما. •••
وروى محدث حكاية تصح أن تكون بعيدة التصديق، قال: سقط المصباح الكهربائي الذي ينير مرمى المدافع ليلا وانطفأ وهو على مقربة من خنادق الألمان، فقال الضابط للجندي: علق هذا المصباح في مسماره الخاص به. فنهض الجندي من خندقه وصعد على سلم وعلق المصباح، ثم التفت إلى الألمان وهو واقف على السلم، وقال لهم: اطلقوا الآن النار علي.
فالتفت إليه الضابط، وقال له: انزل حالا قبل أن يشويك رصاص الأعداء.
فنزل الجندي عن السلم بكل رباطة جأش كأنما هو ينزل سلما داخل منزل على مرمى من رصاص الأعداء. •••
القواد الفرنسيون وما أصابهم في هذه الحرب: نشرت إحدى الصحف الفرنسوية أسماء بعض القواد الفرنسويين الذين فجعوا بفقد ذويهم في هذه الحرب، فقالت: «فجع الجنرال كستلنو بثلاثة من أنجاله، والجنرال فوك بنجل واحد وصهر، والجنرال دسبريه بثلاثة من أنجاله، والجنرال بويد راجوين بنجلين، والجنرال لاردمان بنجلين، والجنرال نيرود بنجلين، والجنرال جانفال (الذي قتل في الدردنيل) بصهر، والجنرال لانوفل بصهريه، وكل من الجنرال مودوي والجنرال داماد والجنرال أبنير والجنرال بنوى والجنرال بونال والجنرال فالك والجنرال مارجوله والجنرال شايي والأميرال أميت والجنرال لويس والجنرال كورفيزار والجنرال لستراك والجنرال لستابي والجنرال بونفه والجنرال ديودونه بنجل واحد، وكل من الجنرال موندازيه والجنرال ناسار بصهر، والجنرال ريفوار باثنين من أنجاله، والجنرال مورلنكور بصهره، والجنرال ونكل مابر بنجله، والجنرال كوفمان بنجليه، وكل من الجنرال بليسيه والجنرال هيمان والجنرال بوند والأميرال سوريان والأميرال أملو والأميرال بيش والأميرال لوففر بنجل واحد، والأميرال مارول بصهره.» •••
الروسيات في الحرب: انتظم كثيرات من الروسيات في جيش روسيا المحارب وأتين أفعالا تشهد لهن بالفروسية والمهارة في الفنون الحربية.
فمدام كوفتسا رقيت إلى رتبة كولونل وأحرزت أوسمة كثيرة وهي كانت تقود فرقة من الجنود، وقد سئلت مرارا لماذا انتظمت في الجيش، فكانت تقول: «القيصر يطلب مني أن أدافع عن الوطن.» ومن أفعالها أنها ترسل الطيارات؛ ليستطلعوا لها مواقع الأعداء فإذا أخبرها الطيارون بأن بضع مئات منهم في جهة ما أرسلت عليهم طليعة صغيرة في الليل؛ ليبيتوهم فيطلقوا البندقيات عليهم من جهات عديدة وهم متوارون بعدما يستفردون الحراس ويقتلونهم فيقع الارتباك الشديد في جنود الأعداء، وقد يقتل بعضهم بعضا، ووصلت فتاة إلى «كيف» مجروحة في ذراعها وساقها وكانت قد ركبت طيارة في شرق بروسيا تستطلع جيوش العدو فجرحت ولكنها ظلت في طيارتها تديرها بجلد ومهارة حتى عادت بها إلى المعسكر وأخبرت بما رأت، وهذه الفتاة نائلة الشهادة من إحدى مدارس بتروغراد العالمية.
وفي إحدى الفرق الروسية فتاة اسمها فيلنا في الثانية عشرة من عمرها جرحت وأصيبت بالتيفوس، ولما شفيت عادت إلى فرقتها تحارب بشجاعة وبسالة، وقد انتظمت في الجيش في شهر أكتوبر سنة 1914، وجاء في مكتوب أرسلته إلى والدتها أن في فرقتها ثلاث فتيات أيضا يحاربن مع الجنود.
وانتظمت ابنة الكولونل توملوفسكي في الجيش وعمرها عشرون سنة فقصت شعرها وارتدت ملابس عسكرية وسارت مع والدها إلى ساحة الحرب وقاتلت في عدة معارك، ثم استخدمت في التلغراف وتمكنت بمهارتها من أخذ صورة تلغراف ألماني لا سلكي جاء فيه أن الألمان عازمون على مهاجمة قلب إحدى الفرق الروسية وأخذه على غرة، فاستعدت تلك الفرقة للقتال وكانت النتيجة أن المهاجمين الألمان نزلت بهم خسارة عظيمة جدا، وكان في جيش والدها أربعمائة فتاة وسيدة يحاربن من أجل القيصر والوطن.
ومما يذكر بهذا الصدد إن القيصر قلد بيده إحدى الدوقات الروسيات وساما ساميا جزاء ما أظهرته من البسالة فخلدت بذلك اسم أجدادها العظام الذين لهم في تاريخ حروب روسيا ذكر مجيد، وقد كتم اسمها لأسباب. وتحرير خبر انتظامها في الجيش أنها تزوجت بضابط وبعد صلاة الإكليل سارت معه متطوعة في الجيش ولم يجد توسل زوجها إليها بألا ترافقه، والخلاصة أنها ارتدت بذلة جندي ورافقته إلى الخنادق، وقد علم قائد الفرقة بأمرها فغض الطرف عنها، ورقي زوجها إلى رتبة كبتن ورقيت هي إلى رتبة ملازم، واتفق في معركة شديدة أن زوجها الكبتن أمر جنوده بالانسحاب إلى وراء خنادقهم فأبوا إطاعة أمره وظلوا يقاتلون تحت وابل من رصاص الأعداء فأمرها زوجها أن تحمل أمره وتسير به إلى الخنادق الأمامية؛ لأنه لم يكن قادرا على ترك مكانه فأطاعت وسارت ولكنهم عصوا الأمر فتناولت بندقيتها وضربت بها عسكريا وآخر وآخر أيضا، فأطاع الجنود الأمر وظلت هي واقفة في مكانها والرصاص يمرق قربها ويتساقط حولها حتى انسحب الجنود جميعهم، وسارت هي وراءهم وبعد عشر دقائق من انسحابها دمر الأعداء تلك الخنادق بوابل من القنابل المتفجرة فتحولت إلى أكوام وأطلال. •••
أدوات التوالت: احتدم الجدال بين فريق من الجنرالية في شمال فرنسا في الأسباب التي شيبت رءوس كثيرين من الضباط فأجمعوا على أن إجهادهم للعقل هو السبب الأكبر، ثم عرضوا الأمر على الجنرال جوفر، فقال ببساطته المعهودة: أظن أن ضباط جيوشنا البواسل لم تتيسر لهم «أدوات التوالت» في ساحات الحروب كما تتيسر لهم لو كانوا في بيوتهم، فضحك الجميع وسكتوا. •••
من غريب ما يذكر عن هذه الحرب إن جميع كبار رجالها ممن تعودوا النهوض باكرا من نومهم، يؤثر عن إمبراطور ألمانيا قوله: إن بني هوهتزلرن لا يلبسون «أقمصة نوم»، وقد كان يعيش في زمان السلم عيشة عسكرية من حيث نومه، فإن سريره وملابسه مثل أسرة ضباطه وملابسهم، ينام الساعة 11 كل ليلة وينهض الساعة الخامسة صباحا.
أما ملك إيطاليا فينهض الساعة 6 وملك البلجيك الساعة 5 وأما اللورد كتشنر فينام 6 ساعات، والسرجون فرانش لا يبالي أنام أم لم ينم. يحكى عنه أنه أعطى فراشه ذات مرة في حرب البوير لضابط أصغر منه، وقال لا يهمني أين أسند رأسي، ثم التحف بعباءته العسكرية وافترش الغبراء.
هذا في الحرب التي نحن بصددها، أما رجال الحرب من أهل العصر الخالي فأشهر من اشتهر منهم بقلة النوم والنهوض باكرا نابليون وخصمه ولنتن، وعند الإنكليز مثل يقول: إن النوم الباكر والقيام الباكر يجعلان المرء ذا عافية وسعة وحكمة. •••
أصيب جندي في هذه الحرب بفقد ذاكرته وبصره وشمه وذوقه وقتيا، ثم أعيدت إليه بالتنويم المغنطيسي، وكان سبب فقده إياها انفجار قنبلة بالقرب منه فلم تصبه شظية من شظاياها ولكن ناله ما ناله بفعل تصادم دقائق الهواء، فجيء به وأجلس على كرسي، ثم نوم تنويما خفيفا بالطريقة المعتادة وقيل له أن أزل كل شاغل من رأسك واحصر أفكارك في مسألة شفائك، ثم قال له المنوم بهدوء: إن عينيك شفيتا، وقد عدت مبصرا كما كنت، وفعل مثل ذلك بذاكرته وشمه وذوقه فعادت إليه.
وفي بعض الحالات تكفي جلسة واحدة لإزالة العاهات الوقتية وفي بعضها يضطر المنوم إلى جلستين أو ثلاث، فإذا لم يشف المصاب تماما حسن حاله كثيرا. •••
أكبر منارة (فنار) في الدنيا هي منارة خليج هليجولند، وهليجولند هذه جزيرة في البحر الشمالي على مقربة من الساحل الألماني تنازلت إنكلترا عنها لألمانيا سنة 1890 مقابل تعويض أخذته إنكلترا في شرق أفريقيا.
أما مصباح هذه المنارة فكهربائي قوة نوره تعادل قوة 40 مليون شمعة. •••
لم تدر الأيام على مدينة من مدن أوروبا دورتها على مدينة وارسو أو فرسوفيا عاصمة بولندا الروسية، فقد بنيت سنة 850 للمسيح وكانت عاصمة دوقية مازوفيا وبقيت كذلك إلى القرن الخامس عشر فضمت إذ ذاك إلى بولندا، وفي القرن السابع عشر اختلفت أسوج وروسيا والنمسا وبراندنبرج عليها، ثم ضمتها روسيا إلى أملاكها في أواسط القرن الثامن عشر، وفي أواخره أعطيت لبروسيا ولكن نابليون احتلها سنة 1806، ثم نودي باستقلالها في معاهدة تلست، واحتلها النمسويون سنة 1809، ثم فقدوها وأعطيت استقلالا قصير العمر إذ عادت روسيا فضمتها إلى أملاكها، وهي في هذه الحرب «أشهر من قفا نبك». •••
لما حرم القيصر على شعبه شرب المسكر قامت إنكلترا وفرنسا تحذوان حذوه فحرم ملك الإنكليز على بطانته كل مشروب روحي، وكذلك فعل بعض كبراء الإنكليز، وسعى مجلس النواب في سن قانون بهذا الشأن، ثم أجل مسعاه إلى وقت أكثر ملاءمة من الوقت الحاضر، أما فرنسا فحرمت «الأبسنت» وهي شارعة في تحريم غيره بقوانين تسنها.
حركة مباركة ولكن الناس يريدون أن يقام لهم مقام الخمر المحرمة أشربة محللة يتلهون بها ويتعزون عن بنت الدوالي، فأهل روسيا يفكرون في اتخاذ شراب اسمه «شتنيا» شرابا وطنيا يشربونه على ذكر الحبيب بدل مدامة الشعراء ويكون نخبهم في حفلاتهم الكبرى العمومية، وهو يستعمل عندهم شتاء، والآن يريدون استعماله على مدار السنة، وقوامه العسل والفلفل والماء الحار واللبن، فهو أقرب إلى الطعام منه إلى الشراب، والذين ذاقوه يقولون أنه أطيب طعما من شراب مشهور عند الإسكيمو سكان الأصقاع الباردة ومركب من ماء سخين وشجر سائل ودم الغزال المعروف عندهم.
وكان الإنكليز القدماء مولعين بشرب مركب من العرقي وماء اليانسون وماء الورد وماء الخشخاش مضافا إلى هذه المياه الزبيب والثمر والقرفة وعرق السوس وأشياء أخرى، فهو بذلك مزيج غريب غير متلائم الأجزاء كأن تأخذ كأسا من العرقي وتضيف إليها كأسا من شراب الورد فالخشخاش فعرق السوس، ثم تشرب الكل معا، لا نظن مزيجا مثل هذا يسوغ شربه فلذلك نعذر الإنكليز معاصرينا إذا نعتوه «بأفظع المشروبات». •••
سئل رجل إنكليزي هل تهتم قرينتك بالحرب؟ قال: نعم، ولا حديث لها إلا بها، فقيل له ألا تتمنى شيئا؟ قال: نعم، تتمنى ذهابي إلى ساحتها لخدمة وطني ظاهرا وقلبي يحدثني أنها تتمناه للخلاص مني باطنا. •••
أقيمت في إحدى مدائن إنكلترا وليمة كان من المدعوين إليها سيدتان شقيقتان إحداهما أرملة والثانية متزوجة وقرينها في الهند، فلما أدخل المدعوون إلى غرفة الطعام زوجين زوجين كما هي العادة سئل أحد المحامين أن يدخل برفقة السيدة الأرملة ففعل وكان يظنها أختها المتزوجة، فجلسوا للطعام وبدأت الأرملة الحديث بقولها: ما أشد حر هذا النهار! قال المحامي: نعم إنه شديد الحر ولكن شتان بين حره وحر المكان الذي يقيم بعلك فيه! •••
عملية جراحية وسجن سنتين وغرامة ألف جنيه لقراءة جديدة: قالت جريدة «الطان» إن النائب البلجيكي مسيو فان ده فيان أضاف عنده بعض الضباط الألمان، وبعد تناول الطعام قال النائب لضابط منهم: إنني قرأت أنكم خسرتم وقعة كذا في الميدان الغربي فدهش الضابط، وقال له: من أين عرفت ذلك وفي أي شيء قرأته، فقال: إنني قرأت ذلك في جريدة التيمس التي وصلتني أخيرا. فقال الألماني: وهل تأتيك التيمس؟ ومن أي طريق؟ فقال النائب: إنني لا أقدر أن أقول لك كيف تأتيني، وإذا شئت أن تعرف صدق قولي فها هو العدد الأخير. وقدمه للضابط الذي أبلغ عنه البوليس وقبض عليه بعد أن فتشوا منزله، وحوكم فحكم عليه غيابيا بالسجن سنتين وغرامة ألف جنيه، فطعن في الحكم لأنه كان مريضا، فأرسلوه إلى المستشفى وعملوا له عملية جراحية وبعد أيام أرسلوه إلى قلعة يسجن بها هذه المدة وأخذوا من أسرته ألف جنيه؛ كل ذلك لأنه قرأ جريدة إنكليزية «وهذا جزاء من يضيف الأعداء عنده.» •••
مصائب بولندا: كتب ذو حنان في التيمس مقالا يطلب فيه الرحمة لأولئك البائسين أهالي بولندا نقتطف منه ما يلي: «فتكت الحرب الحالية فتكا ذريعا بالميدان الشرقي وخصوصا بالبولنديين؛ فهي لم تذر للمدينة قائمة إلا هدمتها فخربت المساكن والحقول والحدائق والغابات وأودت بحياة الإنسان والحيوان معا فأصبح ما يبلغ مساحته من الأراضي مساحة إنكلترا واسكتلندا لا نبت به ولا حيوان وتخرب 200 مدينة و400 كنيسة و7500 قرية، وتقدر الخسائر بمبلغ 500000000 جنيه إنكليزي، وبقي 17000000 من الأهالي يلاقون البؤس من جراء الغارات المروعة، وهنا ما يربو على 10 ملايين من الأهالي ليس لهم صناعة وكان اعتمادهم على ما يزرعون فأصبحوا الآن بلا مأوى وفي جد الحاجة إلى القوت الضروري، ولا يمكن أحدا أن يتصور ما حل بتلك البلاد من المصائب التي لا يمكن أي قلم أن يصف ما هي عليه من محن وشقاء وتعاسة.» •••
الكلاب في الحروب: في فرنسا خمسة أجناس من الكلاب ترسل إلى ميادين القتال لتقوم بالمهام التي دربت عليها؛ فمنها كلاب تأخذ الرسائل من صفوف الجيوش التي في الأمام إلى المعسكرات المتأخرة، وهذه تدرب في بدء الأمر وهي صغيرة على أن تطيع طاعة عمياء وألا تخاف من دوي الرصاص وقصف المدافع ولكنها إذا رأت قنبلة سقطت في مكان هجمت عليها مفتشة عن الذين سقطوا على الأرض جرحى، فإذا أبصر كلب منها جريحا عاد إلى المعسكر ناهبا الأرض نهبا وأشار إلى ذلك إشارات معروفة للجنود فيسرع طبيب وبعض «النوبتجية» الذين يكونون في نوبتهم والكلب يعدو أمامهم إلى حيث الجريح.
واتفق أن كلبا حمل رسالة من خط قتال أمامي إلى ساقة الجيش فأصيب في أثناء سيره برصاصة كسرت فخذه اليمنى ولكن هذا الرسول الأمين لم يحجم عن أداء الواجب فعرج على ثلاث أرجل وسلم الرسالة وأبى ألا أن يعود من حيث أتى فرجع إلى الذين أرسلوه، وقد بعثوه إلى باريس حيث ضمد جرحه، ولما شفي عاد إلى شمال فرنسا ثانية للقيام بالواجب عليه.
وقد سفرت الحكومة في باريس ألفين وسبع مائة كلب على سكة الحديد إلى شمال فرنسا في شهر يناير الحالي لمحاربة الجرذان الكثيرة التي أقلقت الجنود في خنادقها، وقد ربت هذه الكلاب على حفر أوكار الجرذان أو صيدها وهي هاربة وقتلها. •••
إمبراطور النمسا والحرب الثالثة: كان إمبراطور النمسا يحادث الجنرال كنراد دي هنسندرف عن الحرب يوم أرسلت حكومته الإنذار النهائي إلى حكومة سربيا، فقال له: ألم تر قط حربا في حياتك؟ فقال: لا يا مولاي. فسكت الإمبراطور هنيهة، ثم قال متنفسا الصعداء: أما أنا فقد شهدت حربين، ثم تنفس الإمبراطور الصعداء خوفا من أن تكون هذه الحرب الثالثة التي يشاهدها الآن هي القاضية على إمبراطوريته؛ وعليه فكان. •••
إلى الحرب، إلى الواجب: كان للجنرال كستلنو الفرنسوي خمسة أنجال يدافعون عن الوطن في الجيش شمال فرنسا فقتل اثنان منهم في أول الحرب وأصيب الثالث بعاهة في الحرب، وقد ذكرت صحيفة إنكليزية أنه بينما كان يستعد لخوض معركة أبلغ أن ابنا له قتل فوقف دقيقة صامتا كأن على رأسه الطير، ثم زأر كالأسد الرئبال وصرخ في جنوده قائلا: «إلى الحرب إلى الواجب.» •••
بعد نشوب الحرب أمر ملك الإنكليز بأن يكون طعامه حاويا لكل ما قل ودل كما يقول بلغاء البيان؛ أي إن تكون ألوانه قليلة مغذية وأن تبقى كذلك إلى نهاية الحرب، على أن الملك ليس متأنقا في طعامه عادة إجابة لداعي الميل الفطري وداعي الضرورة؛ لأنه يصاب أحيانا بسوء الهضم وهذا يمنعه من إجادة المطابخ والإكثار من الألوان، وهو يفضل السمك المسلوق واللحم الخالي من الأفاويه والبهارات على سائر الأطعمة.
أما قيصر روسيا فكان في مطبخه نحو ألف أجير، وكان ذا شهية حسنة ولكن غير متأنق في طعامه يأكل من كل ما يقدم له بشرط أن يكون جيد الطبخ.
وأما إمبراطور ألمانيا فله شهية كبيرة أيضا حتى إنه يأكل عادة شيئا من اللحم البادر قبيل النوم، وهو يقتصر في المآدب الكبيرة على ما يأكله الجندي في الجيش الألماني فإذا خلا إلى نفسه زاد على ذلك، وفي بلاطه مطبخ كبير برئاسة أربعة طهاة؛ الواحد ألماني والثاني إنكليزي والثالث فرنسوي والرابع إيطالي، وكل منهم مسئول عن الألوان المشهورة بين قومه. •••
قالوا إن الوحول في هذا الميدان من ميادين القتال والأمطار في ذاك والثلوج في هذاك حالت دون إقدام الجحافل على القتال والنزال، على أن الشاعر العربي والفارس ذا الطراز المعلم قال لنا من نحو ألف سنة:
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا
فأهون ما يمر به الوصول
والحقيقة التي لا ريب فيها هي أن الطبيعة بعناصرها من حر وبرد وثلج وجمد وريح صرصر لا تثني ابن آدم عن أمر عقد العزيمة عليه وإنما يكبح جماحه ويحول دون ركوبه هواه ذلك الزاجر الباطني الذي أشار إليه الشاعر حيث قال:
والنفس لا ترجع عن غيها
ما لم يكن منها لها زاجر •••
يقول الفرنسيون إن متوسط خسارة الألمان 260 ألفا في الشهر بين قتلى وجرحى وأسرى، أي إنهم يخسرون نحو 6 رجال كل دقيقة، ومدة الدقيقة لا تزيد عن مدة قراءة هذه النبذة، فتصور أنك بدأت تقرأ هذه الأسطر، ثم لم تنته منها حتى رأيت نفسك في بحر من الدم وحولك ستة رجال يجودون بأنفسهم. •••
العيشة في الخنادق: وصف جندي فرنسوي المعيشة في الخنادق وصفا يدل على ما اتصف به الجنود الفرنسويون من خفة الروح والظرف والكياسة التي تهون عليهم احتمال الشدائد بصدر منشرح فيخلطون الجد بالهزل في أحرج المواقف، قال ذلك الجندي: إننا في شغل شاغل نبحثر الأرض فنحفرها، ثم نخفرها، ولا نزال نحفرها حتى نحول سطحها إلى سراديب عميقة فيها الطرق المتشعبة الضيقة والشوارع المستقيمة الطويلة العريضة، نطلق عليها أسماء عظماء رجال هذه الحرب، فترى في الخنادق شارع «ألبرت الأول» و«شارع جوفر» و«ساحة إريفي» وهو اسم قائدنا المسكين الجنرال إريفي الذي أصيب بقنبلة فقتلته فأحيينا ذكره بتسمية ذلك الشارع (أي الخندق) باسمه.
وبين هذه الخنادق خندق معرض لرصاص بنادق العدو وقنابل مدافعه، يسمع فيه صفيرها ودويها أناء الليل وأطراف النهار فسميناه «شارع ويت» وأفردنا خندقا للجنود السنغالية فسميناه «قرية السودان» وفي جواره خندق كبير مسقوف يعرف باسم «قاعة الرقص».
ثم إن بعض الجنود منا، الذين تعلموا في المدارس نظم القوافي [يتغنون]
1
سقفنا بها بعض الخنادق. •••
روى مراسل جريدة «الدالي كرونيكل» أنه قصد محطة باريس عند وصول بعض الجرحى فرأى ثمانية مجروحين جراحا بليغة ورأى أحد هؤلاء الجرحى تعبا جدا فتقدمت منه الممرضة لتضمد جراحه، فقال لها أريد قسيسا لا تضميد جرحي فأخذت تنادي في الناس ألا يوجد هنا قسيس؟ فنهض من بين الجرحى جريح كادت روحه تبلغ التراقي وجذبها إليه قائلا: أنا قسيس احمليني إلى الجريح، وكان هذا القسيس مصابا بقنبلة وأقل حركة تسبب له آلاما مبرحة فلم تشأ الممرضة تحريكه فأخذ يتضرع إليها قائلا: خذيني إلى الجريح إنه لا يهمني أن أعيش ساعات أخرى، ثم أجهد نفسه حتى وصل إلى رفيقه وباركه وقبل أن يتم عمله مات ومات إلى جانبه رفيقه ويد أحدهما بيد الآخر فركع الممرضون والممرضات والحاضرون أمام الجثتين وأخذوا بالصلاة على روحيهما. •••
يلقب الألمان الجنرال جوفر ببنك الاقتصاد لما يتوخاه في كل خططه الحربية من الحرص على الجنود والذخائر. •••
إن الجندي الإنكليزي أ. ف. سودرن هو الجندي الوحيد الذي حاز نشان صليب فكتوريا في سن السابعة عشرة وذلك أنه أنقذ ضابطا فرنسويا كان في خط النار. •••
غاب عن عائلته بيانكو في مرسيليا غلام في الثالثة عشرة من عمره منذ شهر أغسطس سنة 1915 فبحث عنه أهله طويلا فلم يجدوه إلى أن تلقوا في يوم من الأيام رسالة من الجنرال كوردونيه قائد الجيوش الفرنسوية في سلانيك قال فيها: دزيرة بيانكو غلام في الثالثة عشرة من عمره أصم إلا عن سماع صوت الوطنية فاندس بين الآلاي الخامس والخمسين الذي سافر من مرسيليا على الباخرة «فرانس» إلى الدردنيل ونزل مع هذا الآلاي في سد البحر واشترك بالهجوم الشديد وأظهر بسالة وشجاعة فوق المألوف في هجوم 8 مايو 1915 فقتل وهو يتقدم الجنود ويصيح تقدموا تقدموا بالحراب بالحراب. •••
كان أسيرا فصار آسرا: كتب ضابط في الطوبجية البريطانية بفرنسا إلى أهله بإنكلترا، فقال إن الألمان يحاربون حرب الأسود فقد ضايقونا أمس صباحا بضع ساعات إذ كروا علينا بجموعهم الكثيفة وأصلتنا مدافعهم نارا حامية كانت تنصب علينا كالصيب الهتان فاخترقوا قلبنا وساقوا أمامهم لواء من الفرسان ولكن هذا اللواء عاد فحمل عليهم حملة مجيدة وسددنا إليهم نار مدافعنا فرددناهم إلى خنادقهم وأوقعنا بهم خسارة كبيرة فتكدست أشلاء قتلاهم وجرحاهم أكداسا.
وكان ضابط من ضباط الطوبجية يرقب نار بطاريته من إحدى القرى المجاورة فهجم الألمان على تلك القرية بغتة واحتلوها وأسروا هذا الضابط وأكرموه كثيرا، ثم وضعوه في سرداب ليكون بمأمن من نار المدافع ووضعوا معه بعض الحراس ولكن الحلفاء عادوا فهجموا على تلك القرية وانتزعوها من يد الألمان وأنقذوا الضابط من الأسر فعاد إلى بطاريته يصحبه حرسه الألماني أسرى بيده بعد ما كان أسيرا بيدهم. •••
يسمح الواحد منا بالمليون ولكنه قلما يدرك مقداره، وقد خطر لأحد الإحصائيين أن يسهل على الناس فهم المليون بقوله إن في السنة بطولها نصف مليون دقيقة أو أكثر قليلا، فإذا عرفت ذلك فقد تدرك عظمة الجيوش المتطاحنة في ميادين القتال، وإن كنت لا تدركه به فدونك هذا المثل: قالوا إن الألمان عبئوا ثمانية ملايين جندي في أول الحرب، فلو عرضوا أمامك أيها القارئ ومروا بسرعة عشرين في الدقيقة أو واحد كل ثلاث ثوان وهي سرعة عظيمة لاقتضى مرورهم سنة كاملة ليل نهار. •••
حيلة ألمانية لم تجز على جنود الجوركا: كانت جنود الجوركا متربصة في الخنادق ليلا وإذا بشبح ظهر في ضوء القمر متزييا بزيهم، فلما دنا من الخنادق ناداهم بصوت من اعتاد الأمر: اخلوا الخنادق حالا لأن فصيلة من إخوانكم قادمة لتحتلها بدلا منكم - فاستغرب قائد الفصيلة هذا الأمر، وقال للطارق: من أنت ومن أرسلك؟
فقال الصوت: عليكم بإخلاء الخنادق حالا لتشغلها فصيلة الجوركا القادمة، فتردد القائد وبينما هو في حيرة من الائتمار بهذا الأمر خطر على باله خاطر، فقال للطارق: أجبني حالا، إذا كنت أنت من جنود الجوركا فما هو اسم الباخرة التي أتت بفرقتك إلى فرنسا؟
فلم يستطع الطارق الجواب؛ لأنه كان جنديا ألمانيا متنكرا بزي الجوركا وفر هاربا بأسرع من لمح البصر غير أن رصاص الجوركا أدركه قبل أن يتوارى عن الأبصار.
ولولا سرعة خاطر قائدهم لكانت الجنود الألمانية المتربصة قريبا منهم قد فتكت بهم وهم خارجون من الخنادق. •••
الحرب في الفضاء (كيف قتل الطيار بيجو؟): الحرب الجوية من مبتدع الحرب العظمى وهي على حداثة عهدها وقلة استعداد المتحاربين لها لا تقل هولا عن أشد الحروب البرية والبحرية، وقد رأينا أن نصف إحدى معاركها الأخيرة ليكون الناس على بينة من سيرها فاخترنا المعركة التي قتل فيها المسيو بيجو الطيار الفرنسي الشهير؛ لأنها كانت أطول معركة جرت في الهواء.
فقد نشرت الصحف الفرنسوية أيام هذه المعركة خلاصة تقارير الطيارين الألمانيين على المعركة التي قتل فيها الطيار بيجو وزادت عليها أقوال أحد الضباط الفرنسويين الذين شهدوها فآثرنا إجمال ذلك فيما يلي:
قال الضابط الألماني بيليتنز: «ذهبت مع الطيار كاندلسكي لتصوير استحكامات العدو في بلفور، فقابلنا الحصون بنار حامية، ثم رأينا نقطا سوداء ترتفع عن الأرض وما مضى ثوان حتى صار الطيار بيجو على مقربة منا، وكنا جميعا واثقين بتفوق طيارتنا المصفحة والمسلحة بأحدث انواع المتراليوز وعالمين أن العدو لا يحجم عن الدنو منها لأن منظرها الخارجي لا يدل على أنها من الطيارات المتينة الصنع، فخففنا السير وأعددنا معدات الدفاع، ولما وصل بيجو إلى بعد خمسين مترا منا أصلانا نارا حامية ورغب في الارتفاع فوقنا فصوبت مدفع المتراليوز نحوه وجعلت أطلق القنابل فوقه وتحته لأمنعه عن الحركة، ولكنه خرج بسرعة هائلة من منطقة النار وانقض علينا انقضاض الصاعقة وهو يطلق قنابل مدفعه الصغير من غير انقطاع فأصابت إحدى قنابله غلاف المحرك والتصقت به فخفت أن يكون قد تعطل وأمرت كاندلسكي بالعودة حالا خوفا من السقوط في خطوط الفرنسويين، فامتثل الأمر وقفل راجعا بينما كنت أطلق القنابل عل الطيار الذي حلق فوقنا.
وكنت أتوقع انفجار البنزين في طيارتنا من ثانية إلى ثانية فنسيت أمر العدو ولم أعد أكترث له، وقد وصلنا سالمين إلى خطوطنا فقلنا إن المعركة كانت سجالا ولم نعلم عظم الفوز الذي أحرزناه إلا من أنباء فرنسا، والظاهر أن القنبلة التي أصابت بيجو كانت القنبلة الأخيرة التي أطلقتها عليه بعدما قفلنا عائدين.
وفي اليوم التالي عدت مع صديقي كاندلسكي إلى المكان الذي سقط فيه بيجو ورمينا إكليلا من الزهر اعترافا منا بشجاعته وبسالته.»
الفضل للطيارة لا للطيارين: وقال الطيار كاندلسكي في تقريره: «لقد انتصرنا على بيجو الشهير ويكفينا ذلك فخرا، على أن الفضل كل الفضل لمنعة طيارتي المصفحة التي لا تؤثر فيها القنابل ولمدفعي المتراليوز اللذين تحملهما، وقد اغتر بيجو بمنظرها الخارجي فظنها طيارة عادية ولم يحجم عن الدنو منها.»
معركة 25 دقيقة: وقال أحد الضباط الفرنسويين الذين شهدوا المعركة من حصون بلفور الخارجية: «جاء كاندلسكي وبيليتز لرسم حصون بلفور، وكان الطيار بيجو دائما على تمام الأهبة والاستعداد لمطاردة العدو فحلق في الفضاء بسرعة كلية واتجهت إليه الأنظار وكلنا على ثقة بانتصاره الأكيد وهلاك الطيارين الألمانيين، وكان العدو على علو ألفي متر ينتظر وصول طيارة بيجو برباطة جأش، وقد شهدنا جميعنا المعركة بدقائقها وكنا نتوقع سقوط طيارة العدو من ثانية إلى ثانية لأن بيجو اشتهر بفن الطيران كما اشتهر بحسن الرماية.
ابتدأت المعركة وسمعنا دوي المتراليوز فخفقت قلوبنا لهول المنظر، وبعد خمس وعشرين دقيقة على هذا المنوال حلق بيجو فوق أعدائه فأيقنا بفوزه وقلنا إن كفته رجحت وأن العدو بات في قبضة يده، وقد أصاب معظم قنابله طيارة العدو ولكنها لم تؤثر فيها لتخن درعها فحاول أن يلقي عليها مواد منفجرة من فوق ولكنه أصيب برصاصة كانت القاضية عليه فوقع على الأرض من علو ألفي متر.» •••
كان يشتغل مدفع 75 الفرنسوي ثماني ساعات في النهار عادة، ويقذف 400 قذيفة على أنه يستطيع أن يقذف 20 قذيفة في الدقيقة، ولكن لا يستطيع مواصلة الإطلاق بمثل هذه السرعة مدة طويلة؛ لأنه يحمى وهو على كل حال لا يصلح للعمل بعد إطلاقه 6000 قذيفة، وهو يكلف 720 جنيها وبلغ قيمة ما ينفقه من الذخيرة نحو 7000 جنيه. •••
من النوادر التي وقعت في معركة المارن أن مدفعا من مدافع 75 حمي جدا فلم يبق في إمكان الطوبجية مواصلة استعماله، ولم يكن في جوارهم ماء لتبريده وكانت الضرورة تقضي بمواصلة الضرب فعمد أحدهم إلى علب السردين وفتحها وصب ما فيها من الزيت على المدفع فبرد. •••
إذا شئت تعرف نقل ما أنفق من الذخيرة إلى فردون في سبعة أشهر يقتضي لك قطار لا يقل طوله عن 500 ميل (800 كيلومتر) وهي أربعة أضعاف المسافة بين مصر والإسكندرية بالسكة الحديد. •••
بلغ عدد الحراس القضائيين على أموال الأعداء في دائرة باريس 173 حارسا، وعدد المحلات التي يحرسونها 8000 محل، وقد أصدرت المحاكم 80 ألف قرار فيما يتعلق بتلك المحلات. •••
بلغ ثمن ما بيع من الأحذية من محلات الأعداء في باريس 7 مليون فرنك، وكان الألمان والنمسويون قد احتكروا هذه القاعة. •••
حسبت جريدة «الجورنال» الفرنسوية أنها لو صدرت في صفحتين بدلا من صفحة واحدة اقتصدت 30 ألف فرنك في الأسبوع أي أكثر من 60 ألف جنيه في السنة ومع ذلك فهي لا تفعل. •••
كان في ميادين القتال قنابل كبيرة قذفتها المدافع ولم تنفجر فيخشى بعد الانتهاء من الحرب أن تنفجر عندما يكون الفلاحون يعملون في الأرض فتقتلهم، وقد اهتم أحد علماء الفرنسويين بهذا الأمر واستنبط آلة تكشف القنابل المطمورة وهي عبارة عن تلفون يقرع جرسه عند التقاء كهربائيته بكهربائية المعادن الداخلة في القنابل. •••
ينفق كل فيلق يوميا سبعة طنات من قذائف المتراليوزات و4 طن ونصف من قذائف بنادق ليبل و35 طن ونصف من قذائف المدافع الضخمة. •••
أنفقت ألمانيا من سنة 1900 إلى 1912 في الاستعدادات الحربية 2054000000 فرنك، ولم تنفق فرنسا في تلك المدة غير 984 مليون فرنك. •••
يقول الألمان إن أول زبلن أنشأوه كلفهم 100 ألف جنيه. •••
بلغ عدد الذين أعفوا من الخدمة العسكرية في إنكلترا لأسباب مختلفة 1500000 رجل. •••
الفتيان الأبطال في الحرب: دفعت الوطنية كثيرين من الفتيان الصغار إلى خوض غمار الحرب، واشتهرت من بينهم فئة من الأبطال امتازوا ببسالتهم، وشجاعتهم وتضحيتهم أنفسهم فداء الوطن. كما اشتهر كثيرات من النساء والفتيات البواسل ملائكة الرحمة. وفتحت جريدة «مون جورنال» الفرنسوية في أعمدتها اكتتابا عاما لإقامة أنصاب وتماثيل إحياء لذكرى هؤلاء الأبطال الصغار الذين قتلوا فدى الوطن تخليدا لأسمائهم المجيدة في القرون المقبلة، وها نحن نذكر بعضا منهم رددت الجرائد ذكر أسمائهم وزينت أعمدتها برسومهم.
فأحدهم الملقب بالصغير لابين من بلدة جيورماني في الثانية عشرة من عمره توفيت أمه وذهب أبوه إلى الحرب وتركه في البيت وحيدا، إلى أن مرت يوما ما الفرقة السابعة من الفرسان الفرنسويين في تلك البلدة ذاهبة إلى ساحات القتال فبهرت عينا الفتى من نظامها ومنظرها وتبعها إلى خارج المدينة يتفرج عليها إلى أن اجتازت أربع كيلومترات فالتفت وراءه فرأى بلدته غابت عن نظره، وقد أرخى الليل سدوله، فقال في نفسه: لماذا لا أتبع هؤلاء الجنود إلى الحرب وألحق بأبي وأدافع عن وطني؟! ثم أتبع الفرقة جاريا وراء الفرسان إلى أن رآه أحد ضباطهم فشفق عليه، ولما تأكد من عزمه تبناه وأردفه وراءه على الحصان، ثم أعطاه بندقية صغيرة ورداء وخرطوشا وسماه رجال الفرقة الأرنب الصغير، فلما وصلت إلى ساحة القتال واشتبكت الجنود في الحرب انسل الفتى بينهم وكان يطلق الرصاص على كل من رآه من الألمان، ثم رجع إلى الصفوف من غير انتظام، ولما انتهت المعركة أراد الكولونيل قائد الفرقة أن يرجعه إلى بلدته خوفا عليه لصغر سنه فأجابه: إني جندي فرنسوي ولا أرجع قط ما دام الأعداء في بلادي. فتركوه، وقد أصيب برصاصة في كتفه في إحدى المعارك فنقلوه إلى المستشفى.
وفي الحرب غلام آخر يدعى بير مرسيه من مدينة أنجين في الثالثة عشرة من عمره اختفى يوما ما فجأة عن بلدته وذهب وحده إلى ساحة القتال، ففتش والداه عنه ولم يجداه إلا أنه وصلت إليهما الرسالة الآتية في اليوم الثامن من اختفائه وهذا مآلها:
أبي وأمي وشقيقتي الأعزاء
دخل الأعداء بلادنا فأقسمت أن أدافع عن وطني ولو كنت صغيرا، ألا تدعوني الواجبات الوطنية لأن أحارب هؤلاء البرابرة الذين اجتاحوا فرنسا وفتكوا بأهلها فقد بررت بقسمي وجمعت ما اقتصدته في صندوقي من الدراهم ولحقت بفرقة الجنود التي مرت بمدينتنا، وانتظمت في فرقة الاستكشاف وأعطيت دراجة فلا يقلق بالكم علي ولا تبكوا لفراقي، أراني مسرورا جدا في خدمة بلادي، وأؤكد لكم يا والدي العزيزين أنكما تفخران بابن لكما يدافع عن وطنه تحت الراية الفرنسوية؛ فتصبري يا أمي العزيزة على فراق يسير وأما أنت يا أختي سوسان فداومي على الذهاب إلى المدرسة وادرسي التاريخ والجغرافية، وتأكدي أن خارطة فرنسا ستتغير بعد الحرب وتمتد حدودها الشرقية إلى ما وراء نهر الرين، أودعكم جميعا. (حقق الله آماله.)
بير مرسيه
وفي ساحة الحرب كثيرون من أمثال هذا الغلام اختفوا من أحضان والديهم وذهبوا إلى ميدان القتال منهم ألبير كاروج من فرساليا وعمره اثنتا عشرة وهنري نينه من ليموج وعمره أربع عشرة سنة، كتب الأول إلى أمه يقول لها: إني في ميدان القتال وتأكدي يا أمي أنني سأعود إليك وعلى صدري وسام الشرف.
وكتب الثاني إلى أبيه: أكتب إليك وأنا فوق مركبة المدفعية، فليطمئن بالك أنني تحت رعاية ضابط الفرقة، أندره كيده وقد أعطاني كسوة وسلاحا.
واشتهر بين الفتيان الأبطال في هذه الحرب غلام في الثالثة عشرة من عمره يدعى ألبير شوفرنكس وهو ابن حطاب في حراج رجمون بين الفيسول ومونبليار، مرت فرقة من الفرسان يوما ما في تلك الحراج وضلت طريقها فتقدم الفتى ألبير من الضابط وعرض نفسه كدليل للجنود إلى أن أوصلهم إلى ملهوز وهناك انتظم في سلك الفرقة وتبناه قائدها وأعطاه بندقية وعهد إليه في مراقبة طيارات الأعداء حتى إذا لمح إحداها في الجو - وكان حديد البصر - يطلق عليها الرصاص، ثم ترك تلك الفرقة وانتظم في سلك الفرقة الثالثة من الفرسان وكان يتقدم الصفوف ويطلق النار على الألمان حتى قتل كثيرين منهم، وهذا الغلام لا يزال إلى الآن فخر تلك الفرقة تتباهى به.
وممن اشتهر أيضا من الغلمان الأبطال أندره كيده في الثانية عشرة من عمره، وقال عنه جيران نائب مقاطعات كلفاروس في مجلس النواب: إن هذا الغلام الصغير لما رأى فرقة المشاة مارة ببلدته وسائرة إلى الحرب قال لأمه: «أريد يا أمي أن أذهب مع هؤلاء الجنود للدفاع عن وطني، فأودعك وإلى الملتقى.»، ثم جرى ركضا وراء الفرقة فلما رآه ضابطها جرفه سر بشجاعته ونخوته وأخذه معه وتبناه، فلبث أندره إلى جانبه في ميدان القتال أمام خط النار، وفي اليوم الثالث أصيب الضابط جرفه برصاصة فخر جريحا ونقل إلى المستشفى فاتبعه الغلام، وقبل موته وهبه (الضابط) سيفه ومسدسه، ثم رجع إلى فرقته وشهد معها معارك عديدة وكان يبرز وحده بشجاعة أمام الصفوف ويطلق الرصاص على الألمان، آخذا بثأر جرفه.
وفي ساحة الحرب الآن فتى آخر اسمه غستاف شابين تطوع مع الجنود وشهد معركة الآين الكبرى التي رد فيها الفرنسويون أعداءهم إلى الوراء إلى أن أصيب برصاصة في كتفه ونقل إلى مستشفى باريس وهناك زاره أحد كتاب الجرائد وكان يقول للطبيب: «أرجو منك أن تشفيني عاجلا لأعود إلى فرقتي.» ولما جاء أبوه ليأخذه لم يشأ الذهاب معه، فاضطرت السلطة العسكرية أن تمنحه وسام الحرب فذهب إلى بيته، وقد اختفى يوما ورجع إلى ساحة القتال.
وكثيرون من الغلمان الأبطال قتلوا في الحرب، نذكر منهم ثلاثة اشتهروا ببسالتهم وضحوا نفوسهم عن الوطن وكان موتهم فخرا لفرنسا وخجلا وعارا للجنود الألمانية ودليلا حسيا على أعمالهم الفظيعة حسب إقرارهم أنفسهم، وهذا ما كتبه جنرال بافاري في مذكرته التي عثر عليها معه بعد أسره: «لما اجتزنا واديا طويلا دخلنا قرية اسمها بورغوند عند حدود الألزاس فتلقانا أهلها بإطلاق الرصاص فقابلناهم بالمثل، وألقينا بعضهم صرعى وفر الباقون أمامنا، فدخلنا القرية والتقينا عند بيت منها بغلام في الثانية عشرة من عمره يدعى تيوفيل جاكو، فتقدمت إليه وسألته إذا كان أحد من الأهلين مختبئا داخل البيت، فقال: لا، ولما اجتزنا بضع خطوات خرج من ذلك البيت نفر من الرجال المسلحين واطلقوا علينا الرصاص غفلة؛ فاضطررت أن آمر بحرق القرية وقتل كل من وجدناه من الأهلين، ولما قبضنا على الغلام سألناه لماذا كذب علينا وهل كان يعلم أن في ذلك البيت رجالا مختبئين، فقال بشجاعة: نعم، فأخذناه وحكمنا عليه بالموت لأنه غدر بنا، وفي المساء أطلقت فصيلة من جنودنا النار عليه.»
وفي مكان آخر التقت فرقة من الجنود الألمانية بغلام فقبض قائدها عليه وسأله: «هل في البلدة أو في جوارها جنود فرنسويون.» فقال: لا أعلم، ولما ابتعدوا قليلا خرج من غابة قريبة بعض الأهالي وأطلقوا الرصاص على تلك الفرقة ولاذوا بالفرار، فقبضوا على الفتى وسألوه ألم تكن عالما أن في الغابة أناسا كامنين؟ فلم ينكر؛ فأخذوه وربطوه في عمود التلغراف وأطلقوا الرصاص عليه وهو ينظر إليهم باسما ساخرا بهم.
والشهيد الثالث من الغلمان هو ابن أحد عمال المعادن في بلدة لورنس اسمه إميل ديبريه، دخل الألمان هذه القرية واحتلوها وتفرق جنودهم وضباطهم في حاناتها يعاقرون الخمرة يصخبون ويرقصون فرحين بخمرة الظفر، وكان ضابط فرنسوي ملقى على الأرض في إحدى الحانات وهو مصاب بجرح بالغ يئن من الألم، ولم يجسر أحد من الأهلين أن يدنو منه أو يواسيه، إلى أن دخلت المرأة صاحبة الحانة ووضعت كئوس الشراب أمام الضباط الألمان فنهض أحدهم وضم المرأة إليه، وكان يشتم قومها وهو سكران سكرا شديدا، فلم يستطع الضابط الجريح الصبر على هذه الإهانة فرفع رأسه وجلس قليلا، وأخذ مسدسه وأطلق الرصاص على الضابط فجندله، وفي الحال ضرب بالنفير واجتمع الجنود وأخذوا الجريح الفرنسوي إلى ساحة البلدة؛ ليقتلوه على مشهد من أهلها، وهناك فتح الجريح عينيه، ورأى أمامه الغلام إميل ديبريه، فقال له: «اسقني فإني عطشان.» فأسرع هذا إلى بيت قريب وأتاه بكوز ماء وسقاه، فلما رأى الضابط الألماني ما فعل الغلام احتدم غيظا وقبض عليه بعنف وكاد يأمر جنوده أن يطلقوا الرصاص عليه.
ولكن خطر له خاطر فجأة ذلك أنه أخذ مسدسه من وسطه ودفعه للغلام، وقال له: «إن أطلقت الرصاص على هذا الجريح نجوت من الموت فهل تفعل؟» قال: نعم، ثم أخذ إميل المسدس وصوبه إلى الضابط الألماني الواقف أمامه وأطلق عليه الرصاص فجندله قتيلا، وفي اللحظة عينها صوبت الجنود الألمان البنادق نحو الغلام فمزق الرصاص جسمه إربا إربا.
وعلينا ألا نغفل أسماء كثيرين من الغلمان الصغار من الإنكليز والفرنسويين والبلجيكيين الذين تطوعوا في الحرب وبذلوا حياتهم فيها ومنهم فتى إنكليزي فقأت حربة ألمانية إحدى عينيه وخدشت وجهه في تيرلمون، وقد ذكرته جريدة التيمس. وفتاة إنكليزية في الثامنة من عمرها بتر الألمان يديها لأنها وضعت يدها على أنفها وسخرت بهم. ولا تنسوا ذلك الطفل البلجيكي وعمره سبع سنوات فإنه لما رآهم صوب نحوهم بندقيته الخشبية التي يلعب بها فأصلوه وابلا من الرصاص مزق جسمه الغض النضير؛ فلمثل هؤلاء الأبطال الصغار ستقيم مدينة باريس أنصابا وتماثيل في ساحاتها تخلد تاريخ ذكرهم المجيد. •••
أنا هو ذلك الطراد: مثل الربان فون مولر قومندان الطراد «أمدن» دورا عظيما في مأساة الحرب العظمى؛ فخلد له ذكرا يحسده عليه زعماء قرصان القرون الماضية، ومع ذلك لم يتعد قوانين الحرب المعهودة ولا أتى عملا خسيسا يلام عليه ويشهر به.
ابتدأ هذا الدور في 10 سبتمبر سنة 1914 وانتهى في 10 نوفمبر، فأغرق الربان فون مولر في غضون هذه المدة 16 باخرة تجارية، والبارجة «كاماستامارو» اليابانية، والطراد الروسي «جمشتوك»، والغواصة الفرنسوية «موسكي»، واستولى على 3 بواخر، وأسر 3 بواخر أخرى، ثم أطلق سبيلها، ومجموع حمولة هذه البواخر 97684 طنا عدا حمولة البارجة اليابانية التي لم يعرف مقدارها.
اشتهر هذا البطل الشجاع بلطف الشمائل وحلاوة المعشر، وقد دعاه الناس «دي ويت البحار» تشبيها له بالقائد البويري كرستيان دي ويت زعيم العصاة في الثورة البويرية الأخيرة الذي أسر أخيرا وحبس في قلعة جوهنسبرج.
أثنى المستر ويلسن مكاتب جريدة «الديلي ميل» على القبطان فون مولر، فقال عنه: «إن الأمة البريطانية ستظفر بالعدو الكريم وهي تحيي اليوم قومندان الطراد «أمدن» باحترام لأنه سلك سلوك الرجل الأبي النفس في محاربته التجارة البحرية وقاتل قتال الأبطال يوم صرعه الطراد الأسترالي وأخذه أسيرا.
عرف أهل لندن الرجل أيام كان مساعدا للملحق الحربي في سفارة ألمانيا (بلندن)، وقد أقام في هذه العاصمة مع زوجته فحظيا بإكرام الناس لهما وميلهم إليهما.»
وقالت عنه جريدة الديلي ميل: «إنه رجل ظريف يحسن اللغة الإنكليزية، ويعرف مواقع الموانئ الهندية الإنكليزية وفرضها معرفته لقبضة يده.»
كان هذا الربان يستعين كثيرا بالتلغراف اللاسلكي في أثناء مطاردته البواخر التجارية والبوارج الحربية، يسترق منها الأخبار، وينقض عليها انقضاض البازي على فريسته إذا آنس فيها الضعف، ويفر من وجهها فرار الآبق إذا خاف قوتها.
وقد روت عنه تلك الجريدة نكتة لطيفة من هذا القبيل عنوانها «أنا هو ذلك الطراد»، فقالت: «بينما كان الربان فون مولر يجول يوما في عرض البحار وهو يترصد الآفاق باحثا عن فريسة يفترسها علم أن باخرة تجارية قريبة منه قبل وقوع نظره عليها، فسألها بالتلغراف اللاسلكي قائلا: أرأيت في سيرك طرادا من الطرادات الألمانية يضرب في البحار؟ فأجابت الباخرة: لم أر شيئا من ذلك، فأمر حينئذ مهندسي الطراد أن يجدوا في السير، ولما دنا من الباخرة لها: أنا هو ذلك الطراد.» •••
التناهي في البغض: بلغ بغض الألمان للأمة الإنكليزية والأمة الفرنسية مبلغا أدى بهم إلى النفور من ذكر كلمتي «إنكلترا» و«فرنسا في حديثهم».
وقد اتفق أن مدير إحدى المدارس في برلين لم يجد أستاذين يعلمان اللغتين الإنكليزية والفرنسية في مدرسته، فنشر إعلانا قال فيه: إن اللغة التي يتكلم بها سكان أمريكا الشمالية ولغة أهالي المقاطعة الغربية من سويسرا أبطل تعليمهما إلى أجل غير مسمى. •••
من ألطف وأبدع ما رواه موريس بارس الكاتب الفرنسوي المشهور الحديث الآتي، قال: علمت أن رجلا يخدم في أحد مستشفيات باريس غاب عن عمله 49 ساعة، ولما رجع إليه سألته الراهبة عن سبب تغيبه، فقال لها: لي ولد وحيد يخدم وطنه في الجيش، وقد أبلغت أنه قدم باريس جريحا وأنه يوجد في المستشفى الفلاني فقصدته فيه، ولكني لما وصلت وجدت أنه قد توفي على أثر جراحه، ولما كنت سأعيش بعده وحيدا منقطعا رأيت أن أحسن ما أفعله هو أن أخلفه في طابوره فذهبت وتطوعت مكانه وأنا آت الآن لأودعكم جميعا، فتأثرت الراهبة من كلامه وشجعته بكلام رقيق، وهكذا انطلق هذا الشجاع إلى الحرب متطوعا يمزج دمه بدم وحيده في خدمة وطنه. لم يرو التاريخ أسمى من هذه العواطف وأبلغ منها. •••
دخل طبيب مستشفى لعيادة الجرحى فلما وصل إلى سرير بنباشي مصاب بعدة جراح سأله بلطف قائلا: كم جرح بك؟
فأجابه الأنباشي: لم أعد جراحي يا حضرة الطبيب فسل الممرض يخبرك. •••
في تقرير لجنة كلاب الصليب الأحمر أنه كان بعددها 2500 كلب في ميدان القتال، وأن هذه الكلاب أنقذت ثمانية آلاف جريح. - كان عند الفرنسويين الذين يقاتلون على حدود بلجيكا كلب يدعى ماركي فقتل فدفنوه وأقاموا له أثرا، وكانوا يستخدمون ذلك الكلب لنقل الرسائل تحت نيران العدو. - اشتهر كلب يدعى لوتز في فردون بما أبداه من البسالة واليقظة، وقد ورد ذكره في الأوامر العسكرية على ما يلي:
وقد أقمنا خفيرا في نقطة أمامية ليلة 21 فبراير؛ فكان أول من نبهنا إلى هجوم الألمان بكثرة نباحه. •••
نقص عدد الطلبة في إنكلترا نحو 12 في المائة في سني الحرب العظمى؛ والسبب في ذلك تراخي المراقبة على الأولاد بعد انخراط ذويهم في الجيش من جهة، والإقبال على تشغيل الأولاد من جهة أخرى. •••
كانت بعض المدن في ألمانيا تعاقب من يمشي في الشوارع حافيا، أما الآن فقد أخذت تلك المدن تبطل تلك العقوبة وذلك لقلة الجلود في البلاد. •••
اتهم ثلاثة من باعة اللبن في لندن بأنهم يبيعون لبنا مغشوشا، فقالوا: لا، ولكن البقر ذعرت عند رؤية مناطيد زبلن فأثر ذلك في لبنها، فوافقت المحكمة على هذا التعليل. •••
يتراوح وزن الخوذة الفولاذية التي كان يستعملها الفرنسويون في أيام الحرب بين ليبرة وربع وليبرة ونصف، وهي تتركب من فولاذ وجلد وألومينيوم. •••
أرسلت جريدة الأيكودي باري أحد محرريها إلى الجنرال جوفر القائد العام يبلغه سلام قرائها وشكرهم على خدمه العظيمة، وقد صحب معه مصورا ليأخذ صورة الجنرال، فقبل القائد العام أن يقف أمام المصور، وقد استوقفه هذا زمنا غير قصير، ولما انتهى من مأموريته التفت الجنرال إلى المصور، وقال له ممازحا: «كانت ملكة بلجيكا آخر مصور أخذ صورتي ومع ذلك لم تأخذ مني مثل الوقت الذي أخذتموه.» •••
قال أحد المهنئين للجنرال جوفر يوم أخذ المدالية العسكرية: «نهنئك بنيل هذا النوط الذي يعرب لك عن ثقة الأمة.» فأجابه: «لا يهمني نيل النوط العسكري بقدر ما يهمني نيل النتيجة.» •••
نهم الألمان: وصف جندي من المتطوعين الألمان غنيمة باردة أصابتها أورطته في قرية هجرها أهلها وصفا يدل على شره الألماني وكيف أنه يحب الأكل والشرب حبه للتخريب والتدمير، قال الجندي: «دخلنا بلدة مورسيد، وقد هجرها أهلوها فألفينا منها الشيء الكثير من أصناف الخمور كونياك وشمبانيا وأنواعا كثيرة من السجاير والمناديل والقمصان، كل شيء هنا كثير حتى صار الواحد منا حائرا في أمره لا يعرف ماذا يختار، أما أنا فآثرت أن أملأ إنائي نوعا من المشروب يستخرجونه من القراصية وهو لذيذ الطعم على تعبئة جعبتي قمصانا ومناديل.» •••
حلاقة غريبة: قال الأونباشي «مكان» من فرقة الرماحة الإنكليز في رسالة له: حدث لي أمر صباح هذا اليوم، ذهبت ورفيق لي، ومعنا لحيتان طال عليهما المدى حتى صارتا ابنتي أسبوع إلى دكان حلاق لنتخلص منهما، فلما وصلنا إلى الدكان - وكان في الحقيقة بيتا لأحد الأهلين - رأينا الحلاق غائبا وهناك سيدة تنوب عنه، فاستلمت هذه السيدة وجه رفيقي ولحيته استلام المالك المستبد بملكه، ووضعت تحتهما طشتا وأشارت إليه أن يمسكه بيديه، وبدأت تفرك وجهه بالماء، ثم جاءت بالصابون فطلت به اللحية والخدين إلى ما تحت العينين، وتناولت الموسى وشرعت بحلق الشعر، فكنت أرى رفيقي ينتفض انتفاض العصفور المذبوح، فخفت عليه وسألته لما انتهت العملية: كيف الحال؟ فقال: على أحسن ما يرام، وكانت هذه أول أكذوبة سمعتها منه في حياتي.
أما أنا فكدت أحجم عن وضع لحيتي ورقبتي تحت رحمة تلك السيدة، ولكن الحياء منعني، فتحملت آلام العملية بصبر جميل، أبتسم إلى السيدة تجملا تبسم المطمئن البال.
ولما انتهت السيدة من العملية ونظرت إلى وجهي في المرآة سررت لأنه صار وجه جندي بريطاني لا سحنة متوحش خارج من غابات أفريقيا. •••
من أشجع ما روي في هذه الحرب الحكاية الآتية التي روتها جريدة التيمس قالت: أرسل القائد الفرنسوي ضابطا فرنسويا إلى صدر الجيش، وأمره أن يحتل نقطة أرشده إليها ويمد الخط التليفوني إليه، ويخبر قائد المدفعية عن أماكن وجود المدفعية الألمانية لإحكام تصويب القنابل إليها، فذهب الضابط واحتل تحت وابل من القنابل النقطة المرتفعة التي كانت لا تبعد إلا عشرات الأمتار عن خنادق الألمانيين وأخذ يقوم بمهمته، ولم يمض زمن طويل عليه حتى أبلغ القائد العمومي هذه الجملة الآتية في التلفون قالها بكل برودة ورباطة جأش وكانت آخر كلامه ولم يسمع بعدها شيء عنه، وهي: «يصعد الألمان على سلم غرفتي فلا تصدقوا ما يبلغونكم إياه بعد، أما أنا فسأستخدم كل ما يوجد في مسدسي من الرصاص.» •••
تروي الصحف الغربية روايات جمة عن شجاعة الصربيين والتضحية التي قاموا بها في الشهور الأربعة التي دامت فيها الحرب؛ فقد فقدوا مائة ألف رجل فيها بين قتيل وجريح وضائع، وأصيبت بلادهم بالمجاعة لأنهم لم يتمكنوا من زرع الأرض واستغلالها كما يجب بعد حرب البلقان، وفقدت عائلات منهم كل أولادها في الحروب البلقانية والأوروبية، وأصبح الصربيون يقاتلون قتال انتقام واستماتة في سبيل البقاء. •••
جاء في الصحف الغربية خبر لا يقرؤه امرؤ إلا وينفطر قلبه حزنا وأسى، وذلك أن سيدة تزوجت من فرنسوي فرزقت منه ابنين، ثم مات زوجها فتزوجت من ألماني ورزقت منه ابنين آخرين، وشب الأربعة فلما نشبت الحرب انضم الأولان إلى الجيش الفرنسوي والأخيران إلى الجيش الألماني، وقد جاءت الأخبار لهذه الوالدة المسكينة بأن أبناءها الأربعة سقطوا في حومة الوغى. •••
حرب البراميل: سمع ذات يوم دوي مدافع الألمان الضخمة ولم يسمع للمدافع الفرنسوية قصف فأشكل الأمر، ولكن مكاتب إحدى الجرائد الأوروبية اكتشف السر فروى - وهو صادق في روايته - أن طيارا ألمانيا حلق في جو جلونجن للاستكشاف وعاد فأخبر الألمان بأن الفرنسويين نصبوا بطارية من بطارياتهم الضخمة على أكمة تشرف على بلدة كرس على طريق دنماري، فأخذت البطاريات الألمانية الكبيرة تطلق قنابلها الجهنمية من الساعة الواحدة بعد الظهر حتى منتصف الليل على الأكمة التي أشار إليها الطيار الألماني وهم جذلون مسرورون.
واتضح بعد ذلك أن البطارية الفرنسوية لم تكن إلا برميلا كبير الحجم وضعه مزارع في أرضه، وقد أطلق الألمان عليه أكثر من مائتي قنبلة، وقد أثنت الجنود الفرنسوية المرابطة في الفوج على الطيار الألماني لحذقه وبعد نظره وعلى رجال المدفعية الألمانية لحسن مرماهم ومهارتهم في ضرب البرميل. •••
قبض الألمان على الكاهن لاهاش كاهن إبرشية فوافر وسألوه تحت يمين الاعتراف أن يرشدهم إلى أماكن الجنود الفرنسوية في إبريشته وإلا قتلوه، فاستأذنهم إلى أن أدى صلاته الأخيرة، ثم عرض صدره للرصاص قائلا لهم: الموت ولا الخيانة. •••
نكتة في محلها: كتب الجنرال فون بيسينج الألماني منشورا إلى البلجيكيين وطلب من الكردينال مرسييه أن يوقعه، فقال له الكردينال بعدما طالعه بتدبر وإنعام إنه مستعد لإجابة طلبه بشرط أن يغير فيه كلمة واحدة وهي «الحقائق التي تجرح عواطف الألمان» بدلا من «الأكاذيب التي تجرح عواطف الألمان» فأبى الجنرال عليه ذلك، وامتنع الكردينال عن التوقيع مفضلا الموت على الكذب والرياء. •••
أعادت روسيا بأمر القيصر علما فرنسويا من أعلام سنة 1870 التي كان الجيش الألماني غنمها من الجيش الفرنسوي في جهات الدوبس في السنة المذكورة، وقد وجدها الجيش الروسي في جهة بروسيا الشرقية في مكان اجتماع آلاي الدراجون البروسي الحادي عشر. •••
وجدوا مع أسير ألماني رسالة من أهله جاء فيها: «إن الجزم التي أرسلتها إلى هرمان لم تصلح له لأنها كبيرة أما الصحون ومواعين المطبخ فلا بأس بها، وقد أرسل إخوانك الجنود إلى أهلهم هنا أكثر مما أرسلت.» تنشيطا له على التمادي في النهب والسلب. •••
روت جريدة الفيغارو الحكاية الآتية المؤثرة قالت: «جرى في شارع لافايت بباريس حادث مؤثر جدا؛ فقد رأى الأهالي في ذلك الشارع بقرب المحطة الشمالية جنوبا جريحا يسير بكل تعب وهو يحمل أمتعته ويقصد أخذ قطار أوسترليتيز ليقصد بواتو حيث يوجد أهله وذووه، فاستوقفوه وسألوه عن المكان الذي يقصده، ولما كان لا يملك نقودا جمعوا من الشارع بضعة فرنكات، ثم استوقفوا عربة لنقله إلى المحطة بأمتعته حيث صحبه أحد الذين صادفوه، ولما أراد النزول من العربة أخذ يحسب القيمة التي يود أن يدفعها للحوزي، فالتفت هذا إليه، وقال له: أتعتقد انني أقبض منك الأجرة؟ إنك لمخطئ جدا؛ فلي ولدان بساحة القتال قتل أحدهما في جهة الألزاس والصغير لا يزال حيا، وإلى أين أنت ذاهب؟ - إلى بواتو. - لا يسافر القطار قبل ثلاث ساعات والآن وقت الظهر، فتعال نتناول طعام الغداء على صحة ولدي الحي وأرجعك إلى المحطة، وإن الله الذي أرجعني سنة السبعين من الحرب يرجعه أيضا.» •••
كان بين الأسرى في مونس ثلاثة ضباط من ضباط الطيران الألمانيين الذين أسروا بجوار باريس مع طياراتهم، وكانت ثلة من المعسكر الإنكليزي تخفرهم، فلما وقف القطر طلب ضابط منهم من خفيره الإنكليزي أن يعطيه زرا من أزرار كسوته ليحفظه تذكارا فرفض بإباء وعزة نفس، فقال الضابط الألماني: يا لك من عسكري متكبر كأنك فرنسوي! فقال الإنكليزي: جميعنا هنا فرنسويون. •••
كان ضابط وخمسة جنود من الجيش الألماني الذي يقوده الجنرال هندنبرج راكبين دراجات وسائرين في طريق بشرق بروسيا للاستطلاع، فأبصروا أوتوموبيلا مقبلا إلى جهتهم وكان فيه ضابطان روسيان، فأمر الضابط الألماني سائق الأوتوموبيل بأن يقف فلم يذعن فرماه الجنود بالرصاص، وهجم الضابط الألماني بمسدسه ليأسر الضابطين الروسيين، وقبل أن يدنو منهما انتحر أحدهما وهو قائد الفيلق الثالث عشر لكي لا يقع أسيرا في يد العدو، وأما الآخر فأسر، ونقلت جثة أولهما إلى الجيش الألماني.
وكان في شرق بروسيا كثيرات من النساء الألمانيات يحاربن مع الجنود الألمان، وقد أسر الروس في طريق جريفا مائتي جندي وكان بينهم عدد كبير من النساء وكلهن بالسلاح الكامل. •••
ومن نوادر هذه الحرب أن امرأة ألمانية عجوزا في السبعين من عمرها قتل جميع أبنائها وأحفادها، وقتلت وجرحت خمسة عشر روسيا وما اكتفت بل ظلت تحارب حتى جرحت في ذراعها برمح جندي من القوازق وأسرت فجعل الروسيون يعاملونها أحسن معاملة، ولكنها مع ذلك لم تأكل مما قدم إليها ولم تفتر عن شتم آسريها.
وكتبت جريدة الديلي نيوز أن بين الأسرى الألمانيين فتاة ألمانية في السابعة عشرة من عمرها اسمها أوجستين برجير لحقت بالجيش الألماني في أثناء تقهقره؛ فكانت تتسلق المرتفعات وتخبر الألمان بالرايات بحركات الجيش الروسي، وقد أسرها القوازق وهي تقوم بهذا العمل. •••
كان في أحد مستشفيات «كيف» جندي روسي من الطوبجية له قصة غريبة، ذلك أنه كان يحارب في شرق بروسيا فحطم الألمان بطارية فرقته وصدر إليها الأمر بالرجوع، ولما كانت الجنود راجعة القهقرى رأى ذلك الجندي طفلة في طريق العسكر خارجة من منزل في القرية فاخترق الصفوف حتى وصل إليها ليحميها من القنابل التي كانت تنزل نزول المطر، وما كاد يصل إليها حتى مرقت قنبلة من قنابل شرابنل فوق رأسه وكان قد انحنى على الطفلة ليكون درعا يقيها ولكنه ما سار بالابنة قليلا حتى أصابته رصاصة في ظهره فوقع على الأرض، وأسرع إليه جنديان فعادا به وبالطفلة، ثم نقل الجندي الجريح والطفلة معه إلى المستشفى، وقد أنعم عليه وعلى الجنديين الآخرين بنشان القديس جورج جزاء ما أظهروه من الشجاعة. •••
أرسل محافظ فينا يعزي الجنرال البارون فون هوهنز ندروف قائد جيش النمسا العام عن فقد ابنه الذي قتل في الحرب فرد عليه قائلا: «إننا نحارب لفخر النمسا وشرفها ولكن العدو قوي علينا كثيرا.» •••
أنشأت السيدات المطالبات بحقوق الانتخاب في بلاد الإنكليز مستشفى لخدمة جرحى الحرب ينفقن عليه من مالهن الخصوصي ويخدمن فيه. •••
أصيب شاويش في الحرب بثلاثة جراح أرسل لأجلها إلى المستشفى للمعالجة وقبل أن يتم شفاؤه رجع إلى فرقته في لونجوي وهو في حال النقاهة فسر ضابطه به جدا، وقال له: اذهب إلى أميرآلاي الآلاي وقل له أن يعطيك شهادة بجراحك تنفعك بعد الحرب لإيجاد وظيفة في الحكومة، فالتفت إليه الشاويش، وقال له: أشكرك على نصيحتك ، أما وظيفتي فباقية لي وسأعود إليها، إنني كاهن الإبرشية الفلانية وسأعود إلى وظيفتي. •••
يروى أن الألمان ضربوا غرامة حربية على مدينة أبرناي قدرها 175 ألف فرنك، وقد جرح منهم ضابط كبير لم يتمكن أحد من أطبائهم إجراء عملية له فاستدعوا طبيبا فرنسويا شهيرا في القرية المذكورة أن يعمل له العملية فعملها ونجحت معه، ولما سألوه كم يريد أجرته عليها قال لهم: أريد 175 ألف فرنك.
وهي الغرامة التي أخذوها من القرية وفي مساء ذلك اليوم أعاد الألمان الغرامة التي أخذوها إلى عمدة البلدة المذكورة. •••
موسيقى ألمانية تسكت بالقتال: كتب ضابط إنكليزي إلى أهله عن المعارك التي حضرها والطيارات التي رآها تحوم فوق الجيوش حومات الطيور وذكر نكتة لطيفة حدثت لفرقته، فقال: لما كنا في مقاطعة آلاين وقعت لنا حادثة مضحكة؛ فقد بلغت الوقاحة من الألمان أنهم أرادوا ليلة من الليالي وهم مبيتون في الخنادق إقلاق نومنا بصوت موسيقاهم وهي تضرب أغنية لهم تسمى «أوخت أم رين» وكان جنود الحرس الإيرلندي مقيمين في خنادق لا تبعد كثيرا عن خنادق الأعداء، فقلقوا من تلك الأغنية المزعجة وطلبوا منا أن نسكتها؛ فأطلقنا المدافع على الألمان أربع مرات متوالية، ثم سمعنا صوتا من خنادق الإيرلنديين يقول: نشركم شكرا جزيلا؛ فقد سكتت الموسيقى وتفرق جميع الأعداء بسرعة، ولم نعد نسمع في تلك الليلة صوت الموسيقى الألمانية. •••
خدعة فرنسوية غريبة: في أوائل شهر أكتوبر سنة 1917 الماضي حاولت فرقة من الفرسان الفرنسويين طرد فرقة من الفرسان الألمانيين من قرية واقعة في الجهة الشمالية الشرقية من بلدة إيبر فاستعانت بحيلة غريبة أنالتها غرضها؛ وهي أن قائدها أرسل طليعة من الفرسان إلى القرية فدخلتها فجأة واختلطت بالجنود الألمانية اختلاط الحابل بالنابل، وكان رصاص الجنود الألمانية لا يؤثر في أجسام الفرسان الفرنسيين بل يزيد هياج خيلها التي كانت تخبط خبط عشواء بين العدو فتذهب ذات اليمين وذات اليسار من غير انتظام والفرسان ثابتة فوقها لا تبدي حراكا.
وبينما الجنود الألمانية على تلك الحالة من الدهشة هاجمهم الفرسان الفرنسويون فأعملوا السيف فيهم ومزقوهم شر ممزق.
وكانت تلك الطليعة تماثيل فرسان محشوة بالتبن ومرتدية الرداء العسكري أركبها الفرنسويون الخيل وجعلوا وجهتها القرية، ثم أطلقوا للخيل أعنتها. •••
روت الصحف الفرنسوية أيام الحرب الخبر الآتي: تقدم إلى مجلس القرعة رجل يبلغ الخمسين من العمر وطلب الرئيس قبوله متطوعا في الحرب، ثم قال: إنني اشتراكي منذ أكثر من عشر سنين ولم أدخر وسعا في بث روح الاشتراكية ومبادئها بين رفاقي وفي أول يوم من التعبئة سافر ولداي إلى الحدود الشرقية ولم أنصح لهما بالفرار إذ كانا يريدان الدفاع عن الوطن مثل رفاقهما. - وهل رجعت عن أفكارك ومبادئك الاشتراكية الآن؟ - لا، بل لا أزال اشتراكيا، وقد حدث اليوم ما غير أفكاري وكان يجب أن أكره الحرب أكثر مما كنت أكرهها سابقا. - وما الذي حدث؟ - بلغني اليوم أن ولدي قتلا في ساحة الحرب. - وماذا تريد الآن؟ - أريد أن أتطوع. - أتريد أن تنتقم لولديك؟ - لا، لا أظن ذلك لأنني لا أحب الانتقام ولكن قوة غريبة لا يمكنني تعليلها تدفعني للتطوع، وأرى أنه من الضروري أن أذهب أيضا إلى ميدان القتال. وما جاء المساء حتى ارتدى الرجل الملابس العسكرية وسافر إلى ساحة الحرب. •••
الضيف الثقيل: نزل ولي عهد ألمانيا ضيفا غير كريم في قصر البارون دو باي في أثناء وقعة «مو» أو واقعة المرن الكبرى، والبيت المذكور من أقدم البيوت كما أن القصر من أقدم قصور الأشراف في فرنسا والظاهر أن الابن سر أبيه فقد فعل الولد في القصر المذكور ما فعله الوالد في أثناء زيارته قصور الكبراء في الشام فلم ير شيئا تستحسنه عينه، ومن حمد الله أنها تستحسن كل شيء إلا أمر بجمعه، وقد كتبت البارونة كتابا نشرته صحف فرنسا قالت فيه: إن ولي العهد حطم زجاج ممشى يبلغ طوله 45 مترا والزجاج أثري قديم العهد، ثم نهب جميع الأسلحة والمجوهرات والمداليات والأواني القديمة العهد والكئوس الذهبية المنقوشة والهدايا التي قدمها قياصرة الروس للبارون أثناء سفره إلى روسيا بمأمورية سياسية، وقد نهب من متحف سنة 1812 جميع الأيقونات الروسية الثمينة والأبسطة الحريرية البديعة، والخلاصة أنه سرق كل ما خف حمله وغلت قيمته وكان الخدم الذين بقوا في القصر بعد هرب البارونة منه يرون هذا النهب ويبكون على أخذ هذه الأشياء الغالية على قلوبهم.
وقد ختمت البارونة كتابها بقولها: إن ولي العهد أخذ صورتي القيصر والقيصرة وسحقهما تحت قدميه على عتبة ذلك المعبد. •••
رأى جندي فرنسوي فلاح وهو يقاتل في طابوره أن الألمان خبئوا متراليوزا في حرج إلى جانب قرية فانسل إلى القرية وخلع زيه العسكري ولبس زي فلاح وأخذ المتراليوز وكان طابوره قد تقهقر فوصل متأخرا بزي الفلاحين فعقد ضابطه مجلسا عسكريا ليحاكمه محاكمة الفار من القتال، فلما انعقد المجلس قال الجندي لضباطه ماذا تريدون مني؟ مروني أفعل؛ فقد تأخرت لأحمل متراليوز الألمان فإن شئتم أن أجيء بمتراليوز آخر فعلت، فكانت النتيجة أنهم أعطوه نشانا وعرفوا أنهم أخطئوا وأصاب وتسرعوا فخدم. •••
للمسيو بوانكاري رئيس جمهورية فرنسا سابقا منزل وحديقة حوله وبعض الأملاك في سامبيني بشمال فرنسا فلما تقهقر الألمان من نهر المارن شمالا ووصلوا إلى مقربة من تلك البلدة في 8 أكتوبر سنة 1914 صبوا جام غضبهم على منزل المسيو بوانكاري هناك فأطلقوا عليه 48 قنبلة ودمروه كله. •••
لما دخل الألمان مدينة كونديه في مقاطعة «اللورد» في فرنسا وجدوا في إحدى الساحات العمومية تمثالا للقائد الفرنسي الشهير «بوالو دي سان ماري» فحاولوا إنزال هذا التمثال عن قاعدته بواسطة حبل فانقطع الحبل، ولما لم يفلحوا اصطف 50 جنديا منهم وأطلقوا مئات الرصاص على التمثال، وقد قرر المجلس البلدي في تلك المدينة إبقاء آثار الرصاص ظاهرة على ذلك التمثال. •••
لما مر الألمان بمدينة ريمس متقهقرين نحو الشمال قرأ أهالي المدينة عبارة مكتوبة بالألمانية على العربات والأتوموبيلات حملتهم على الهزء والضحك فألهتهم حينا عن مصائبهم، أما العبارة فهي: غليوم الثاني إمبراطور العالم. •••
أعدم الألمان الكونت بونوكي أحد أعيان بولندا رميا بالرصاص لأنه احتج على السلطة العسكرية الألمانية عندما استوت عنوة على بعض ممتلكاته. •••
فعل المدافع الألمانية: نقلت جريدة الطان بلاغا لاسلكيا عن الصحافة الألمانية ذكر فيه ما يأتي : تقول الصحافة الفرنسية إن فعل القنابل التي تطلقها المدافع الألمانية ضعيف وانفجارها نادر وذلك القول حق، على أن تلك القنابل ليست من مصنوعات ألمانيا، بل هي غنيمة حرب أخذناها من الفرنسويين والبلجيكيين ونحن لا نجهل رداءة صعنها ولكن لما كنا قد غنمنا مقدارا كبيرا منها رأينا أن نعطلها فأعدناها إلى أصحابها من أفواه المدافع.
فكان جواب الصحافة الفرنسوية اللاسلكي على ذلك البلاغ: «وصل إلى جميع محطات التلغرافات اللاسلكية بلاغ رسمي ألماني يقول إن القنابل التي تطلقها مدافع الألمان لا تنفجر إلا نادرا ويقول إن تلك القنابل هي بعض الغنائم التي أخذت من الفرنسويين والبلجيكيين، والظاهر أن الألمان الذين يشعرون كل يوم بفعل المدافع الفرنسوية ويعرفون مزاياها أكثر من سواهم قد وجدوا لها مزية جديدة حميدة وهي أن المدافع الفرنسوية إذا أطلقها غير الفرنسويين لا تنفجر قنابلها.» •••
أونباشي فرنسا الصغير: يلقب نبوليون بونبارت الشهير بالأنباشي الصغير أمام اليوم فلا ينفرد نبوليون بهذا اللقب ففي فرنسا أنباشي صغير ينطبق عليه هذا الوصف من جميع الوجوه.
وقد روى مكاتب شركة سنترال نيوز التلغرافية من باريس حكاية الأنباشي الصغير، فقال: عدت الآن من زيارة «أنباشي فرنسا الصغير» وهو الآن بطل معروف في هذه العاصمة واسمه غستاف شاتان من الآلاي الثاني والتسعين من المشاة، وقد قابلته في منزل قائده وهو يلعب بالدمى والألعاب، ولما أبصرته لابسا البذلة العسكرية حسبته دمية لصغره فلما حادثته أدركت أنه رجل.
وقد قص علي حكايته بعبارات بسيطة، فقال إنه بلغ الخامسة عشرة من عمره وهو ابن بستاني كان يعمل مع والده في بستانه في سنيلس فمر الآلاي الثاني والتسعون بهما، ولما رأى الولد الجنود رمى معوله وتبعهم فاندس بينهم وغافل موظفي المحطة فدخل القطار الذي أقل الآلاي إلى الحدود الشرقية، ولما افتضح أمره أعجب رجال الآلاي به وتبنوه، ثم خاطوا له بذلة عسكرية صغيرة فلبسها والفرح يكاد يطير لبه.
واتفق وهو في وفنتنوي أنه التقى ببنت صغيرة استحوذ عليها الرعب، فأخبرته أن بعض الجنود الألمان دخلوا بيت أمها فعاد غستاف إلى الآلاي وجاء ببندقية وحربة وكمية من الخرطوش، وقال للبنت دليني على البيت.
ولما وصلوا سأل الأولاد قائلا: أين الألمان؟ فأجابوه وركبهم تصطك خوفا أنهم في الدور العالي يشربون كل ما في المنزل من الخمر فأسرع إلى حيث دلوه وفتح الباب فوجد سبعة جنود ألمان، وقد أخذت الخمرة تلعب برءوسهم فصوب بندقيته إليهم وأمرهم أن يقفوا وينزلوا أيديهم إلى أجنابهم ويمشوا أمامه وتوعد من يخالفه بالموت فأطاعوا وبعد قليل أبصر جنود الآلاي غستاف عائدا وأمامه سبعة جنود ألمان منكسي الرءوس وهو مستعد لهم ببندقيته.
ولما درى قائد الآلاي بما فعل غستاف عينه جنديا في الآلاي، وخرج بعد ذلك بيومين مع فصيلة للاستكشاف فأصيب برصاصة في كتفه وأرسل إلى المستشفى في باريس، ولما التأم جرحه عاد إلى مستودع الآلاي وقدم نفسه طالبا الرجوع إلى ميدان الحرب فشفقوا على صباه وأبوا عليه السفر ولكنه انسل إلى قطار كان يستعد للسفر بفصائل الجنود إلى الشمال فلم يره أحد لأنه اختبأ في القش الذي كان في مركبات المواشي، ولما وصل قدم نفسه إلى الكولونل وشرح له حكايته فرثي الكولونل له ولم يشأ أن يرده خائبا فألحقه بأحد البلوكات.
وبعد ذلك بثلاثة أيام أمر الآلاي بالنزول إلى الخنادق فذهب غوستاف مع جنود بلوكه وكان يتمنى أن يصدر إليهم الأمر بالحملة على «البرابرة» ولم يطل الزمان حتى تحققت أمانيه؛ فإن الأمر صدر بالهجوم، وكان غستاف في مقدمة الجنود غير مبال بالقنابل والرصاص ولا بالقتلى والجرحى الذين كانوا يسقطون في حومة الوغى حوله، وظل هاجما وهو يصيح «فلتحي فرنسا» حتى بلغ خندق العدو وهو يطعن ذات اليمين وذات الشمال واحتل الفرنسويون خنادق الألمان، ولكن غستاف أصيب برصاصة في صدره، وانفجرت قنبلة بجانبه فقذفته في الجو وسقط، فكسر بعض أضلاعه ولكن شجاعته لم تفارقه، فقال للذين حملوه: «هذا حسن وأنا سعيد جدا.»
وزاره الكولونل تلك الليلة في المستشفى ورقاه إلى رتبة أنباشي قائلا: أنت الآن أنباشي فرنسا الصغير الثاني (إشارة إلى نبوليون الأنباشي الصغير الأول) والجيش يفتخر بك .
وشفي غستاف من جروحه وعاد إلى آلايه، وقبل ذهابه أخذه الجنرال جاليتي قائد موقع باريس إلى أحد المخازن الكبيرة؛ حيث اشترى له صندوقا من القطرات فإن أحب شيء لغستاف بعد الحرب التلهي بتسيير القطرات.
ولما سئل عن الجنود البريطانية مدحها، وقال إنه التقى ببعضها بجوار إيبر فأعطوه لحما ومربى ودخانا وسائر ما طلب، وقال: «إن طعام الجنود الإنكليزية أفخر من طعام الجنود الفرنسوية.»
ومن الذين عرفهم غستاف وصافحهم ملك البلجيك والبرنس «أوف ويلس» ويقال إنه سينعم عليه قريبا بالمدالية العسكرية اعترافا ببسالته وحسن خدمته (ولا ريب أنه يستحق ذلك). •••
ضابط روسي ينجو مرتين من الإعدام: أرسل هذا الضابط إلى قرية «ملانا» في بروسيا الشرقية لاستطلاع قوة العدو وتقدير عدد جنوده، فتزيا بزي الفلاحين، وقصد تلك القرية حيث تظاهر أنه ولد من أولاد المزارعين إلى أن اشتبه في أمره بائع فوشى به إلى السلطة العسكرية وألقي القبض عليه، ثم سيق إلى المحاكمة أمام ملازم بروسي، وكان هذا الملازم صغير السن كبير النفس حسن البزة على عينه اليسرى زجاجة ينظر من ورائها نظرة المتغطرس المعجب بنفسه، وبيده منديل تفوح منه الروائح الطيبة، فأمره أن يخبر عما يعلمه من أمر الجنود الروسية المرابطة في ضواحي البلد، ولما سمعه يقول إنه لا يعلم شيئا عنها حكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص في صباح اليوم التالي.
الفرار الأول: ومن حسن طالع الضابط أن الجنود الألمان الذين تولوا أمر حراسته تغلب عليهم النوم في تلك الليلة فاستغرقوا في سبات ثقيل مكنه من الانسلال والهرب وهم لا يفيقون، وكان قد لبس رداء لواحد من الحراس وتسلح بمسدس، فخرج من القرية وهو يلتفت ذات اليمين وذات اليسار، وقبل الابتعاد عنها لقي حصانا فركبه وجد في السير طالبا المعسكر الروسي، غير أن طلوع الفجر أدركه قبل الوصول إليه، فرأى عن بعد فصيلة من الجنود الألمانية مقبلة عليه، حينئذ نزع عنه الرداء الألماني ورمى بالمسدس إلى الأرض، ثم تقدم إلى الجنود الألمانية، فقال لهم إنه آت من مكان بعيد ليعود والده المريض المقيم بتلك النواحي فسكت قائد الفصيلة هنيهة، ثم لطمه، وقال له: كذبت أيها الخبيث، فما أنت إلا جاسوس، وقد خانتك الجزمة التي في رجلك وهي من الجزم التي تلبسها الجنود الروسية، وكان الأمر كما قال القائد، فحكم على الضابط الروسي هذه المرة بالإعدام شنقا.
الفرار الثاني: على أن حسن الطالع لم يفارق الضابط الروسي، فتمكن من تسلق جدران البيت الذي قيد إليه ليقضي فيه آخر ليلة من ليالي عمره وخرج من نافذة كانت فيه، ثم دب على يديه ورجليه دبيب ذوات الأربع منسلا بين الحراس فأسرع في المشي، وأخذ يعدو إلى أن وصل إلى المعسكر الروسي ينقل إلى أركان الجيش من الأخبار ما ساعدهم على النجاح في أعمالهم الحربية. •••
ولي عهد بافاريا في شارلروي: في أول الحرب دخل الجيش البافاري مدينة شارلروي ظافرا منتصرا بقيادة الأمير ولي عهد بافاريا وضرب القائد على المدينة غرامة حربية مقدارها مليون فرنك، فاستكثرها رجال المجلس البلدي لا سيما وأنه ليس لديهم في خزانتهم إلا ما يساوي ربع القيمة أو دون ذلك، ولم يجدوا حيلة للخلاص من دفعها، فقالوا نذهب إلى المطران ونعرض عليه الأمر لعله يجد في قلب الأمير سبيلا إلى الشفقة، فأبلغوه الخبر فتردد أولا خشية من أنه لا يلاقي إلا الجفاء والرفض، ومن الغد أرسل حافظ سره إلى القيادة العامة يستأذن له بمقابلة الأمير القائد.
قال: ذهب الكاهن وهو يرعد خوفا إلا أنه لما انتهى إلى حيث معظم الجند جالسون تشجع وعاد إليه جأشه لما رأى الجند يقفون احتراما له ويحيونه بالسلام على طول الطريق إلى أن بلغ مركز القيادة، وطلب موعد مقابلة مخدومه للأمير فعين الموعد ورجع الكاهن مستبشرا خيرا، وأخبر المطران بما كان فسر، وتشجع وفي الموعد المضروب مضى المطران فاستقبله الأمير ولي العهد وحده بكل بشاشة وإيناس واستوعب مطالبه، ثم إن الأمير استدعى إليه رئيس أركان حربه وكان بروسيا طويل القامة غليظ الجفنين بادي القسوة فهمس في أذنه، ثم التفت إلى المطران، وقال له : قد أعفينا المدينة من الضريبة، فخرج المطران من حضرة الأمير البافاري شاكرا يتحدث بلطفه وكرم خلاله. •••
الألمان يحرقون قتلاهم بجوار استرناي: استرناي قرية فرنسوية قرب مدينة سيزان وعلى بعد تسعة أميال فقط من باريس، احتلها الألمان يوم السبت في 12 سبتمبر سنة 1914، وظلوا فيها إلى يوم الإثنين في 14 منه، وقنابل المدافع الفرنسوية تهطل عليهم كالمطر الهطال طول تلك المدة حتى اضطروا أن يخلوها بعد قتال يشيب الأطفال في معركة المارون الشهيرة، وقبل أن يرحلوا عنها جمعوا جثث قتلاهم ووضعوها على قطع كبيرة من الحطب قرب محل ينشر فيه الحطب ألواحا من الخشب، ثم أفرغوا عليها «صفائح البنزين» وأضرموا فيها النار فاحترقت احتراقا هائلا وتصاعدت روائح الشواء في الفضاء، وكان بالقرب من لهبها عدة بخارية من نوع اللوكوموبيل فاحترقت من حر نارها ولم تعد تصلح لعمل. •••
أول رصاصة: في قلعة قديمة من قلاع النمسا - هي اليوم سجن للمجرمين - رجل في مقتبل الشباب محكوم عليه بالحبس عشرين سنة يقضي أيامه في حجرة يحرسها جندي واقف أمام بابها ليل نهار، وهو ينظر كل ثلاث دقائق من ثقب في الباب إلى المسجون ويراقب حركاته وسكناته، وذلك المسجون مقيد الرجلين بقيد ضخم، يجلس على مقعد من خشب أمام منضدة حقيرة عليها فانوس ينير ظلام الليل بنوره الضئيل من المساء إلى الصباح، وقد حرم عليه الكلام والكتابة والقراءة، ولا يسمح له بالخروج من حجرته إلا ساعة من الزمان من الساعة التاسعة إلى الساعة العاشرة صباحا لتبديل الهواء في صحن البناء فيسير الهوينا سير المحمل عبئا ثقيلا، تصطك حلقات القيد الذي في رجليه فيسمع لها رنين يدوي في هدوء ذلك المكان كأنها أنين المتوجع، ويتبع في خطواته عن كثب حارس السجن شاهرا بندقيته.
ذلك الشاب هو جافريو برنسيب قاتل الأرشيدوق فرنز فردينند ومثير هذه الحرب الطاحنة بين خمس إمبراطوريات وجمهورية وثلاث ممالك وسلطنة، عدد سكانها وسكان مستعمراتها 600 مليون نفس وعدد جنودها التي كانت تخوض معامع القتال نحو 20 مليون جندي.
وقد قالت مجلة «الساتوردي إفيننج بوست» الأمريكية: إننا لم نسمع من اليوم الذي حكم فيه بالحبس على جافريو برنسيب أن واحدا من أصحاب معامل الأسلحة بعث بخمسين سنتيما لذلك المجرم اعترافا له بالجميل، وهو الذي روج سوق بضاعتهم وملأ خزائنهم قناطير مقنطرة من الذهب الرنان، بل لم نسمع أن ملكا أو أميرا أو قائدا كبيرا كان يحلم بالحرب إبان السلم أتحف برنسيب شروي نفير يوم حقق ذلك المجرم حلمه وبلغه منها، ولو كان الإنصاف من شيم الناس لجعلوه أميرا أو أقاموا له تمثالا كبيرا. •••
إلغاء الامتيازات بين أنور وجاويد:
جاويد :
قلت لك لا تعجل بإلغاء الامتيازات الأجنبية فإن نصر ألمانيا غير مضمون.
أنور :
أنا لم أعلن إلغاء الامتيازات بل لجنة الاتحاديين، وفي الوقت الذي كنت أنتظر فيه دخول الألمانيين باريس.
جاويد :
ولكن الحال تبدلت الآن وارتد الألمان على أعقابهم.
أنور :
وجلالة السلطان يعلن غدا أن شفقته ما زالت تعم الأجانب ولذلك أعاد امتيازاتهم لهم.
جاويد :
وماذا نفعل مع دول الوفاق؟
أنور :
لا نعجز من الاتفاق معهم على بعض مرافق البلاد! •••
بينما كان جندي إنكليزي ينقل رسائل حربية على دراجته الموتوسيكل ويسير بسرعة فائقة تحت وابل من القنابل والمقذوفات في مقاطعة إيبر سقطت قنبلة شربنل في طريقه وانفجرت فاتحة ثغرة كبيرة في الأرض، فلم يتسن للجندي تحويل دراجته عن خط سيرها فانحدرت بقوة في الهوة وكادت تتحطم، على أن زخمها الشديد دفع براكبها خارجا فنجا بأعجوبة سموية بعد أن نظر الموت بعينيه ولم يصب بمكروه، ولم تصب الدراجة بعطل يذكر. •••
القتال في الهواء وعلى وجه الأرض: طار الكبتن جيرار في طيارة مستصحبا معه مهندس عدة الطيارة قاصدين استطلاع مواقع الألمان لأخبار الفرنسويين بها، ثم نزلا إلى الأرض واتفق أن نزولهما كان بقرب طليعة من طلائع الألمان فأسرع فرسانها للإحداق بهما وأسرهما في طيارتهما، فما كان من المهندس إلا أن أدار دفة الطيارة فطارت ولكنها لطمته في بطنه لطمة ألقته على الأرض مكبا على وجهه، والعادة أنه يتبع كل طيارة سيارة عسكرية تجري على وجه الأرض حاملة عدة أخرى ودفات تستعملها الطيارة مكان ما يتعطل فيها، فبادر الفرنسويون الذين فيها وأصعدوا المهندس إلى سيارتهم وهم يطلقون رصاصهم على الألمان ويطلق مسدسه عليهم حتى حولوا نيرانهم إليه وشغلهم عن مهندسه، وبذلك نجا الطيار والمهندس وسائر من في السيارة بعدما جندلوا فارسين من الألمان على بساط الصحصحان. •••
كان طيار إنكليزي يستطلع فوق معسكر الألمانيين في شمال فرنسا فشاهد أوتوموبيلا يروح ويجيء بسرعة فائقة فعلم أن ذلك الأوتوموبيل ينقل أوامر رئاسة أركان الحرب الألماني فتربص له في طيارته حتى إذا عاد من المعسكر قاصدا مركز الرئاسة ضبط سرعة الطيارة على سرعة السيارة، ثم انقض عليها بطيارته وصوب بندقية رشاشة نحوها، وأخذ يصب رصاصها على من فيها فقتل منهم ثلاثة رجال، ثم عاد من حيث أتى. •••
وداد كلب: لما احتل الألمان قرية «فالي» في مقاطعة الآين بفرنسا أمطروها نارا من مدافعهم فتهدمت أكثر بيوتها وأصبح بعضها طعمة للنيران، وحدث أن أحد المنازل المتهدمة هجره أهله قبل قدوم الأعداء تاركين وراءهم كلبهم، فلم يطق الكلب فراق البيت واللحاق بهم بل وقف يحرس ما بقي من أنقاضه وهو ينبح نباحا محزنا كأنه عالم بما آلت إليه حال تلك القرية. •••
مهندس يستبسل: لما عبرت الجنود البريطانية نهر الآين في تقهقرها عبرت على جسر (كبري) على ذلك النهر، ثم أمر القائد بنسف ذلك الجسر حتى لا يعبر الألمان عليه وراءهم؛ فجعل المهندسون الملكيون يقتحمون الجسر ليولعوا فتيلة اللغم الذي ينسفه فتطيرهم قنابل مدافع الألمان أو يشوبهم رصاصهم، وكلما قتل منهم واحد تلاه آخر حتى قتل منهم أحد عشر مهندسا، فما كان من الثاني عشر إلا أن حمل حملة مستبسل مستقتل ورصاص الألمان يهطل عليه وقنابلهم تنصب حوله من كل جهة حتى وصل إلى الفتيلة فأولعها وتفرقع اللغم فدك الجسر دكا وقتل ذلك البطل مشويا برصاص الألمان شيا. •••
التحام الفرنسويين والألمان: كان في فرنسا قصر قديم يسمى «شاتو دومندمان» يبعد نحو أربعة أميال عن بلدة سيزان التي اشتهرت في معارك نهر المارن، ومن سوء حظ أصحاب هذا القصر أنه واقع في موقع حربي عظيم الشأن فلذلك التحم عليه الفرنسويون والألمان التحاما قلما سبق له نظير في غابر الزمان؛ فقد احتله الفرنسويون في بادئ الأمر وجعلوا يقاتلون أعداءهم منه، ثم حمل عليهم الألمان فأخرجوهم منه وحلوا محلهم فيه، فسدد الفرنسويون مدافعهم إليه واصلوا الألمان نارا حامية، ثم حملوا عليهم حملة صادقة وأخرجوهم منه بحد السيف ورءوس الحراب، ولكنهم ما لبثوا أن عادوا إليه وامتنعوا فيه حتى حمل عليهم الألمان حملة منكرة وطردوهم منه، ثم جمع الفرنسويون شملهم وهجموا عليه مستقتلين فطردوا الألمان منه بعد قتال يشيب الولدان، فانتقل القصر في يوم واحد أربع مرات من يد خصم إلى آخر حتى ولى الألمان الأدبار متقهقرين إلى جبال أرجون جنوبا بشرق، كما تقهقرت سائر جيوشهم في ذلك اليوم وهو آخر أيام القتال على نهر المارن وبات ذلك القصر الباذخ مخرقا تخريقا بكرات المدافع وردما وأطلالا من أثر ما شب فيه من النيران. •••
قالت إحدى الصحف الأمريكية مشيرة إلى هدم الألمان الكنائس، يحسن ببناة الكنائس في أوروبا بعد الذي جرى في هذه الحرب أن يدرعوها كما تدرع الحصون والبوارج الكبرى. •••
بناء كبري (جسر) تحت نيران المدافع: قص عسكري إنكليزي القصة التالية قال: «وصلنا إلى نهر الأين صبيحة أول سبتمبر سنة 1914 فوجدنا أن الكباري (الجسور) المبنية عليه قد نسفت كلها ما عدا واحدا، فأسرع المهندسون منا إلى تركيب كبري نقال من الخشب مكان واحد منها وكانت عساكر الألمان راصدة لنا في مكان يخفيها عنا فترانا منه ولا نراها، فكلما ركب المهندسون منا طوقا أطاره الألمان بمدافعهم وقتلوهم بقنابلهم وحل مهندسون آخرون غيرهم محلهم ليتموا عملهم، وهكذا حتى امتلأ النهر بأشلاء القتلى وبالجرحى الذين كانوا يخبطون بدمائهم وسط الماء وننتشلهم تحت النيران المهلكة، وما زلنا كذلك حتى ركبنا الكبري ست مرات والألمان ينسفونه وأخيرا فزنا بتركيبه وعبرنا عليه بعدما صبر رجالنا على الكريهة صبرا عجيبا وأظهروا من الشجاعة ما لا يوصف.» •••
فكاهات: رب عائلة - لقد زاد ثمن كل شيء زيادة هائلة.
إحصائي عسكري - لم يزد ثمن كل شيء؛ فقد دل الإحصاء أن قتل رجل في الحروب الماضية كان يكلف القاتلين ثلاثة آلاف جنيه، أما الآن فلا يكلف أكثر من ثلث هذا القدر. •••
أرسل ضابط فرنسوي ستة عساكر للاستطلاع والاستكشاف في إحدى القرى على الدراجات، فلما وصلوا إلى القرية سألوا أهلها عن الأعداء فأكدوا لهم أنه لا يوجد ألماني واحد في القرية وفي الجوار، فتركوا دراجاتهم وقصدوا خمارة لتناول كأس من المشروب فلما دخلوا الخمارة وجدوا فيها ستة من الجنود الألمان، وقد ملئت لهم كئوس البيرة وألقوا بنادقهم في زاوية الخمارة، فهبوا عند رؤية الفرنسويين إلى بنادقهم ولكن الفرنسويين صوبوا إليهم بنادقهم وأمروهم بالوقوف فوقفوا، ثم أخذ الفرنسويون بنادقهم وسلاحهم وجالسوهم إلى أن أتموا شرب كئوسهم وأخذوهم أسرى حرب. •••
الحرب في الجو: طار الطيار ورنر الحربي الذي كان أول طيار ألماني طار فوق باريس وألقى القنابل عليها حلق في الجو ذات يوم حتى رأى الجيوش الإنكليزية في أماكنها بفرنسا ورسمها رفيقه ورسم مواقعها وأدارا طياراتهما ذات السطح الواحد ليرجعا بها، فلم يشعرا إلا وطيارة بريطانية ذات سطحين تحلق فوقهما على علو ألف قدم منهما، انقضت انقضاض النسر الخاطف حتى لم يبق بينهما وبين العدو غير 500 قدم، وكانت طيارة العدو بجانبها كالعصفور بجانب الباشق، وترامى الفريقان برصاص المسدسات وللحال أدركتهما طيارة من طرز بلاريو وحمي وطيس القتال في الجو وأسرعت جنود الألمان على الأرض لإغاثة طيارتهم وجعلوا يطلقون بنادقهم على الطيارتين الإنكليزية والفرنسوية حتى كان الرصاص يدوي بجانبهما من كل جانب فارتفعتا في الجو حتى غابتا عن البصر ولم تصابا بضرر. •••
كان بعض من الفرسان الإنكليز مرابطين في عزبة واقعة وراء الخطوط البريطانية في فرنسا فدنا فارس على غير انتباه من كومة كبيرة من التبن كان أهل العزبة قد كوموه أكواما كما يفعل الفلاحون هنا - فتناول جواد الفارس بأسنانه حفنة من التبن وإذا تحت التبن حاجز من العيدان سقط وظهر رجل مختبئ في فرضة كبيرة في جوف الكومة ومعه جهاز تليفون كان يخاطب به مركز قيادته - فقبض الإنكليز عليه وأعدموه رميا بالرصاص جزاء خيانته. •••
صوروا إمبراطور ألمانيا وإمبراطور النمسا وقدر ركبا دبا يمثل روسيا ظنا منهما أنه في سبات عميق لا يستفيق منه فطال جلوسهما على ظهره، أما إمبراطور ألمانيا فإنه لا يزال يخشى جانب الدب، وقد التفت إلى زميله ودار بينهما الحديث الآتي:
ولهلم :
استرحت الآن من هذا الوحش الهائل ولكني متأهب للقضاء عليه إذا عاد يتحرك.
كارل :
أخشى أن تعود إليه الحياة فيلقينا عن ظهره، ثم يداعبنا ويحاول افتراسنا. •••
كانت إحدى الطيارات الإنكليزية التي تراقب مواقع مدافع الأعداء وترشد رجال المدفعية الإنكليز إليها، كانت ذات يوم تقوم بعملها وإذا بست طيارات معادية قد هاجمتها فأبى قائدها أن يفر منهن، وقاتلهن حتى قنص واحدة منهن فهبطت بين الصفوف الإنكليزية، ثم أنجدتها طيارة رأتها تقاتل الطيارات الألمانية الخمس فهزماتهن وعادت الطيارة المنجدة إلى ميدان الطيران لأخذ ما يلزمها من الذخيرة، أما الأولى فرئيت في اليوم التالي في حقل بعيد وقائدها والمراقب ميتان، وتبين أنهما قتلا والطيارة محلقة بهما فظلت طائرة من تلقاء نفسها ساعات، ثم هبطت في الحقل المشار إليه. •••
خوذ الفولاذ للجنود: قالت جريدة «الإنترانسجان» إنه كان عند الحكومة الفرنسوية 300 ألف خوذة من الفولاذ للجنود الذين كانوا يحاربون في الميدان وهي كانت تصنع من هذه الخوذة 25 ألفا كل يوم، وإنها تشبه الخوذة التي كان يلبسها الجنود القدماء، وقد جعل لونها رماديا فلا ترى عن بعد، وقد جيء إلى باريس ببعض الخوذ التي أصابها رصاص البندقيات في القتال ولو أصاب هذا الرصاص برانيط الجنود العادية لقتل لابسيها.
وقد جعل على خوذ كل سلاح علامة تميزها عن خوذ سائر الأسلحة؛ فرسم على خوذ المشاة قنبلة يد وعلى خوذ الشاسور قرن صياد، وعلى خوذ مشاة المستعمرات مرساة، وعلى خوذ رجال المدفعية مدفعان متقاطعان. •••
كانت تخاطب باريس بمدة الحرب فرسوفيا الروسية بالتلغراف اللاسلكي من رأس برج إيفل، فكانت تمر الرسائل من فوق رءوس الألمان وهم لا يعلمون منها شيئا. •••
الطوربيد: الطوربيد عبارة عن قنبلة من الفولاذ الصلب مستطيلة الشكل دقيقة الرأس في مؤخرها لولب كالرفاص يدور بسرعة عظيمة فيدفع الطوربيد إلى الأمام، ويطلق الطوربيد من ماسورة مثل ماسورة المدفع وتستعمله الغواصات والطرادات والبوارج على اختلافها وهو يجري تحت سطح المياه أو فوقها ويندفع من الماسورة بقوة الهواء المضغوط، ثم يستعين في أثناء سيره بدوران لولبه الذي في مؤخره فإذا اصطدم بجسم غريب انفجر انفجارا عظيما ونسفه، ومن غريب الطوربيد نوع ينفجر من غير أن يصطدم بجسم غريب وذلك يتم بإحراق فتيل في داخله قبل إطلاقه ويعير طول الفتيل بحسب المسافة التي يراد انفجار الطوربيد فيها فإذا اجتازت وصلت النار إلى جوف البارود وتم الانفجار. •••
أسر الجنود الأسترالية في شبه جزيرة غليبولي جنديا عثمانيا، وقد لف حول وسطه أوراق الأشجار وأغصانها ولم يظهر منه إلا رأسه وقدميه، وقد تنكر بهذا اللباس العجيب حيلة وخدعة ليقترب من الجيش الإنكليزي للتجسس بحيث يرى ولا يرى فخاب ظنه، واقتنص وجيء به إلى المعسكر الإنكليزي من دون أن تنزع عنه الأوراق والأغصان. •••
فتك الغازات الخانقة السامة بالمتحاربين: قال شاهد عيان: «جعل الإنكليز يصبون نارهم على استحكامات الألمان وما هي إلا بضع دقائق حتى أبصرنا غيمة صغيرة بيضاء اللون انطلقت من خنادق العدو فحملها الريح إلينا، وما كدنا نستنشق الهواء حتى سقطنا لا نعي على شيء.» وقد وضع أحدهم كمامة فوق منافسه فتمكن من الاستمرار على إطلاق بندقيته وهذه الغازات تضر بالرئة فيختنق من يتنفسها ويموت خنقا ويقاسي الجنود الآلام التي تتسبب عنها. •••
صنعت قنبلة المدفع الألماني الضخم الذي يبلغ قطر فوهته 42 سنتمترا لإهلاك البشر ولكن جزارين من الألمان حولوا بعضها لشبع الإنسان، فصنعوا قنبلة منها ملأها جزاران لحما طيبا وأهدياها إلى الجنود الألمانية المحاربة لتأكلها وتتلذذ بها، وقد فعل غيرهم مثلهم فأهدوا 70 ألف كيلو من اللحم على هذه الصورة إلى الجنود الألمانية. •••
الصحافة السرية أثناء الاحتلال الألماني في شمال فرنسا: شجاعة نادرة حملت المسيو جوزف فيلو وهو صيدلي في روبه إحدى مدن فرنسا الشمالية وأستاذ الصيدلية في جامعة «ليل» الكاثوليكية على إنشاء جريدة «الصبر» في تلك المدينة، على الرغم من يقظة الألمان وقسوتهم وذلك أنه لم ينخرط في سلك الجندية؛ لأنه ألقي إليه أن يكون مساعدا في جمعية الصليب الأحمر، ولما دخل الألمان مدينة ليل في 12 أكتوبر سنة 1914 أبعد هو ورجال الصليب الأحمر إلى مدينته فخطر على باله أن يشدد عزائم مواطنيه باطلاعهم على الأخبار الفرنسوية الصحيحة، وكان الأب بانت الأستاذ في المعهد الفني في «روبه» يتلقى الأخبار كلها بدقة بواسطة محطة التلغراف اللاسلكي التي أنشأها هو سرا على رغم المسئولية الكبرى والأخطار الجسيمة التي كانت تتهدده - من محطة برج إيفل بباريس ومن محطة بولدو الإنكليزية اللتين كانتا تذيعان أنباء الحرب والقتال ليل نهار.
فكان الأب بانت إذا حرر هذه الأخبار اللاسلكية دفعها في الحال إلى زمرة من أنصار المسيو فيلو فينشروها في المدينة، ويحملها هو بذاته إلى مدينة ليل، وكان يتستر كثيرا في كتمانها وكانت مكتوبة بالآلة الكاتبة.
وبعد ذلك تطوع المسيو فيرمن دوبار أحد تجار «روبه» للتعليق على البلاغات الرسمية التي يذيعها مكتب أركان حرب الجيش الفرنسوي وتوسعوا في النشر حتى إنه في أواخر سبتمبر سنة 1914 أصدروا «جورنال المحتلين»، مجلة نصف شهرية، ثم أسبوعية وزعوها في روبه وتركوان وليل.
ورغب المسيو فيلو أن يوسع دائرة النشر لتعم كل الطبقات ففي 16 فبراير سنة 1915 وجد بعض أعيان ليل على مكاتبهم العدد الأول من مجلة اسمها «الصبر» فيها نحو أربعين صفحة بقطع الربع مطبوعة على الجلاتين فلم يعرفوا من جاءهم بها ولم يطبع منها إلا 250 نسخة في بادئ الأمر.
وفي شهر مارس سنة 1915 تمكن المسيو فيلو أن يأتي بمطبعة أعاره إياها صاحب جريدة «جورنال روبه» فبدأ يطبع عليها «الصبر» تحت طي الكتمان الشديد، وفي شهر فبراير سنة 1916 أصبحت مجلة يومية يطبع منها إلى سبعمائة نسخة.
وفي هذه الأثناء توفق المسيو فيلو إلى طبع مؤلف له علمي جليل سماه «دليل معامل جوزف فيلو الطبي».
وكان موزع المجلة كاتبها ومحررها وصاحبها وهو المسيو فيلو، ولما رأى في عمله رواجا ونجاحا وفائدة رغب فيها غير اسم المجلة فسماها في أوائل يناير سنة 1916 «عصفور فرنسا ».
وتوسل إلى إيهام الألمان أن هذه الجريدة ترميها المناطيد والطيارات الفرنسية فقد ألصق على كل ورقة طابع بريد يمثل طائرا مكتوبا عليه «البريد الهوائي الفرنسوي» ومحل نشره وطبعه «المطبعة الأهلية، فرع الحرب، مصلحة الطيران».
إلا أن كثرة انتشار هذه الجريدة وتداولها بين الأيدي أوقع الظنون في قلوب الألمان فبثوا العيون فجلوا ما غمض من الأسرار فأخذوا القائمون بهذه الأعمال وعوملوا أسوأ معاملة.
وذلك أن جاسوسا ألمانيا اندس في مصلحة الجاسوسية الفرنسوية تعرف إلى الأب بانت فخادعه وخدعه فأوحى إليه ببعض الأسرار عن مصدر المعلومات التي تنتهي إلى «عصفور فرنسا» وعلى أثرها أوقف عدد من الرجال المنسوبين إليه، وبينما كان الأب بانت في أحد سجون بروكسل تقرب إليه جاسوس ألماني متنكر بزي ضابط بلجيكي فاطلع منه على أسرار جديدة وبذلك قضي على أعمال الصحافة السرية الفرنسوية في البلاد المحتلة.
وكان المسيو فيلو قد أحس بدخائل الأمر فأصدر في 18 ديسمبر سنة 1916 عدد الوداع سماه «صوت الوطن» امتدح فيه شجاعة رفاقه الشجعان وجرأتهم الشريفة وفي 19 ديسمبر ألقي القبض عليهم جميعا فأودعوا السجون يقاسون فيها أشد العذاب والآلام وأسوأ المعاملات، إلى أن حاكموهم في 10 إبريل سنة 1917 فحكم على زعماء العمل وهم المسيو فيلو والأب بانت والمسيو دوبار بالسجن والأشغال الشاقة عشر سنوات ونقلوا إلى قلعة رنباخ.
قضوا في القلعة تسعة عشر شهرا، ثم كانت الهدنة فأفرج عنهم. •••
مصانع كروب: يدعى مصنع كروب مخزن جيوش الدول وأساطيلها وهو أعظم مصنع حربي في الدنيا ويتألف من ستين مصنعا كبيرا يصل بعضها ببعض سكك حديد عريضة مجموع أطوالها 40 ميلا عدا 30 ميلا أخرى من سكك الحديد الضيقة في المصانع عينها، وعدد عمال مصانع كروب أربعون ألفا، وعدد الموظفين فيها أربعة آلاف، ولهذه المصانع أيضا عدا ما تقدم عشرة آلاف معدن يستخرجون الفحم من مناجم كروب وخمسة عشر ألف عامل يعملون في مصانع الحديد والفولاذ، وسبعة آلاف في دار صنعة كروب بكيال، وخمسة آلاف معدن يعملون في مناجم إسبانيا، وجملة ذلك 81000 عامل، وهذه المصانع هي في مدينة «أسن» بألمانيا والذي يقترب منها يرى لأول وهلة غابا من المداخن العالية وعشرات من المصانع الكبيرة المرتفعة، وقد قامت حول المدينة كأنها حصون تحدق بها لحمايتها. •••
كتب أحد الجنود إلى خطيبته يقول لها: إني لفرط حبي لك أكلت ورقة طابع البريد التي كانت ملصقة على غلاف رسالتك لعلمي أنك ألصقتيها بريق فمك العذب، فأجابته: أشكرك على شعائر حبك ولكن من الأسف أن بواب بيتنا العجوز هو الذي ألصق الطابع بريقه حينما أخذ الرسالة إلى البوسطة. •••
الحمام يساعد على إنهاء الحرب: إذا قلنا إن الحمام يساعد على إنهاء الحرب فالقول حق لا غبار عليه؛ لأن هذا الطير الجميل الذي يريد شعراؤنا وأصحاب العواطف أن يخصوه «بالنواح» ونقل مناجاة المحبين كان يقوم هذا الطير بوظيفة مهمة بين مراكز المتحاربين؛ فينقل لهم رسائلهم على متون الرياح هازئا بالمدافع والقنابل والطيارات، وفي نقل الحمام الزاجل للرسائل الحربية ما فيه من الشأن فرب كلمة واحدة ترشد إلى كمين بجيش جرار فتنقذ مئات من الأرواح، والحمام الزاجل أو بالأحرى استخدام الحمام لنقل الرسائل قديم العهد، كان اليونانيون يعرفونه ويمارسونه. ويقال إنهم اقتبسوا ذلك من العجم فكانوا في مسابقات أولمبيا يطيرون الحمام وبأرجله أسماء الفائزين في السبق فيعلم سكان المدن اليونانية نتائج المسابقات، ويقيمون المهرجانات، وكان الماليون وأصحاب المتاجر قبل اختراع التلغراف يستخدمون الحمام الزاجل لنقل أخبار أسعار المحاصيل والبضائع والعمولات ... إلخ كما يفعلون الآن تلغرافيا، وفي أوائل القرن التاسع عشر استخدمت الحكومة الهولندية الحمام لنقل الأخبار الحربية وغيرها في جافا وسومترا، وفي الحرب السبعينية استخدم الفرنسويون الحمام لنقل الأخبار من باريس وإليها، ولا سيما في أثناء حصارها وبعد تلك الحرب أخذت الحكومات والشركات والجمعيات كل منها تنظم فرقا كبيرة من الحمام الزاجل لنقل الأخبار، وتمرنه على إتقان الطيران والسرعة. ولم تستعر نار الحرب العظمى إلا كان لدى كل دولة مصلحة لنقل الأخبار بواسطة الحمام منظمة أحسن نظام ومدربة للأعمال السريعة، وقد بالغت الحكومات في إتقان كتابة الرسائل التي تربط إلى رجل الحمامة الصغيرة وهي تنقل غالبا بالفوتوغرافيا على ورق شفاف يكاد يكون ميكروسكوبيا لشدة صغره؛ بحيث يمكن وضع أكثر من 150 كلمة في مساحة لا تزيد عن مساحة طابع البوستة، ثم يلف هذا الرق ويوضع في أنبوب من معدن الأولومينيوم الخفيف ويربط الأنبوب إلى رجل الحمامة وهو لا يزن أكثر من بضع قمحات، وحينما تصل الحمامة برسالتها إلى محطتها المرسلة إليها يأخذون الرسالة ويكبرونها بالفوتوغرافيا كما يفعلون بصور الفانوس السحري فيحصون على الكتابة ظاهرة واضحة، وفي الأخبار الحربية السرية تكتب الرسائل بعبارات مجهولة أو بأرقام مختلفة يتفق عليها بين الفريقين أو يكون لها مفتاح خاص في شكل قاموس وذلك منعا للأعداء من حل رموزها ومعرفة أسرارها إذا وقعت الحمامة والرسالة في يدهم، وازداد استخدام الحمام في هذه الحرب في نقل الرسائل ولا سيما بين النقط التي ليس فيها محطات تلغراف لاسلكية أو غير مجهزة بالآلات اللاسلكية، كما في كثير من الطيارات والسفن الصغيرة والبواخر التي تحرس الشواطئ، وقد عنيت البحرية الإنكليزية عناية فائقة بحمامها الزاجل.
أما كيفية تمرين الحمام الزاجل فتحتاج إلى خبرة وطول أناة، ويلخص وصفها في أنهم يعنون بتوليد الحمام في أماكن ملائمة لتناسبها، ومتى صار عمر الحمامة ثلاثة أشهر يشرعون في تدريبها؛ فيطيرون سربا من الحمام المتدرب القديم ويطيرون معه حمامتين أو أكثر من الحمام الصغير الحديث ليتعلم كيفية الطيران بالسرعة اللازمة والطريق المطلوب، وللحمام الزاجل حاسة يستطيع بها الاهتداء إلى المكان الأصلي الذي فيه قفصه، فإذا ابتعدوا به عدة أميال عاد إليه حالما يطلقون له عقاله ويتركون له حرية الطيران ولو طال مكثه بعيدا عن مكانه الأصلي، فتمرين صغار الحمام يتم بإبعادها عن «أوطانها»، ثم إطلاقها أسرابا كما سبق القول، وكأن السليقة الحيوانية ترشد هاته الطيور إلى الإخلاص في عملها لأصحابها إخلاصا قد لا يصدقه العقل، ومن ذلك إن حمامة في خدمة الجيش البريطاني كانت طائرة فوق خطوط الأعداء الذين عرفوا أنها طائرة برسالة ذات شأن فصوبوا نحوها بنادقهم وأخذوا يطاردونها، وأصابت إحدى رصاصاتهم جناح الحمامة فانكسرت ضلوعها وسال دمها، ولكن الحمامة تجلدت على ألمها رغم جرحها البالغ، وتمكنت من الوصول إلى محطتها وهي في حال محزنة فتناول ضباط المحطة الرسالة واستفادوا منها الفائدة المطلوبة؛ لأنها وصلت في وقتها وعنوا بالحمامة وبجرها ولكنها لم تشف لكثرة ما سال من دمها وهي طائرة فماتت بعد دقائق قليلة من وصوله برسالتها فتأمل.
وقد نشرت صورتها اللطائف المصورة العربية ومعظم الصحف الإنكليزية مظهرة شجاعة هذا الطير وتفانيه في الخدمة والإخلاص. •••
جلست عائلة في باريس مدة الحرب إلى المائدة لتناول طعام العشاء وكان رب العائلة يوزع الطعام عليها فنسي ابنه الصغير البالغ خمس سنوات ولم يعطه نصيبه وتكرر النسيان فالتفت الطفل إلى والده، وقال أنت كوابور الإكسبريس لا تقف على المحطات الصغيرة. •••
أرسل الألمانيون ضابطا يحمل راية بيضاء إلى الجنرال ليمان القائد البلجيكي ليطلب منه تسليم لياج قبل سقوطها فأبى الجنرال تسليمها، فقال الضابط الألماني: «وكيف تأبى التسليم، وقد قابلني أهل المدينة بالهتاف أسأل هذا الضابط.» وأشار إلى الضابط البلجيكي الذي أوصله إلى لياج فأجاب الضابط البلجيكي: «نعم، لقد هتف الناس ولكنهم لم يهتفوا لك بل هتفوا لي ظنا منهم أنني جئت بك أسيرا.» •••
تقدم شاب إنكليزي إلى أحد مكاتب التطوع في لندن فسأله الضابط الذي فيه عن غرضه فأجابه: جئت متطوعا لخدمة وطني عملا بوصية والدتي فقد قالت لي اليوم صباحا: «إذا بقيت في البيت ولم تذهب إلى الحرب فلست ابني.» وإني وحيدها ولكنها لا تسمح لي بالبقاء في البيت.
قالت الديلي مايل وما يقال في هذه الوالدة يصدق على جميع الأمهات في إنكلترا فإنهن يرسلن أبناءهن إلى الجيش كما كانت تفعل نساء سبارطة في عصور قدماء اليونان. •••
بسالة الفرنسويات: كتب جندي إنكليزي يحارب في فرنسا إلى ذويه في إنكلترا عما شاهد في المعارك التي شهدها ووصف فيه بسالة الفرنسويات أن خير علاج لجروح الشرابنل والرصاص زجاجة خمر وبيضة نيئة، وفي معركة يوم الأربعاء جاءت النساء إلى الخنادق وخطوط النار حاملات البطاطس المطبوخ وهو لا يزال سخنا والخبز الجديد ليطعمن الجنود المقاتلة، وأؤكد لكم أنهن أشجع نساء عرفتهن أو سمعت بهن. •••
تزوجه ابنتها وتطلب المهر: وكتب جندي إنكليزي آخر إلى ذويه يقول: قابلتني امرأة فرنسوية اليوم وقالت لي: إذا قتلت إمبراطور ألمانيا أزوجك ابنتي. •••
أصغر المتطوعين الفرنسويين سنا فتى اسمه بول لفيفه عمره 17 سنة و27 يوما وهو في الآلاي السادس والعشرين من رماة فنتان، وفي ميدان القتال الآن عشرة من المتطوعين يتراوح أعمارهم بين 17 و18 سنة، وأكبر المتطوعين الفرنسويين سنا القائمقام رويال عمره سبعون سنة، وقد تطوع كنفر عسكري بسيط. •••
كان في جملة الأسرى الذين وقعوا في أيدي الحلفاء في معركة أيبر ولد لا يزيد عمره عن ثلاث عشر سنة فلما رأى نفسه بين الأعداء استولى عليه الذعر وأخذ يبكي. •••
لتحي فرنسا: لما أنزل الأسرى الألمان الذين جيء بهم من الألزاس في غنت كان بينهم جندي ألماني يرتدي ثوبا ألمانيا وعلى رأسه قبعة جندي فرنسوي وعلى صدره رايات فرنسوية فجعل يصيح: «لتحي فرنسا.» فبهت السامعون، وتبين لهم بعد ذلك أنه ألزاسي، ثم نزع عنه ثوب الجندي الألماني وارتدى ثوب الجندي الفرنسي وطلب أن يؤذن له في محاربة الألمانيين فأطروه وأطلقوه. •••
قال أحد الفرنسيين لضابط هندي: ستخبر قومك غدا بكل ما رأيته هنا، فضحك الضابط وأجابه بقوله: لو قلت لهم ربع ما رأيته لقبضوا علي وأرسلوني إلى دار المجانين. •••
قال أحد الضباط الإنكليز في الجيش الهندي إننا حينما كنا نحدث الجنود الهندية عن الطيارات والمناطيد كانوا يظنون أننا نضحك منهم فلما شاهدوها في الحرب أعجبوا بها جدا، ولكنها لم تلفت نظرهم إلا مرة واحدة فقط. •••
التمثيل بمنطقة القتال: أعد مسرح للتمثيل في إحدى قرى فرنسا بمنطقة القتال تسلية للجنود ولهوا في أوقات فراغهم وهم حاملون بنادقهم على أكتافهم فما أغرب هذا النوع من التياترات. •••
كلام شرف: مما يروى عن رباطة جأش الإنكليز أن قطارا كان يقل طابورا منهم إلى ساحة الحرب فوقف في محطة خمس دقائق، فأخذ جنديان اغتنام هذه الفرصة للحلاقة وأخذ كل منهما موسه وبدأ يحلق شعر ذقنه وبعد مرور 3 دقائق على ذلك سألهما ناظر المحطة احتياطا لركوب القطر ، فقال له أحدهما: كم دقيقة مضى على وقوفنا؟ - 3 دقائق. - وكم دقيقة بقي لنا من المدة؟ - دقيقتان. - إذن في الوقت اللازم نكون في مكاننا - وهكذا كان. •••
فتاة مرسى مطروح: بينما كانت دورية راكبة تطوف الصحراء عثرت على جثة فتاة صغيرة عارية فظنوها بلا حياة لو لم ينتبه فارس إلى نبض خفيف فيها، وكان أهلها قد تركوها في الفلاة إلى رحمة الله؛ لأنه لم يكن معهم ما يسدون به رمقها وينجونها من الموت جوعا، فأردفها أحد الفرسان وراءه على حصانه وجاءوا بها إلى مرسى مطروح حيث أخذ الطبيب والممرضات يعالجنها ويعتنين بها، وقد استردت قوتها وصحتها بعد سبعة أيام، وقد أطلقوا عليها اسم «فتاة مطروح»، وقد صارت موضوع إكرامهم وعنايتهم. •••
القبطان هيوغز: القبطان هيوغز الذي خاطر بحياته لتدمير كبري السكة الحديد قرب ساحل مرمرة في صيف سنة 1915، وتحرير الخبر أن الغواصة الإنكليزية التي كان يخدم فيها القبطان هيوغز اجتازت بوغاز الدردنيل ودخلت بحر مرمرة واقتربت من الساحل مريدة نسف كبري تمر عليه السكة الحديد فتعذر عليه الدنو من الكبري؛ لأن لا فرضة في الشاطئ فتطوع الفتى هيوغز لنسف الكبري وانتظر حتى خيم الظلام، ثم شد برميل الديناميت والمواد المفرقعة إلى طوافة جهزت وشد إليها «شنطة» فيها بعض ملابسه وطبنجة وفانوس كهربائي وصفارة، ووثب إلى الماء وجعل يعوم دافعا الطوافة أمامه، وما زال بها حتى بلغت حافة الشاطئ فصعد إلى البر وربط الطوافة إلى صخر ولبس ملابسه وأخذ فانوسه وطبنجته وسار بهدوء وسكينة نحو الكبري، فلم يكد يدنو منه حتى سمع الحراس العثمانيون المعينون لحراسته يلغطون ووجد ألا سبيل إلى نسف الكبري ورأى أن يكتفي بنسف الخط الحديدي فعاد إلى الشاطئ ورفع برميل الديناميت وأسرع به إلى الخط وما زال يدنو من الحراس حتى صار على بعد بضعة أمتار منهم فحفر حفرة تحت الخط طمر فيها اللغم ومد الفتيل مسافة وأشعل طرفه، ثم ركض مسرعا نحو البحر وألقى نفسه في الماء ولم يكد يفعل ذلك حتى سمع دوي الانفجار الشديد وتطايرت الأنقاض في الفضاء وسقطت حوله، وفي الماء فهب من بقي حيا من الجنود وأسرعوا إلى شاطئ البحر يبحثون عن أسباب الانفجار، وكان نور الصباح قد بزغ فشاهدوا هيوغز يسبح في عرض البحر فأدركوا حيلته وأخذوا يرمونه برصاص بنادقهم على غير جدوى، وكان هيوغز يصفر بصفارته فسمعه الذين في الغواصة، وكانت راسية في سفح شاهق فأسرعوا إلى إنقاذه ورفعوه من الماء في أشد ما يكون من الضعف والإعياء فأنعشوه، ولما عاد إلى نفسه قص عليهم ما جرى له. •••
يستعملون في الحرب ليلا قنابل تطلقها المدافع كما تطلق قنابل القتال، ولكنها لا تحتوي مواد مفرقعة بل في داخلها شمسية من نوع ال «برشوت» فإذا انطلقت قنبلة من تلك القنابل وارتفعت في الفضاء خرج منها بقوة الزخم في الهواء مظلة من القماش قد ربط في أسفلها مصباح كهربائي نوره شديد ساطع؛ فيضيء المصباح الظلام الذي حوله، ويستطيع رجال المدافع رؤية ما يكون مجاورا لمكان نزول تلك الشمسية. •••
الفيل أكثر الحيوانات فهما وذكاء وألفة وأعظمها قوة على جر الأثقال ورفعها بخرطومه، وكان في أيام الحرب يستخدمونه في كلكتا عاصمة الهند لجر الأثقال لصناعة الذخيرة والمهمات، وهذا المنظر مألوف هناك كما هو مألوف هنا منظر الجمال في شوارع مصر. •••
الجنرال دوباي: من أقدر القواد الفرنسويين وأطولهم باعا في الفنون الحربية وهو معدود في منزلة كاستلنو وفوك، وقد عهد إليه الجنرال جوفر في قيادة الفيلق الأول المرابط في الألزاس في أثناء انهماكه (أي الجنرال جوفر) بجمع قوته كلها بين فردون وباريس وضربه الألمان تلك الضربة المعهودة في معركة المارن، هذا وبعد موقعة المارن عهد إلى دوباي في قيادة الجيش المرابط بين كومبيان وبلفورت، فقام بأعباء مهمته أحسن قيام، وأنعم عليه رئيس الجمهورية بالمدالية الحربية.
والجنرال دوباي كسائر القواد الفرنسيين الكبار اشترك في الحرب السبعينية وكان حينئذ ملازما ورقي بعد الحرب إلى رتبة يوزباشي، وعين مدرسا للفنون العسكرية في المدارس الحربية، ثم قلد قيادة القوات العسكرية وتنظيمها في الجزائر والمستعمرات، وظل كذلك عشر سنين وعاد إلى فرنسا فتولى رئاسة الجيش الجبلي الألبي، ثم عين قومندانا لمدرسة سان سير الحربية المشهورة فقائدا للفرقة الرابعة عشرة حتى نشبت الحرب العظمى. •••
تستطيع قنبلة المدفع الذي قطر فوهته اثنتا عشرة بوصة أن تخترق درعا من الفولاذ الصلب ثخنه خمسون بوصة إذا أطلقت عن بعد ميل واحد. •••
غرائب الاتفاق في سير الدول والملوك: نشرت جريدة «الديلي مايل» رسالة لأديب إنكليزي ضمنها بعض غرائب الاتفاق في سير الدول والملوك، فقال: «أسس قورش بن قمبيز الدولة الفارسية، وكان خرابها على يد قورش بن داريوس وأعاد داريوس بن هستاسبز الملك فثل داريوس بن أساميس عرشه.
وعظم فيلبس بن أمنتاس (والد الإسكندر) مملكة مكدونية وأضاعها فيلبس بن أنتيغوتوس.
وكان «أغسطس» أول إمبراطرة رومية، وكان أغسطس الأصغر المعروف بأغسطلوس آخرهم.
وكان قسطنطين أول إمبراطرة القسطنطينية، وقسطنطين آخرهم.
وكان جمس الأول رأس آل ستوارت في إنكلترا، وجمس الثاني الملك الذي سار بهذه الأسرة إلى المنفى.
وأسس نبوليون الأول الإمبراطورية في فرنسا، فقضى نبوليون الثالث عليها.
وأسس ولهلم الأول الإمبراطورية الألمانية، فهل يعيد التاريخ نفسه ويكون خرابها على ولهلم الثاني؟» ا.ه. «وأنا أقول: رأيت في السنوات الأخيرة أن الدهر ناء بكلكله على الملوك الذي ينعت اسم الواحد منهم بالثاني فقد خلع عبد الحميد الثاني والقيصر نقولا الثاني والخديوي عباس الثاني ولهلم الثاني إمبراطور الألمان.» •••
أعدم الألمان الكبتن فريات الإنكليزي لأنه حاول أن يصدم بمقدم باخرته إحدى الغواصات الألمانية التي تصدت لها لينجو من شرها، ولقد أثار إعدامه سخط جميع الممالك المحايدة والمحالفة، وأقام الإنكليز وأقعدهم فأبدوا ما لا مزيد عليه من الحنق، وكانت الحكومة البريطانية قد اهتمت بالأمر وسعت في إنقاذ الكبتن فريات من الموت بواسطة سفير أمريكا في برلين؛ إذ طلب إليه الفيكونت جراي أن يدافع عن فريات؛ لأن ما فعله مشروع تماما فهو عمل دفاعي يشبه استعمال المدافع في البواخر المسلحة في مقاومة من يريد أسرها، وهذا أمر اعترفت أمريكا وبريطانيا العظمى بأنه حق شرعي، ولكن توسط أمريكا لم يمنع الألمان من فعل ما صمموا على فعله بغضا وانتقاما؛ فعينوا ضابطا برتبة ماجور للدفاع عن فريات ولم يرضوا أن يؤجلوا المحاكمة حسب طلب السفير، وحكموا على الرجل بالإعدام ونفذوا الحكم، ولم يكد الخبر ينتشر في العالم حتى ضجت الصحف والمجالس من فظاعة الألمان وتحاملهم، واستفظعت البلدان المحايدة الجريمة، وتظاهرت الجماهير في مدينة روتردام الهولندية باستهجانها الأمر؛ فهجمت على القنصلية الألمانية في تلك المدينة، وحطمت نوافذها وأعربت عن سخطها الشديد، وقامت الصحف الإنكليزية والفرنسوية تندد بالألمان وتصرح بأن مقتل فريات يفوق في فظاعته مقتل مس كافل التي أعدمها الألمان من قبل ولا سيما لأن فيه خرقا للقانون البحري الألماني.
وقد ترك الكبتن فريات أرملة وسبعة أيتام. وكان يلقب بآفة القرصان لما أبدى من المهارة في التملص من الغواصات، وقد أشار المستر اسكويث إلى مقتله في مجلس النواب البريطاني، وقال: «ومتى حان الزمان فإنا مصممون على محاكمة الجناة أيا كانوا ومهما كانت مرتبتهم.» •••
من لطيف ما يروى عن مكارم أخلاق الألمانيين أنهم طلبوا أخذ الرسوم الجمركية على الملابس التي أرسلها بعض الفرنسويين لأهلهم الموجودين أسرى في بلاد الألمان.
ولما كان هؤلاء الأسرى لا يملكون 10 ماركات رسم الجمرك أعادت حكومة ألمانيا الأمتعة إلى بوستة جنيف ب «سويسرا» التي أرسلتها وأعادتها هذه البوستة إلى مرسليها في فرنسا، وقد قابلت فرنسا هذا العمل بأن أجازت دخول الأشياء الواردة لأسرى الألمان بلا أخذ رسوم جمركية عليها. •••
مما يؤثر عن الجنرال كستلنو أنه لما نشبت الحرب العظمى كان له تسعة أبناء يحاربون في صفوف الجيش الفرنسوي، وقد قتل ثلاثة منهم، ورأى كستلنو ابنه الأخير وهو يحتضر فانحنى فوقه قائلا: «ستموت يا جيرالد موتا شريفا في خدمة بلادك وهذا ما أتمناه لك وسأثأر لك ولأخويك من الأعداء.» •••
يستغرق بالون تسبلين سنة كاملة، وتستغرق مدة تجريبه أربعة شهور. •••
المجاملة بين الأعداء: لما احتلت الجنود الروسية مدينة لمبرج النمسوية دعا الكونت بروبنسكي الروسي الذي عين محافظا على تلك المدينة المستشار برزلنسكي نائب رئيس المحكمة، وقال له: «إن الأحكام ستصدر في المستقبل باسم القيصر، فبهت المستشار، وقال للمحافظ: إنك يا حضرة الكونت تعرضني للتهلكة لأن الله وحده يعلم بما يأتيه الغد، فأنا لا أزال من رعايا دولة النمسا ولو كنت الآن تابعا للإدارة الروسية، فإذا أطعت أمرك خاطرت بنفسي، فخليق بي في هذه الحال أن استعفي من وظيفتي.»
فتبسم المحافظ الأول، وقال له متلطفا: إنني أدلك على طريقة تتلخص بها من مركزك الحرج، فأنا لي إمبراطور وأنت لك إمبراطور آخر، فإذا أصدرت الأحكام فقل فيها «باسم الإمبراطور» ولا تذكر اسم ذلك الإمبراطور.
فطاب خاطر المستشار النمسوي وخرج من عند المحافظ الروسي مطمئن البال مسرورا. •••
كان رصاص البنادق في حروب نبوليون لا يصيب عن مدى أبعد من 200 يرد، أما في الحرب العظمى فالبنادق كانت ترمي رصاصها إلى مدى من ألف يرد إلى ألفي يرد. •••
خمسة ألمان بإنكليزي واحد: كانت نتيجة المساعي التي بذلت مع ألمانيا لمبادلة الأسرى أن إمبراطور ألمانيا قبل تلك المبادلة مشترطا أن يطلق الإنكليز خمسة أسرى من الألمان كلما أطلق الألمان أسيرا من الإنكليز، قال الكاتب وهو إنكليزي: «ونحن نرى أننا نربح بذلك كثيرا ولو أنصف الإمبراطور لاشترط أن يكون كل عشرة أسرى من الألمان مقابل أسير واحد من الإنكليز؛ لأن الجندي الإنكليزي الواحد يقدر بعشرة جنود من الألمان، ثم النسبة بين أسرانا وأسراهم هي أكثر من نسبة واحد منا إلى عشرة منهم.» •••
اشتهر الإنكليز بولعهم في تربية الكلاب ومحافظتهم عليها إلا أن هذه الحرب التي غيرت كل العادات غيرت هذه العادة أيضا، وقد جاء في صحفهم أن كثيرين تبرعوا بكلابهم إلى جمعية الصليب الأحمر فلما اجتمع لها مائة منها باعتها بالمزاد العلني فاجتمع لها من ثمنها مبلغ كبير وضعته في صندوقها. •••
يبلغ طول المدفع الذي قطر فوهته اثنتا عشرة بوصة خمسين قدما ونفقة صنعه عشرة آلاف جنيه، ونفقة صنع القنبلة من قنابله مائة جنيه. •••
يطير الحمام الزاجل أربعمائة ميل من غير أن يقف ويقطع أربعين ميلا في الساعة. •••
الروسيات في الحرب أيضا: ذاع وشاع أيام الحرب أن كثيرات من النساء الروسيات يقاتلن مع أولادهن وأزواجهن ووالديهم في الجيش الروسي، وقد روت إحدى الصحف الإنكليزية أن عددا كبيرا منهن رقين إلى رتبة ضابط في الجيش وزينت صدورهن بالأوسمة، ونحن ننقل عنها ما يلي مثالا لما يأتيه من جلائل الأعمال، قالت: انتظمت الفتاة «كيرا باشكيروف» في سلك الجيش وعمرها ثماني عشرة سنة، وسمت نفسها نيقولاوس بويين، كانت يوما تحارب وتقاتل فجلدت رجلاها فما بالت وظلت تقاتل حتى جرحت ونقلت إلى المستشفى حيث اكتشف أمرها.
وحاربت السيدة ألكسندرا كوكو فتسانا مع زوجها في فرقة القوزاق بعدما انتحلت اسم رجل، وكانت قد حاربت من قبل في الحرب الروسية اليابانية.
وقد جرحت هذه السيدة في محاربتها البروسيين مرتين، ولكن شجاعتها ووطنيتها أبتا عليها إلا أن تعود إلى القتال بعدما شفيت جروحها.
ولما رأت القيادة العامة ما قامت به من ضروب البسالة والمهارة رقتها إلى رتبة كولونل مع أن القيادة العامة كانت قد علمت أنها امرأة، وقد خاضت المعامع مع الجنود الذين تقودهم ببأس شديد وجنودها يكادون يعبدونها لما يرونه من فروسيتها وحسن قيادتها ويطيعونها طاعة عمياء، قال فيها أحد واصفيها: إنها متى استوت على متن جوادها خلتها وإياه قطعة واحدة، وقد تركب عدة ساعات من دون أن تشكو نصبا.
ولدت هذه المرأة الباسلة في قرية بجبال أورال واعتادت ركوب الخيل منذ الصغر واشتهرت بسداد رمايتها وقوتها البدنية وجرأتها على اصطياد وحش الفلاة. •••
جوينمار الطيار الفرنسوي المشهور كان جاويش في فرقة الطيران ويعد أقدر طيار فرنسوي، وكان عمره لما نشبت الحرب العظمى 19 سنة، وكان يستعد في ذلك الحين لدخول المدرسة العالية فلما نشبت الحرب استفزته الحمية والغيرة فتطوع للخدمة في فرقة الطيران، وما عتم أن أتقن فن الطيران إتقانا أدهش معارفه، وفي أوائل شهر ديسمبر سنة 1915 انبرى لأربع طيارات ألمانية فقاتلها جميعا، وأنزلها إلى الأرض واقتنص مؤخرا طيارة خامسة، وقد أنعمت عليه رئاسة الجيش بالأوسمة الكثيرة ورقي في منصبه ثلاث مرات منذ اندمج في سلك فرقة الطيارين. •••
كانت توضع الرسائل التي يحملها الحمام الزاجل في قصبة ريشة أوز تربط في ذيل الحمامة . •••
الطراد الفرنسوي الأميرال شارنر: في 17 فبراير سنة 1916 غادر الطراد «الأميرال شارنر» مياه جزيرة أرواد يوم الإثنين 8 فبراير قاصدا فرنسا بطريق بيروت وبورسعيد فوصل إلى مياه بيروت بعد تخيم الظلام، وما كاد يستقر فيها قبالة المدينة حتى فاجأته غواصة للعدو وأطلقت طربيدها عليه فأصابه الطربيد وأغرقه في الحال مع بحارته الذين لم يكونوا يتوقعون مثل هذه النكبة ليحتاطوا لها. «واتفق أنه كان في جزيرة أرواد طراد فرنسوي آخر فراسل «الأميرال شارنلر» لأرما بالتلغراف اللاسلكي فلم يجب فكرر مفاوضته له غير مرة ولكن بلا جدوى فأوجس قائد هذا الطراد خيفة على «الأميرال شارنر» وخاف أن يكون قد ألمت به ملمة وأخبر سائر الطرادات الفرنسوية في المياه السورية بما وقع فسار الطراد في الحال ليستطلع الأمر وأخذ يجول في المياه السورية من جزيرة أرواد جنوبا حتى بلغ مياه بيروت وهناك عثر على 13 بحارا من بحارة «الأمير شارنر» وفي جملتهم قائد الطراد أيضا فانتشل جثتهم وأتى بها إلى بورسعيد.»
وفي 19 فبراير قالت الصحف: «لما أصيب الطراد «الأميرال شارنر» بطربيد الغواصة هرع بحارته إلى الزوارق ودلوها إلى الماء، ثم ركبوا فيها وكان عددهم كلهم 450 بحارا، فلما رأتهم الغواصة يدلون الزوارق وينزلون إليها أصلتهم نارا حامية جدا من مدافعها وأطلق بحارتها رصاص البندقيات عليهم فلم ينج منهم إلا بحار واحد أمسك بقطعة من الخشب، ثم ركب عليها وظل خمسة أيام في البحر تتقاذفه الأمواج ويهرأ جسمه البرد القارص حتى عثر عليه الطراد الذي غادر مياه بورسعيد، فالتقطه وهو بين حي ميت وعاد به إلى بورسعيد، وأدخل مستشفاها وهو الذي قص ما جرى للطراد المغرق.» وقد احتفلت الحكومة بدفن قائد هذا الطراد ورجاله في بورت سعيد احتفالا رسميا مهيبا. •••
دافدسن سائق إحدى مركبات الذخيرة في الطبجية الإنكليزية في الميدان الغربي، وقد لقي منيته بينما كان يقود خيل مركبته من مكان إلى مكان؛ إذ انفجرت قنبلة شرنبل بالقرب منه فأصابته منها شظية أودت بحياته، وقد عثروا في جيب هذا الجندي على صورة المرحوم اللورد كتشنر، وقد أطارت شظية القنبلة جانبا منها، ومما يجدر ذكره أن دافدسن هذا كان يقطن الخرطوم لما كان صبيا، وقد سافر منها مع أحد أقربائه إلى فشودة وتناول الطعام في الحديقة التي كان الجنرال مرشان قد أقامها في تلك البلدة السودانية المشهورة. •••
اتصف الإنكليز بعدم المبالاة وأخذهم كل أمرة «على رواق» من قلق بال أو اضطراب فإن جنديا إنكليزيا مضى عليه زمن لا ينام إلا على التراب في الخنادق، فلما هجم مع رجال فرقته واستولوا على مواقع الألمان غنموا في أحد الأكواخ سريرا عليه «مرتبة» فأبصرها الجندي، وكان الألمان قد أخلوا الكوخ بعدما دمروه، فما اكترث الجندي لقذارة المكان وما حوله من الأنقاض بل تمدد على الفراش ونام نوما عميقا رغم صوت الدوي العظيم من انفجار القنابل وإطلاق المدافع. •••
رأى أحد الجنود الإنكليز امرأة جالسة إلى مكنة خياطة في قبو تحت الأرض في بيتها بمدينة فردون بفرنسا وهي منهمكة بالخياطة تعمل بجد ونشاط لإنجاز ما هو مطلوب منها غير مبالية بالأخطار المحدقة بها وببيتها من كل جانب، فالدنيا في الخارج قائمة قاعدة وأصوات انفجار القنابل ورصاص البنادق تدوي فتصم الآذان وتهدد البيت كل دقيقة، وهي لا تعبأ بشيء بل تدرز على المكنة كأن لا حرب ولا قنابل تسقط، أو كأنها في أمن من بوائق الأيام، على أنها في الواقع في خطر من الموت فقد تسقط قنبلة على بيتها فتدكه إلى الحضيض دكا، وتردم تحت أنقاضه ولعلها كانت عالمة بما قد يخبئه القدر لها، ولكن النساء اشتهرن بالحزم والعزم إبان الشدائد والملمات، فهن يرضخن لأحكام القضاء صابرات متجلدات، ويكلن أمورهن ساعات المحن والمصائب إلى الله، وكثيرات منهن يصدقن بالقضاء والقدر ويعتقدن أن يد الإنسان لا تدفع مقدورا ولا تمنع محذورا. •••
خرجت من الأسر لتأسر القلوب: الراقصة الممثلة الشهيرة مدام ستيبانوف إحدى الراقصات اللواتي يرقصن في الأوبرا الكبيرة في بتروغراد والأوبرا الكبيرة في موسكو، فلما نشبت الحرب العظمى كانت في ألمانيا فمنعتها السلطة العسكرية الألمانية من مغادرة البلاد رغم كونها امرأة لا دخل لها في السياسة ، واعتقلتها مع من اعتقلت من رجال ونساء ولم تطلق سراحها إلا بعد اللتيا والتي.
فسافرت إلى لندن وعادت إلى مسرح الرقص والتمثيل، وجاء الناس من كل حدب وصوب للتمتع برؤية رقصها البديع، وقد زادها خروجها من معتقلها في بلاد الأعداء وأنها روسية الجنس رائعة الجمال شهرة وبعد صيت فتحدثوا بها في كل مكان وأقبلوا على رؤية تمثيلها أيما إقبال حتى كانت دار التياترو تضيق عن أن تسع المتفرجين.
وكانت تذاكر الدخول تباع وتنفد قبل ليالي التمثيل بأيام وكان لهذه الراقصة شقيقة ترقص معها وتعاونها وكلاهما على جانب عظيم من اللطف والجمال ترقصان رقصا روسيا مبتكرا يأخذ بمجامع القلوب، والناس من غربيين وشرقيين فيهم ميل فطري قديم إلى اجتلاء محاسن الرقص ورؤية الراقصات وهذا أمر مألوف معروف ولا سيما في هذه البلاد حيث لراقصاتنا الوطنيات شأن يذكر في الملاهي والحفلات والأعراس الكبرى. •••
التاريخ يعيد نفسه: في 11 ديسمبر سنة 1870 أبلغ غمبتا ناظر الحربية والداخلية يومئذ زملاءه في فرنسا أنه يجب ترك باريس والسفر حالا إلى بوردو؛ لأن الألمانيين يضيقون الحصار على العاصمة الفرنسوية، وبعد 44 سنة يوما بيوم، أي في 11 ديسمبر سنة 1914 رأس المسيو بوانكاره أول اجتماع عقده وزراء فرنسا بعد عودتهم من بوردو في هذه الحرب فما أبعد الفرق بين التاريخين في الحربين! •••
جاء في صحف الغرب أن الحكومة الألمانية لم تقترح على الدولة العثمانية توقيع معاهدة حربية معها ولم تعدها بإشراكها في خمس الغرامة الحربية التي ستقبضها من الحلفاء إلا في أوائل شهر ديسمبر سنة 1914، أي بعد مرور أربعة شهور على حربها وشهرين على الحرب التركية، فكأن المانيا لما وثقت بفشلها وبأنها سوف لا تقبض شيئا أشركت تركيا معها، فأشبهت بعملها ذلك الشاعر الذي أشرك رفيقا له في هبة كان يشك في أخذها من الأمير صلة على قصيدة، فلما دخل على الأمير وتلا قصيدته على مسامعه أمر بجلده 50 جلدة فلما وصل إلى نصف هذا العدد أمر الشاعر الضارب بالوقوف، وقال له لي شريك في الباب بنصف القيمة فنفذوا فيه عهد الشركة . •••
من لطيف ما روته سيدة فرنسوية هربت من دوي أن الحكومة الألمانية منعت أفراد الجنود من المبيت في المنازل وخصصت هذه المنحة بالضباط فقط؛ وسبب ذلك أن بعض السكان كانوا يغتنمون فرصة نوم الجنود عندهم فينهضون ليلا ويرتدون ملابسهم العسكرية ويلجئون إلى الفرار تاركين الدار تنعي من بناها، فكانت نتيجة ذلك أن منعت الهيئة العسكرية الجنود المبيت في غير الثكنات. •••
من الممازحات المستكرهة الممازحة الآتية: فقد روت الصحف أن جوزف كمف القصاب في بلدة فريت من أعمال بلاد الألزاس خاطب بعض إخوانه ممازحا قائلا لهم: «بعد ثلاثة أشهر سننتقل إلى الجمهورية أو ستنتقل الجمهورية إلينا.» وفي ذات اليوم الذي فاه به بهذه الممازحة ألقى البوليس الألماني القبض عليه وحكم عليه عرفيا بالسجن ثلاثة شهور مقابل شهوره الثلاثة التي ضربها لموعد الانتقال. •••
ويلسن والألمان: أصبح الدكتور ويلسن في هذه الحرب أشهر من نار على علم والذي زاد في شهرته وضعه للأربعة عشر بندا أساسا للبناء الذي رغب في تشييده لقيام الممالك بعد الحرب، ومعروف ما كان من أمرها، وقد تفنن الهزليون في تمثيل ويلسن غير أن من أحسن هذه الصور الهزلية ما وضعته إحدى الجرائد الألمانية ممثلة ويلسن ماثلا أمام عرش الرب فسأله الرب: يا ويلسن ماذا صنعت ببنودك الأربعة عشر؟ فأجاب ويلسن: لا تحاسبني يا رب لئلا يطول الحساب، إننا لم نحفل بوصاياك العشر فكيف يحفل الناس ببنودي؟ •••
كليمنسو والجزويت: بعد عقد الهدنة انفرد المسيو كليمنسو إلى دار له في باريس للاستراحة من متاعب السياسة وكانت داره محاذية لدير للآباء اليسوعيين وإلى جانب الدير شجرة باسقة الأغصان مترامية الأطراف تفيء على دار المسيو كليمنسو فتمنع عنها أشعة الشمس فرأى كليمنسو أن يطلب من رئيس الدير قطع الأغصان المتطرفة فذهب إليه يوما، وقال له ممازحا: يا حضرة الرئيس: أرى أن أغصان الشجرة هذه تمنعني من رؤية وجه السماء فإذا قطعتموها تبينتها.
فأجابه الرئيس قائلا: أما القطع فلا بأس منه لكن أن تتبينوا وجه السماء فهذا ما لا أكفله.
فابتسم المتكلمان وانصرف كليمنسو إلى داره فإذا الأغصان التي كانت تضايقه قد قطعت من أصولها. •••
اتفق الألمان والإنكليز في بعض الجهات من خط القتال على هدنة يوم عيد الميلاد، ثم خرج الفريقان ولعبا بالكرة وجرت بعض الزيارات بين ضباطهما، ولما انتهى يوم العيد عاد القتال أشد مما كان. •••
لويد جورج وبريان: على إثر عقد الهدنة جاء المستر لويد جورج إلى باريس فقابل المسيو بريان، ثم ذهبا معا إلى تناول الغداء في أحد المطاعم، ولما انتهيا مرا بميدان قائم فيه تمثال ستراسبورج فالتفت لويد جورج إلى بريان وأشار له إلى التمثال وقال: مساكين الألمان؛ فإني إذا ذهبت يوما إلى برلين ورأيت الألمان قد نصبوا تمثالا لستراسبورج وغطوه بالسواد فلا أتمالك من الحزن على ما صاروا إليه.
فقال له بريان: وأنا إذا ذهبت يوما إلى برلين ورأيتهم قد أقاموا تمثالا يرمز إلى المستعمرات الخصبة التي أخذتموها لا يسعني إلا أن أذرف على حالتهم بدل الدمع دما. •••
أهدت الحكومة الفرنسوية إلى جندي من جيش مقدونيا صليب الحرب، وأهدت هذا الصليب ذاته إلى الجنرال بايو القائد الثاني لذلك الجيش بعد الجنرال سرايل، فعرض الجنرال بايو الجيش وسلم الصليب للجندي، ولما لم يكن هناك واحد من الجنرالية يعلق على صدر الجنرال بايو الصليب المهدى إليه دعا ذلك الجندي ذاته، وقال له يا صاحبي إنا متساويان فتفضل بتعليق هذا النشان على صدري كما أنا علقت النشان على صدرك، فأكبر الجيش كله هذا العمل من الجنرال. •••
روح الجندي الفرنسوي: بينما كان جماعة من أهل أركاشون يروحون النفس التقوا بخمسة عشر جنديا فرنسويا من الجرحى المتماثلين للشفاء فسألهم أهل تلك المدينة: «أين جرحتم؟» فقالوا: في معركة المارن، فقال الأهلون: «أنتم ورفاقكم أنقذتم مدينتا.» فقالوا: كلا، إن الجنرال جوفر هو الذي أنقذها ونحن لم نعمل إلا بأمره حين قال لنا: «ابقوا في مكانكم حتى الموت فبقينا.» •••
داء البول السكري والحرب: جاء في مجلة العلم الطبي أن الوفيات بالبول السكري أو الديابيطس في أوروبا في السنوات السابقة للحرب كانت ثابتة من سنة إلى سنة لا يكاد يبدو فيها تغيير، ولكنها أخذت تقل شيئا فشيئا في السنوات الأربع 1916 إلى 1919 من 444 في الألف إلى 202، وذكرت أن مثل ذلك جرى مدة حصار باريس سنة 1870-1871 واحتلال الألمان لمدينة ليل في الحرب الماضية، وأن كثيرين من المصابين بالداء وكانت إصابتهم خفيفة تحسنوا أو شفوا ورجحت أن سبب ذلك قلة الطعام. •••
خسارة النفوس في الحرب: بحثت إحدى الجمعيات العلمية الدنمركية في خسارة النفوس في الحرب العظمى فقسمت هذه الخسارة إلى ثلاثة أقسام أكبرها الخسارة في الأولاد الذين لم يولدوا ولكنهم كانوا يولدون لولا الحرب، ثانيها خسارة الذين ماتوا من الجوع أو من سوء التغذية خارج ميادين القتال، وثالثها خسارة النفوس في الميادين، وقد قدرت الخسارة الأولى بمبلغ 20210000، والثانية بمبلغ 15130000، والثالثة بعشرة ملايين، وبعبارة أخرى: إن سكان الدنيا أقل بخمسة وأربعين مليونا مما كانوا يكونون لولا تلك الحرب الطاحنة. •••
الخسائر البحرية: كانت البحار المحيطة بالجزر البريطانية مدفن 41000 بحار منذ بدء الحرب حتى شهر ديسمبر من سنة 1918، وبلغ عدد السفن التي غرقت من سفن الإمبراطورية البريطانية وحدها 4696 ومجموع حمولتها تسع ملايين ونصف مليون طن، وقد نشأ عن عمل العدو فقد 3781 باخرة منها فبلغ حمولتها 8 ملايين ونصف مليون طن. •••
ارتفاع الأثمان بسبب الحرب: انتهت الحرب ولكن العالم يقوم ويقعد لارتفاع ثمن المأكولات وغلاء أسباب المعيشة - فأهالي نيويورك يتذمرون من ارتفاع أجور المساكن وأهالي لندن من غلاء الطعام وأهالي باريس من تصاعد أثمان الملبوسات - وكل تذمراتهم لا تقاس بالنسبة إلى تذمرات أهالي أفريقيا لارتفاع أثمان العرائس.
كانت العروس عند الأفريقي تشترى بأربعة رءوس من البقر أو تبدل برأس خيل أو حمار، أما الآن فقد ارتفع ثمنها مع ارتفاع ثمن غيرها من ضروريات المعيشة، فصار شيخ القبيلة لا يقدر أن يتزوج أكثر من عروسين مع أن جده كان يحصل على أربعة أو خمسة. •••
في ساعة الوداع واقعة حال لطيفة: أخبرنا أحد الذين حضروا توديع الشبان الإيطاليين الذين سافروا من مصر للدفاع عن وطنهم أنه رأى في إحدى مركبات القطر الذي أقلهم فتى يبكي وينظر إلى فتاة تبكي مثله، فكان أول ما بدر إلى ذهنه أن تلك الفتاة هي أخت الفتى، على أنه ما لبث أن رأى كهلا أبيض الرأس ثقيل الخطى يتقدم إلى الفتى ويسأله على مسمع من بعض الحاضرين: «ما بالك تبكي وتنظر إلى ابنتي؟» فقال الشاب: «إني أحبها منذ مدة طويلة ولم أتمالك الآن عن أن أخفي هذا الحب.» فتركه وذهب إلى ابنته فسألها: «هل تحبين ابن فلان؟» قالت: «نعم.» ولما كان الفتى معروفا وسليل عائلة محترمة تقدم الأب إليه وأمسك بيده، ثم أخذ يد ابنته ووضعها في يده قائلا: «أنتما خطيبان من الآن، وأسأل الله أن يمكنني من عقد قرانكما بعد الحرب.»
وما قال الرجل تلك الكلمات حتى أبرقت أسرة الشابين ومسحا دموعهما وظلا يتحدثان إلى أن حان موعد سفر القطر، فسار بالخطيب، والخطيبة تلوح بمنديلها وتتبعه بنظراتها حتى غاب، فحل القلب محل النظر، والحب في القلب فوق الحب بالبصر. •••
شجاعة الفتاة إميلينان مورو في معركة لوس: إن هذه الفتاة الفرنسوية ذاعت شهرتها بما أتته من فعال الأبطال، وتحرير الخبر أنه لما حمل الإنكليز حملتهم الصادقة على الألمان في مدينة لوس ودحروهم فيها كانت صاحبة هذه السيرة واقفة على سطح منزلها تومئ إليهم بإشارات عرفوها، فكانت إشارتها سببا في إصابة طبجيتهم للمرمى، ولما دخل الإنكليز المدينة نزلت عن سطح منزلها شاهرة مسدسا بيدها وكان الجرحى في الطريق أكواما؛ فجعلت تساعد الجرحى الإنكليز وتنقل بعضا منهم إلى منزلها وتعتني بهم اعتناء الأم الحنون، وأبصرت جنديين ألمانيين كانا مختبئين في مكان وهما يصوبان بندقيتهما إلى العساكر الإنكليز فرمتهما بالرصاص فأردتهما، وأبصرت ثلاثة جنود ألمان مختبئين في قبو فانقضت عليهم بقذائف اليد فجرحتهم جروحا بالغة، وقد نوهت الجريدة الفرنسية الرسمية بذكرها ومحضتها ثناء كثيرا، ومما يذكر في هذا المقام أيضا أن الجنود الإنكليز لما دخلوا المدينة ظافرين كانت هي قبلة أنظارهم فتألبوا حولها وأنشدوا أغنية «الله يحفظ الملك» فردت عليهم بإنشادها المرسيلييز فأخذت الحماسة منهم وسكروا بنشوة الفوز والظفر وجعلوها موضع ثنائهم وإعجابهم. •••
ذهب جنديان فرنسويان للاستقاء من عين في واد فلما قربا من العين رأيا أمامهما جنديين ألمانيين فتوارى الأربعة وراء الصخور، وأخذوا يتخاطبون واتفقوا على أن يأخذوا جميعا الماء دون أن يغدر فريق منهم بالآخر، فاستقوا وعادوا إلى معسكراتهم بالخبر فأمر القواد بألا ينزل أحد إلى الوادي. •••
حكاية عن الملك ألبرت: صممت زوجة جندي فرنسوي من فرقة المدفعية تزوجت به حديثا أن تزوره حيث هو في خط القتال الأمامي في فلاندر، وكان قد شهد معركتي المارن والإين فغادرت باريس إلى دنكرك، وجعلت تسعى جهدها لتعطى جوازا باجتياز منطقة الحرب فحالت مصائب جمة دونهما، ولكنها لم تأل جهدا في تذليلها حتى بلغت معسكرات البلجيكيين في مركبة من المركبات التي يستعملها الفلاحون هناك، وقصدت مركز الرئاسة، وواجهت كبير ضباط الجيش وقصت عليه أمرها وطلبت منه أن يسمح لها بالوصول إلى زوجها فاستقبلها الضابط بالإكرام، ولكنه اعتذر إليها وأفهمها أن ما تطلبه لا يسعه إجابتها إليه؛ فجعلت تجادله وكان ضابطا طويل القامة واقفا يسمع ما دار بينهما ولكنه كان مكبا على درس خريطة أمامه فالتفت إلى المرأة، وقال لها: «انتظري قليلا تري زوجك.» ثم تناول سماعة التلفون وجعل يتكلم؛ فارتمت المرأة على يديه تقبلهما وعيناها تذرفان الدمع فرحا وابتهاجا، ولم تمض ساعتان حتى أقبل زوجها فكان اللقاء من أعظم ما وقعت عين عليه، وقد طفح قلبا الزوجين سرورا وفرحا، قال الجندي لزوجته ولقد جعلت أضرب أخماسا لأسداس لما صدرت إلي الأوامر بمغادرة صفوف القتال فقد كنت في الخنادق ووطيس القتال حاميا فلم أعلم السبب في استقدامي، فقصت عليه زوجته ما كان ووصفت له ذلك الضابط الشهم الذي مهد لهما سبيل المقابلة، فصرخ زوجها: «يا لله لقد كان هو الملك ألبرت نفسه.» •••
الملكة مرغريتا: هي أم ملك إيطاليا، قالوا إن إمبراطور ألمانيا كتب إليها (قبل دخول إيطاليا الحرب) يلتمس منها أن تستعمل ما لها من نفوذ وسلطة على ابنها لتظل إيطاليا على الحياد فردت عليه قائلة: «ليس لبيت سافوي إلا حاكم واحد.» وقد تناقلت الصحف الأوروبية هذا الخبر والرد المفحم عليه مطرية الملكة وقائلة فيها كل كلمة حسناء. •••
شهيد الشهامة والإنسانية: نروي هنا حادثة جرت فعلا في ميدان الحرب، وهي تشهد بإنسانية وشهامة وإنكار نفس لم يسمع بها من قبل، وتحرير الخبر أن فرقة ألمانية هجمت على الإنكليز في خنادقهم في فرنسا يريدون الاستيلاء عليها عنوة، فثبت لهم هؤلاء وصدوهم واضطروهم إلى الجلاء والرجوع القهقرى إلى مخابئهم بعد أن حملوهم خسارة عظيمة، وبينما هم يتقهقرون أخذوا معهم من سقط من جرحاهم ونسوا جنديا لم ينتهبوا إليه إلا بعد أن اجتازوا مسافة فعاد رفيق له يريد رفعه وأخذه فانهال عليه رصاص الإنكليز فخر صريعا، وشاهد ذلك ضابط الفرقة الإنكليزية فرق قلبه للجريح وأمر جنوده بالكف عن إطلاق الرصاص، ثم ترك الخندق وأسرع إلى الجريح عدوه فرفعه على كتفه وسار به نحو خنادق الألمان، فلم يصل إلى منتصف الطريق حتى انهال عليه رصاص الألمان الذين ظنوا أن في الأمر حيلة، ولكن الإنكليزي لم ينثن عزمه بل بلغ استحكامات أعدائه وأدى التحية العسكرية وسلم إليهم رفيقهم وأراد أن يقفل راجعا فأوقفه الضابط الألماني وأمر رجاله بأداء التحية العسكرية له، ثم نزع من صدره وسام الصليب الحديدي وعلقه على صدر الضابط الإنكليزي وسمح له بالرجوع - على أن الضابط الإنكليزي لم يقو على احتمال جراحه فسقط وأسلم الروح قبل أن يجتاز نصف المسافة بين الخندقين فراح شهيد إنسانيته وإنكار نفسه. •••
روت جريدة «زحلة الفتاة» اللبنانية واقعة حال غريبة في بابها قالت: في سنة 1916 كان أحد ضباط الأتراك في زحلة وهو شاب لم يبلغ الخامسة والعشرين من العمر يمرن فرقته لمقاومة العدو، وكان بين أنفار تلك الفرقة نفر تجاوز الخمسين من عمره لا يعلم كيف يجري التعليمات العسكرية فكان الضابط يضربه ضربا مؤلما كلما أخطأ، وكان الكهل يذرف الدموع السخية ويقول لضابطه ارأف بي وبضعفي يا مولاي فليس في استطاعتي أن أجري ما تأمرني بإجرائه وأنا أتجاوز الخمسين من سني، وزد على ذلك فإن اضطراب بالي يمنعني من الانتباه لكل ما تأمر به، ولو كنت مكاني لما أمكنك أن تكون على غير ما أنا عليه؛ فإنني رجل بائس أناخ علي الدهر بكلكله؛ فلقد كان لي ولد وحيد سلخته عن قلبي الدولة العثمانية منذ عشر سنوات وأدخلته في سلك جنديتها، ومنذ ذلك الحين لم أقف له على أثر، ولقد اضطررت إلى ترك أملاكي عرضة للسلب والنهب وكذلك امرأتي العجوز فقد أبقيتها وحدها بلا معين، وأخذ الكهل يجهش بالبكاء فرثى الضابط المعلم لحاله وسأله: ما اسمك؟ فقال له: فلان، فقال: وما اسم ابنك الذي سلخته عن قلبك الدولة؟ فقال: فلان، فقال: وما اسم القرية التي تنتسب إليها؟ فقال له: هي قرية في غوطة الشام، فارتمى الضابط الشاب على يدي النفر الكهل وأخذ يقبلها ويبكي قائلا: أنت أبي وأنا ابنك، وفي الحال أسرع واستأذن لوالده من القائد في العودة إلى بيته فأذن له. •••
المرشال فوش وهجوم الانتصار: نكتب فيما يلي حادثة واقعية ننقلها عن أوثق المصادر تنويرا للأذهان وإعجابا بعناية الله الذي يؤتي النصر لمن يشاء ويبعده عمن يشاء:
تناقلت الألسن في فرنسا بل في أوروبا جمعاء في أثناء الحرب الكلام عن تكريس الجيوش الفرنسوية لقلب يسوع الأقدس وذهبوا في تأويله مذاهب مختلفة فأثبته البعض مصدقين وأنكره البعض هازئين، غير أن الواقع خلاف ما ينكرون ونحن مثبتونه هنا كما جرى: منذ 2 يونيو سنة 1918 إلى 17 أكتوبر كان مقر أركان حرب المرشال فوش في قصر «بومبون» على مقربة من مرمان بمقاطعة «السين والمارن» وفي هذا القصر ألقيت إلى فوش عصا المرشالية في 2 أغسطس من تلك السنة.
في هذا القصر أعدت آخر خطط مواقع المارن الأخيرة التي كانت فاتحة الفوز العظيم، وعلى مسيرة بضع مئات من الأمتار كانت قرية بومبون الصغيرة فكان القائد الكبير عندما يسمع صوت جرس الكنيسة يوم الأحد يدق مستدعيا المؤمنين إلى الصلاة يترك القصر قاصدا إلى الكنيسة على رجليه فيحضر القداس بين جماعة المؤمنين لا يميزهم عنه سوى خشوعه العميق، ومتى انتهى القداس خرج وأخذ يتحدث مع أولئك الرجال وما فيهم إلا كل مسن كثير الأيام فيسائلهم عن أحوالهم وشئونهم، ثم يعود إلى مقره، وإذا كانت الأشغال عليه ماسة ركب أوتومبيله إلى الكنيسة.
قال الواقف على هذه الأخبار: ومن عجيب ما يذكر أن الألمان ما فاتهم قط معرفة مراكز أركان الحرب؛ ولذلك كانوا يمطرونها صباح مساء وابل القنابل ويرسلون إليها أسراب الطيارات توقع عليها القذائف المتنوعة الأشكال، إلا أنه لم يحدث قط أن طيارة حامت فوق بومبون فأزعجت أو أرعبت أو ألقت قنبلة في غضون إقامة المرشال فوش فيها وكانت المدة أربعة أشهر ونصفا.
هذا هو المعروف والمأثور عن تدين المارشال فوش وتقواه.
ففي صباح 8 يوليو استيقظ خوري رعية بومبون، وقد خطر على باله خاطر لم يتردد في إبرازه إلى حيز العمل، فنهض إلى مكتبه وخط إلى المرشال فوش يقول:
عنه بومبون في 8 يوليو سنة 1918
أيها القائد العام العزيز
قبل أن تبرح رعيتي وربما كان ذلك في القريب العاجل أسألك أن تجثو أمام تمثال قلب يسوع الأقدس ملك فرنسا، وتكرس له باتضاع عميق وثقة عظيمة جميع جيوشك الفرنسوية، واسأله متوسلا إليه ظفرا قريبا حاسما وأن تظل فرنسا منصورة إن كان في معاهداتها أو فوزها الباهر، إن تقدمتك ستكافأ عاجلا، لعلك تحسبني ساذجا! لا أن إيمانك الحي ونظرك في فنون الحرب والقتال يصدانك عن أن تقطع هذا الحكم، فتتنازل أيها القائد العام إلى قبول أصدق عواطف خادمك الأمين.
بول دي نواير
خوري بومبون
قال الكاتب: وأنفذ هذا الكتاب إلى فوش بواسطة فلان ... وما كدت أدفعه إلى ... حتى أسفت لأني نسيت بعض كلمات، فقد نسيت أن أضيف ... «وجيوش الحلفاء».
كان الكتاب بين يدي المرشال في 8 يوليو وفي 9 منه رأى عدة أشخاص المرشال داخلا الكنيسة ومعه ضابط أو ضابطان.
وفي 16 يوليو في نحو الساعة الثانية بعد الظهر جاء القائد العام إلى الخوري فزاره زيارة «قصيرة»، وما كاد يدخل إلى القاعة حتى أمسك يد الكاهن وشد عليها، وقال له على الفور: «يا حضرة الخوري، أتيت أشكرك، قد صنعت جميع ما سألتينه وزيادة .»
ولاحظ الكاهن ويلاحظ كل من يطلع على الرسالة وعلى ما نسي الكاهن أن يذكره في رسالته أن المقصود بكلمة «وزيادة» هو أن المرشال فوش قد كرس جميع الجيوش التي كانت تحت قيادته لقلب يسوع.
وفي صباح 17 أكتوبر سنة 1918 - وفي هذا اليوم انتقل مركز القيادة العليا من بومبون - ذهب فوش إلى الخوري يودعه فدار بينهما حديث وفي أثنائه سأله الخوري عن بعض أمور، ثم قال له: لما كرست الجيوش لقلب يسوع، هل كنت وحدك؟
فقال له فوش: لا، بل أظن أننا كنا اثنين أو ثلاثة.
قال الخوري: أين فعلت التكريس؟ أمام تمثال قلب يسوع الصغير القائم على شمال الداخل أم أمام التمثال الكبير القائم على جانب المذبح الكبير؟
قال: صنعته أمام التمثال الكبير القائم على اليمين بقرب المذبح الكبير.
اختصرنا هذه المحادثة الهامة إطلاعا لذوي الألباب على ما يكون قد فاتهم من أمور عظيمة المكانة كهذه، ولا نحسب المرشال فوش ينسى هذا العمل العظيم فيدونه في مذكراته التي يتشوق الناس إلى مطالعتها لما يكون فيها من جلائل الأمور والحوادث.
ومعروف أن الهجوم الأخير على الألمان لم يذكر له مثيل من حيث سرعة التقدم والاستيلاء على المواقع الحصينة والحصون المنيعة، فضلا عن أنه قيل إن الحلفاء في هجومهم على قوات الألمان لم يضطروا إلى التقهقر قيد شبر عن الأماكن التي كانوا يستولون عليها، فسبحان القوي العزيز. •••
نساء السرب: ثأرت امرأة سربية لنفسها من أعدائها، وتفصيل ذلك أن هذه المرأة واسمها «ينكوفيك» من أهل نيش هجرت بيتها في نيش مع أولادها الستة قاصدة مناستير مع من هرب من وجه البلغاريين من سكان نيش، على أن أولادها الستة لم يحتملوا مضض الجوع والتعب فمرضوا وماتوا الواحد بعد الآخر، واستولى اليأس والحزن والغم على الأم فأقسمت أن تثأر لنفسها من أعدائها، فجعلت تبحث عن زوجها الذي كان يقاتل في الخنادق فعثرت عليه، وأخذت بندقيته ووقفت على حافة الخندق ترمي البلغاريين بالرصاص، ثم ألقت البندقية وجعلت تقذف القذائف الصغيرة على مواقع البلغاريين تشفيا وانتقاما، وما زالت كذلك حتى أصابتها رصاصة أودت بحياتها . •••
من آثار الحرب: من التقاليد المتبعة في بريطانيا العظمى في عيد الملوك المجوس أن الملك ينفذ في هذا اليوم اثنين من أهل بيته يضعان باسمه على مذبح الكنيسة الملكية في قصر سان جمس هدايا من الذهب والمر والبخور تذكارا للهدايا التي حملها ملوك المجوس إلى المسيح في مغارة بيت لحم.
وفي هذا العام قام الملك جورج الخامس كعادته وعادة سلفه بهذا التقليد؛ فأرسل بين هدايا المر والبخور، هدايا من الذهب، بضعة جنيهات حديثة العهد جدا بالضرب، فوضعت على المذبح بمقتضى العادة المرعية، وما كادت الحفلة تنتهي حتى استبدلت بأوراق بنك نوت جديدة أيضا تلك الجنيهات الذهبية لتعاد إلى خزانة بنك إنكلترا الذي كان قد أعارها للملك ليتمم تقليدا متوارثا لكنه جميل، وهذه أيضا من حسنات هذه الحرب!
من ظريف ما وقع لفلاحي الروس على أثر إعلان الثورة الروسية وخلع القيصر أن زعماء الثورة اندسوا في أنحاء البلاد يبشرون بالحرية ويوهمون الشعب أن عهدا جديدا طلع عليهم، وأصبحوا من الآن أحرارا ومن جملة أقوالهم لهم: إن «الكونسنيتيسيون» أي الدستور قد تم في بتروغراد، فعجب أولئك الفلاحون السذج وأخذوا يتساءلون فيما بينهم كيف أن القيصر طلق الإمبراطورة مع كونه كان شديد الشغف بها، وتزوج «الكونستيتيسيون» لا شك أن هذه المرأة هي رافعة الجمال قد افتتن بها قلب القيصر، قالوا ذلك وهم يحسبون أن الدستور هو امرأة جميلة.
فما أطيب سريرة أولئك القوم وما أجدرهم أن يظلوا على سذاجة قلوبهم يتنعمون في هذه الحياة فلا يقلق بالهم لينين وأتباعه بالكلام الفارغ. •••
الروس في المنفى: مليونان من الروس تركوا وطنهم وأموالهم وأرزاقهم فرارا من روع البلشفيك وفظائعهم وبينهم الغني والفقير والأمير والوضيع، ومن هؤلاء الكونت أغناتيف وامرأته وكان هذا من حرس الشرف في بلاط روسيا ومن خيرة الضباط الروس، يقيم الآن في إحدى ضواحي باريس في عزبة يربي البقر الحلوب استدرارا لقوت يومه كل صباح ينهض في الساعة الرابعة فيحلب بقرته وفي الساعة السادسة تنهض الكونتس امرأته فتزن الحليب ليوزع على الزبائن، وعنده الآن ثلاثون بقرة ولا يطول عليه الزمن حتى تصير خمسين، وهكذا الدنيا دواليك:
فيوم عليك ويوم لك
ويوم تساء ويوم تسر •••
في إحدى ليالي يناير سنة 1918 دخل جندي أمريكي إلى مكتبة في باريس فسرق بعض أدوات وأوان تهدى في الأعياد والمواسم ومضى في سبيله، فرفع صاحب المكتبة أمره إلى السلطة الأمريكية فلم تنفذ أمرا، وبعد سنتين من هذا الحادث ورد على الكتبي من معرف في بوسطن بالولايات المتحدة هذه الرسالة:
وفي شهر يناير سنة 1918 دخل جندي أمريكي بجنون إلى مكتبتك بغير أن يفكر جيدا في ما يفعله ويرغب الآن أن يعوضك مما أصابك من الخسارة، والشاب آسف جدا على ما فرط منه وأحسب أن رسالة تبلغك.
خادمك
عن الشاب شارل أرنولد
وأرسل الكتاب مطويا على حوالة بقيمة المسروق من صاحب المكتبة! نعم المحكمة محكمة الضمير! •••
التاريخ يعيد نفسه أيضا: في هذه الحرب هاجمت الطيارات الألمانية مدينة «بولون سورمر» الفرنسوية وألقت عليها القنابل فهدمت منها منازل وبيوتا، وكانت الهدنة وكانت معاهدة فرسايل وقدرت الخسائر التي أوقعها الألمان وما زال الناس يتوقعون تعويضا، وحدث أن أحد الذين هدم منزله شكا من أنه لم يتناول بعض التعويض الواجب الموعود به فقال له أحد مواطنيه: تصبر ولا تهلك أسى وتجلد.
وفي ليالي 8 و9 و10 أكتوبر من عام 1806 هاجم الأسطول الإنكليزي مدينة بولون وأطلق عليها الحراقات فالتهمت النيران بضعة عشر منزلا.
وكان محافظ المدينة المسيو دلبورت يتذكر أن الحكومة قد أصدرت قبل سنتين أمرا فيه أن الحكومة تعوض الذين لحقتهم الأضرار من خزانتها؛ فأسرع في تعيين خبراء لتقدير الخسائر، وبعد ثلاثة أشهر وضع الخبراء قرارهم الرسمي وإذا الخسائر تساوي 87,720 فرنكا، وعملا بالأصول المرعية في ذلك العهد رفع القرار إلى مواطئ أقدام العرش الإمبراطوري وحسب القوم أنهم في الغد نائلون التعويض، وطال عليهم الانتظار حتى إنه بعد خمسة أشهر أعلن الإمبراطور أن هذه التعويضات تدفع من عوائد المكوس التي تجبوها المدينة؛ فاسترحمت مدينة بولون من هذه الضريبة التي لم يكن لها بها قبل فلم تلق جوابا، ومن قابل عاودت الحكومة في هذا الأمر فكان جواب الحكومة سكوتا، ثم اندثرت الإمبراطورية.
ولما كان عام 1818 رفعت المدينة إلى مجلس النواب عريضة بهذا الشأن فرد المجلس يقول: ليس لدى الحكومة أموال قط تدفعها عن أضرار مسببة من زمن «بعيد العهد كهذا».
وألحوا في الاسترحام وخابوا، وفي 1825 نزلت دوقة بيري مدينة بولون فقدمت لها عريضة فأجابت عنها بعد سنة كاملة: إن المدينة قد استفادت كثيرا من وجود الجيش فيها فيسعها والحالة هذه أن تتحمل أضرار القنابل.
ولكن الدهر جار على أولئك المساكين والتعويض لم يأت، فما أولى قول من قال:
إن اختفى ما في الزمان الآتي
فقس على الماضي من الأوقات •••
شجاعة الصبيان في الحرب: يريدون بالصبيان من كان دون الثامنة عشرة من عمره، وهؤلاء يتركون مع الجيش أو الأسطول للقيام بأشغال خفيفة سهلة ولا يطلب منهم حمل السلاح والقتال؛ لأنهم دون السن المفروضة لهم في العسكرية، وكان فتى إنكليزي بحري في السادسة عشرة من العمر شهد معركة جوتلاند البحرية وكان في إحدى البوارج الإنكليزية التي اشتركت في قتال الأسطول الألماني، وقد أمر الغلام قبل نشوب المعركة بالوقوف في مكان معين على ظهر البارجة لاستلام الإشارات التي ترسل إلى البارجة فدارت رحى المعركة البحرية ونسي رؤساء الغلام أمره إذ شغلتهم بوارج الألمان عن الالتفات إليه فظل واقفا في مكانه معرضا للموت في كل دقيقة، ولما انتهت المعركة وجدوه حيث أمر بالوقوف ملقى جريحا وحوله بقايا الحبال المقطعة والخشب المتناثر الذي طيرته القنابل، وقد أعجب الأميرال بيتي بشجاعة هذا الفتى وبسالته وذكر أمانته في تقاريره عن تلك المعركة وأسف كثيرا لأنه توفي على إثر جروحه البالغة. •••
شجاعة فتى: يروى عن فتى فرنسوي جندي في فرقة البورجية أنه أظهر شجاعة فائقة وصبرا عجيبا على المكاره والشدائد؛ فقد شهد أهوال المعارك الدموية التي دارت في توميون إحدى الاستحاكامات في ميدان فردون حيث اشتبك الألمان والفرنسويون في قتال يشيب منه الأطفال وجرت الدماء أنهارا، وإن القلم ليعجز عن وصف شدته وهوله، فكانت توميون تارة بيد الألمان وتارة بيد الفرنسويين واستقتل الفرنسويون أيما استقتال فأبيدت أورطة عن آخرها ولم يبق منها مخبر سوى الفتى البورجي، وكانت قد أصابت رأسه شظية قنبلة فجرحته جرحا بالغا ولكنه احتمل ألم جرحه وجعل ينفخ في نفيره طالبا الإمداد، وما زال كذلك حتى بدت طلائع النجدة آتية وكانت قواه قد خانته فسقط على الأرض معيى ونقل إلى المستشفى بين حي وميت من عظم ما نزف من دمه. •••
تطوع الفتى «دواير» الإنكليزي من بلدة فولهام في بلاد الإنكليز وانتظم في سلك المحاربين من الجنود البريطانيين في فرنسا، وما عتم أن سنحت له الأحوال بالقيام بمهمة أظهر فيها بسالة وإقداما عجيبين؛ فإنه أنقذ عددا من إخوانه الجنود من الوقوع في كمين للألمان، وانفرد بنفسه لمقاتلة رجال الكمين متعرضا للخطر، فقتل ثلاثة منهم واضطر الباقون إلى التسليم فأسرهم وقادهم إلى معسكره؛ فأنعم عليه بنشان فكتوريا الذي ينعم به على الذين يتعرضون للخطر ويأتون عملا باسلا يستحق الذكر، وقد سمحت السلطة العسكرية لدواير بإجازة قصيرة ليعود إلى بلدته ويشاهد أهله وخلانه، فلما وصل به القطار ونزل منه أحاطت به نسوة القرية ومعهن مئات من الرايات والبيارق وهن يزغردن ويطربن، وحملته على أيديهن من محطة السكة الحديد حتى بيته بين صراخ الفرح والابتهاج والافتخار، وقد نشرت صورة ذلك المشهد صحف الأخبار. •••
عنترة زمانه: تحدثت دوائر بتروغراد بشجاعة وفروسية نادرتي المثال أبداها فارس من فرسان القوزاق اقتحم صفوف الألمان وحده وأمعن في رجالهم طعنا وضربا فجندل أحد عشر رجلا، وتحرير الخبر إنه بينما كان المدعو «كيريانوف» من فرسان فرقة القوزاق السادسة يؤدي وظيفته (يستكشف) أبصر من بعد ستة من الألمان مختبئين في خندق وهم يعدون لغما لينسفوا به الجيش الروسي الزاحف، فما كان منه إلا أن أعمل المهماز في خاصرتي جواده وأخذهم على غرة فتصدى له أول ألماني فطعنه برمحه طعنة نجلاء، وهجم عليه الثاني فتلقاه بطعنة أخرى ألقته صريعا على الأرض، وإذ شاهد الأربعة الباقون ذلك خارت عزائمهم فأطلقوا أرجلهم للريح فاقتفى أثرهم وجعل يطاردهم فيجندل هذا ويصرع ذاك وما زال بهم حتى قتلهم جميعا وعددهم ستة، وواصل مسيره فاعترض له خمسة من رجال الدورية الألمان وهم حاملون بنادقهم فابتدر أولهم بضربة قضت عليه وأعمل رمحه في ثانيهم فأتبعه بالأول فبهت الباقون وفروا ولكنه أدركهم فقتلهم الواحد بعد الآخر. •••
جرأة جندي وثبات جنانه وإقدامه: اعتاد قراء أخبار الحرب سماع أفعال صناديد الرجال الذين يغشون غمرات الموت فيفعلون أفعالا تعجز عنها الأبالسة والشياطين ويخرجون منها سالمين ويحرزون أعظم أوسمة الفخار والمباهاة، وإليك أيها القارئ حادثة الأونباشي «جوزف تومبس» من فرقة ليفربول الملكية التي نال من أجلها وسام فكتوريا كروس المشهور وهو وسام الأبطال الذي يتشوق كل إنكليزي إلى إحرازه، فكان الأونباشي المذكور الذي خرج من موقفه في الخندق يزحف على يديه كالحيوان لكي لا يراه العدو، وقد ربط حول كتفه سيرا من الجلد الذي تربط إليه البندقية وهو يجر رفيقا له سقط جريحا في أثناء هجومه على العدو ولا يزال فيه رمق الحياة فنجاه من مخالب الموت، وقد أنقذ تومبس المذكور أربعة من إخوانه الجرحى الآخرين بهذه الطريقة الغريبة، وكانت عين الله ترعاه وتصونه من كرات القنابل المتفجرة حوله فسلم في كل مرة وكأنه سلم بأعجوبة سموية. •••
رباطة جأش وشجاعة فارس قوقاسي: انتدب فارس قوقاسي شجاع ليحمل رسالة إلى مركز رئاسة الجيش الروسي، فسار في طريق خطر وبلغ واديا بين الجبال لم يتمكن من اجتيازه إلا بالعبور على كبري ضيق، وهو عبارة عن شجرة اقتلعتها الرياح وألقتها من جانب الجبل الواحد إلى جانب الجبل الآخر ولم يكد يعبر عليه حتى انقضت الذئاب عليه من مكامنها؛ فجفل حصان الفارس وارتد إلى الوراء وحدث أن الجنود النمسويين أبصروه فجعلوا يطلقون بنادقهم عليه فازداد الحصان إجفالا وكاد يهوي براكبه إلى أسفل الوادي، ولكن الفارس تمكن من قتل بضعة ذئاب وهو في تلك الحال وأحسن قيادة جواده فسار به خطوة خطوة حتى بلغ الجانب الآخر سالما رغم رصاص أعدائه الذي كان ينهال عليه كالمطر الهطال . •••
في إحدى المعارك التي دارت رحاها بين الإنكليز والألمان في المستعمرات الألمانية في نيغيريا غربي أفريقيا تعطلت إحدى قوائم مدفع مكسيم إنكليزي ولم يتسن ترميمها بسرعة كافية، فما كان من أحد الجنود السودانيين الوطنيين إلا أنه تقدم ووضع المدفع على ركبته ولم يبال بحرارته فتمكن الطوبجي بهذه الواسطة من صب نيران المدفع على الأعداء حتى أفنى عددا كبيرا منهم واضطر من بقي إلى التسليم. •••
عدو جديد: وهاك ما وقع لطليعة فرقة من الجيش البريطاني في مستعمرة الكمرون بغرب أفريقيا: قال ضابط: «خرجت طليعة فرقتنا وهم سودانيون وطنيون للاستكشاف فاجتازوا غابة كثيفة، ثم بلغوا حرجة من البوص العالي وسمعوا حركة غير اعتيادية فأيقنوا أن رجال العدو يستكشفون أيضا بطلائعهم، وبينما هم متربصون لا يبدون حراكا إذا فيل انقض عليهم انقضاض الصاعقة فما كان منهم إلا أن ولوا الأدبار، وكثيرا ما باغتت الفيلة معسكرات العدو وألجأت رجالها إلى الفرار.»
ما كل ذي أرصوصة طيارا
أو كل شاك بهمة مغوارا
قد يجفل الضرغام من ديك كما
قد يتقى في الظلمة الأنوار •••
كان جنديان بريطانيان في مستعمرة أفريقيا الشرقية يتقدمان فرقتهما تحت جنح الظلام مستطلعين وإذا أسد شرس قد وثب عليهما يريد افتراسهما، وكان هذان الجنديان على مقربة من مواقع الألمان فخشيا أن يطلقا نارهما على الأسد فينتبه العدو إلى وجودهما ودنو البريطانيين؛ فعمدا إلى قتل الأسد طعنا بحراب بنادقهم ولكن الأسد فاز على أحدهما فصرعه وقضى عليه ولم يستطع الجندي الآخر قتل الأسد إلا بعدما جرح جروحا بالغة وفي الصباح عثر رجال الفرقة على الجندي المقتول وجثة الأسد والجندي الجريح في حالة النزع. •••
وهذه حادثة حصلت أثناء هجوم الجنود البريطانيين على خنادق العثمانيين بقرب عشي بابا في غليبولي، فقد كان جنود الأعداء متيقظين لكل حركة تبدو فخطر لضابط من فرقة نيوزيلند خاطرا؛ فأخذ نفرا ونحو عشر قنابل يد ووقف على أعلى الخندق معرضا نفسه لخطر عظيم مستهدفا لنار العدو، وأخذ يرمي تلك القنابل على خنادق العثمانيين فانصب عليه الرصاص وتحولت إليه أفواه البنادق وفي أثناء ذلك تسنى للجنود البريطانيين مباغتة العثمانيين أعدائهم والاستيلاء على خنادقهم وأسرهم جميعا. •••
بسالة ملازم إنكليزي: حدث أن الملازم سمث ورفيقه الهندي السخ لال سنغ خاطرا بحياتهما مستبسلين غير مبالين بالموت الزؤام، وتحرير الخبر إن فرقة من فرق السخ الهندية تقدمت وحلت محل فرقة بريطانية في جهة من جهات أحد الخنادق التي كانوا قد استولوا عليها عنوة وانتزعوها من الألمان في فرم بواه بفرنسا، وكان في الطرف الآخر من هذا الخندق قوة كبيرة من العدو لا تزال كامنة تتربص الفرص لاسترجاع ما فقدته، ففي صباح اليوم الثاني لاحتلال الهنود للخندق إذا الألمان قد وصل إليهم في أثناء الليل مدد كبير فدارت رحى القتال بإطلاق البنادق وإلقاء القذائف، ولم ينتصف النهار حتى كانت ذخيرة الهنود قد نقصت ولم يستطع من في الخنادق الخلفية إمدادهم؛ لأن الأعداء صوبوا مدافعهم السريعة على طول خط الرجعة فجعلت تحصد كل من يجيء بالمدد والذخيرة إلى الهنود فتكدست الأرض بالأشلاء، وكان البعد بين الخندق الأمامي والخندق الخلفي 250 يردا فرأى ضابط الفرقة أن يعيد إرسال النجدات، وفاوض رجاله في الأمر فتقدم عشرة من الهنود السخ متطوعين لإنجاد رفاقهم وتطوع الفتى سمث الملازم لمرافقتهم وخرجوا من الخندق زاحفين على بطونهم وجارين صندوقا كبيرا فيه ذخيرة، ولكن الألمان أحسوا بهم فأصولهم نارا حامية وأمطروهم وابلا من رصاصهم فقتلوا تسعة منهم وبقي الملازم سمث والجندي الهندي فرفعا صندوق الذخيرة على كتفيهما غير مبالين بالخطر المحدق بهما، وكانت شظايا القنابل ورصاص البنادق تتساقط حولهما، وعبرا في طريقهما نهرا صغيرا وبلغا خندق رفقائهما سالمين، ولكن الهندي سقط صريعا برصاصة أصابته في الخندق عند وصوله أما سمث فقد أنعم عليه بنشان فكتوريا جزاء بسالته وإقدامه. •••
تاريخ عسكري مجيد حارب خمسين سنة: نعت صحف أوروبا على اختلاف لغاتها وتباين مشاربها ضابطا فرنسويا كان خامل الذكر قبل هذه الحرب فصار اسمه يردد الآن بكل شفة ولسان لتاريخه العسكري المجيد، أصابته شظية قنبلة في فخذه اليسرى في إحدى معارك السوم الأخيرة فمزقتها، وبينما كان أربعة من رجاله ينقولنه إلى المؤخرة أصابته رصاصة في جبهته وقتلته.
اسم هذا الضابط الكبيتان إيزادور دوماس، وقد انتظم في الجيش الفرنسوي سنة 1867 لما أرسلت فرنسا جيشا إلى رومية لإعادتها إلى السلطة البابوية وكان عمره 19 سنة، والتحق بفرقة الزواف وجرح لأول مرة في معركة منتانا وشهد حرب سنة 1870 وكان ملازما في الفرسان في الفرقة التي أغارت إغارتها المشهورة في معركة ريتشوفن، فجرح فيها وأسر ولكنه تمكن من التملص من الأسر وعاد فالتحق بجيشه وظل يحارب فيه إلى نهاية تلك الحرب، وحارب بعد سنة 1871 في كل مكان بأفريقيا كالجزائر وتونس والكونغو الفرنسوي والسنيغال وغينيا الفرنسوية ومستعمرة شاطئ العاج وشاطئ الذهب والسودان الفرنسوي ومدغسكر والمغرب الأقصى، فقضى خمسين سنة وهو يحارب بلا انقطاع في سبيل بلاده وإعلاء منارها وتوسيع أملاكها.
ولما نشبت الحرب الحاضرة رام الدخول في الجيش كجندي بسيط فرفض طلبه؛ لأنه كان قد جاز السادسة والستين فطلب الالتحاق بالجيش البلجيكي وقبل فيه وأسره الألمان في أول الحرب ولكنه تملص من أسرهم كما فعل منذ 43 سنة، وعاد إلى فرنسا وطلب الدخول في الجيش الفرنسوي فقبل فيه هذه المرة، وألحق بالآلاي الأفريقي قبل معركة المارن قليلا وشهد هذه المعركة وجرح فيها ست مرات، ولما برأت جروحه أرسل إلى الدردنيل فشهد حرب غليبولي من أولها إلى آخرها، ثم نقل منها إلى سلانيك وسار مع القوة الفرنسوية التي أرسلت لمعونة سربيا لما غزاها الجرمان والبلغاريون، وأصابته شظية قنبلة في إحدى المعارك التي دارت بين الفرنسويين والبلغاريين في وادي نهر الوردار فجرحته جرحا بليغا، ولما شفي من جروحه عاد إلى فرنسا ورقي إلى رتبة كبيتان في الآلاي الرابع والأربعين من المشاة، وشهد معارك فردون الأولى فجرح فيها وفقئت إحدى عينيه، وبرأ جرحه حالا فعاد إلى صف القتال وشهد معارك السوم كلها وقتل في إحداها في 12 أغسطس سنة 1916. •••
الجندي المتطوع: لا حكاية لهذا الجندي سوى أنه بولوني متطوع في الجيش الفرنسوي دفع إلى التطوع بعامل الحب لفرنسا والكره لألمانيا فأصيب بجروح بالغة في أثناء معركة فنقل إلى قبو بيت على مقربة من المكان الذي وقعت فيه تلك المعركة ريثما يأتي رجال الإسعاف لإسعافه، ولكنه أسلم الروح قبل أن يدركوه فلما وصلوا إليه ألفوه جثة لا حراك بها، وقد رفعت يده إلى جدار القبو ملطخة بالدم الذي كان يغمس فيه أنامله، وقد كتب بدمه على الجدار: «لتحيى فرنسا وبولونيا.» قبل أن يخرج نفسه الأخير، وقد نشرت صورته على تلك الحال في الصحف. •••
بينما كان جنديان فرنسويان يحفران نفقا يمتد من الخنادق الفرنسوية إلى ما تحت الخنادق الألمانية في مقاطعة أرتوى نسف الألمان جانبا من ذلك النفق وقطعوا على الجنديين خط الرجعة فكادا يدفنان حيين، ولكنهما لم ييئسا بل شرعا في حفر منفذ للنجاة ولقد ظلا في جوف الأرض محبوسين حيث لا ماء ولا نور ولا هواء ولا أكل إلا أنهما جدا في الحفر بما أوتياه من قوة ومهارة يومين كاملين حتى ملا وكلا وقطعا الرجاء من الحياة، وبينما هما كذلك أبصرا دودة تنساب في التراب فوق رأسيهما فعلما أن سطح الأرض غير بعيد عنهما فتشددا واستمدا من الضعف قوة وما زالا يحفران حتى فتحا ثغرة في سطح الأرض فاستنشقا الهواء النقي وانتعشا، ولكنهما ما عتما أن خالجهما السرور والابتهاج حتى انقلب فرحهما ترحا إذ سمعا جنودا يتكلمون باللغة الألمانية، فقالا أنهما واقعان في قبضة الأعداء إذا خرجا إلى سطح الأرض فآثرا الموت جوعا وتعبا على التسليم وعزما أن يعودا إلى حفر منفذ آخر في جهة مقابلة مع أنه كان قد نفد ما معهما من أكل وماء فجعلا يحفران وقبلتهما المواقع الفرنسوية، وإن القلم ليعجز عن وصف ما لقياه من صنوف العذاب الأليم والجوع والعطش والتعب؛ فكانا يقتاتان بجذور الأشجار والنبات التي يريانها ويعملان ساعة ويستريحان ساعة، وما فتئا على هذه الحال حتى فتحا ثغرة في مكان قريب من المواقع الفرنسوية بعدما مضى عليهما يومان وثلاث ليال في جوف الأرض، فصعد أحدهما إلى سطح الأرض وتوجه إلى الحارس (الديدبان الفرنسوي) وهو ينهب الأرض نهبا وصرخ فيه قائلا لا تطلق النار علي فأنا فرنسوي وقص عليه حكايته، فأخذه الحارس إلى قومندان الفرقة واستجوبه فقص عليه ما جرى له فأسرع هذا وأرسل من أنجد الجندي الآخر وكان لا يزال في النفق على آخر رمق، وأتوا بالاثنين معا إلى مركز الرئاسة وهما في حالة يرثى لها من الضنك والضعف والجوع، فأكبر القائد عملهما وأثنى على بسالتهما وأنعم عليهما بالمدالية الحربية «جزاء أمانتهما وبسالتهما وإيثارهما المخاطرة بحياتهم والبقاء تحت سطح الأرض إحدى وستين ساعة على التسليم إلى العدو والوقوع في الأسر.» •••
فعال الطيارات الفرنسوية: إذا كان الألمان يرسلون مناطيدهم إلى جو إنكلترا لإلقاء القنابل على الأطفال والنساء والناس الآمنين فإن طيارات الحلفاء تحلق فوق المعامل العسكرية الألمانية لتدمرها وتبيد ذخائرها، وقد ألقت هذه الطيارات أربعة أطنان من القنابل على معامل «موزر»، وقد نشرت الصحف تفصيل ضرب الطيارين بوشان ودوكور الفرنسويين لمعامل أسن الألمانية فإن تلك المعامل التي يشتغل فيها 80 ألف عامل بصنع المدافع والتي أخذت منذ 45 عاما تشتغل لتحقيق أمنية الإمبراطور غليوم إلى 1914 بالسيادة على العالم. كانوا يظنون أنها بمنجاة من كل خطر، ولكن الطيارين الباسلين دوكور وبوشان صرفا مدة في درس الهجوم عليها وبنيت لهما طيارتان خصيصتان لهذا الغرض جربتا كل التجربة وصنعت لإرشادهم الخرائط الدقيقة، وتمكن الطياران من كتمان الأمر حتى إن رفاقهما دهشوا عند تلاوة البلاغ عن رحلتهما الجوية؛ إذ صرف الطياران ساعة كاملة في الارتفاع إلى الجو وكانا قد اتفقا على السير معا وعلى أن يلقيا القنابل على المحطة العسكرية في كولونيا إذا عجزا عن ضرب معامل أسن، ولكنهما وصلا إلى جو تلك المعامل المظلم بالدخان المتصاعد من مداخنه بعد أن اجتاز 350 كيلومترا في ساعة و45 دقيقة، وكانا على ارتفاع 4 آلاف متر ولكي يكون ضربها المعامل محكما تقدم بوشان رفيقه سائرا فوق الشارع الكبير في مدينة أسن حتى صارا فوق غابة المداخن، فألقى قنابله الست الضخمة وأخذ صورة اتقادها وارتفاع أعمدة الدخان والنار، ثم اتجه غربا تاركا لرفيقه المكان لإتمام مهمته ففعل فعله وعاد الاثنان إلى فرنسا في جو محاذ لسويسرا، ولما وصلا إلى حظيرة الطيارات أخذ بوشان يلعب ألعابه الجوية دليلا على فرحه بإنجاز مهمته. •••
بينما كان طيار فرنسوي في طيارته ومعه مراقب يستكشفان مواقع الألمان في مقاطعة الوافر انبرت لهما طيارة ألمانية من طرز أفياتيك فأطلقت عليهما النار، ولكن الطيارة الفرنسوية تمكنت من الارتفاع فوق الطيارة الألمانية؛ فخاف الطيار الألماني من العاقبة وأدار دفة طيارته وولى الأدبار، وحدث أن محرك الطيارة الفرنسوية اختل بغتة فاضطر صاحبها إلى النزول في المنطقة الألمانية لإصلاحها؛ فشاهده الطيار الألماني عن بعد فظن أن الطيار الفرنسوي أصيب بعياراته النارية عندما أطلقها عليه ولم يعد قادرا على الطيران وأن طيارته أصبحت غنيمة في يده؛ فعاد بطيارته نحوه وهبط بقربه فلم يبد الفرنسوي أو رفيقه حركة ما بل تظاهر بالموت فترجل الطيار الألماني من طيارته ودنا من الطيارة الفرنسوية يريد أسرها فما كان من الطيار الفرنسوي إلا أن صوب مسدسه نحو الألماني وأطلقه في الحال فألقاه صريعا، ثم وثب من طيارته وأسرع نحو الطيارة الألمانية فأطلق الرصاص على المراقب الذي فيها فقتله وأخرجه منها وصعد إليها وادارها وطار بها وصرخ في رفيقه المراقب أن اتبعني فأدار هذا طيارته وتبعه وتم لهما أسر الطيارة الألمانية بهذه الحالة - والحرب خدعة. •••
حسن الجواب: كان أحد القرويين يسوق حمارا له في إحدى قرى البلجيك وذلك بعد انسحاب الجنود الألمانية منها فالتقى بضابط ألماني فأراد هذا أن يمزح معه ويهزأ منه، فقال له: إن حمارك يا صاح جميل لا شك أنك تلقبه ألبرت، فأجابه القروي: لا سيدي فإني أحترم مليكي جدا فلا أعطي الحمار اسمه. - إذن تلقبه بغليوم؟ - لا يا سيدي فإني أحترم حماري ولا أريد أن أحتقره فخجل الضابط وسار في طريقه وهو يكاد يتميز من الغضب. •••
الطيار البطل: جاء في 9 يونيو سنة 1915 خبر تدمير الطيار والفورد لبالون ألماني مسير فقد تعقب الطيار المذكور (وهو من طياري الأسطول البريطاني) البالون المسير بين غنت وبروكسل وهاجمه في الساعة الثالثة صباحا في 7 يونيو على ارتفاع ستة آلاف قدم عن سطح الأرض، فحلق الطيار بطيارته فوق البالون وقذف ست قنابل أصابته كلها فانفجر انفجارا هائلا واضطرمت النار فيه؛ فهوى إلى الأرض وهو يحترق وظل يحترق مدة طويلة وانقلبت الطيارة بالطيار رأسا على عقب من تأثير الانفجار، ولكن الطيار تمكن من إعادة توازنها وكان البنزين قد انكب من خزانة الطيارة بانقلابها فاضطر إلى النزول إلى الأرض في بلاد العدو، ولكنه تمكن من تسيير العدة فطار ثانية ونجا من الوقوع في الأسر ورجع إلى معسكره سالما، ولما علم ملك الإنكليز ببسالته هذه أنعم عليه بنشان فكتوريا الذي يمنح لمن يأتي بشجاعة فائقة، هذا، وقد أنبأتنا الأخبار الأخيرة أنه لقي حتفه وراح شهيد الطيران. •••
بسالة جندي إيطالي مولود في مصر: ذكرت بعض الصحف الإيطالية في 18 يوليو سنة 1915 التي تطبع في ولاية برشيا من أعمال إيطاليا أن شابا من مصر اسمه إسكندر برجبزانو في الثالثة والعشرين من العمر أبوه إيطالي مولود في مصر وأمه سورية، تطوع في الجيش الإيطالي فانتخب وحده دون سواه من المتجندين القادمين من مصر للانتظام في سلك سلاح البرسيلياري وألحق بالأورطة السابعة منه.
وأقيمت حفلة هناك تنافس فيها المتنافسون في الشجاعة والإقدام فأحرز قصب السبق ونال الجائزة الأولى وأعطي المدالية الدالة على ذلك.
وقد حدث له بعد ذلك أنه أمر بحراسة علم سانتا أوفيميا التي تبعد نحو خمسة كيلومترات عن برشيا فصدع للأمر، وبينما هو واقف وحده فوق ذلك الجبل الأخضر في الساعة الثالثة بعد نصف الليل، وقد طلع القمر وأضاء بنوره تلك الهضاب الشاهقة شاهد خيالا على بعد دله على قدوم رجال فناداهم بالنداء المصطلح عليه بين الجنود الإيطالية فلم يكن جوابهم إلا إطلاق الرصاص فقابلهم بالمثل فجرح ثلاثة منهم، ثم صاح بألفاظ أوهمتهم أنه معسكر هناك مع أورطة كاملة من الجنود الإيطالية فخافوا العاقبة وولوا الأدبار ولكن الحراس الإيطاليين الذين سمعوا إطلاق النار حضروا في الحال وقبضوا على الفارين فاتضح أنهم سبعة من الأسرى النمسويين الذين أسرتهم الجنود الإيطالية، وأنهم غافلوا حراسهم وفروا هاربين تحت جنح الظلام.
ولما علمت القيادة العامة بخبر هؤلاء الأسرى ذكرت اسم هذا المتطوع في عداد الجنود الذين امتازوا بشجاعتهم وبسالتهم وأنعمت عليه بنشان الشجاعة. •••
صورت الصحف الملك عمانوئيل ملك إيطاليا في أوتوموبيله يتفقد رجال جيشه في ميادين القتال صورة تدل على إقدامه وتمثل ما حدث له فعلا في ميدان القتال، وذلك أنه كان قد عبر الملك بأتوموبيله كبريا فوق الزوارق منصوبا على نهر أسونزو جنوبي جبل نارو، وكان ذلك بعد مغيب الشمس فتقدم من الأوتومبيل ضابط وحيا التحية العسكرية، ثم خاطب الملك قائلا: «مولاي صاحب الجلالة - إن العدو سيباغتنا في هذا الليل ونحن مستعدون للطوارئ، وقد أرسلت من قبل الرئاسة لأتشرف بإبلاغكم أن في وجودكم على الضفة الشمالية من النهر خطرا على جلالتكم.» فأجابه الملك على الفور: «إن كان في هذا المكان خطر على جنودي فهو مكاني أيضا ولن أبرح هذا المكان هذه الليلة.» قال هذا وقرن قوله بالفعل وقضى ليلته كلها متفقدا الجنود في مواقعهم، متنقلا من مكان إلى مكان حتى الفجر. •••
من جميل الصور الهزلية التي رأيناها هي إن جريدة ألمانية تصدر في برلين صورت رجلا ألمانيا مسنا يحمل على ظهره كيسا فيه عشرة ملايين متوجها نحو فرنسا ليدعها من أصل الغرامة، فلما انتهى إلى مستلم الخزينة الفرنسوية رأى الفرنسوي الملائكة ينفخون بالبوق ينادون الموتى إلى القيامة الأخيرة ويوم الحشر، فرفع الفرنسوي يده إلى الملائكة يستصرخهم ويستمهلهم أن يؤجلوا يوم النشور إلى يوم يدفع الألمان جميع ما عليهم من الغرم إلى الحلفاء ولا سيما إلى فرنسا.
فهيهات! •••
ضحية الشرف: من أغرب الحوادث التي روتها الصحف عن المعاملات الوحشية التي جرت عليها ضباط وعساكر الألمان الحادث الآتي:
بينما كانت سيارة ألمانية مارة في إحدى القرى المحتلة في شمالي فرنسا صدف مرورها قرب بيت كانت تسرح أمامه أربع دجاجات فدهست واحدة منها عن غير قصد، وكانت صاحبة البيت وهي امرأة في مقتبل العمر جميلة جالسة بالقرب من الباب فلما رأت دجاجتها تتضرج بدمها تحت دواليب السيارة هطلت الدموع من عينيها فأوقف الضابط السيارة، ثم نزل منها واقترب من المرأة الحزينة، وقال لها بلطف وبشاشة: إني حزين يا سيدتي لأني قتلت دجاجتك فأؤكد لك أن ذلك كان عن غير قصد، فأجابته المرأة، وقد اغرورقت عيناها بالدموع: أنا عارفة أن الذنب ليس ذنبك، فسألها: لماذا تبكين؟ أجابته أن عساكركم أخذت كل ما كنت أملكه ولم تترك لي سوى هذه الدجاجات الأربع والتي قتلت الآن هي الوحيدة التي تبيض كل يوم بيضة.
تفرس الضابط في وجهها فرأى فيه ملامح الجمال فداخله شيطان الغرور ومد يده إلى جيبه وأخرج ورقة مالية تساوي خمسة ريالات ووضعها في يدها بعد أن ضغط بأصابعه على أناملها النحيفة ففهمت المرأة قصده السيء ورمت بالورقة من يدها - فلما رأى منها ذلك ضحك ضحكة استهزاء وأخذ الدجاجة المقتولة وانصرف.
وفي اليوم التالي بينما كانت هذه المرأة المسكينة واقفة أمام بيتها تندب دجاجتها أقبل عليها جندي ألماني وبيده أوراق وتعليمات فتقدم إليها، وقال بخشونة: لدي تعليمات بإلقاء القبض عليك لأننا وجدنا بعد البحث والتنقيب أنك لم تصدقي في تقريرك الأخير الذي فيه قلت أنه لا يوجد عندك شعير، وقد وجدنا الأمر بخلاف ذلك، فأجابته المرأة: إنني لم أقل سوى الحقيقة؛ فإن عساكركم أتت من مدة وأخذت كل ما كان عندي فلم تبق ولم تذر.
فأجابها بخشونة أكثر من الأول: أنت كاذبة فيما تقولين فقد أتى إليك البارحة ضابط واشترى من عندك دجاجة ودفع لك ثمنها، ولما ذبحها وجد في حوصلتها شعيرا؛ فالدجاجة دجاجتك والشعير من عندك، فأقسمت له ألا شعير عندها ومن المحتمل أن تكون الدجاجة التقطت حب الشعير من الحقل فلم يصدقها بل جرها مرغمة إلى المعسكر وهناك حكموا عليها بالسجن ثلاث سنوات.
فما ذنب تلك المسكينة إذا أكلت دجاجتها حب الشعير؟ •••
رجع رجل من حرب فأخذ يقص على جماعة من أصحابه أحوال الحرب وأهوالها فسأله أحد الحاضرين: هل قتلت أحدا في كل هذه المدة (لأنه يعرفه جبانا)؟ أجابه: كيف لا فإني حضرت واقعة وخضت معركة دموية استمرت أكثر من ثلاث ساعات حتى صارت جثث القتلى ركاما؛ فجردت سيفي وتقدمت نحو رجل من الأعداء وضربته ضربة قطعت يده وأحضرتها معي افتخارا وتذكارا لتلك الموقعة، فأجابه: كان الأحسن أن تقطع رأسه لا يده، أجاب: إنني كنت أقصد ذلك ولكن كانت رأسه مقطوعة. •••
سأل أستاذ تلميذا له عن مشكلة حسابية قال: على أبيك عشرة آلاف قرش دينا، وقد قضي عليه أن يدفعها عشرة أقساط في كل شهر قسط، فكم يدفع في الشهر الواحد؟
فقال له الولد: لا يدفع شيئا.
فأعاد الأستاذ على تلميذه السؤال وهو يحسبه لا يفهمه فأعاد عليه التلميذ نفس الجواب.
فقال له الأستاذ متعجبا: ما لي لا أراك لا تفهمني ولا تعرف من الحساب شيئا؟
فأجاب التلميذ: لقد فهمتك وإني عارف بأصول الحساب وأعرف أبي، أما أنت فتعرف الحساب، ولكنك لا تعرف أبي.
هذه من اللطائف التي أوردها أحد الظرفاء عن الألمان وعنداهم في دفع ما عليهم للحلفاء من الغرم. •••
صورت الصحف إمبراطور ألمانيا يحادث ملك إيطاليا في اجتماعهما الرسمي الأخير، وكان ملك إيطاليا قد حول وجهه عن الإمبراطور مما حمل بعض أهل النكتة من الإنكليز أن يقولوا إن الملك يفكر في الآية الإنجيلية القائلة «اذهب عني ...» ولو لم ينطق بها. •••
لما عين اللورد كتشنر وزيرا للحربية الإنكليزية رحب به أحد كبار الوزراء في خطبة ألقيت في هوايتهول، قال الوزير في ترحيبه: «ونحن نشكر لك كل مشورة تلقيها علينا.» فقال اللورد: «أما أنا فلم أعتد سوى إعطاء الأوامر.» •••
بين إنكليزيين - هل بلغك أمر الورشة التي تصنع خرطوش الرصاص في برمنغهام لأجل الجيش الألماني؟ - يا للخيانة! كيف يستطيعون إيصال هذه الخراطيش للألمان؟ - إن جنودنا ترسل هذا الرصاص إلى الألمان من أفواه بنادقها. •••
قال إمبراطور الألمان لجندي فقير وقف أمامه للإنعام عليه بنشان: خبرت أنك في فقر مدقع وأنك العائل الوحيد لأبويك؛ فاختر لنفسك أحد أمرين: فإما نشان الصليب الحديدي وإما مائة مارك.
البطل :
وما ثمن النشان؟
الإمبراطور :
ثمنه قليل قد لا يزيد على ماركين، ولكن الشرف الذي فيه هو الذي يجعله ذا قيمة عظيمة .
البطل :
إذن اعطني يا مولاي النشان و98 ماركا. •••
ادعى الألمان أن عددا من جنودهم دخلوا مدينة أيبر بعد معركة عنيفة، فكتبت جريدة فرنسوية تقول لقد صدق الألمان في دعواهم؛ لأن عددا كبيرا من جنودهم دخلوا تلك المدينة، ولكنهم دخلوها مأسورين. •••
يروى أن بعض الأمريكيين المثرين عرض على الكاتب الشاعر الإنكليزي المشهور رديارد كبلنغ (وقد كان يكتب مقالات رنانة في جريدة الديلي تلغراف في لندن عن الحرب) أن يسافر إلى نيويورك على نفقة المثري المذكور فيدفع له ألف جنيه أجرة تلاوة بعض قصائده الشائقة في حفلة خصوصية فرفض الشاعر قائلا: «إني مشغول الآن في مساعدة أبناء وطني المنهمكين في الحرب.» •••
عرف الناس أن المانيا في أيام الحرب كانت في أشد حاجة إلى النحاس، وقد بينت إحدى المجلات هذه الحاجة بشكل لطيف فصورت في معسكر الألمان بعض الأسرى الهنود - بلونهم الأصفر «النحاسي» المعروف - وصورت أمامهم ضابطا ألمانيا وهو يقول لأحد أتباعه: «يجب أن تضعوا هؤلاء الأسرى على النار وتحللوا أجسامهم فقد يستخرج منها شيء من النحاس يفي ببعض حاجاتنا إلى هذا المعدن!» •••
كان يقود الجنود الألمانية في بروسيا الشرقية الجنرال مورجن ومعنى الكلمة «صباحا» أي غدا، وكان هذا القائد يصدر الأوامر والمنشورات إلى جنوده كل يوم ويختمها بهذه العبارة «إن النصر سيكون لنا.» ثم يمضيها باسمه، وقد علمت أن معنى اسمه «صباحا» فكان كذلك! •••
دعا ضابط من الهوسار الإنكليز بلوكه لوليمة صنعها قبل سفرهم إلى فرنسا، وقال لهم: اصنعوا بألوان الطعام ما تصنعون بجنود الأعداء فلبوا الأمر طائعين فلم يبقوا ولم يذروا، ولما انتهت المأدبة شوهد جندي وهو يضع زجاجات شمبانيا في جرابه، فسأله الضابط حانقا: ما أنت صانع؟ قال: أنا أنفذ أمر رئيسي، قال: وكيف ذلك؟ قال: أمرنا أن نعامل الطعام معاملتنا للأعداء ونحن إذا قابلنا أعداءنا أمعنا فيهم طعنا وقتلا ومن لم نقتله نأسره! •••
استولى قائد على قلعة وأسر عساكرها ولكنه أراد قتلهم فكان يأمرهم بأن يلقوا بأنفسهم تباعا من أعلى القلعة متهددا من يتأخر منهم بقذفه كرها، وقد جاء الدور على عسكري فركض حتى إذ بلغ حافة الجدار وقف ، ثم عاد وركض ووقف كالأول، فقال له القائد: أما يكفيك أن تتردد عن السقوط مرتين؟ فأجاب الأسير: كن مكاني وأنا أتركك تتردد عشر مرات لأرى ماذا تفعل، فضحك القائد وعفا عنه وعن بقية زملائه. •••
قتل أحد الضباط في معركة وبعد انتهائها أمر القائد أن يصنع له تابوت يدفن فيه لبسالته، وأن يكتب على الصندوق اسمه وعمره، وكان النجار الذي تولى عمله قرويا أميا لا يحسن كتابة الأرقام ولا يعرف منها سوى رقم 7، فلما أراد أن يكتب سن الضابط المقتول 28 سنة وضع رقم 7 أربع مرات هكذا 7777 قائلا إن مجموع الأربع سبعات 28 وهذا كاف، وعند الدفن وقف كاهن القرية ليؤبن الضابط، فقال: اعلموا أيها السادة أن هذا الضابط الباسل قتل في الدفاع عن الوطن وسنه لا يتجاوز ...، ثم اقترب من الصندوق ليقرأ الرقم، فقال: مع أن سنه لم يبلغ سبعة آلاف وسبعمائة وسبعين سنة فقط. •••
كان في روسيا مشير جيش يميل إلى محادثة الجنود والضباط الصغار ومباسطتهم لاكتساب مودتهم ومعرفة ما هم عليه من الفهم والذكاء، فاتفق ذات يوم أنه التقى بضابط شاب في سن 25 سنة برتبة يوزباشي وجعل يحدثه، وقال له مازحا: أتعلم يا بني مقدار السمك في البحر؟ - في البحر من السمك يا صاحب الدولة المقدار الذي لم يستخرج إلى الآن. - أحسنت، أتعلم ما المسافة بيننا وبين القمر؟ - مسافة شوط واحد من زحفة جيشك إذا لم تأمرهم بالوقوف. - عافاك الله، أخبرني بأي كلام تستحث همة جنود فرقتك إذا هموا بالهزيمة في إحدى المعارك. - أقول لهم ويحكم أيها الأغبياء إن وراء معسكر العدو مئونة وافرة من المشروبات الفاخرة، فيعدلون عن الإحجام. - هذه حيلة لا بأس فيها، أخبرني الآن أي فرق تجد بيني وبين رئيسك الأميرآلاي؟ - الفرق الذي أجده يا مولاي هو أنك تستطيع بكلمة واحدة أن ترقيني من رتبة يوزباشي إلى رتبة قائمقام عسكرية، وأما هو فلا يستطيع ذلك.
فضحك القائد وأعجب بنباهة محدثه وخفة روحه ورقاه كما طلب إلى رتبة قائمقام. •••
نشرت الصحف صورة الجنرال جوفر يقلد جنديا فرنسويا بسيطا نشان «الصليب الحربي» الجديد في ميدان الحرب وهو يهز يد الجندي مصافحه ويخاطبه قائلا: «أنعم بك من بطل صغير شجاع!» (مون براف بتيت سولداه) ووراءهما العلم الفرنسوي مرفوعا، ومما لا مشاحة فيه أن الجندي مهما عظمت رتبته في الجيش فلا شيء أشهى إلى قلبه من تقليده نشان الافتخار الذي يرمز إلى شجاعته وبسالته في ساحة الحرب، ويبقى ذخرا له ولعائلته من بعده وهو دليل على صدق عزيمة حامله وتفانيه في خدمة أمته ووطنه. •••
بين معلم وتلميذ: أخذ أحد المعلمين بإحدى مدارس فرنسا يشرح لتلاميذه معنى كلمة «نادر» وبعد أن فسرها لهم طلب من أحدهم أن يذكر لهم الشيء الأكثر ندورة فأجاب التلميذ، الآباء؛ لأنهم قتلوا في الحرب. •••
قنبلة تكمل دور موسيقى: لما استولى الألمان على إحدى مدن الأرجون رأى قائدهم أن يوهم سكان المدينة بعظمة الألمان فأمر الموسيقى أن تصدح بأنغامها الألمانية في ساحة البلدة، وما زالت الموسيقى تصدح حتى أتت على آخر البروجرام، وبينما هي تعزف بالسلام الإمبراطوري إذا بقنبلة سقطت عليهم من طيارة فرنسوية فانفجرت وأطارت رجال الموسيقى وقذفت بمدير الجوق إلى الجو، وقد نشرت الصحف صورة ذلك المشهد المبكي المضحك وشر البلية ما يضحك. •••
روى جندي أسترالي من الجرحى الذين قدموا من شبه جزيرة غاليبولي الحادثة التالية:
بقينا عدة أيام نحارب ونقاتل وكان الحر شديدا فاتسخت أجسامنا واشتد اشتياقنا إلى حمام ماء بارد ينعشنا - فانتدبنا رفيقا لنا في قسم المئونة وكلفناه البحث عن برميل قديم كبير فعثر على برميل، وجئنا صباح يوم لم يطلق العدو فيه نارا وكان على ما يظهر يوم هدنة فملأنا البرميل ماء وكنا أربعة، فكنا كل واحد منا يطلب الاستحمام قبل الآخرين إلى أن اتفقنا أن نقترع على ذلك، فكنت أنا الأول فنزعت ملابسي في الحال وغطست في البرميل، وكان سروري عظيما لأنني شعرت براحة وارتياح وبينما أنا كذلك إذا العدو، فاجأنا بناره فصارت القنابل تنهال علينا من كل صوب، وبادر رفقائي إلى الفرار واضطررت مرغما أن أصعد من البرميل طالبا النجاة بحياتي عريانا حاملا ملابسي على يدي، ولحسن الحظ لم يصب أحد منا بسوء، وكان ضحك رجال الفرقة علي شديدا وأخذ كل منهم يسألني: عسى أن تكون قد سررت باستحمامك يا جان. •••
وقف ضابط أمام عساكر فرقته في حرب، وقال: إني أريد اثني عشر رجلا من ذوي البأس والعزيمة بينكم للقيام بمهمة خطيرة، فلم يجاوبه أحد من العساكر فأعاد السؤال ثلاث مرات بدون أن يفوه أحدهم بكلمة حتى ظن ذلك جبنا منهم، وقال لهم: هل أصابكم صمم فلم تعودوا تسمعون كلامي؟ فانبرى من بينهم عسكري وقال: نحن كلنا آذان ولكنا جميعا من ذوي البأس والعزيمة؛ فخذ منا من شئت لقضاء المهمة ولا تحقرنا بمثل سؤالك. •••
أنبأتنا الصحف عن كيفية معيشة الجنود في الخنادق وطرقهم في القتال والدفاع، وقد صورت إحدى الجرائد على إثر افتتاح مجلس النواب في باريس - جنودا من الفرنسويين يسيرون «زحفا على بطونهم» وأحدهم يقول لرفقائه: بينما نحن زاحفون على بطوننا الآن يتبجح خطباؤنا من أعلى المنبر في مجلس النواب أننا كلنا «واقفون» للدفاع عن الوطن! •••
غريبة حربية: قص علينا أحد القادمين من سورية قصة غريبة في بابها قال: توفي المرحوم الدكتور شاكر الخوري الطبيب المعروف والكاتب المشهور عن ثلاثة أبناء وابنة، وقد تعلم الولدان الكبيران الطب والثالث طب الأسنان واقترنت البنت بتاجر سوري في باريس، فلما شبت الحرب بين دول الحلفاء وتركيا كان الأولان يتعاطيان صناعة الطب في لبنان والثالث وشقيقته في باريس، ثم هاجم الحلفاء الدردنيل واشتدت حاجة الجيش العثماني إلى الأطباء فسيق معظم الأطباء السوريين إلى الدردنيل وفي جملتهم الطبيبان المذكوران.
وتطوع الولد الثالث وشقيقته للخدمة في جمعية الصليب الأحمر الفرنسوي فقبلا فيها وأرسلا إلى شبه جزيرة غليبولي حيث اجتمع الأخوة الثلاثة وأختهم ولكن في جيشين متعاديين يقاتل أحدهما الآخر قتالا صادقا ويحاربه حربا عوانا. •••
العادة عند المسيحيين أن يصوروا القديسين وحول رءوسهم هالات من الأشعة رمزا للقداسة والطهارة، وقد صور مصور إنكليزي هزلي صورة ولهلم الإمبراطور وفون تربتنز وزير البحرية وتسبلين مخترع البالون بهيئة قديسين وحول رءوسهم حبال رمزا إلى أنهم سيصعدون إلى السماء ب «حبال المشنقة». •••
السفر في الطيارات: قالت جريدة «الطان» في 13 نوفمبر سنة 1916 إن المسيو إميل فندرفلو زعيم حزب الاشتراكيين، وأحد الوزراء البلجيكيين قرر السفر إلى الهافر على ظهر باخرة إنكليزية لحضور مجلس الوزراء الذي تقرر عقده فيها في اليوم التالي ولكن الباخرة الإنكليزية تأجل سفرها لأسباب مجهولة فأسرع الوزير إلى محلة الطيران في دوفر وطلب أن يسافر بطريق الجو، فأتت طيارة بريطانية وأخذته من فوكستون، وبعد نصف ساعة أنزلته في كاله فسلم البريد الملكي الذي كان يحمله إلى أناس من حاشية الملك، واستأنف سيره إلى الهافر حيث حضر مجلس الوزراء، وهذه أول مرة على ما نذكر اضطر فيها وزير من وزراء الدول إلى ركوب الطيارات لأسباب سياسية توجب الإسراع. •••
ألف ريال ثمن أكلة: أولمت وليمة بفندق «كومودور» بنيويورك فرضوا على كل من يشترك فيها أن يدفع ألف دولار مقدما وقدموا لمن اشترك فيها صنفا واحدا من الطعام فقط ومعه قدر من الكاكاو، وقد كلفت هذه الوليمة القائمين بها فرنكا واحدا عن كل مدعو، وكان الغرض من هذه الوليمة الذي خطب فيها الجنرال «برشنج» القائد الأمريكي الشهير والمستر «لين» وزير داخلية الولايات المتحدة السابق والمستر «هربرت هوفر» أن يجمعوا ما يزيد عن مصروفات الحفلة ويرسلوه إلى جمعية المواساة بأوروبا لتقديم الطعام لمدة سنة إلى مائة طفل من أيتام الحرب. •••
قصاصة ورق: لم يبق أحد في العالمين إلا سمع بحكاية قصاصة الورق هذه وقرأ عنها، والمراد منها صورة المعاهدة التي كفلت بها إنكلترا وفرنسا وألمانيا (وكانت حينئذ بروسيا) استقلال البلجيك وحيادها، وقد سماها وزير الإمبراطورية الألمانية قصاصة ورق فذهبت هذه التسمية مذهب المثل، وإذا كان شرف أمة ما قائما بمحافظتها على عهودها ومواثيقها، وكانت لا تحفل بهذه العهود والمواثيق فلا حق لها بعد ذلك أن تتبجح بدعاوي الشرف. •••
قص ضابط بريطاني واقعة حال جرت في أفريقيا الشرقية قال: «خرجنا بفرقة من الجنود الوطنيين لنقطع خط الرجعة على جيش من الألمان ورأينا أن نقطع المسافة بالأوتومبيلات في وسط غابة اشتهرت بكثرة الوحوش الكاسرة فيها، فما عتمنا أن توسطنا الغابة حتى هجم علينا ثور كبير من نوع الكركدن فاعترض الأوتومبيل الأول، فمال من طريقه وتملص منه إلا أن أوتومبيلنا لم يخلص من شره؛ فنطحه بقرنه وقلبه بمن فيه فقتل أربعة من الجنود الوطنيين فأطلقنا الرصاص عليه ولكن على غير جدوى، ثم هجمنا عليه بالحراب مع من جاء لنجدتنا في الأوتومبيلات التي معنا وأجهزنا عليه وكان عددنا خمسين رجلا.» •••
عبور الأتراك لقناة السويس: بينما كان الحراس البريطانيون قائمين على حراستهم في الهزيع الأخير من ليل 2-3 فبراير سنة 1915 تبينوا أشباحا كثيرة تتقدم نحوهم فأدركوا أنها قوة العدو؛ فأطلقوا النار من بنادقهم علامة للقوات البريطانية المرابطة على الضفة الغربية بدنو العدو، فأخذت القوات البريطانية تطلق النار وبعد مدة قصيرة شوهدت تلك الأشباح نازلة في منحدر الضفة الشرقية، ولم تلبث أن شرعت في إجابة القوات البريطانية على نارها فصارت ضفتا القنال في ذلك المكان شعلة من النار، وكانت تصدر في هذه المدة ضجة عظيمة من العدو، ثم شوهد بعض رجاله يزحلقون الزورق الأول على منحدر الضفة وبعد قليل سمع صوت سقوطه في الماء، ثم الزورق الثاني والثالث والرابع.
واشتركت المدفعية المصرية ومدفعية التريتوريال في المعمعة أيضا، وأصيب مقدم الزورق الأول بقنبلة شرابنل فبرته ومزقت الجنود الذين كانوا راكبين فيه وأطارت أشلاءهم في الهواء وغرق الزورق في الحال، ثم اندفع الزورق الثاني والثالث من الشاطئ فانهالت عليهما القنابل والرصاص فخرقتهما وطبقت جوانبهما فانقلبا وغرقا وقتل معظم الجنود الذين كانوا فيهما وغرق بعضهم ونجا قليلون قانعين من الغنيمة بالإياب، وأصاب سائر الزوارق ما أصاب الثلاثة الأولى إلا زورقين لم يكونا قد أنزلا إلى الماء. •••
حمير تندوس: خطر لجنود الحلفاء في شبه جزيرة غليبولي أن يخدعوا الأتراك المرابطين في خنادقهم خدعة يستدرجونهم بها إلى الجلاء عن مواقعهم فعمدوا إلى جمع عانة من حمير تندوس علقوا في رقابها فوانيس وساقوها ليلا نحو المعسكر العثماني فظن من في المعسكر أن قوة كبيرة من العدو هجمت عليهم، فأسرعوا إلى الجلاء عن مواقعهم تاركين الحمير تسرح وتمرح إلى أن زحفت الجنود من بعدها والحرب خدعة، وقد انفردت جريدة الأخبار المصرية بكتابة شيء عن الحمير في الحرب على ذكر حمير تندوس (عدد 24، 6 مايو سنة 1915) ومن قولها على ذكر غنى الدراجات ونحوها عن الخيل والبغال، ومهما يكن من الأمر، فلا ريب أن الخيل والبغال وحمير تندوس أيضا ستبقى عونا للإنسان في حروبه ما دامت الحروب تجري في بلاد جبلية وعرة المسالك. •••
رجل نحس ولكنه لا يموت: يندر أن ينجو رجل من الغرق ثلاث مرات في أحوال متماثلة كما نجا الخواجا طونر، وتحرير الخبر أن طونر هذا كان وفادا في البارجة تيتانيك حين غرقت سنة 1912 باصطدامها بجبل الجليد؛ فسبح وعام وأبى أن يغرق مع من غرق وقتئذ، وبعد أن نجا وعاد إلى بلاده استخدم وقادا في البارجة «أمبريس أوف إيرلند» فما مضى عليه فيها سنة حتى اصطدمت بباخرة فحم وغرقت بعدد كبير من ركابها ولكن الخواجا طونر عرف كيف ينجو بنفسه، فتقاذفته الأمواج حتى ألقته على الشاطئ، ولم يتعظ الرجل ولم يمتنع أصحاب البواخر عن استخدامه تشاؤما، فاستخدم ثالثة في اللوزيتانيا التي أغرقها الألمان في الحرب، وطبعا رافقه النحس وكان من أمر غرق الباخرة ما عرفه كل إنسان على أن الخواجا طونر نجا من الغرق ثالثة، وقد تناقلت الصحف الأوروبية حكايته ونشرت صورته أعظم الجرائد. •••
هذه حادثة جرت في أثناء هجوم البريطانيين على بلدة لوس واسترجاعها من يد الألمان وتفصيلها أنه «استتر قائد أورطة بريطانية مع رجال الإشارات في منزل متين في لوس ليحتموا فيه من قنابل الألمان، ولكنهم دهشوا لما أخذ الجو يمطرهم وابلا من القذائف، وبعد البحث وجدوا في بدرون (قبو) ذلك المنزل ضابط مدفعية ألمانية معه تلفون يدير به رماية بطارية ألمانية منصوبة على بعد أميال، وكان هذا الضابط الشجاع قد بقي في مكانه مع أن البريطانيين احتلوا تلك الجهة، ولما علم أن ضابطا بريطانيا كبيرا موجودا في الجوار أمر البطاريات الألمانية البعيدة بأن تقذف قنابلها هناك .» وهذه الحادثة مثال عظيم للأمانة في الأعمال العسكرية. •••
خنادق الحراب: من آثار الحرب الفظيعة خنادق في نواحي فردون أطلقوا عليها اسم خنادق الحراب، وتفصيل الخبر أن تلك الخنادق انهالت في إحدى المعارك على من فيها من جنود الدفاع فغمرهم التراب ولم يبق ظاهرا منهم غير حرابهم فقضوا خنقا، ولما لم تسمح الظروف أوانذاك بانتشالهم من تلك القبور التي تضاهي حقلا مزروعا عمد أولوا الشأن مؤخرا إلى إقامة سور حول ذلك الحقل المؤثر؛ حيث شيدوا معبدا للكاثوليك وهيكلا للبروتستانت وكنيسا لليهود وجامعا للمسلمين فينال على هذا المنوال كلا نصيبه من الدعوات، إن لله في خلقه آيات. •••
جاء في إحدى التلغرافات أن الجيش البريطاني أنفق في معركة نفشابل المشهورة وحدها ما يزيد على كل الذخيرة التي أنفقتها الجيوش البريطانية في حرب جنوب أفريقيا المعروفة بحرب البوير، قال أحد أسرى النمسويين في تلك الموقعة مخاطبا إنكليزيا أنكم لم تحاربونا في تلك الموقعة بل حرقتمونا بنار مدافعكم حرقا فلولاها لكانت الحرب سجالا، كانت القنابل تتساقط بين كل عشرة يردات فلم يستطع أحد أن يظل حيا تحت تلك النار الجهنمية.
ومعلوم أن قنابل تلك المدافع التي كان لها الفضل الأكبر في فوز البريطانيين وانكسار الألمان. •••
نشرت الصحف صورة هزلية تمثل إمبراطوري النمسا وألمانيا في مركبة يسوقونها مسرعين خوفا من الذئاب اللاحقة بهما - وعلى يدي إمبراطور النمسا طفلان يمثل أحدهما ترنسلفانيا والآخر ترنتينو، وذئب يمثل إيطاليا، وذئب آخر يمثل رومانيا، وذئب يمثل اليونان، وهذه الذئاب تريد الانقضاض على الطفلين.
إمبراطور الألمان: ألق بأحد هذين الطفلين للذئاب ودعنا ننجو بأنفسنا.
إمبراطور النمسا: ذلك أمر يرضيك ولكنك نسيت أنهما ولداي وليسا ولديك فكيف ألقيهما للذئاب؟ •••
اشتهر الجنرال هملتون الإنكليزي بقلة كلامه إلى حد فاق عنده اللورد كتشنر حتى لقب «بالجندي السكوت» وحتى قال فيه أحد عارفيه: «إن أنة من أنات هملتون أفصح من بيان ومن عبارة كاملة يفوه بها غيره.» وفي إبان حرب البوير طلب اللورد كتشنر معاونا له من الدرجة الأولى فلما أبطئوا عليه كتب يلح في الطلب ويقول بطريقته المجونية المعهودة: وأفضل رجلا ذا دماغ. فاطلع اللورد روبرتس على الكتاب، ثم دفعه إلى الجنرال هملتون مقهقها، وقال: هنا حل المسألة يا هملتون لا بد من ذهابك الآن، وكان كذلك، ومما اشتهر به أيضا صراحته، انتخب رئيسا لجمعية الامتناع عن المسكر في الجيش ودعي ذات يوم للخطابة، فقال: «كلما فكرت في أن عشرة آلاف لتر من المسكر مرت في بلعوم رئيس جمعيتكم الآن مدة خدمته في الجيش وعدتها سبعة وثلاثون سنة - ينخسني ضميري، ولكن من تقاليد الجيش الإنكليزي ألا يقول الضابط لرجاله سيروا أمامي بل هلموا ورائي ويسرني أن أضع نفسي في مركز مثل هذا بأخذ هذا العهد، نعم إن ذلك يضايقني ولكنني وزنت النفقة وأنا مستعد لأدفع الثمن.»
والجنرال ناثر وشاعر معا وله مؤلفات عسكرية معروفة. •••
الحرب والطيور: ذكرت إحدى الصحف العلمية شيئا عن تأثير الحرب الحاضرة في طيور البلجيك وشمال فرنسا، فقالت: إن أسراب طائر السنونو عادت إلى عشاشها في المنازل التي تركتها عامرة فصيرتها الحرب رسوما بالية، فلما لم تجدها اتخذت بدلا منها الأكواخ التي أقامها رجال العسكرية مكانها لأغراضهم، وفي هذا أعظم دليل على تشبث هذا الطائر بوطنه القديم.
وقالت أيضا إن الطيور التي تأوي إلى الأشجار بين الصفين المتحاربين طالما أنذرت جنود الحلفاء النائمين بإطلاق الألمان للغازات الخانقة إذ كانت تطير في جهتهم هاربة من الغازات وهي تصفق وتصيح كأنها تستغيث. •••
الحمام الزاجل أيضا: لهذا النوع من الحمام مآثر تذكر فتشكر في نقل الأخبار منذ القدم في المشارق والمغارب ولا يزالون مولعين به في الهند وفارس وبلاد الترك وألمانيا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا وإنكلترا وأمريكا، وهم يربونه ويغالون بثمنه حتى بلغ ثمن الحمامة منه مائة جنيه، والمدرب من هذا الطير يرجع عادة إلى وطنه من مسافة خمسمائة ميل، وقد تبلغ سرعته أكثر من ألفي متر في الدقيقة ومعدل ارتفاعه عن الأرض 430 قدما بحيث يرى الأرض عن هذا الارتفاع إلى مسافة 25 ميلا، وكان نوتية مصر وقبرص يستخدمون هذا الحمام قديما لنقل أخبارهم إلى البر ، وكذلك المصارعون اليونان في الألعاب الأولمبية، وأول مرة استعمل فيها هذا الحمام في الحرب سنة 43 قبل المسيح لما حاضر أنطونيوس الإمبراطور الروماني مدينة مودينا في شمالي إيطاليا، وقد استعمله الفرنسيون في حصار باريس 1870-1871، ولم يكن للمحاربين غنى عنه أيضا في هذه المرة؛ فقد صنعوا له أبراجا نقالة على السيارات ولم يكتفوا بأن يكلفوه نقل الرسائل بل قد أثقلوا كاهله بعدد التصوير الشمسي حتى إذا ارتفع في الجو وسار مسيره يبلغ الخبر ويأخذ الصور فكأن رب الحرب لم يشأ أن يعفي أحدا من هذا العراك الذي أقلق الإنس والجن والطيور والأسماك. •••
فظاظة الألمان: من أعمال الألمان البربرية الدالة على مبلغهم العظيم من القسوة والفظاظة، وتحرير الخبر أنهم قبضوا في ميدان فردون على بضعة جرحى من الفرنسويين قرب مونتميدي ووقفوهم أمام جدار بيت قبيل أن يعدموهم بإطلاق الرصاص عليهم، ولكي يزيدوا جنايتهم فظاظة جعلوا يحفرون لهم حفرا في الأرض ليدفنوهم فيها بعد قتلهم وكان ذلك على مرأى من أولئك التعساء انتقاما لأنفسهم من الحلفاء، وكان بين أولئك الجرحى جندي تظاهر بالموت جزعا من هول ما رأى وتمكن أخيرا من الفرار وقص على أهله حكاية ما جرى. •••
أعلن جندي في الصحف قال: «فقد مني كلب يدعى «كاده» هو كلب آلاي المشاة الثامن، خاض المعارك وأصيب بثلاثة جروح في فردون والسوم وكان يمشي دائما في طليعة الآلاي، ولما كنا لا نقدر أن نعلق له أثرا يدل على شجاعته قصصنا له قطعة جوخ من ثوب ضابط ألماني رسمنا عليها صليبا أحمر من الجوخ وكتبنا عليها هذه الكلمات: «حارب وأصيب بجروح الحرب.» ووضعنا على الثوب ثلاث شرائط عسكرية، وقد علقت في كمامته قطعة من قذيفة مدفع فرجاؤنا ممن يجده أن يسلمه إلى قوميسير نقطته وله الفضل.»
وقد وجد «كاده» وأعيد إلى صاحبه معززا مكرما.
فنبهت هذه الحكاية ذهن كاتب إلى كتابة فصل عن كلاب الحرب وآثارها فيها نقتطف منها ما يأتي: قال الكاتب: «من أهم ما قامت به الكلاب في هذه الحرب خدمة المواصلات بين الطوابير ؛ فقد أوصلت الأوامر بين طابور وطابور في الخنادق تحت وابل من القذائف يستحيل على الإنسان أن يسير خطوة فيها.
ففي 28 أغسطس سنة 1916 أرسل ضابط خبرا إلى كولونله يحمله الكلب مودور نمرة ... من كلاب الفيلق العاشر، وقد كان الواجب عليه أن يجتاز مسافة كيلومترين، فاجتاز مودور المسافة إلا أنه أصيب في المائتي متر الأخيرة بجرح بالغ ولكنه على رغم جرحه ظل يزحف على بطنه إلى أن أوصل الأمر ومات بعد وصوله بخمس عشرة دقيقة.
وفي 27 أغسطس 1916 قامت الكلبة فولت بمهمة من هذا النوع، فأوصلت أمرا عسكريا، وقد أصيبت بجرح في خلال القيام بمهمتها ماتت على إثره بعد إصابتها بخمسة أيام.» •••
حكى أحد الجرحى القادمين من الحرب قال: كان بالقرب من خنادقنا في فرنسا حانة صغيرة اشتبه قومندان فرقتنا فيها؛ فبث عليها العيون والأرصاد وتنصت رجالنا قرب نوافذ الحانة مرة فسمعوا كلاما وهمسا بالألمانية؛ فألقوا القبض على صاحب الحانة وتهددوه بالإعدام إن لم يعترف بحقيقة أمره، فخاف الرجل العاقبة وصفر صفيرا غريبا فركض إليه كلب أسود الشعر طويله، فقال صاحب الحانة هذا غريمكم فمسكوا الكلب وعثروا حول جسمه على منطقة قد قص شعره منها وربط حولها حزام ذو شعر أسود طويل مثل شعر الكلب، ووضع تحت الحزام أوراق عليها معلومات حربية فحوكم صاحب الحانة لجاسوسيته، وأعدم الكلب وصدرت الأوامر بضبط الكلاب الشاردة التي يعثرون عليها. •••
نشرت الجرائد صورة بلدة بنيت في خطوط القتال الأمامية شمال فرنسا وبيوتها أقبية صغيرة، وسكان هذه الأقبية ليسوا من بني الإنسان ولا من الجان بل هم كلاب تستخدمهم فرقة الإسعافات الطبية في الجيش الفرنسوي، وقد نشرت أيضا صور تمثل استخدام الكلاب في الجيش الإنكليزي لجر المدافع الصغيرة واستخدامها في الجيش الألماني لنقل الرسائل والتجسس، أما الفرنسويون فقد وجهوا عنايتهم إلى استخدام مواهب الكلب الطبيعية والغريزية فيه لمساعدة رجال الإسعافات في البحث عن الجرحى والتائهين والاهتداء إليهم بواسطة حاستي الشم والسمع، والكلاب تختبئ أو تحتمي في هذه المرابط إلى ما بعد القتال أو إلى أن يخيم الظلام فتنطلق إلى مهامها يتبعها رجال الإسعاف فينقذوا الجرحى ويلتقطوهم ويأتوا بهم ليعالجوا. •••
باغتت دورية إنكليزية بضعة جنود ألمانيين في بيت قروي فرنسوي كانوا جالسين إلى مائدة الطعام ولاهين بالأكل والشرب فأسرتهم، ثم جلس رجال الدورية إلى مائدة الطعام تأكل ما تركه الألمانيون مما لذ وطاب وقامت صاحبة المنزل بخدمتهم بطيبة خاطر وسرور فكانوا جميعهم كأنهم أفراد عائلة واحدة، وقد سري عنهم وقضوا مدة وهم يتحدثون. •••
جرت على حدود البلجيك حادثة وحكايتها أن الألمان نصبوا أسلاكا عالية على الحدود الفاصلة بين الأراضي البلجيكية والأراضي الهولندية ليمنعوا الناس من المرور وأقاموا الحرس والجنود على طول تلك الخطوط، وحدث أن فلاحا بلجيكيا كان في الأراضي الهولندية فلم يستطع العودة إلى قريته بالقرب من الحدود فدنا من الأسلاك العالية وأبصر ابنته عن بعد في منطقة الأراضي البلجيكية فهتف لها وأراد أن يكلمها ولكن الحرس الألماني لم يمهلوه بل بادروه برصاص بنادقهم فوقع صريعا على مرأى من ابنته المسكينة التي سقطت مغمى عليها حزنا وجزعا، وقد جاءت دورية من الجنود الهولنديين فرفعوا جثة الرجل وأخذوها ودفنوها. •••
الحرب خدعة: في أول يوم شهر الرومانيون فيه الحرب على النمسويين فتقت لهم الحيلة أمرا يذكر، ذلك أنهم أرسلوا إشارة إلى أول محطة نمسوية يطلبون منها إرسال قاطرة لتنقل قطارا مشحونا حبوبا وقمحا إلى النمسا فأرسل موظفو سكة الحديد قاطرة قطرت قطارا طويلا إلى المحطة (وهي محطة غامش) وكان القطار «مشحونا» جنودا رومانيين فلا حبوب هناك ولا قمح والنمسويون عن ذلك غافلون، ولما بلغ القطار المحطة النمسوية فتح الجنود الرومانيون أبواب المركبات وقفزوا منها وباغتوا حامية غامش فأخذوها على غرة قبل ما يتسنى لها الدفاع عن نفسها، وزحف الجنود الرومانيون من غامش على النمسا ولا غرو فالحرب خدعة. •••
ملكة شجاعة: رغبت الملكة ولهمينا ملكة هولندا في التفرج على الغواصة عندما تغطس تحت الماء، فلبي طلبها وتمكنت من البقاء في جوف البحر نحو نصف ساعة، فكانت أول ملكة نزلت في غواصة ومخرت بها عباب الماء تحت سطح البحر، وقد ولدت الملكة ولهلمينا في سنة 1880 فيكون عمرها الآن 36 سنة. •••
مصرع نجل رئيس وزراء إنكلترا: لا غرو إذا أكبر الفرنسويون أفعال إخوانهم وحلفائهم الإنكليز في ساحات القتال في فرنسا، وأكثروا من مديحهم وحمدهم وشكرهم في محافلهم العمومية ومجتمعاتهم وصحفهم، وفتحوا لهم قلوبا رحبة وصدورا واسعة وآخوهم وطلبوا ضم المملكتين ضما حبيا بفتح نفق هائل تحت بحر المانش بين فرنسا وإنكلترا مما كانوا يترددون في عمله قبل هذه الحرب، فإن الإنكليز قد دفعوا عربونا عظيما لصداقة متينة العرى لا تمحى على ممر الأيام والسنين، وتركوا في أرض فرنسا آثارا وذكرى دائمة خالدة لا تموت مع توالي الأجيال - إن أرض فرنسا قد شربت من دماء أبطال شبان الإنكليز - فقيرهم وغنيهم نبيلهم وحقيرهم شيئا كثيرا، جعل الفرنسويين الذين اشتهروا بحفظ الجميل والاعتراف بالفضل يتغنون بإطراء الإنكليز ولا سيما أشرافهم ونبلائهم وأعيانهم الذين لبوا نداء المروءة والوطنية وبادروا عن طيبة خاطر للدفاع عن فرنسا كأنها بلادهم، وساعدوا على صد غارة الألمان، فسقط منهم واحد تلو واحدا صريعا في حومة الوغى، ولقد اطلعنا أخيرا على إحصاء عدد فيه الأشراف وأبناء الأشراف من الإنكليز الذين سقطوا في ساحة الحرب في فرنسا فوجدناه إحصاء طويلا يدل بأجلى بيان على أن النخوة الإنكليزية والحمية السكسونية وتلك الروح القديمة التي قرأها الناس في تاريخ تلك الأمة المجدية، روح الرجولية والفروسية - لا تزال كامنة في صدور النبلاء من أبنائها - والعامة أيضا - كما كانت في صدور أجداد أجدادهم.
ويذكر القراء حكاية الأمير النبيل الدوق أوف وستمنستر الذي قدم مصر في شتاء 1915 الغابر فخاض غبار الصحراء الطرابلسية بعدد يسير من الجنود راكبين الأوتومبيلات المسلحة، واستهدف بحياته إذ أوغل في صحراء قاحلة في بلاد الأعداء وهجم على معسكرهم (من أتراك وسنوسيين) فقاتلهم وهزمهم، وأنفذ من بينهم تسعين أسيرا من أبناء جنسه المعتقلين هناك من بحارة البارجة «تارا» وأركبهم الأوتومبيلات وعاد بهم أدراجه - حكاية تحاكي حكايات الأقدمين بما فيها من شجاعة وشهامة ونخوة وإقدام.
ومن أولئك الإنكليز الأشراف الذي بات اسمهم مقرونا بالفخر لهم ولسليلتهم من بعدهم الشاب المرحوم المستر ريموند أسكويث بكر الوزير المستر أسكويث رئيس وزراء الحكومة البريطانية الذي سقط صريعا في ميدان السوم، وكان عمره 37 سنة وتخرج من جامعة أكسفورد العالية بعدما نال امتيازاتها وفاق على أقرانه، ثم عكف على درس العلوم القضائية والمحاماة فامتاز بهما واشتهر بتضلعه منهما وكان يؤمل له مستقبلا عظيما باهرا، ولما نشبت الحرب تطوع للخدمة العسكرية فدخل ضابطا في فرقة الآلاي الجرينادييه جاردس، وتزوج في سنة 1907 بالآنسة هورنر فرزق منها صبي وبنتان، وكان مقتله جاء على والده الجليل ضغثا على إبالة فتثقل بالأحزان فوق ما ثقلته به الحرب من الهموم والمشاغل والمسؤليات الجسيمة على أن الأحوال توجد الرجال، وكان للوزير نجلان آخران في ميدان القتال. •••
وقال مكاتب روتر يصف سقوط بالون ألماني بإنكلترا وسقط البالون قرب كوخ مجاور لشاطئ البحر، وأفاق الناس من نومهم على صوت عدة البالون فأبصروه يتهادى نحو البحر على ارتفاع ثلاثمائة قدم، ثم دار فجأة نحو البر وهبط فمس رءوس الأشجار استقر على الأرض وسمع الناس اللعنات تتصاعد من مركبات البالون وبعضها بالإنكليزية كما يلفظها الألمان، ثم خرج رجال البالون منه ودنا قائده من باب الكوخ وأخذ يصيح بأعلى صوته ويقرعه فلم يلق جوابا، ثم تشاور القائد ورجاله وسمع دوي ثلاثة انفجارات وصوت تحطيم زجاج النوافذ وسار الألمان إلى الداخلية وهم يطلقون مسدساتهم في الفضاء.
وأخذ الناس يهرعون إلى الطرق وأسرع البوليس على دراجاتهم وأقدامهم إلى مكان الحادثة.
والتقى أحد رجال البوليس بالألمان فاعترض لهم في الطريق، وقال: «ماذا يجري أيها الناس؟» فأجابه أحدهم بصوت عميق قائلا: «دلنا على الطريق.» ولما رأى البوليس أنه وحده في الليل أمام جماعة من الغرباء دلهم على الطريق وأخذ يتبعهم حتى التقى باثنين من زملائه فاجتمع الثلاثة وأخبروا الألمان أنهم أسرى فأطاع القائد الألماني، ولما وصلت دورية من الجنود باح القائد الألماني باسمه، وطلب أن يسمح له بالذهاب إلى أقرب مكتب بريد ليكلم واحدا بالتليفون ويكلفه أن يبشر قرينته بسلامته، فرفض طلبه هذا وسيق الألمان مأسورين. «حدث هذا كله تحت جنح الظلام في طريق في الريف، أما البالون فقد سد الطريق وارتفع فوق الأشجار والمباني فصغر حجمها في عين الناظر بالنسبة إليه، ويقال إنه يكاد يكون سليما وإن عدده في أتم نظام، ولكن يظهر أنه أصيب بالقنابل غير مرة، وقد عثروا فيه على مدافع وخارطات ومذكرات وتعليمات وتلغرافات وأجزاء آلات ووجدوا في الحقول أطعمة ألمانية ألقاها رجال البالون منه قبل نزولهم.» •••
روى جندي إنكليزي عما جرى له مع جندي ألماني في ساحة القتال في ميدان السوم، قال وهو طريح الفراش من جروح كثيرة في جسمه: «صدر الأمر إلى رجال فرقتي أن تتقدم إلى الأمام وتهاجم مواقع الألمان ولكني أصبت لسوء حظي بجرح بالغ أقعدني عن الهجوم فحملني رفيق لي ووضعني في حفرة من الحفر التي فتحتها القنابل وديعة، واشترك هو مع إخوانه في الهجوم وبينما أنا منهمك في ربط جرحي ومنع النزيف أحتمل الآلام والأوجاع إذا جندي ألماني انتصب أمامي خارجا من مخبأه وفي يده بندقيته في رأسها حربة وهجم علي يريد قتلي طعنا بحربته، ولم يعمد إلى إطلاق الرصاص خوفا من تنبيه رفقائي الذين ابتعدوا عنا، وأدركت أن عدوي اغتنم فرصة ابتعاد فرقتي وخلو الجو له فأراد قتلي ليلبس ملابسي ويقترب من معسكرنا فيتجسس لقومه، ففي تلك اللحظة شعرت أن الطبيعة أعطتني من الضعف قوة؛ فدفعت عني برجلي طعنة نجلاء لو أصابتني لقضت علي، وأمسكت بيدي السليمة حربة البندقية ولم أفلتها مع أنها جرحت كفي؛ فآلمني الجرح وتمكنت من جذب البندقية وخصمي إلي، ثم جرى صراع شديد بيننا وكانت قواي تخور رويدا رويدا وجروحي الجديدة تزيدني ألما إلا أنني وفقت إلى القبض على عنق خصمي فضيقت عليه الخناق، وما تركته إلا بعدما أطبق عينيه فتركني وكانت قواي قد وهنت وخارت واعتراني دوار، ثم غبت عن الصواب ولا أعلم ما جرى بعد ذلك.» •••
أصبح معلوما أن كثيرا من الأقباط في مصر يسمون أولادهم بأسماء إنكليزية منذ سنين وأنهم يختارون لهم في الغالب أسماء كبار الرجال الذين يخدمون مصر من أهل إنكلترا، وقد اتفق أن سيدة قبطية من الفيوم كانت تتنزه على شاطئ البحر في الرمل ومعها ولدان أحدهما اسمه «كتشنر» والآخر «روزفلت»، وبينما هي كذلك أخذ كتشنر في الجري على الرمل فابتعد عنها قليلا فأخذت تناديه: «يا كتشنر ... ارجع يا كتشنر.» إلى أن رجع وكان بعض الجنود الإنكليزية يتمشون في نفس الوقت على الشاطئ فدهشوا من تكرار المناداة باسم كتشنر، وجعلوا يلتفتون يمينا وشمالا فوقع نظرهم على كتشنر الفيومي الصغير راكضا نحو أمه، فوقفوا في سبيله وجعلوا يمازحونه ويكلمونه بالإنكليزية، ولما رأوا أنه لا يعرف هذه اللغة أفرغوا له ما يعرفونه من الكلمات العربية نظير «سعيدة» وغيرها وأعطوه بعض القروش بالرغم من إلحاح والدته بعدم القبول وانصرفوا مسرورين من وجود كتشنر صغير في مصر. •••
كتب أحد مكاتبي الجرائد المرافق للجنود الإيطاليين من فرقة البرسلياري يقول: «ظن النمسويون الممتنعون في قمة الجبل في مضيق رول الصعب المنال أنهم في مأمن من أعدائهم الإيطاليين، وأن موقعهم أشد مناعة من عقاب الجو؛ فكانوا كل يوم يرفون عقيرتهم بالشتائم والسب للإيطاليين المعسكرين في أسفل الوادي فيسمعهم هؤلاء ويتميزون غيظا، وفي ليلة من الليالي ابتدأ جنود فرقتين من الجنود البرسلياري أن يتسلقوا صخور الجبال الشاهقة نحو قمة الجبل من جميع جهاته، وأحاطوا بموقع النمسويين إحاطة الهالة بالقمر قبلما ينبلج نور الصباح، ولم تكد الشمس تشرق حتى هجموا على النمسويين من جهات مختلفة كالأسود الضواري فأخذوهم على غرة ولم يجد النمسويون بدا من التسليم فرفعوا أيديهم، ووجد الإيطاليون المكان محصنا بالخنادق والحفر والأنفاق كأنه وكر نمل وبلغ عدد الذين سلموا من غير قتال 300 جندي و11 ضابطا وغنم الإيطاليون عدة مدافع سريعة الانطلاق.» •••
حرب المدافع: لقد مضى الزمن الذي كان يصوب فيه رماة المدافع مدافعهم إلى الهدف الذي يرونه بأعينهم وتغيرت حرب القتال بالمدافع تغيرا عظيما؛ فالطوبجية في معظم الأحيان لا يرون الأماكن التي يصوبون إليها فوهات مدافعهم ولا يعرفون لها رسما أو شكلا بل يتبعون التعليمات والإرشادات التي يرسلها إليهم المراقبون المستطلعون الذين قد يكونون على مسافة أميال بعيدة عن المدافع، ورأى أحدهم شكل مخفر استطلاع بناه الفرنسويون بين فروع شجرة عالية؛ فصنعوا غرفة صغيرة من الخشب في أعلى الشجرة، ومدوا إليها سلالم وأوصلوا من الغرفة إلى مركز الطوبجية سلكا تليفونيا وجعلوا يستطلعون مواقع الأعداء بنظاراتهم القوية، ويرشدون مدافعهم إلى وقع القنابل وتأثيره بالتلفون، وعلى هذا النمط أقام الفرنسويون مخافر عديدة على طول خط القتال، ووضعوا لكل ميل من استحكامات الأعداء جنودا واقفين للأعداء بالمرصاد ليلا مع نهار، ولا يعدم الفرنسويون حيلة في إقامة مخافر عالية الاستطلاع في الأماكن التي ليس فيها أشجار عالية؛ إذ يطلقون بالوناتهم المقيدة في الجو أو يطيرون طياراتهم فتحلق في السماء مستطلعة أو يقيمون المخافر على قمم الجبال وعلى سطوح المنازل وفي البيوت التي تقع في منطقة القتال. •••
لما رأى الفرنسويون ما فعله الألمان بكتدرائية ريمس المشهورة من التخريب والتدمير بإطلاقهم قنابل مدافعهم عليها وخرقهم حرمة الكنائس والمعابد وطدوا النفس على أن يصونوا معابدهم وكتدرائياتهم في جميع المدن التي في منطقة القتال؛ فلجئوا إلى طريقة مثلى يصونون بها هذه الكنائس ولا سيما أبوابها الجميلة المنقوشة نقشا تاريخيا جميلا بديعا بوضعهم أكياس الرمل والتراب حوله دكا رصافا فإذا سقطت قنبلة على الأكياس وانفجرت وتطايرت شظاياها لم تصب إلا رملا وترابا وصين ما وراءها من نقوش جميلة وتماثيل دقيقة. •••
كان الحلفاء والجرمان يحاربون معا على السواء عدوا بريا شرسا هو الفئران والجرذان، وقد علت شكوى الجنود في الخنادق من هذه «الزعانف» التي عمت أضرارها، فكانت الجرذان تتبع الجنود أينما ذهبوا فلا يكادون يحفرون خندقا ويتوارون فيه حتى يزحف عليهم جيش من الجرذان يلتهم طعامهم التهاما، ولا يبقى لهم على شيء، وكثيرا ما تكشر الجرذان عن أنيابها وتعض الجنود وهم نائمون في خنادقهم، ولما استفحل أمر الجرذان ولم يعد احتمال أذاها في الإمكان رأت قيادة الجيش أن تطلق عليها الكلاب؛ فأطلقت ألوفا من الكلاب في الخنادق فجعلت تطارد الفئران والجرذان إلى كل وكر وفي كل مكان حتى خفت وطأة ذلك العدو الثقيل. •••
كان الجنود الإنكليز المعسكرون بسلانيك يقاسون الأمرين من الكلاب الضالة التي تتلصص تحت جنح الظلام إلى ما بين الخيام وتلتهم ما تمر به من المأكولات الغذائية التي لا يجد الجنود مكانا لحفظها فيه، وقد فتق لأحد الجنود حيلة غريبة عمد إليها فإنه نقر في جوف شجرة كبيرة نقرا واسعا أودع فيه مأكولاته التي يسطوا الكلاب عليها، ووضع في فتحة النقر بابا من الحديد ليدخل النور والهواء إلى مأكولاته فلا تفسد وليتسنى له مراقبتها من حين إلى آخر. •••
نقل المأكولات بالطيارة: حاصر العثمانيون الجنرال توتشند والحامية الإنكليزية في مدينة كوت الإمارة في العراق خمسة أشهر كاملة، ثم اضطرت الحامية إلى التسليم وكان ذلك في آخر شهر مارس 1916 وكانت طيارة تنقل إلى رجال الحامية أكياسا فيها قمح وسكر فتطير من مواقع البريطانيين جنوبا موقورة بالمأكولات ومحلقة فوق مواقع الأعداء فكوت الإمارة، ثم تنزل فيها، وكثيرا ما كانت هذه الطيارات تطير ولا تهبط على الأرض فتلقى رزما فيها بن وشاي ودقيق ومهمات لازمة لصيد السمك وإقامة تلغرافات لاسلكية وسجاير ودخان، فما أعظم الفرق بين الطيارات السلمية التي تلقي على الناس المأكولات وأنواع الحلوى والدخان والطيارات العدائية التي تلقي قنابل الموت والتخريب! •••
الطيارات في الإسكندرية: قالت جريدة البصير الإسكندرانية: «لما حلقت الطيارات المائية البريطانية ذات يوم على مدينة الإسكندرية من الشرق إلى الغرب، ثم إلى الجنوب شاهد أحد رجال البوليس الذي كان في الخدمة بميدان محمد علي إحداها فأمر المارين أن يدخلوا إلى الأغوار السفلى من المنازل والحوانيت ظانا أنها طيارة للعدو، ولما تيقن أنها بريطانية ضحك على نفسه وانصرف.» •••
يموت قرير العين: جرت حادثة ولا كالحوادث في تأثيرها في ميدان الفوج، ذلك أن ضابطا فرنسويا ذا رتبة عالية في فرقة الرماة الجبليين سقط إثر إصابته بجروح بالغة في مكان مكشوف يتسلط الأعداء عليه، وكانت جروحه تنذر بدنو أجله، ولم يستطع جنوده أن ينقلوه إلى مكان أمين ورأوه يحتضر فسألوه عما يطلبه ويشتهيه قبل أن يطفأ سراج حياته فأوعز لهم أن ينفخوا في الصور نغمة مارش «سيدي إبراهيم» ليسمعها لآخر مرة فأطاع الجنود أمره في الحال، ورفعوا أبواقهم ونفخوا فيها ذلك السلام المشهور ذا النغم الحربي الذي يثير الأشجان وبينما هم يبوقون لفظ ذلك الضابط روحه ومات قرير العين.
أما سلام «سيدي إبراهيم» فنشيد حربي نظمته الموسيقى الفرنسوية تخليدا لحادثة تاريخية جرت سنة 1845 أيام حرب الجزائر وكانت بقيادة الأمير عبد القادر المشهور، فإن العرب قطعوا خط الرجعة على ثلاثة فرق فرنسوية من رماة مونتانياك وأطبق العرب على الفرنسويين، فأمعنوا فيهم طعنا وجرحا حتى قتلوا معظمهم وتمكن الباقون من الجنود الفرنسويين من الفرار والالتجاء إلى جامع في قرية مجاورة تدعى سيدي إبراهيم، فحاصرهم العرب فيها يومين كاملين لم يذق الجنود فيهما طعاما ولا شرابا إلى أن تمكنوا من الخروج من الجامع سرا واختراق مضارب الأعداء وبلوغ ملجأ أمين فنجوا من الموت بعدما تحملوا أهوال مضض الجوع والظمأ. •••
الأميرال جليكو قائد الأسطول البريطاني: ولد الأميرال السرجون جليكو قائد الأسطول البريطاني العام في مدينة سوثمبتون بإنكلترا وعمره الآن تسعة وخمسون سنة، وقد كان أبوه مديرا لإحدى شركات الملاحة الكبيرة فكأن ابنه ورث عنه الميل إلى المعيشة فوق البحار، وتوفي والده منذ خمسة أعوام بعدما رأى ابنه قد اعتلى أعظم المناصب وأسماها، وقد تخرج السرجون في مدرسة روتنغهام، ثم قضى مدة يتمرن على الأشغال البحرية في البارجة المدرسية «بريطانيا» ففاز بقصب السبق على أقرانه ونال جوائز عديدة شهدت بنبوغه وتفوقه، ودخل المدرسة البحرية الملكية فنال الأسبقية على سواه ولم يكد يخرج منها ويعين ملازما حتى طلب للخدمة في الأسطول فعين في البارجة «أغينكورت» التي قدمت المياه المصرية إبان الحركة العرابية فشهد جاليكو ما دار حينئذ من المواقع، وفي سنة 1886 كان في البارجة «مونارك» فخاطر بحياته في سبيل إنقاد غرقى باخرة تجارية قرب جبل طارق، ولما وقعت حادثة البارجة فكتوريا التي غرقت في المياه السورية تجاه طرابلس الشام كان جاليكو قائدها طريح الفراش بمرض حمى شديدة؛ فلم يستطع النجاة بنفسه وغاص في اليم وكاد يشرف على الغرق فبادر أحد ضباط البارجة إليه والتقطه من الماء غائبا عن صوابه وعلى آخر رمق من الحياة، وفي سنة 1900 عين الأميرال جاليكو قبطانا مساعدا للأميرال سيمور الذي قاد الأسطول في مياه الشرق الأقصى في أثناء ثورة البوكسر الصينية المشهورة، فوقف وقفة تشهد له بالبسالة والإقدام رغما عن إصابته بجروح بالغة، وفي العام التالي اشتهر أمره وتزوج كريمة السر شارل كايزر من كبار مديري شركات الملاحة، ثم جعل يتدرج متقلبا في المناصب البحرية فعين مساعدا لأميرال الأسطول الأتلانتيكي بين سنتي 1905 و1907 فأميرالا ثانيا في القيادة العامة فأميرالا عاما للأسطول البريطاني، وكان ذلك لما نشبت الحرب، والإنكليز يثقون بالأميرال جليكو ويفتخرون به. •••
مدفع 75 الفرنسوي: لا مشاحة في أن الحرب العظمى كانت حرب ميكانيكيات من غواصة إلى طيارة إلى طوربيد إلى مدفع من طرز 75، أما مدفع ال 75 المشهور فمصنوع في فرنسا ويعرف الفرق بينه وبين المدافع الأخرى كل من شهد صور الحرب التي سمحت الحكومة الفرنسوية للشركات السينماتوغرافية بتصويرها وعرضها على الجمهور، وقد شاهدنا كيفية استعمال المدافع ال 75 في إحدى قاعات السينمتوغراف في مصر، ورأينا القنبلة يدخل بها في مؤخرة ماسورة المدفع، ثم يطلق المدفع فتطرد مؤخرة الماسورة إلى الوراء مترين وتعود إلى مكانها في الحال دون أن تمسها يد أو ينتقل المدفع من مكانه أو يختلف وضع ماسورته، وسر المدفع هو في ارتداد الماسورة المذكورة من زخم قوة انطلاق القنبلة بضغط الزيت والهواء المضغوط فيتسنى للمدفعية حشو الماسورة في الحال بعد رجوعها إلى مركزها السابق، وهو يطلق من 25 إلى 30 قنبلة في الدقيقة، مخترعه الكولونل ديبورت، ولم يخترعه ديبورت هذا إلا بعدما أشار عليه رئيسه الجنرال ماتيو باختراع مدفع ترتد ماسورته إلى الوراء، فأتم ديبورت اختراعه سنة 1894 بعدما عانى أتعابا ومشاق وفي سنة 1897 شاع استعمال هذا المدفع في الجيش الفرنسوي بعدما أجرى فيه الجنرال ديفل تحسينا كثيرا؛ فإنه اخترع له ترسا تقيه النار، وصندوقا لوضع القنابل، وحركة تجعله يطلق في الدقيقة من القنابل ما لا عدد له ، وعلم الجنرال ديلوي الذي كان وقتئذ وزير الحربية أنه لا بد للألمان من بث العيون والأرصاد لتقليد المدفع ال 75 فكان يعرض في المعارض أنموذجا يختلف عن الأنموذج الحقيقي؛ فخدع الألمان بذلك وبقي سر صنع المدفع سرا مكتوما، وقد كان لهذا المدفع شأن كبير في معركة فردون الشهيرة.
وفي ليلة 21 فبراير سنة 1916 أطلق جندي فرنسوي من مدفع 75 مركب على أوتومبيل على البالون تسبلين المسير وكان البالون طائرا فوق مواقع الفرنسويين على بعد ثمانية أميال من بارلدوك، فاخترقت القنبلة جنب البالون وانفجرت فيه فاشتعل الغاز الذي في جوفه، وانتشر اللهب في البالون وأخذ يهبط ببطء وناره تضيء الفضاء، ولما مس الأرض انفجرت قنابله كلها فهرع الناس إليه ووجدوا بين حطامه ثلاثين جثة عارية، ومما يجدر ذكره أن البالون كان طائرا يكافح الريح على ارتفاع ستة آلاف قدم، وقد أطفأ أنواره لكيلا يدع مدافع الفرنسويين تصوب نحوه، ولكن هؤلاء صوبوا الأشعة الكهربائية القوية نحو الفضاء، فلم تلبث أن اهتدت إليه فتمكن المدفعجي «بنايته» من تسديد رمايته وإحكام إطلاقها فجاءت ضربة قاضية على البالون والذين فيه. •••
قال روتر في 13 يناير سنة 1915 حدث في معارك القوقاس أمر من الأمور المضحكة في هذه الحرب؛ فقد أسر القوزاق الروسي نوري بك رئيس أركان حرب الفيلق العثماني الثالث، وكان السلطان قد أرسله ليحقق أسباب انكسار العثمانيين في ساريكميش. •••
يروى عن الإمبراطور غليوم أنه يكره اللون الأحمر كرها شديدا، فلما عزم على زيارة مدينة كوبور أرغم البوليس صاحبة حانوت على رفع لوح عن باب حانوتها عليه اسم المحل ولكنه مدهون باللون الأحمر، ثم جاء الإمبراطور فزار المدينة، ولما عاد إلى برلين أذن البوليس لصاحبة الحانوت بإعادة اللوح إلى مكانه فتأمل. •••
فر جنديان فرنسويان كانا مأسورين في ألمانيا فعادا إلى بلادهما وقصا حكاية هربهما؛ فرويا أنهما بعد أن هربا من معتقلهما في أول الليل شمرا عن ساقيهما وجعلا يطويان الأرض عدوا قاصدين الحدود الفاصلة بين ألمانيا وهولندا، فلما بلغاها وكان ذلك قبل أن يبزغ نور الصباح أبصرا عن بعد شبح جندي ألماني رافعا بندقيته فظناه ديدبانا وانتظرا إلى أن يذهب من مكانه ، ولبثا منتظرين برهة طويلة فما تحرك الديدبان ولا تزحزح من مكانه، قالا ولم نر مناصا من الانقضاض عليه بغتة قبل أن يعلم بأمرنا فدنونا منه وهممنا بالإيقاع به ولكن ما أشد دهشتنا وحيرتنا لما رأينا أن الجندي إنما هو جذع شجرة هذبت على شكل تمثال جندي ونصبت تضليلا وإيهاما للفارين، وقد أيقنا أن الألمان عمدوا إلى هذه الحيلة لأننا أبصرنا تماثيل كثيرة على هذا الشكل نصبت على أبعاد متساوية خدعة للفارين مثلنا. •••
روى جريح إنكليزي من العائدين من الميدان الغربي الحادثة الآتية، قال: كنا صباح يوم في خندقنا وقنابل الأعداء تنهمر على بعد منا فإذا بمركبة نقل للصليب الأحمر مقبلة نحونا مسرعة تتهادى ذات اليمين وذات اليسار، فاستغربنا سيرها المتعرج ولم نكد نحدق فيها حتى أدركنا أن سائقها مقتول وملقى على كرسيه، فعلمنا أن قنبلة انفجرت في أثناء رجوعه فأصابته شظية من شظاياها قتلته، وأفلتت الخيل من يده وجمحت مذعورة لا تلوي على شيء وكانت تنهب الأرض مسرعة إلى جهتنا، ولا يستطيع الجرحى الذين في داخل المركبة تحويل مجراها عنا أو توقيفها؛ فأسرع أحد رجالنا البواسل ووثب فوق الخندق، وانبرى للخيل الجامحة قبل أن تدرك حافة الخندق ببضعة أمتار ولطمها لطمة قوية جعلتها تخفف سيرها، ثم وقفت قبل أن تبلغ حافة الخندق، فكان عمله هذا الذي خاطر فيه بحياته سببا في نجاة عدد من الجرحى الذين كانوا في المركبة من الموت وفي إنقاذ من كان في الخندق من الجنود. •••
سرعة الخاطر: حكى الأميرال بيتي الإنكليزي حكاية بحار من رجال الأسطول حضر ليقدم امتحانا أمام أميرال من أنصار العهد القديم، فأراد أن يمتحن الشاب المرشح لوظيفة ضابط وأن يعرف مقدار حضور ذهنه وقوة ذاكرته؛ ففاجأه بالسؤال الآتي: كيف جئت إلى هنا؟ قال: في أوتومبيل، قال الأميرال: وكم كانت قوتها؟ قال الشاب: 3548، قال الأميرال: موافق ومقبول. وسمع أحد أصدقاء الأميرال بيتي هذه الحكاية، فقال: إنه لشاب عجيب في ذكائه ولكن من يعلم إذا كان صادقا في الجواب.
فقال الأميرال بيتي: كفى دليلا على نبوغه أنه أعطاني النمرة التي خطرت بباله بدون تردد.
مثل أحد المستأجرين أمام محكمة وهو محتدم غيظا مما وجب عليه من الدفع للمؤجر وليس في وسعه أن يدفع، فقال له القاضي: إن المحكمة تؤجلك إلى ثلاثة أشهر.
فقال الرجل متشائما: ثلاثة أشهر؟ إنها والحق يقال لأجل قريب، وقد أمهلوا ألمانيا اثنتين وأربعين سنة.
ومعروف أن الحلفاء في مؤتمر باريس الذي التأم في أواخر شهر يناير سنة 1921 قرروا أن تدفع ألمانيا الغرامة الحربية أقساطا لمدة اثنتين وأربعين سنة. •••
تأثير الشدائد على الأخلاق: من المتعارف بين أمم الأرض طرا أن الشدائد والضيقات تصيب من أخلاق الناس وتنال منها ما يقضي في أغلب الأحيان بتطورات جديدة في البيئات والعادات ولا أدل على هذا الأمر من هذه الحرب التي قلبت وجه الأرض بطنا لظهر بحيث أصبح العفيف فاسقا والسكير الفاسق عفيفا والقاسي القلب حنونا والبر الشفوق فظا قاسيا ... إلخ على أن هذه الشدائد مع ما أحدثت من ضروب الخراب والدمار ومع ما دفعت الكثيرين إلى ارتكاب ما لم يكونوا ليقدموا عليه من المنكرات تملصا من مخالب الجوع القتال لم تنل من بعض الشعب اللبناني منالها فيما يلابس الأنفة والإباء؛ فقد روى لنا بعض من شهود العيان الثقات أن القوم مع كل ما نابهم من نوائب الجوع ونالهم من عضات أنيابه القاسية لم يقدموا بتة على ما لا يحجم عنه سواهم في غير بلاد بحيث كانت خدم الأغنياء تمر في الشوارع وعلى رءوسها أطباق العيش عائدة من الأفران، وليس من يتعرض لها في السبيل كأن أولئك المتضورين جوعا لم يباتوا على الطوى أنفة وإباء، ولكنهم لا يلبثون أن تطويهم الأرض مؤثرين الترفع على اقتراف ما يخال لهم أنه مخل بذلك الخلق الكريم إنما المرء على ما شب يشيب وإن ساورته المحن والكروب. •••
لجلالة ملك الإنكليز ميل فطري إلى جمع طوابع البوستة حتى لقد اشتهر ذلك عنه اشتهار الغواة بجمعها فعنده مجموعة منها نفيسة جدا لا تقوم بثمن، وقد رأى جلالته أن يهدي إلى صندوق الإعانة الوطني البريطاني طابع بوستة إنكليزي ثمين منها فقدمه إليها وعرضت هي الطابع في المزاد فبيع بخمسين جنيها.
وكتب بخط يده: إن هذا الطابع بتسعة بنسات رقم 5 لبريطانيا العظمى أخذ من مجموعتي وأعطي ليباع في مزاد الإعانة الوطنية لغواة جمع طوابع البوستة في سبتمبر سنة 1915 «جورج». •••
حكى السر ريدر الكاتب والسياسي الشهير والخبير جدا بمعرفة المواشي قال: كنت يوما أنتقي مواشي لتنحر للجنود فقلت، وقد وضعت يدي على ماشية أنا أحزر كم أقة تزن وكان هناك ولد صغير، فقال لي أتعطيني جنيها إذا حزرت أنا أيضا حزرك أو ما يقرب منه؟ قال السر: نعم، وأنا أقول أنها تزن (كذا)، فقال الولد فورا: أنا أقول كذلك، ومد يده إلى السر ريدر ليأخذ الشرط، فقال السر: وماذا تعني؟ قال الولد: ألم أشترط عليك أنني إذا حزرت حزرك أو ما يقرب منه تنقدني جنيها، فضحك السر من ذكائه على صغر سنه ونفحه بجنيه. •••
احتاط الإيطاليون لمسألة البرد القارس والزمهرير والعواصف التي تعترض لجنودهم في أيام الشتاء في جبال الألب الشاهقة، ورأوا أن يجعلوا ملابس جنودهم كثيفة لا يخترقها البرد فصنعوا لهم بذلات بيضاء مبطنة بالصوف واللباد واختاروا اللون الأبيض خصيصا لمنع الأعداء من تمييز الجنود الذين يلبسون هذه البذلات لضياع اللون الأبيض مع لون الثلج فهذا الزي الغريب يذكرنا بملابس مكتشفي القطب الشمالي. •••
سر نصرة المارن الشهيرة: إن الكولونل فاجالد الفرنسوي الملحق العسكري في سفارة فرنسا في لندن روى في سياق خطبة ألقاها في لندن موضوعها «من شارلروي إلى المارن» الحادثة الغريبة الآتية التي حولت الحرب إلى مجراها: قال: في شهر سبتمبر سنة 1914 لما زحف الألمان على باريس بعزم أكيد، وصاروا على أبوابها وقع أوتومبيل أركان حرب الجيش الألماني السادس بيد الجنود الفرنسويين وعثروا في الأوتومبيل على شنطة كبيرة حوت طعاما وملابس لضابط ألماني كبير كان عائدا على ما يظهر بتعليمات حربية من الجنرال فون كلوك الألماني، وعثروا في أسفل الشنطة على خارطة مخباءة فيها تفصيل الهجوم الألماني الذي يراد القيام به غداة ذلك اليوم، والخريطة دقيقة بجزئياتها وتفاصيلها فقد ذكرت فيها وحدات الجيوش الألمانية ومقاديرها والأوقات التي تبلغ فيها نقطا معينة، وعرف منها الفرنسويون ما كانوا يجهلونه من أن الهجوم على وادي الواز الذي كانوا يتوقعونه أبدل سرا وخفية بزحف سريع على باريس، فما كان من الكبتن فاجالد إلا أن أرسل إشارة تلفونية لما وقعت الخارطة بيده إلى مركز رئاسة الجيش بما حوته من الأخبار السرية الهامة فوجه في الحال الجنرال جالياني الفرنسوي جيشا على جناح فون كلوك حيث كان الطريق مفتوحا أمامه إلى باريس، وهكذا رجحت كفة الفرنسويين على جيش فون كلوك في معركة المارن الفاصلة التاريخية. •••
من فرنسا إلى روسيا: مرشال الطيار الفرنسوي الذي اشتهر بطيرانه الأخير من فرنسا إلى بولونيا في روسيا في شهر يونيو 1916 مارا فوق مدن ألمانيا وعواصمها ملقيا فوقها منشورات إلى سكانه - وعمر الطيار مرشال دون الرابعة والثلاثين وهو إلزاسي الموطن يجيد اللغة الألمانية كأحد أبنائها، ويعد في طليعة الطيارين الفرنسويين حذقا ومهارة، وكان قد استعد لرحلته الهوائية قبل أن يقوم بها ببضعة شهور فتمرن على قطع المسافات الشاسعة من غير أن ينزل إلى الأرض، ولكن الأقدار لم تساعده على بلوغ إربه في رحلته هذه والوصول إلى حلفائه الروس، فتعطل محرك الطيارة وهو على بعد مائة كيلومتر من مواقعهم، واضطر أن ينزل بطيارته إلى الأرض فوقع غنيمة باردة في أيدي النمسويين، وكان مرشال حاملا كتابا من الجنرال دي كستلنو يأمره فيه بإنشاء خط اتصال هوائي مع الحلفاء الروس من فوق بلاد الأعداء، وقام بمهمة ذات شأن كما تقدم القول؛ فإنه طار فوق مدن فرنكفورت وبرلين وبوزن وألقى عليها منشورات موضوعة في «ظروف»، وقد طبعت باللغة الألمانية وبسطت فيها أسباب الحرب وحالة الحرب كما كانت وقتئذ، وألقيت فيها المسئولية على عاتق الطبقة الحربية الألمانية التي جازفت بأرواح سكان ألمانيا وقامرت بهم. وكان مرشال يقذف هذه المنشورات وهو على ارتفاع 150 متر ولما هبط بطيارته كان قد اجتاز مسافة 1410 كيلومترات ولحسن الحظ أن النمسويين أكرموا معاملته ولم يعاملوه معاملة غيرهم. •••
عاد جندي شهد مواقع فردون، وأتيح له أن يزور باريس بإجازة قصيرة وفي أثناء إقامته بها زار منتدى فما وجد فيه إلا الأعضاء الشيوخ الطاعنين في السن أما الأعضاء الشبان فكانوا في ساحة القتال، فاحتاط الشيوخ بالزائر من كل جانب وكانوا من الذين شهدوا الحرب السبعينية وجعلوا يصغون إلى حديثه أتم إصغاء، ويبدون أعظم اهتمام، وكان هو يشرح لهم ما شهده من الأهوال وما أبداه الجنود الفرنسويون من الحمية والاستبسال. •••
الكنوز في قعر البحر: لم تنشب الحرب العظمى وتبدأ غواصات الألمان تغرق السفن والبواخر التجارية فتذهب بما فيها من تحف وطرف وأصفر رنان إلى قعر البحر، حتى تألفت شركات أمريكية كبيرة للسعي في التقاط ما يعثر عليه في قعر البحر من الأشياء الثمينة كالذهب والفضة والمعادن على اختلافها سواء كانت نقودا أو بضائع تجارية أو معدات حربية، وقد اغتر الأمريكيون بما رأوه من كثرة ما غرق من البواخر التي كانت آتية إلى أمريكا وهم يعلمون أن منها ما كان يحمل مقادير وافرة من النقود ولا غرو فقد روت إحدى الصحف الفرنسوية عن مصدر يوثق به أن باخرة واحدة نقلت في دفعة واحدة مائتين وثلاثين مليونا من الفرنكات أي نحو 9200000 جنيه، واقتضى لنقلها عند وصولها إلى نيويورك 65 أوتومبيلا كبيرا، ويؤكد أصحاب هذه الشركات الجديدة أن قيمة ما ابتلعه البحر من الأموال الذهب العين من أول نشوب الحرب حتى عقد عقد الصلح بخمسمائة مليون جنيه، والله أعلم. •••
كان الجيش الفرنسوي يستخدم أجراس الكنائس التي تهدمت أبراجها وسقطت للانتفاع بها في ساحات القتال؛ ذلك أنهم ينصبونها في النقط الأمامية من خطوطهم ويقوم جنود بحراستها فإذا أطلق الأعداء غازاتهم الخانقة أو ظهر أنهم ينوون أن يهجموا على مواقع الفرنسويين أسرع الجنود القائمون بحراسة الأجراس إلى قرعها لتنبيه الجيش فيستعد لملاقاته. •••
بينما كان ضابط فرنسوي يستطلع من بالون مقيد مواقع الأعداء هبت عاصفة شديدة اقتلعت البالون من مرساه وجعلت الريح تقذف بالبالون إلى مواقع الأعداء؛ فبادر الضابط الفرنسوي إلى مظلة البراشوت، وأمسك بها ووثب من البالون مخاطرا بحياته لكيلا يقع في أسر أعدائه، ولحسن حظه نزل به البراشوت في الحدود الفرنسوية سليما من كل أذى. •••
قال بوليس لعربجي سق يا أوسطى وإلا أخذت نمرتك، قال له العربجي: وأنا أيضا آخذ نمرتك، قال له: لا تعرف تقرأ النمر ولا أخبار الحرب، فقال العربجي: إن نمرتك حلقتين ورجل غراب، فضحك الحاضرون وكانت نمرة البوليس 355، فقال البوليس: ونمرتك نبوت وحلقتين وكانت 155. •••
جرت حادثة مع طيار فرنسوي نال من أجلها وسام البسالة ونوه باسمه في البلاغات الرسمية، وتحرير الخبر أنه بينما كان طائرا للاستطلاع توغل في بحر من الضباب ولم يعد يعلم وجهة سيره فاضطر إلى النزول في منطقة الأعداء خطأ؛ فأسرع إليه ضابط ألماني وأمره بالبقاء في طيارته بدلا من أن يعتقله، ثم صعد (أي الضابط) إلى الطيارة وصوب غدارته إلى ظهر الطيار الفرنسوي وأمره بالطيران فوق خط الجيش الفرنسوي قاصدا بذلك الاستطلاع؛ فأطاع الطيار صاغرا، وحول وجهة طيارته فوق منطقة الجيش الفرنسوي وخطرت له حينئذ حيلة شيطانية يتخلص بها من ضيفه الألماني الثقيل الذي كان جالسا وراءه يراقب مواقع الفرنسويين، أما الذي خطر على بال الطيار فهو جعل الطيارة تقلب رأسا على عقب في الهواء وكان الطيار رابطا حوله أربطة تمنعه عن السقوط فلما قلب الطيارة فجأة سقط الضابط الألماني من موضعه في الطيارة وكان سقوطه عظيما وسببا في دهشة الفرنسويين الذين وجدوه هابطا عليهم من الفضاء. •••
كانت إحدى فرق الجيش الفرنسوي تتمرن على القتال في بعض القرى البعيدة عن المدينة فطلب القائد أن يشتري بيضا لفطور الجنود فساوم إحدى القرويات لمشترى 1500 بيضة فداخلها الطمع وطلبت ثمن البيضة نصف فرنك؛ فحنق القائد من طمعها وأراد أن ينتقم منها، فقال: «لها حسنا اسلقيها وسأعود آخذها.» فسلقتها ولكن عبثا انتظرت. •••
المراقبة (أو قلم المراقبة): من مبتكرات هذه الحرب الحديثة مصلحة من مصالح الحكومة تنشئها لملاحظة المخطوطات والمطبوعات الصادرة والواردة، ولمنع ما يرد فيها من الأقوال التي لا تلائم أحوال البلاد السياسية والحربية والمراقبة المصرية تراقب الصحف الواردة من الخارج؛ فتنزع منها الأجزاء الممنوعة أو تمنع تك الصحف بتاتا من دخول القطر المصري وتراقب أيضا المكاتب والرسائل الصادرة والواردة؛ فيفضها موظفو قلم «الرقيب» وتختم ثانية بختمه، ويطلع الرقيب على كل كلمة في كل سطر من سطور المجلات والصحف العربية والإفرنجية التي تصدر في القطر المصري وذلك قبل طبعها وإطلاع الجمهور عليها. •••
في 4 مارس 1916 أبصر طراد بريطاني غواصة ألمانية «رقم 8» بالقرب من دوفر فأطلق عليها قنابل مدافعه فأغرقها، ولكنه أنزل زوارقه إلى الماء وبادر إلى إنقاذ جميع بحارة الغواصة، وهذه شهامة حربية تذكر للإنكليز بالشكر والثناء. •••
حدثت في القاهرة حادثة مؤثرة تدل على ما تحلى به الإنكليز من مكارم الأخلاق؛ ذلك أن الناس رأوا ضابطا إنكليزيا ومعه رجل شرقي لطيف المنظر يلبس طربوشا، وقد وقف الاثنان في دكان أحد تجار الجراموفون، وهما يسألان عن أسطوانات تركية، ولما لم يجدا ضالتهما بدت عليهما علامة الكآبة والكدر، وبعد البحث علم أن الرجل الشرقي إنما هو ضابط تركي من أسرى المعادي بضواحي مصر قد جاء الضابط الإنكليزي به إلى تلك الدكان ليشتري له وللأسرى أسطوانات تركية يسرون بها عن أنفسهم من مرارة الأسر ويأنسون بسماع أنغامها الشجية. •••
بنات السرب: تطوعت فتاة سربية للحرب مع الحلفاء فضموها إلى فرقة «كوميتاجي» في سلانيك، وجعلوها ديدبانا تحرس خيام المعسكر، وفرقة الكوميتاجي فرقة غير نظامية مؤلفة من بنات ونساء وصبيان يتطوعون للقيام بالأعمال العسكرية البسيطة السهلة ولكنهم يتعرضون للخطر في مواقف كثيرة ويتحملون المشاق والمصاعب التي يصادفونها بجأش رابط وثبات عجيب، وقد ساعدت فرقة الكوميتاجي هذه الجيش السربي في أثناء تقهقره من سربيا مساعدة عظيمة القيمة جزيلة النفع. •••
من أقدم الخرافات المألوفة في البحرية البريطانية التشاؤم بتغيير أسماء السفن فهم يعتقدون أن السفينة التي يغير اسمها تغرق أو تصاب بكارثة، ومن غريب الاتفاق أن الحرب الحالية زادت ذلك الاعتقاد رسوخا في الأذهان. •••
محطة النصر: صور أحدهم صورة رمزية سياسية تمثل العم جون بول (وهو رمز الأمة الإنكليزية) راكبا أوتومبيلا ب «الأجرة» ومريدا الوصول إلى محطة «النصر» وسائق الأوتومبيل هو المستر ماكنا وزير المالية الإنكليزية، وقد طلب ماكنا أجرة قطع المسافة بالعم جون بول 502 مليون من الجنيهات قبل أن يبلغ النصر، فأجابه جون بول من داخل الأوتومبيل: «لك ما تريد من المال بشرط أن توصلني إلى المكان الذي أقصده حالا.» (فكان الذي أراد). •••
في الأمثال السائرة «اللي تعرف ديته اقتله.» وقد طبق رجل إنكليزي هذا المثل في مسألة لا أعرف ماذا يقول فيها القراء عامة وموظفو سكة الحديد عندنا خاصة، ركب هذا الإنكليزي مع رجل ألماني في قطار من قطارات سكك الحديد في أحد البلاد المحايدة واستأذن الإنكليزي الألماني في أن يفتح نافذة الغرفة لتجديد الهواء فأبى الألماني إجابته إلى ما طلب، فسأل الإنكليزي الكمساري عن رأيه في الموضوع، فقال إن قانون المصلحة يقضي ببقاء النافذة مقفلة إذا طلب أحد المسافرين ذلك، قال الإنكليزي: وما ثمن لوح الزجاج؟ أجاب الكمساري: عشرون شلنا، فأخرج الإنكليزي المبلغ من جيبه بكل اطمئنان وأعطاه للكمساري، ثم قبض على عصاه وكسر اللوح وهو جالس في مكانه كأنه لم يحدث شيء ما! •••
جلبرت الطيار الفرنسوي الذي هرب من أسر الألمان، ومما يذكر عن جلبرت هذا أنه فر قبلا من أسر الألمان وكان معتقلا في سويسرا فأمرته الحكومة الفرنسوية أن يعود إلى معتقله؛ لأن القوانين الدولية لا تجيز له الهرب من سويسرا فعاد إليها، ولكنه تمكن من الهرب ثانية من مكان في غير سويسرا، وقد احتفل به الباريسيون وحلف جلبرت أن يعود إلى الطيران وينتقم لنفسه من أعدائه وهو حائز لوسام الصليب الحربي. •••
أنباشي سوري: نشرت جريدة الرفورم الكتاب التالي:
وصلت إلى القنصلية امرأة تدل ملابسها على الفقر ولا تحسن اللغة الفرنسوية ولكنها استصحبت معها ولدا صغيرا هو تلميذ في مدرسة الفرير وكان غرضها استلام المعاش الشهري اليسير الذي عيناه لها، وقد ناولتني بكل بساطة نتفا من تقارير مطولة عن سلوك نجلها الأونباشي جورج دحدوح الذي تطوع في الجيش الفرنسوي في 24 أغسطس سنة 1914؛ لتبرهن لنا أن نجلها يخدم حقيقة فرنسا، وأنها تستحق المعاش الزهيد الذي ندفعه لها.
أتعلم ماذا وجدنا في تلك الأوراق التي لم نعبأ بها في بدء الأمر لا نحن ولا الوالدة نفسها؟ وجدنا المعلومات الرسمية الواصلة إليك، فماذا تقول فيها؟
الإمضاء
قالت جريدة «الرفورم» وإنا نستميح صاحب الكتاب عذرا في نشر كتابه لأنه ضروري لإيضاح التقارير الرسمية التي وردت فيه، وهذه خلاصة تلك التقارير عن الأونباشي جورج دحدوح:
خدم متواصلة: دخل في الآلاي الأول من فرقة الأجانب منذ 25 أغسطس سنة 1914 ووصل إلى الفيلق في اليوم عينه، ورقي إلى رتبة أونباشي في أول يونيو سنة 1915.
الجروح والأوامر العسكرية: جرح في ذراعه اليمين وبطنه في 26 سبتمبر سنة 1915 في ميدان سواسون وذكر في الأوامر العسكرية للجيش في 12 يونيو سنة 1915 (نشرت هذه الأوامر في الجريدة الرسمية في 2 أغسطس سنة 1915) بالعبارة التالية: «جندي مستوفي الشروط تطوع لكل مدة الحرب وأظهر بسالة ورباطة جأش في 9 مايو في أثناء الهجوم على استحكامات العدو فقتل ثلاثة جنود ألمانيين وأسر تسعة.» وورد ذكره أيضا في الأوامر العسكرية للفرقة في 25 أكتوبر سنة 1915 كما يلي:
كان أحسن مثال لجنوده بالبسالة ورباطة الجأش تحت نار المدافع الحامية، وقد جرح جرحا خطرا.
الأوسمة: وأنعم عليه بوسام الصليب الحربي مع هذه العبارة: «بالم ونجمة فضية».
الإمضاء
القائمقام قائد المركز
قالت جريدة الرفورم: «إن ما تقوله في هذا العمل يا حضرة المسيو بورجوي أنه عمل عظيم يستحق كل فخر وإعجاب وأن البلاد التي ترى في قلوب أبنائها مثل هذه البسالة والإخلاص لجديرة بأن تفاخر بمدنيتها أمام العالم كله، ومما يزيد هذا العمل وقعا في أنفسنا أنه صدر من أحد أبناء سورية حيث تخفق قلوب شريفة على ذكر فرنسا.» •••
قوة التلغراف اللاسلكي: تمكن عامل من عمال إحدى شركات التلغراف اللاسلكي في جزيرة هونولولو من سرقة تلغرافات عسكرية لاسلكية صادرة من محطة قوبة قرب برلين، والمسافة بين المكانين تسعة آلاف ميل وهي أطول مسافة للتلغراف اللاسلكي على ما عرف حتى الآن. •••
الطيارات المفقودة في غضون سنة واحدة : دمر البريطانيون في غضون سنة 1917 التي آخرها 30 يونيو حسابا حوليا 2150 طيارة للعدو ، وأكرهوا 1083 طيارة أخرى على النزول على الأرض في الميدان الغربي وحده، وقنص سلاح الطيران بمؤازرة الأسطول 623 طيارة أخرى للعدو، وفقدت في المدن عينها 1094 طيارة بريطانية و92 طيارة أخرى كانت مع الأسطول، ودمر البريطانيون في الميدان الإيطالي من شهر أبريل إلى شهر يونيو 165 طيارة للعدو، وأكرهوا 60 طيارة أخرى على النزول على الأرض، ولم يفقد سوى 13 طيارة بريطانية، ودمروا في ميدان مكدونية من شهر يناير إلى شهر يونيو 21 طيارة للعدو، وأكرهوا 13 طيارة أخرى على النزول على الأرض، ولم يفقد سوى أربع طيارات بريطانية ودمر البريطانيون في سائر الميادين من شهر مارس إلى شهر يونيو 21 طيارة للعدو، وأكرهوا 15 طيارة أخرى على النزول على الأرض مقابل عشر طيارات بريطانية فقدت، فيرى من ذلك أن البريطانيين قنصوا في السنة الواحدة أكثر من أربعة آلاف طيارة للعدو مقابل نحو ألف طيارة فقدوها هم. •••
ربما كان شر المهن في هذه الحرب مهنة الوقاد الذي يقف طول يومه أو ليله أمام نار الآلات البخارية يقدم لها وقودها وهي تلدعه بحمارتها والعرق يتصبب من جسمه كماء من أفواه القرب، وتسمع الواحد منا إذا جاوزت الحرارة درجة معلومة يئن أنين العليل يتمنى في صيفه الشتاء وفي شتائه الصيف كما قال الحريري، فكيف إذا عهد إليه في عمل قد لا يقوم زبانية الجحيم عليه؟ وخطب أحد الوزراء الإنكليز في مجلس النواب خطبة ذكر فيها ما على البلاد من الدين العظيم للرجال البواسل الذين يمدونها بالزاد والمئونة عبر البحار وسط أخطار لا توصف، قال: «وفي مقدمة أولئك الرجال الوقادون.»
وأراد جلالة ملك الإنكليز أن يظهر أيضا عطفه عليهم وأنه لا ينسى تعبهم وخدمتهم لبلادهم، فلما استعرض الأسطول في أواخر يوليو من سنة 1918 ختم الاستعراض بزيارة غرفة العدد، ثم تناول رفثا وملأه فحما ووضعه في الموقد. •••
وإليك ما وقع لدورية بريطانية خرجت من مكانها تحت جنح الظلام في ليلة اشتد حلكها في الميدان الغربي، قال ضابط الدورية يصف ما وقع له : «وكانت الدورية مؤلفة مني ومن جندي وبينما نحن نتقدم صوب الأعداء فوق شقة الحرام إذا أربعة من الألمان قد وثبوا من تحت الأرض كأنهم مردة الجان؛ فخشينا إذا نحن أطلقنا النار عليهم نبهنا الأعداء إلى وجودنا فما كان منا إلا أن عمدنا إلى البوكس، ولقد تمكنت مع رفيقي من أسر اثنين من الأربعة بلكمات قوية أما رفيقاهما فإنهما أركنا إلى الفرار بعدما شاهدا ما حل بهما - قال الضابط: ولم تستغرق هذه المعركة أكثر من دقيقتين فهي أقصر المعارك التي عرفتها.» •••
ما أطول اسمه: سأل الجاويش الإسكتلندي البريطاني ضابطا ألمانيا عن اسمه بعدما استؤسر ليكتب اسمه في قائمة الأسرى: ما هو اسمك يا هذا؟ الأسير الضابط: اسمي الهراوبر ليوتنان كونت هنريج جوهان أرنست فردريك فون ديتو ألرايند سيجمار نغن، شوارتزلد الجاويش: سيكون اسمك من الآن فصاعدا فون فرتز فيجب ألا تنسى ذلك. •••
كان شاويش يدرب جنودا في ساحة التمرين فأمرهم أن يرفع كل منهم رجله اليمنى؛ فأطاعوا إلا واحدا رفع رجله اليسرى، ولما نظر الشاويش إلى أرجلهم جميعا وجد رجلين بجانب بعضهما مرفوعتين؛ فصاح غاضبا: من هذا الملعون الذي لم يطعني ورفع رجليه الاثنين؟ •••
لما زار الإمبراطور غليوم القدس زيارته المشهورة وألقى خطبه الرنانة التي ادعى فيها أنه حامي حمى الإسلام لجأ المسلمون إلى نبوءة قديمة عندهم وهي أن الرجل الذي يحرر أورشليم يدخل إليها ماشيا ويكون اسمه مشتملا على اسم الله والنبي، وهم يعتقدون اليوم أن هذه النبوءة تمت، وأن القائد اللنبي هو الرجل المقصود بالنبوءة فقد حرر أورشليم ودخلها على قدميه، واسمه جامع اسم الله واسم النبي إذا رد إلى اللغة العربية وقسم إلى شطرين. •••
في جوف الأرض: كتب المكاتب الإنكليزي الحربي المستر فيليب جبس يقول: لقد أخذت الحرب في الميدان الغربي شكلا غريبا فقد دخل جانب كبير منه في أنفاق تحت طبقات التراب والصخور، فنقرت الجنود سراديب طويلة على عمق 60 قدما يسير فيها الإنسان ساعات كثيرة، أخذني أحد الضباط الأستراليين لأتفرج عليها، وعلمت منه أن القتال الذي كان الجنود يشتبكون فيه على سطح الأرض اشتبكوا فيه أيضا في هذه السراديب فكان جنودنا يدفعون جنود الأعداء أمامهم؛ فيفرون فرار الأرانب من وكر إلى وكر في الغرف المنقورة في السراديب في صخور طباشيرية، وكثيرا ما كانوا ينسفون السراديب فيموت فيها خلق كثير، وبينما أنا أنتقل معه في هذه السراديب شعرت بحرارة ساخنة وشممت رائحة طبخ؛ فاستفهمت عن ذلك فعلمت من رفيقي أننا مجاورون لمطبخ يهيئ الطعام للجنود المقيمين في السراديب، وقد شاهدت غرفا للمنامة وغرفا للبس وغرفا للاستحمام وهي كلها متقنة الصنع نظيفة مرتبة. •••
هذه طريقة من الطرق التي قضت على حرب الغواصات الألمانية وجعلتها أقل عزما وجرأة يوما فيوما على إغراق السفن التجارية وبواخر الركاب وأقل نفعا في مهمتها والتمادي في القرصنة، وتحرير الخبر أن غواصة بريطانية اهتدت إلى مكان اختبأت فيه غواصة عدائية تحت سطح البحر ففاجأتها بطوربيد، ثم غطست تحت الماء وانتظرت برهة وصعدت إلى سطح الماء لترى نتيجة عملها فإذا الزيت عائما على الماء وبحاران ألمانيان يعومان ويجاهدان، فاقتربت الغواصة منهما ونشلتهما من الماء وهما لا يصدقان بالنجاة وقصا على ربان الغواصة البريطانية ما جرى لغواصتهما، فقالا إن الطوربيد أصابها عند أسفل برجها فقلبها رأسا على عقب وهبطت إلى قعر البحر في الحال وكان من جراء عظم الانفجار أن قوة البارود دفعتهما من فوهة البرج فكان ذلك سببا في نجاتهما. •••
جريح في القماط: نشرت الصحف صورة طفل صغير عمره يومان فقط أصيب في جنبه الأيمن بشظايا قنبلة ألمانية في إحدى الإغارات الجوية على دنكرك، وكان ذلك المسكين لا يزال في القماط في حضن والدته الحزينة في بيت الأمومة الذي استبسل الطيارون الألمان بقذف القنابل عليه على أفظع أسلوب. •••
الأمير مكس بوربون بارم وأخوه الأمير ألكس كلاهما متطوعان في الجيش البلجيكي؛ الأول برتبة كبتن، والثاني برتبة ملازم، وقد صورتهما الصحف، على أن ذلك لم يكن سببا في إدراج صورتهما؛ فإن كثيرين من الأشراف والأمراء متطوعون في جيوش دولهم فالأمر ليس بغريب ولا هو بجديد، ولكن السبب الموجب لنشر الصور هو كون هذين الأميرين المتطوعين في الجيش البلجيكي هما شقيقا إمبراطور النمسا. •••
أمانة الحيوان لبني آدم: إنه في اثناء هجوم الإنكليز الأخير في ميدان الأيبر عثر ضابط من ضباط فرقة المدافع الرشاشة في الخط الأمامي الزاحف على حصان واقف لا يبدي حراكا وإلى جانبه جثة ضابط هو صاحب الحصان فأرسل الخبر إلى ضابط الطبجية الذي نقل الخبر إلى مصور صوره، قال ضابط الطبجية: وقد أسرعت إلى المكان المعين فوجدت الحصان واقفا يأبى مفارقة سيده الذي صرع وسقط عن ظهره فما أعظم أمانة الحيوان لبني آدم. •••
القرد والراية: كان ضابط من ضباط المشاة في الجيش الإيطالي قد أتى بقرد صغير معه من أفريقيا ينتمي إلى طائفة من القرود مشهورة بأنها سريعة الإدراك سريعة الفهم تدجن وتألف، وعلم الضابط قرده أن يلعب ألعابا وبرع القرد فيها، فلما نشبت الحرب تطوع الضابط في فرقته واصطحب قرده إلى المعسكر فأحبه الضباط جميعا فكان أليفهم وموضع سلوتهم ولهوهم، واتفق أن مقام الضابط صار في خندق بنجد الكرسو فأقام القرد معه في خندقه وتدرب على حمل الرسائل من مكان إلى مكان وعلموه أيضا أن يمقت الراية النمسوية ذات الألوان الصفراء والسوداء التي كان الأعداء قد رفعوها فوق خنادقهم على بعد مائة يرد فوق خنادق الإيطاليين، وحاول الإيطاليون مرارا أن يرموا تلك الراية برصاص بنادق فخابوا وفشلوا وبقيت تلوح في الهواء صلفا وعجرفة فتزيدهم سخطا وعجرفة وخنقا، وكان القرد يراقب حركات الضباط الإيطاليين وسكناتهم؛ فأدرك ما يضمرونه لأعدائهم وفهم مرادهم من الراية فانسل ذات يوم من الخندق مارا فوق شقة الحياد التي لا يستطيع أحد الدنو منها، وما انفك يتلصص حتى بلغ خنادق الأعداء زاحفا تحت الأسلاك الشائكة، واقترب من مكان الراية النمسوية المنصوبة، فجذبها بيده وأطلق ساقيه للريح قافلا بغنيمة فائزا منصورا، وتنبه النمسويون لحيلة القرد ولكن بعدما سبق السيف العذل، ورأوه يعدو بالراية ناهبا الأرض نهبا فرموه بالرصاص ولكن على غير جدوى وصل القرد سليما والراية بين يديه ودفعها إلى سيده بين هتاف الجنود وإعجابهم ببسالته وحذقه وصدق إخلاصه. •••
يقال إن أفخر قطرات العالم بناء وأعظمها جمالا وإتقانا وإبداعا في الصنع القطار المفتخر الذي كان للقيصر نقولا السابق؛ فقد كان قصرا متحركا على عجلات وكان مؤلفا من إحدى عشرة مركبة من ذوات المماشي وفيها أجراس كهربائية، وكانت المركبة التي يركبها القيصر موضوعة في وسط المركبات زيادة في الاحتياط، وكانت داخل جدران المركبة التي تجلس الإمبراطورة فيها مكسوة بالحرير الأحمر الفاتح اللون أما مركبة النوم، فكانت مكسوة من الداخل بالساتين الأزرق الفاتح، وكل مركبة نوم كان لها حمام وغرفة للبس وكلها مجهزة بأجهزة التنبيه إلى الخطر، ومن القطارات الفاخرة أيضا قطار إمبراطور ألمانيا وهو مؤلف من ست مركبات تزن كل واحدة منها ستين طنا، فأربع مركبات منها مخصصة لركوب الإمبراطور والمركبتان الآخرتان للطبخ وتحضير الطعام أما المركبة الثانية لهذا القطار فمعدة للإمبراطور وتشتمل على صالون للجلوس، وغرفة للنوم وغرفة حمام وغرفة للبس وأماكن ينام فيها حرسه الخصوصي، أما الصالون الذي يجلس فيه فقد بطنت جدرانه بخشب شجر أرز قديمة من أشجار أرز لبنان كان قدمها السلطان عبد الحميد السابق هدية إلى ولهلم الإمبراطور، وعلى نوافذ هذا الصالون قضبان من الحديد، ويقف الحجاب وهم شاهرو السلاح على مدخل الصالون ليل نهار، وآخر مركبة في هذا القطار مخصصة لمهندس القطار الذي بيده أجهزة الفرملات والكباسات التي يستطيع بها توقيف سير القطار حالا عند صدور إشارة خطر. •••
بسالة سيدة فرنسوية: تعد السيد مدام ميتر زوجة النائب عن مقاطعة لوار الفرنسوية من نساء فرنسا الأبطال؛ إذ قامت في ميادين الحرب وتحت نيران الأعداء بأعمال مجيدة تشهد لها بالوطنية والغيرة والحنان؛ فقد خاطرت بحياتها لتخفيف آلام الجرحى والمصابين من الجنود، تطوعت هذه السيدة الباسلة ممرضة في فرقة الرماة الألبيين وأصيبت عدة مرات بجروح بعضها بالغا في أثناء قيامها بأعمالها؛ فكانت تسقط في مكان عملها، فيأتي رجال الصليب الأحمر لإسعافها ويضمدون جروحها ولكنها تعود إلى الخدمة قبلما تبرأ الجروح، ولقد حفظت الحكومة الفرنسوية جميلها وذكرت أفعالها الحميدة؛ فأنعمت عليها غير مرة بنشان الصليب الحربي، وقد كافأتها آخر مرة بنشان اللجيون دونور من الدرجة الرفيعة، فأنعم بها من ملاك رحمة وحنان جمعت الضدين: الشفقة والإقدام! ففي إسعاف الجرحى مملوءة عواطف رقيقة نبيلة وفي ساعة الشدة لا ترهب الموت الزؤام ولو تمثل لها. •••
أنفاق الألمان في جوف الأرض: لا مشاحة في أن الألمان وضعوا هندسة الأنفاق والسراديب التي حفروها في جوف الأرض مع ما رسموه ووضعوه من الخطط الدقيقة قبل نشوب الحرب، فالذي يقع على وصف الأنفاق الألمانية التي استولى الفرنسويون عليها في شهر سبتمبر سنة 1917 في مورتوم تأكد صحة ذلك؛ فقد احتاط الأعداء للجزئيات كلها وأعدوا معداتهم لإنشاء هذه الأنفاق التي لم تكن في الحقيقة إلا ثكنات طويلة منقورة في بطن الأرض، ولكنها منقورة على قواعد علمية تدل على عناية سابقة بوضع خطتها، وقد وجد الفرنسويون تلك الأنفاق وافية بالشروط التي تجعل السكنى فيها أمرا مرعيا؛ ففيها مواسير للهواء ومواسير يجري فيها الماء إليها ومواسير تنقل منها المواد البرازية، وفي أماكن معينة محطات للوابورات التي تدار بزيت البترول الوسخ فتولد كهربائية تنقل بالأسلاك إلى جميع تلك الأنفاق فتنار بالكهربائية كما أنهم يستخدمون الكهربائية لإدارة المحركات الكهربائية في الأنفاق الحارة.
وقد أخذ الفرنسويون آلة بخارية كانت هناك بعدما استولوا على ذلك النفق، ووجدوا الآلة في حالة تصلح للاستعمال فأداروها واستعملوها لإنارة الخنادق. •••
مرض أحد الجنود الألمان مرضا شديدا وكان مشهورا باقتراف الموبقات في بلاد البلجيك، ولما صار في حالة النزع طلب من رئيسة المستشفى أن تأتيه بصورتي الإمبراطور، وولي عهده وتضعهما على جانبيه فأجيب طلبه، ووضعت الصورتان كما طلب، ففتح المريض عينيه ورفع يديه إلى السماء وقال: الحمد لله، الآن أموت مرتاح الضمير بعد الجرائم العديدة التي ارتكبتها لأني أرى على جانبي صورتي شخصين أكثر إجراما مني. •••
يمر بقلم المراقبة في البوستة العمومية في لندن للمراسلات الصادرة والواردة رسائل يفتحها الرقيب فإذا وجد ما يشتبه في أمره حجزه وبحث فيه، وهم يعثرون في الطرود والملفات والرسائل على كثير من المواد الغذائية المهربة من سويسرا والبلدان المحايدة؛ فيمنعون وصولها لأنها مرسلة إلى الأعداء بطرق غير مسموحة وأغرب ما وجدوه يوما طردا معنونا باسم إمبراطور الألمان فلما فتحه الرقيب - وكان مرزوما رزما حسنا - عثر في داخله على أربع قطع من الخبز الجاف وقطعتين من العظام مربوطتين معا، ولقد صورهما مصور مع الورقة التي كان الطرد مروزما بها ونشرته الصحف وهي أضحوكة على الإمبراطور لم يقصد منها إلا إظهار مبلغ السخرية الذي يريد بعضهم أن يسخر به بمناسبة الحصر البحري ومنع المواد الغذائية من الوصول إلى ألمانيا. •••
لم يدع المتحاربون وسيلة إلا تذرعوا بها للفتك ببعضهم دفاعا أو هجوما بحرا أو برا حتى إنهم أشركوا معهم الجماد والحيوان وسخروا الهواء والماء والنار والأحجار والأشجار أيضا، ومن لطيف ما نشرته الصحف المصورة صورة جندي إيطالي في رأس شجرة باسقة قد ركز أمامه مدفعا رشاشا من طرز مكسيم بحيث يرى الأعداء ولا يرونه، وهو يطلق المدفع من خلال الأغصان وحياله عند أسفل الشجرة جندي آخر يحشو منطقة الخراطيش على التوالي، وآخر يرقب تأثير فعل الرصاص بالأعداء، وثم كان رجال الفرقة ينسلون إلى الأمام حاملين أكياس الرمال ليقيموا منها متاريس مؤقتة تقي رجال تلك الحملة الصغيرة من رصاصات الأعداء، رباه أما من وسيلة تقضي بإغماد السيوف والحراب فتكفي البشر شر الحروب وما يليها من الخراب؟ •••
راية تاريخية: إنه لما هاجم الإيطاليون جبل سانتو في ميدان الأسونزو اقتحموا ذلك الجبل المنيع من ثلاثة أماكن مختلفة، وكان كل فريق من الهاجمين يحمل شقة من الشقق الثلاث التي تتألف منها الراية الإيطالية، فلما وصلت الكتائب الثلاث إلى قمة الجبل خيطت الشقق الثلاث، فكانت الراية كاملة، وقد نصبوا تلك الراية التاريخية على ذلك الجبل بين هتاف الجنود وتهاليلهم، فما فعله الإيطاليون ألمع دليل وأسطع برهان على ما أوتوه من البسالة ودقة حسابهم الحربي الذي تأكدوا صحة وقوعه فبهروا بما فعلوه أنظار العالم. •••
الحاجة أم الاختراع: وما أكثر ما ولدته هذه الحرب العظمى من الحاجات حتى كانت حرب اختراعات حيث جعلت الناس أن يعدوا لكل أمر عدة فرارا من شدة إلى شدة، وكم من شدائد وملمات تتعاور الناس في قطع أجواز الحياة، وقد استلفت نظرنا بين تلك الاختراعات التي لا تحصى اختراع بسيط يبعث على الضحك والتفكهة نشرته الصحف المصورة وهو أنه لما أخطرت الجنود البريطانيون إلى الزحف في صحراء الحدود المصرية الشرقية والغربية عمدوا إلى الاستعانة بأقفاص معدنية حول أحذيتهم وتحتها ليسهل عليهم السير فوق الرمل بسرعة وخفة توازي خفة السير على الطرق المطروقة، فسبحان واهب العقول! •••
كيف عرف الألمان في خنادقهم أن أمريكا دخلت الحرب: اتبعت الحكومة الألمانية عادة إخفاء الأخبار الحربية عن رعاياها وجنودها وشددت الرقابة على الصحف والمراسلات فصار الشعب لا يعرف ما يجري خارج بلاده، وصار أفراد الجيش يقاتلون في الخنادق وهم جاهلون أخبار العالم الخارجي، والظاهر أن الحكومة العثمانية اقتدت بالحكومة الألمانية من هذا القبيل؛ فقد روى المقطم أن الأسرى العثمانيين الذين وقعوا في أيدي الجيش البريطاني أخيرا في فلسطين كانوا جاهلين خبر سقوط بغداد بيد البريطانيين، وقد دهشوا لما علموا حقيقة الخبر وإليك الطريقة المبتكرة التي تحداها الأمريكيون بإذاعة خبر دخول دولتهم في الحرب على الجنود الألمان في خنادقهم والأماكن التي رابطوا فيها وهي طريقة على جانب عظيم من الغرابة والفكاهة، ذلك أنهم طبعوا ألوفا من الرسائل باللغة الألمانية ضمنوها خبر إعلان أمريكا للحرب، ونشروا فيها باللغة الألمانية أيضا الخطبة الرنانة البليغة التي فاه بها الدكتور ولسن رئيس الولايات المتحدة وذكر فيها الأسباب التي دفعت الحكومة الأمريكية إلى امتشاق الحسام انتصارا للحق على الباطل، وبعدما طبعوا مئات الألوف من هذا المناشير أرسلوها إلى أماكن مختلفة على طول خطوط الحلفاء، ثم جاءوا ببلونات صغيرة من البلونات التي تحاكي ما يلعب به الأطفال وجعلوا يربطون بكل بلون منها عددا من تلك المناشير، ثم ينتظرون الريح إذا هبت صوب جهة مواقع الألمان أطلقوا تلك البلونات بأحمالها فتطير صعدا في الجو وتقطع مراحل شقة الحرام، ثم تسقط على مواقع الأعداء أو على مقربة منها فيلتقطها الجنود الألمان ويقرءون الرسائل ويتناقلون ما فيها من الأخبار الحقيقية التي تكتمها حكومتهم عنهم، والتي لا تسمح للصحف الألمانية إلا بنشر الشيء اليسير منها. •••
إمبراطور ألمانيا والسينماتوغراف: كان هذا الإمبراطور أول من أدرك مزايا السينماتوغراف لإعلان شهرته وعظمته على الملأ؛ فإنه لما أقام مناورات الجيش الألماني قبل الحرب أمر أن يصحبه أشهر مصوري السينماتوغراف فلبي دعوته ثلاثة من المصورين فكانوا يصورون الإمبراطور وهو بملابسه الحربية المختلفة ومواقفه في رأس الجيش، وقد عين الإمبراطور في حاشيته موظفا خصيصا لتصوير الحفلات والمواكب بالسينماتوغراف وهو لا يصور إلا المناظر التي يكون الإمبراطور فيها بيت القصيد، وقد اتقدى الكرونبرنز بوالده بالإعلان عن نفسه بطريقة السينماتوغراف؛ فإنه قبل نشوب الحرب جعل المصور يصوره في طليعة فرق فرسان الهوسار وهم هاجمون وكان ذلك في إحدى ميادين العرض ببرلين. •••
نشرت اللطائف المصورة هذه الحكاية الفكاهية التي نال من أجلها كاتبها جائزة عشرة قروش وهي: ذهب يوما الجنرال هندبورغ لزيارة السماء فقابله على بابها الشيخ بطرس قائلا: عجبا، وهل قائد شهير مثلك يأتي إلى هنا ماشيا؟ اذهب وارجع مع جوادك إذا كنت تروم الدخول، فتأثر الجنرال وهرع راجعا إلى الأرض وذهب إلى ولي العهد شاكيا بطرس، فقال الأمير: ما لهذا الشيخ يدخل في شئوننا، تعال وأنا أصعد معك وأوقفه عند حده، وذهبا صعدا، فأبصرهما بطرس عن كثب وابتسم، ولما قربا منه التفت إلى هندنبورغ، وقال له: قلت لك إن تعود مصحوبا بجوادك لا بحمار لا يجوز له الدخول. •••
من العادات القديمة التي لا يعرفون كيف نشأت عادة وشم البشرة بخطوط ورسوم، وهي عادة دارجة في الشرق كما هي في الغرب ولقد كان العرب يتحلون بدق الوشم في وجوه فتياتهن ولا يزالون إلى اليوم «يدقون» الرسوم تزينا وتبهرجا، وكان الوشم كثير الشيوع بين رجال البحرية البريطانية وهم يتفننون فيه تفننا غريبا؛ فتراهم يدقون البشرة بإبرة كهربائية فيها مادة ملونة، وقد كان طالع هذه الحرب سعيدا على محترفي مهنة دق الوشم؛ فإن الجنود أقبلوا عليهم ألوفا ألوفا يسمون سواعدهم وأذرعهم وصدورهم بالرسوم والكلمات التي يريدون أن تبقى ما بقيت أجسامهم في الوجود، ولم يقتصر الأمر على عامة الجنود بل تناول أبناء الأشراف والسيدات فصاروا يميلون إلى الوشم وأصبحت هذه العادة أكثر شيوعا في الحرب من كل زمان سابق. •••
كان الجنرال سرايل قائد جيوش الحلفاء في مكدونية راكبا «سيارته» لتفقد المواقع الحربية، وقد اعترضه الجندي الذي يخفر الطريق بين غوريتزا وفلورينا وأوقف السيارة ما لم يعط كلمة السر أو كلمة المرور المعهودة، وهي كلمة أو عبارة يلقنها الرؤساء للحرس ويأمرونهم بمنع أي كان من تجاوز الحدود العسكرية إلا إذا قل كلمة السر، ومما يدلك على شدة التدقيق والمراقبة العسكرية أن الجندي مع علمه أن المار هو القائد العام لم يتركه يمر حتى قال كلمة السر. •••
وهاك الآن مثالا من الذكاء الطبيعي الذي أوتيه الجندي البريطاني في ميدان الحرب؛ فقد خرجت دورية صغيرة تستطلع مواقع الأعداء في فرنسا فقتل ضابط الدورية وأصبح جنودها بدون قائد فأجمعوا على مواصلة التقدم وإتمام المهمة الخطيرة الشأن الذي أخذوها على عاتقهم، ولما توغلوا في أراضي الأعداء رأوا بطارية مدافع كانت مستترة في غابة وهي تطلق قنابلها من وسط تلك الغابة على جنود الحلفاء، فما كان من رجال الدورية إلا أنهم أحدقوا بالبطارية، وبينما الألمان منهمكون في إطلاق المدافع لم يدروا إلا ورصاص البنادق ينصب عليهم كوابل المطر فقتل منهم من قتل وخال الباقون أحياء أن الجيش البريطاني بأسره قد أحاط بهم؛ فأركنوا إلى الفرار وخلا الجو لرجال الدورية فعمدوا إلى المدافع ونزعوا منها بعض أجزائها وحطموها وعطلوا عملها، ثم عادوا من حيث أتوا وتركوا الألمان يقرعون سن الندم على غفلتهم ولات ساعة مندم. •••
لقد كان ولا يزال لملك الإسبان ألفونس الثالث عشر عمل يذكر في هذه الحرب، وعمله هذا ليس عدائيا للحلفاء أو للألمان بل هو عمل شريف يرمي إلى مقصد نبيل ومروءة وكرم أخلاق؛ فقد أخذ هذا الملك الديموقراطي على عاتقه أن يخدم المظلومين والمنكوبين في هذه الحرب فوقف نفسه وجيشا كبيرا من الكتاب والمحررين والمساعدين على النظر في الطلبات والشكاوى التي ترد عليه بالألوف من أقارب الجنود المتحاربين، وكل واحد يطلب طلبا فيجاب إلى طلبه في الحال كتابة، ذلك أن الملك ألفونس جعل نفسه وسيطا محايدا بين أقارب الأسرى من الحلفاء الذين في ألمانيا وأصحاب السلطة العسكرية الألمانية؛ فهو يقدم خدماته مجانا ويساعد مساعدة عظيمة في تفريج كرب أولئك التعساء، وقد اتصلت بنا أخيرا صورة كتاب أرسلته فتاة فرنسوية عمرها ثماني سنوات إلى ملك إسبانيا تنشده فيها أن ينظر في مسألة خالها الذي وقع في أسر الألمان، وأن أمها مريضة من جراء ما يلاقيه من مضض الجوع وسوء المعاملة فكتب ملك إسبانيا بخط يده إلى هذه الفتاة الفرنسوية ردا على كتابها يعدها بالنظر في شكواها ويطلب منها أن ترسل إليه المعلومات الكافية التي تمكنه من معرفة مقر خالها الأسير، إن حقيقة رفعة مقام الملوك لا تبدوا جليا للعيان ما لم يحنوا على من دونهم مقاما من بني الإنسان. ••• «أرسل قائد حملة الجمال في مصر 531 جمالا مصريا إلى المغرب الأقصى ليأتوا منه بالجمال، وفيما هم مسافرون في البحر المتوسط أغرقت باخرتهم بطربيد غواصة فسلم الجميع ما عدا ثلاثة منهم، والتقطت باخرة يونانية 32 منهم وجاءت بهم إلى بورت سعيد، أما الباقون فاتفقت لهم أمور غريبة عجيبة نذكرها هنا، وكانوا كلهم من داخلية مصر ولم يسبق لهم ركوب البحر، فلما أغرقت باخرتهم ركبوا زورقا كالباقين ولكن زورقهم انفصل في الليل عن الزوارق الباقية وتاه في البحر، وكان هؤلاء الرجال وحدهم وليس بينهم بحار أوروبي يرشدهم، وكأن ذلك لم يكفهم فثقب الزورق ودخله الماء ولم يكن لديهم ما يسدون الثقب به؛ فكان الواحد منهم يجلس على الثقب ليسده بجسمه وقضوا ثلاثة أيام ونصف يوم بلياليها حتى رأتهم بارجة بريطانية فنقلتهم إليها، وأكرمهم ضباطها وبحارتها أعظم إكرام وأطعموهم وألبسوهم ووصلت البارجة بهم إلى الإسكندرية، وحسب الجمالة لبساطتهم أن البارجة ستطالبهم بثمن الطعام فلما علموا أنهم لا يطالبون استغربوا أشد استغراب.» •••
اشتهر الجنود الأستراليون بالبسالة والجرأة والإقدام فهم لا يخافون ولا يجزعون، وقد صورت الصحف حادثة وقعت لجنود منهم كانوا مسافرين على النقالة «بلارات» ميممين جهة معلومة، فاقتفت غواصة ألمانية أثرها وأطلقت طوربيدها عليها، فأصابتها في وسطها وأركنت إلى الفرار، وابتدأت النقالة تغرق وصدر الأمر إلى الجنود أن يصطفوا على ظهر السفينة لابسين مناطق النجاة فصدعوا بالأمر كأنهم في عرض عسكري مع أن السفينة كانت تغرق والمياه تدخل إلى جوفها، وجعل البحارة ينزلون الجنود إلى زوارق الجنود جنديا جنديا كل واحد على حدة بكل هدوء ونظام، ولم يكن ثم خوف يداخل جنديا منهم، بل كان معظمهم غير عابئ بالخطر المحدق به؛ فكانوا يدخنون كالمعتاد، ويتسامرون بالأحاديث ويضحكون، وقام بينهم جندي ظريف فصاح: «النقالة تباع بالمزاد على أونا على دوى على.» فدفع جندي ثلاثة بنسات وزاد آخر عليه، وما زال ثمنها يزاد إلى أن بلغ شلنين وتسعة بنسات، وبهذه الطريقة الفكاهية نزل جميع الجنود من نقالتهم إلى زوارق النجاة غير مكترثين للخطر الذي كان يحدق بهم وهم على السفينة، وقد صدر بلاغ وزارة البحرية البريطانية مشيرا إلى غرق النقالة بلارات وما أبداه الجنود الأوستراليون الذين كانوا فيها من رباطة الجأش والبسالة وحسن القيادة العسكرية، مما أثبت مرة أخرى ما عرف واشتهر عن تقاليد أولئك الرجال الذي يجري في عروقهم الدم البريطاني. •••
كثر الكلام في الجرائد عن «خط هندنبرج» أي خط الجيش الألماني الذي يقوده المرشال هندنبرج، وقد تناول مصور إنكليزي هذه العبارة وصورها صورة هزلية رامزا بها، فقال: «إن خط هندبرج إنما هو خط سكة الحديد الذي اتفقت على مدة شركة مقاولة العم جون بول (بريطانيا العظمى مع فرنسا) وسمي خط هندنبرج لأنه الخط الذي سيقصم ظهر هندنبرج فيمتد من لندن إلى باريس إلى برلين ويعرف فيما بعد بخط الحلفاء.» •••
من أخبار أبناء عمنا ينكي الأمريكان في هذه الحرب أنهم لما نزلوا إلى ساحات القتال في الميدان الغربي وابتسم لهم ثغر النصر على جيوش الألمان كانوا إذا أغارا على أحد الخنادق أو هجموا على فصيلة من جنود الألمان وأسروا أحدا منهم لا يأمنون له فيصرخون به أن ارفع يديك واخلع بنطلونك فيفعل، ثم يتقدمون إليه ويفتشون في جيوبه ليأمنوا خدعة منه والحرب خدعة كما يقال، ثم إذا وجدوا معه أوراقا أو مذكرات لها علاقات بأسرار العدو من هجوم وتقهقر أخذوها من الأسير وأرسلوه إلى محلة الأسر خالي الوفاض بادي النفاض. •••
نشرت الصحف المصورة ما وقع فعلا في ساحة القتال يوما إذ ترجل الضابط فردريك أليوت هو تبلوك من فرقة المخابرات في الجيش البريطاني وسار أمام النقالة المدرعة المعروفة بالتانكس يقودها إلى مواقع الأعداء، ويرشدها إلى الأماكن التي يجب أن تقتحمها، وكان الأعداء يمطرونه وابلا منهمرا من رصاص بنادقهم، ولكن العناية صانته فلم يصب بأذى بل ظل سائرا أمام الدبابة النقالة إلى أن بلغ بها حافة خنادق الألمان. •••
المدافع لمقاومة الطيارات: كان يستعمل الألمان لمقاومة الطيارات مدفعا قطر فوهته 104 مليمترات وطوله 4 أمتار و68 سنتمترا وهو يقذف قنبلة ثقلها 15 كيلو ونصف إلى علو أربعة كيلومترات، ويمكن إطلاق 15 طلقا منه كل دقيقة أي طلقا في كل أربع ثوان، ويقال إن قنبلة الشرانبل التي يطلقها تتطاير شعاعا ويخرج من انفجارها 625 شظية. •••
قتل الجراد بغاز الكلور: لما استعمل الألمان غاز الكلور لقتل خصومهم انتبه أحد العلماء إلى استعماله في جزائر فيلبين لقتل الجراد الذي يكثر فيها فيطلق هذا الغاز على أرجال الجراد فيميتها حالا، ويمكن استعماله لقتل الجنادب أيضا «النطاط» لكن أهالي فيلبين يستعملون لقتل الجراد طريقة أقل نفقة وأكثر ربحا وهي أنهم يمسكون الجراد ويشوونه ويأكلونه ويستطيبونه جدا، وعرب البادية يفعلون ذلك أيضا والذين ذاقوا الجراد المشوي يقولون أنه لذيذ الطعم كالسراطين المشوية. •••
السيجار والاتحاد الألماني: ألف لورد سديل كتابا عما رآه ووقع له في العواصم الأوروبية ذكر فيه القصة التالية، قال: كان نواب الممالك الجرمانية الكبيرة والصغيرة يجتمعون كل سنة في مدينة فرنكفورت ينظرون في أمورهم، ويختمون اجتماعهم بوليمة يشتركون فيها وكان نائب النمسا يرأس الاجتماع والوليمة؛ لأن النمسا باتفاق الجميع الوارثة للإمبراطورية الجرمانية الرومانية ويقول للنواب في ختام الوليمة إنه صار يجوز لهم أن يشعلوا سيجاراتهم، وفي منتصف القرن الماضي كانت بروسيا قد قويت واستعزت فشق عليها أن تبقى السيادة للنمسا في التحالف الجرماني ولا سيما أن جانبا كبيرا من سكان النمسا لم يكونوا من الجرمان، ورأى بسمارك أن بروسيا لا تستطيع أن تنال هذه السيادة إلا بالسيف فأعد عدته لذلك حتى إذا اجتمع النواب وأكلوا وشربوا تناول بسمارك سيجارا وأشعله قبل الكونت بول نائب النمسا، ثم قدم عود الكبريت الذي أشعل سيجاره إلى الكونت بول ففهم النواب من هذا العمل البسيط أن بروسيا عزمت أن تتولى سيادة الممالك الجرمانية، وبعد قليل تحينت فرصة لمحاربة النمسا فحاربتها وقهرتها فتمت لها السيادة فعلا، ثم حاربت فرنسا وانتزعت منها الألزاس واللورين بدعوى أنهما من ممالك الجرمان أصلا وأضرمت نار الحرب الأوروبية العظمى لكي تكون لها السيادة على أوروبا كلها (فخاب ظنها). •••
يتامى الحرب: لقد خلفت الحرب العظمى فيما خلفت من البلايا جيشا جرارا من اليتامى لم يسبق للعالم أن شاهد مثله؛ فقد جاء في الإحصاءات الأخيرة لجمعيات المساعدة الأمريكية أن في النمسا والمجر وتشكوسلوفكيا نحو مليون من هؤلاء الأيتام، وفي جمهوريات البلطيق 150000 لم يستطع معظمهم دخول المدارس في هذا الشتاء بسبب نقص الثياب، وفي بولندا 500000 يتيم يعيش معظمهم في مضارب وخيام مؤقتة بدلا من البيوت، وفي رومانيا 200000 يتيم وفي يوغسلافيا 600000 يعيشون في قرى مهجورة تركها الرجال الأشداء، وفي روسيا البلشفية نحو أربعة ملايين يتيم لا يقلون عن إخوانهم المذكورين بؤسا وشقاء فإن حق لأحد أن يلعن الحرب وساعتها فإنما يحق لهؤلاء البائسين. •••
القبض على المجرمين بمساعدة الغازات الخانقة: استعملت الغازات الخانقة في الحرب الأوروبية الكبرى، فكانت أداة فعالة في الفتك بكثير من بني الإنسان، واليوم نراها في باريس مسخرة في القبض على المجرمين أو للدفاع عن النفس عند الحاجة، وطريقة ذلك أن يوضع في مسدس صغير بضع قطرات من سائل شديد القابلية للتبخير فإذا ما تبخر خرج منه غاز خانق ذو رائحة كريهة، ويوجد بالمسدس حمام صغير منه يمكن إدخال كمية من الهواء المضغوط بواسطة مضخة عادية كالتي تستعمل في الدراجات، وبعد ذلك يكون المسدس قابلا للاستعمال فعند الحاجة يضغط على الزناد فيخرج السائل من المسدس على شكل ينبوع رفيع طوله عشرة أقدام، وما أسرع ما يتبخر السائل فيصيب بخاره المجرم فيفقده حاسة النظر مؤقتا أو يقعده عن الحركة فيسهل القبض عليه. •••
الانتحار بالغازات السامة: من نتائج الحرب المشئومة أن بعضهم استخدم الغازات السامة في الانتحار، وأول من انتحر بهذه الطريقة روسي يسمى قسطنطين أفقرته الحرب فعمد إلى الانتحار في مدينة جنيف بأن كسر أنبوبة بها غازات سامة، ثم نام، فكانت هذه نومته الأبدية. •••
لا أم لي إلا فرنسا أموت فداها. نشرت اللطائف المصورة صورة الفتاة الفرنسوية الباسلة مارسيل سيميه التي أبقت لها ذكرا طيبا وأثرا خالدا في سجل أبطال فرنسا، كانت هذه الفتاة تدير معمل فوصفات في بلدة أكلوزيه في وادي السوم ورثته عن والديها اللذين ماتا وتركاها يتيمة، وكانت في بدء الحرب في الحادية والعشرين من عمرها، فلما غزا الألمان وادي السوم سارت فرقة فرنسوية لتحمل عليهم وتصدهم، فألفت الألمان أجزل منها عددا، بل يربو عليها أضعافا فعادت أدراجها وتبعها سكان بلدة أكلوزيه، ونشط الألمان في اقتفاء أثر الفرقة وكانت مارسيل في ساقة الجيش فرأت الألمان جادون وراء الفرقة، وأدركت حرج الموقف فأسرعت إلى كبري على طريق العدو قبل أن يصل إلى البلدة، وأدارت حركته الميكانيكية بحيث جعلت عبور الألمان عليه مستحيلا، ثم ألقت مفتاحه في الماء وكان رصاص العدو ينصب عليها كالوابل الهتان ولكنها لم تعبأ بالخطر وتمكنت من تأخير الألمان عن احتلال البلدة إلى الصباح التالي فتسنى للجنود الفرنسويين الانسحاب والابتعاد ولجأت مارسيل إلى أقبية معملها؛ حيث حافظت على عدد من الأولاد والنساء، فكانت تأتيهم بالطعام وتعولهم وقدر لها أن تنجي ستة عشر جنديا فرنسويا تخلفوا عن اللحاق بإخوانهم؛ فألبستهم ملابس الفلاحين وساعدتهم على الهرب متنكرين، وبينما كانت تسعى لإنقاذ جندي هو سابع عشر الذين خلصتهم عرف الألمان المحتلين للبلدة بها فقبضوا عليها وحاكموها في مجلس عسكري وحكموا عليها بالإعدام لخيانتها، ولما استنطقوها سألوها عن والديها ، فقالت: «لا أم لي إلا فرنسا، أموت فداها.» وهم الألمان بتنفيذ حكم الإعدام فيها ولكن مدافع الفرنسويين الضخمة باغتتهم؛ إذ فخرت أفواهها على بلدة أكلوزيه على غير انتظار، فاضطر الألمان إلى التفرق وإخلاء البلدة خوفا من الموت تاركين مارسيل وشأنها فنجت بذلك من مخالب الموت، وكانت نجاتها عجيبة إلهية، واسترجع الفرنسويون بلدة أكلوزيه، وجعلت مارسيل ترشد الجنود الفرنسويين إلى الطريق التي يبلغون بها بلدة فريز المجاورة لأكلوزيه، وكان الألمان لا يزالون محتلين لها فوقعت في يدهم ثانية فسجنوها في كنيسة البلدة، ولكن العناية أبت إلا أن تنجيها ثانية من يد الألمان؛ ذلك أن قنبلة فرنسوية انفجرت قرب الكنيسة فأحدثت ثقبا كبيرا في جدارها خرجت مارسيل منه زاحفة على بطنها وتوارت عن العيون حتى بلغت مواقع الفرنسويين، وبقيت في بلدتها أكلوزيه رغم وجودها تحت نار المدافع، وكانت تعول عجوزا عمرها ثمانون سنة وتعتني بجرحى الجنود الفرنسوية الذين يجتازون البلدة في ذهابهم وإيابهم، واتصل خبرها وما أتته من الفعال برئاسة الجيش فأكبر ولاة الأمر شأنها، وأنعمت عليها الجمهورية الفرنسوية بنشاني اللجيون دونور والصليب الحربي، وكان ذلك في احتفال كبير. •••
صوت المدافع: يظهر من أقوال بعض كتاب الإنكليز أن صوت المدافع في البلجيك يسمع في بعض قرى إنكلترا القريبة من الساحل الجنوبي والشرقي؛ فقد كتب أحدهم يقول إنه سمع صوت المدافع التي تطلق في أيبر من منزله في تشلمسفورد، والبعد بين المكانين 140 ميلا.
وكتب آخر رسالة قال فيها: يصعب علي أن أقول هل أسمع أصواتا تدخل الأذن أو أشعر بهزات تعرو جسمي كله، والحق يقال إن ما أشعر به هو أقرب إلى الاهتزاز والارتجاج منه إلى سماع الأصوات. •••
صور أحدهم ألمانيا والحصر البحري، وقد عبر عن الأساطيل البحرية ببحري إنكليزي، ربط العم ولهلم الإمبراطور من عنقه إلى غصن شجرة وشد الحبل وفي إمكانه أن يدلي ولهلم إلى الأرض لو شاء ولكنه يخاطبه قائلا: «لا أفلت الحبل إلا إذا اطرحت الحسام من يدك ورضيت أن تعترف بإثمك وتكفر عن ذنبك بإعطاء المظلومين ما سلبتهم إياه وتعوض لهم ما حملتهم من الخسارة.» والله أعلم متى يرخي الحبل. •••
آفة التوربيد : لما رأى المهندسون الميكانيكيون أن الشبكة التي تحاط بها السفن البحرية لاتقاء التوربيد غير وافية بالمرام اخترع بعضهم واسطة أخرى؛ وهي أن تحاط السفينة بمنطقة تكون على بعد بضع أقدام من بدنها ويكون الماء بينهما، فإذا ضربت السفينة بالطوربيد أصاب هذه المنقطة أولا فانفجر ولم يؤثر في السفينة نفسها، وقد جهز الإنكليز بها سفنهم الجديدة من الطرز المعروف باسم مونتيور. •••
سوبر تسبلين: سميت السفن الحربية الحديثة التي هي أكبر من الطرز المعروف بطرز دريدنوط سوبر دريدنوط أي فوق الدريدنوط، وبنى الألمان بالونات أعظم من طرز تسبلن سموها سوبر تسبلن وجعلوا يجربونها فوق بحيرة كونستانس في سويسرا، طول الواحد منها 750 قدما وسعته 54 ألف متر مكعب على ما يظن أي ضعفا تسبلن المعروف، وثقله نحو 40 طنا وفيه أربع آلات محركة وأربعة قوارب مدرعة لركوب رجاله، وعدد من البنادق المتعددة الطلقات والآلات الخاصة بقذف القنابل والطوربيد. •••
الغش والخداع في ساحة الحرب: وأغرب ما رواه هؤلاء الجرحى أن كثيرا ما يجرد الألمان القتلى الفرنسويين والإنكليز والبلجيكيين والجرحى الذين يجهزون عليهم أيضا من بذلهم الرسمية ويرتدون بها، ثم يدنون من جنود الحلفاء فتجوز الحيلة على هؤلاء ويدعونهم يقتربون منهم حاسبين أنهم إخوانهم حتى إذا صاروا قاب قوسين أو أدنى أصولهم نارا حامية، وقد فعلوا مثل ذلك مع آلاي إنكليزي وخدعوه هذه الخدعة فقتلوا كثيرا من رجاله قبل أن يكشف حيلتهم الدنيئة، فلما كشفها حمل عليهم حملة الأسود ومزقهم برءوس الحراب تمزيقا تشفيا وانتقاما.
وقص ضابط واقعة حال قال: هجم الجنود البريطانيون يوما على خنادق للألمان في شمال فرنسا فاستولوا على ثلاثة منها، ولما دخلوها عنوة استأسر الذين فيها وتنكسوا بندقياتهم وارتمى بعضهم على أقدامنا طالبين الرفق بهم، وتماوت آخرون فأمنهم قائدنا، وأخذناهم أسرى حرب، ولكن الجرحى منهم الذين تماوتوا ما صدقوا أن أدار جنودنا ظهورهم حتى أخذوا يطلقون البندقيات عليهم، وتلك خسة ودناءة لا يرتكبهما جندي فيه نقطة دم شريف.
وحكى ضابط أمرا جرى، فقال: هجمت أورطة إسكتلندية على العدو يوما مستبسلة فأبلت فيه بلاء حسنا، ولكنها اضطرت أن تعود إلى المعسكر ولم تستطع أن تحمل جرحاها معها، فضمدت جروحهم وتركتهم إلى أن يتسنى لها أن تعود بهم في حملة ثانية، ولكن الأورطة ما كادت تعود أدراجها إلى أكمة حتى أبصرت الألمان يأتون نذالة ما بعدها نذالة؛ فإنهم أعملوا الحراب في أولئك الجرحى وقضوا عليهم.
وروى جندي قال: طلب ضابط منا أن يتطوع بعضنا ويأتوا بالجرحى من أمام الخنادق التي كنا فيها فلبيت طلبه أنا وثلاثة آخرون، وسرنا لقضاء مهمتنا المحفوفة بالأخطار فبلغنا المكان سالمين، وكان أول جريح وصلت إليه ألمانيا وإذ رأيته يحسن اللغة الإنكليزية قلت له أتريد أن أحملك إلى خنادقنا؟ فسر لذلك وانشرح، وقال إنه لا يعود إلى الحرب ثانية؛ فحملته على ظهري إلى مكان ووضعته على الفراش وهممت بتسلق جدار فرفسني على فمي جزاء صنيعي رفسة فلجت (شقت) شفتي العليا، وقلعت أسنانا من أسناني السفلى فتركته قاصدا مكانا فيه ماء لأغسل فمي، وعاد رفاقي الثلاثة وكل واحد منهم يحمل جريحا وبينما هم راجعون ليحملوا غيرهم انفجرت قنبلة ألمانية، وقتلت الجميع ومنهم الجريح الألماني الذي حملته، ولما عدت أسفت لما جرى وحزنت على رفاقي وقلت إن خيانة ذلك الجريح لي خلصت حياتي من الموت. •••
بين تاجرين أمريكيين: لقد فرغنا من توريد الذخائر لأوروبا، فبماذا نتاجر معها الآن؟ - يجب أن نصدر لها توابيت لدفن الموتى عندها. •••
يقضي البالون المسير ساعة ليصعد في الجو إلى علو 10 آلاف قدم، أما الطيارة فتقضي في ذلك ربع ساعة، وسرعة البالون 45 ميلا في الساعة والطيارة 75 ميلا. •••
المزاحمة المالية: الأمريكي يقول: يحسب الفرنسوي أن الفرنك صرع المارك، ويعتقد الإنكليزي أن الجنيه غلب الفرنك، وهما لا يدريان أن الدولار ساد على الكل. •••
جريمة لا تغتفر: إن أفظع جريمة في هذه الحرب التي كثرت فيها الجرائم هي إعدام المس كافل؛ فقد عرضت هذه الفتاة نفسها للموت لتخلص بعض الجنود من حكم الموت، ولا ذنب لها غير ما تحلت به من رقة القلب والشفقة على بعض جنود أسرى يسرت لهم سبل الفرار من وجه السيف والنار، وقد تم إعدامها في بقعة كانت حديقة مسورة، فوقف ضابط ألماني ومعه ستة جنود وجيء بالسيدة مغمضة العينين من منزل مجاور وكانت قد أبدت رباطة جأش عظيم حتى تلك الساعة، ولكنها امتقعت وأغمى عليها وسقطت على الأرض على بعد ثلاثين يردا من مكان الإعدام، فدنا منها ضابط وهي في هذه الحالة واستل مسدسه وأطلق الرصاص على رأسها، وقد نفر البلجيكيون أشد نفور من إعدام مس كافل وقالوا إنه أفظع جرم ارتكب في الحرب، وقد قام قائم الصحافة الأمريكية والإنكليزية والفرنسوية على هذه الفظاظة والشراسة الوحشية. •••
لصوص أمريكا: إن اللصوص ابتدءوا يستخدمون الطيارات لإبعاد وقوع الشبهة عليهم فقد دخل من مدة لصان إلى أحد المصارف في لنسن نبراسكا من الولايات المتحدة وسرقا منه ما يقارب النصف مليون دولار، وبعد البحث اشتبه البوليس بهما وألقى القبض عليهما، ولكنهما برهنا أنهما كانا في سانت بول منيسوتا في وقت حدوث السرقة وهي تبعد مسافة يومين عن مكان السرقة، وبما أنه من المستحيل أن يكونا في مكانين في وقت واحد وجد البوليس أنهما قطعا هذه المسافة بالطيارة. •••
تحصين مجلس نواب: يقال إن نفقات إنشاء ميدان أمام مجلس نواب بلجيكا ستبلغ المليون فرنك بما في ذلك ثمن الأقفال الكهربائية التي ستوضع في الأبواب لغلقها جميعا دفعة واحدة، وكذلك نفقات السور الحديدي الضخم الذي سيقام حول هذا الميدان.
ويقال إنهم بذلك سيتمكنون في المستقبل من رد كل غارة على المجلس مهما بلغت من الشدة والعنف. •••
أشعة رنتجن هي أشعة كهربائية خصوصية تخترق الأجسام اللينة والسوائل ولكنها لا تخترق المعادن والأجسام الصلبة، وهي تستعمل في الطب للاستدلال على وجود أجسام صلبة غريبة في أعضاء المرضى أو على تصلب في باطن الأجسام، وقد عمدت الدول المتحاربة أخيرا إلى استعمال هذه الأشعة لاكتشاف المواد المهربة في داخل بالات القطن، وقد عثروا بهذه الأشعة على قطع من النحاس وألواح من اللستك مخبأة في جوف البالات وهي مشحونة إلى البلدان المحايدة لكي ترسلها إلى ألمانيا، وطريقة فحص البالة أن تضع بين مصدر الأشعة المتقدمة الذكر وبين لوح من الزجاج مركب في صندوق ينظر فيه المفتش فإذا وصل المجرى الكهربائي بالجهاز انبعثت منه الأشعة الرنتنجية واخترقت البالة وظهر على لوح الزجاج ما في القطن من أجسام غريبة. •••
حادثة فكاهة في أثناء هجوم الإنكليز على الألمان قرب لوس: اشتهر الإنكليز بحبهم الألعاب الرياضية وميلهم إليها ميلا فطريا، ويشاهد منهم ذلك حيثما حلوا؛ فإن ألعاب التنس والفوت بول والكركيت والبولو ألعابا إنكليزية اعتاد الناس أن يروهم يلعبونها، وهم يرغبون في المعيشة العنيفة التي تضطرهم إلى استعمال قواهم البدنية والتي يتعرضون فيها للمخاطر وللتقلبات الجوية من حر وبرد؛ وعليه فإن ضابطا إنكليزيا رأى خير طريقة فكاهية لحمل رجال فرقته على الهجوم على المواقع الألمانية ببسالة ونشاط في أثناء معركة لوس أن يوعز إليهم بأن يندفعوا وراء كرة الفوت بول، قال هذا ورفس الكرة رفسة قوية إلى جهة الألمان وصاح:
Follow up lands (اتبعوها يا فتيان!) كما لو كان الميدان ميدان لعب فوت بول واندفع هو خلفها، فاندفعت معه رجال فرقته كالأسود وحملوا على الألمان حملة صادقة قوضت منهم الأركان، على أن ذلك الضابط الباسل لم يبلغ مناه إذ سقط صريعا قبل أن يصل إلى صفوف الأعداء، ولكن ذلك لم يثن عزم رجاله فبلغوا صفوف أعدائهم وأثخنوا فيهم الجراح طعنا وضربا حتى اضطروهم إلى رفع أيديهم إلى العلاء مسلمين بعدما قتل منهم عدد كبير. •••
آفات الجوع: من آفات الجوع القتال نذكر حادثة صغيرة في فحواها كبيرة في مغزاها، وذلك أن شابا من بيروت يدعى إبراهيم الكاتب طلب مرة مأذونية لتبديل الهواء كما كانوا يقولون باللغة العسكرية، وكان إبراهيم هذا يخدم الدولة التركية في البلاد الداخلية، وصل إلى رياق وكان معه في كيس كان يحمله بعض جرايات من الخبز وصفيحة صغيرة فيها نحو كيلو ونصف فازلين، نام إبراهيم واضعا بالقرب منه كيس الخبز والصفيحة المذكورة، شعر بذلك بعض الجنود الأتراك الموجودين في رياق فسرقوا الجرايات وأكلوها لشدة الجوع مغموسة بالفازلين غير مميزين بين السمن والفازلين.
فإذا كانت هذه حال الجنود الذين امتصت دماء الشعب لأجل تيسير أحوالهم فماذا يقال عن الشعب المسكين، وقد أنشب الجوع فيه أظافره الحادة. •••
إن قتل الأسرى خبر تناقلته صحف فرنسا وبريطانيا العظمى، واتصل بصحف سويسرا فنشرته وأذاعته فانبرى معتمد ألمانيا في برن إلى تكذيب هذه التهم باسم حكومته قائلا: إن قواد الجيوش الألمانية لم يصدروا أوامر بقتل الجرحى والأسرى الفرنسويين.
ولكن معتمد فرنسا في برن أرسل إلى الغازت دي لوزان صورة الأمر الذي أصدره الجنرال ستنجر قائد اللواء الثامن والخمسين من الفيلق الرابع عشر من جنود بادن الألمانية وهذا نصه: «لا يسمح اليوم بأخذ الأسرى بل يجب إعدام الأسرى، وكذلك يعدم الجرحى سواء كانوا مسلحين أو عذلا ويعدم الأسرى ولو كانوا جماعات كبيرة أو أورطا منظمة، ولا يجب أن يترك وراءنا رجل حي.»
وهذا الأمر مؤرخ في 27 أغسطس 1916 وهو محفوظ الآن حجة دامغة على الألمانيين تشهد بتعهدهم القسوة والفظاعة ومخالفتهم لقواعد الحضارة والمدنية للمعاهدات التي وافقت عليها دولتهم وأمضاها مندوبوها؛ فإن ألمانيا أمضت معاهدة الهاي المبرمة في 18 أكتوبر سنة 1907 وإليك ما نصت عليه المادتان 4 و23 من موادها:
المادة 4: يكون أسرى الحرب تحت تصرف الحكومة التي تأسرهم، ولكنهم لا يكونون تحت تصرف الأشخاص أو الفيالق التي أسرتهم.
ويجب معاملة الأسرى بالرفق والإنسانية.
المادة 23: يحظر قتل أو جرح العدو الذي يلقي سلاحه، أو يعدم وسائل الدفاع فيسلم إلى عدوه ولا يجوز إباء قبول تسليم العدو.
هذا ما فعله جنود الألمان إزاء المعاهدات التي أمضوها والعرف الجاري بين الأمم المتمدنة فأين هم من شمائل ذلك الشاعر العربي الذي قال منذ نحو ألف ومائتي سنة:
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم؟ •••
ونشرت جريدة الأنفاليد العسكرية خبرا مؤداه أن أربعة من جنودنا وقعوا أسرى في قبضة الألمانيين، ثم أطلقوا سراحهم بعدما قطعوا ألسنتهم فارتاب الروسيون في الخبر لعظم فظاعته ولظنهم أن القرن العشرين يبرأ من أناس يرتكبون مثل هذه الفظائع المنكرة.
وقد كنا من جملة المرتابين في صحة الخبر مع أنه صدر من الألمانيين ولذلك أغفلنا نشره حتى لا نصدع آذان القراء بذكره.
ولكن مرت الأيام تباعا والفظائع تتلو الفظائع وأقوال شهود العيان والمصادر الرسمية تؤيد أن الألمانيين يرتكبون مع جنودنا فظائع لم تخطر لقوم آبدين على بال.
فمن ذلك ما حدث قرب قرية بابو شكينسه التابعة لولاية فيلنا فقد عثر جنودنا على جثة الجندي نيقولا ينكا مشوهة تشويها فظيعا؛ فقد صلم الألمانيون أذنيه وقطعوا بعض أعضائه وجدعوا أنفه ووجدوا في صدره وبطنه 15 طعنة، وقد أثبت الكشف الطبي أن جميع هذه الفظائع ارتكبها أولئك الوحوش في هذا الجندي وهو في قيد الحياة. •••
أصابت رصاصة ضابطا روسيا قرب بلدة ميو لجازين فسقط على الأرض جريحا فهجم عليه البروسيين وطعنوه عدة طعنات ووجد جنودنا مكان عينيه فتحتين مملوءتين دما.
ووجد جنودنا قرب قرية سانيكي المجاورة لأوغستوف جثة قوزاقي حرقه الألمانيون حيا، وقال شهود عديدون أنهم شدوا وثاق ذلك القوزاقي وألقوه على الأرض وصبوا عليه زيت البترول وحرقوه. •••
ورأت مدام «لوفة» بضعة عشر جنديا ألمانيا يحيطون زوجها ويضربونه بالخناجر، وقد أبعدوها عنه ولم يدعوها تقترب منه وبعد ساعة خرجت لتعرف ما حل به فرأت جثته في خارج القرية، وقد شنع الألمان به كل التشنيع فكسروا جمجمة رأسه وقطعوا يديه وقلعوا عينيه وجدعوا أنفه. •••
ودخل العدو سنليس بعدما ألحق به الجزائريون خسارة فادحة فاقتص من الأهليين متهما إياهم بأنهم أطلقوا الرصاص على الجنود وحرق شارعين من شوارع المدينة، وقتل أكثر الرهائن التي أخذها وأعدم بضعة عشر شيخا وامرأة وطفلا بينهم رئيس البلدية. •••
فظائع الحرب: ليس أفظع من الحرب سوى ما يقع في الحرب من ضروب المنكرات، والحرب أفظع الفظاعات بيد أننا عمدنا إلى نشر بعض الحوادث المؤثرة ترعيبا لا ترغيبا فيرى القارئ اللبيب أن الحروب خراب على الغالب والمغلوب، فمن تلك الفظائع المنكودة الطالع قتل الأسرى والإجهاز على الجرحى والنهب والسلب وإرهاق الآمنين من غير المحاربين، وقضاء الأوطار والأغراض بالتعدي على الأعراض، والقضاء على الشعائر الإنسانية بسيوف البربرية والوحشية، وقد لا تخلو حرب من مثل بعض هذه السقطات والتلطخ بأوحال المظالم والمنكرات ولكن الحرب العظمى كانت أوسع مجالا للقيل والقال لما تخللها من فظائع الأعمال كما ترى بعضه في سياق الكلام. •••
في باتشاد: حرقوا فيها ثلاثة منازل، وقد أكدت السيدة ماريوس ريته أن الجنود الألمانية ترغم على حمل المشاعل كما ترغم على حمل السلاح. •••
وأخذ الألمان بعض رهائن من قرية فرامبوي بينهم الكاهن الذي ظل في السجن ستة عشر يوما، وقد شهد في أثناء سجنه مقتل ثلاثة من أبناء رعيته، ولما احتج إلى القائد عن هذه الفظائع وعن نهب البلدة قال الجنرال البافاري: «وماذا تريد أن نعمل ونحن في زمن الحرب؟» •••
وفي قرية «ساتسي لابروفين» وقف الألمانيون ثمانين رجلا الساعة التاسعة من مساء يوم، وأرسل الضابط في اليوم التالي ثلاثة منهم إلى مستشفى الصليب الأحمر الألماني فقام بعض الجرحى بأمر الطبيب وتقلدوا بنادقهم ومسدساتهم وهموا بإطلاق النار على هؤلاء المساكين ولكن الجيش الفرنسوي وصل إليهم في تلك الساعة فخلصهم وغنم المستشفى وأسر من فيه. •••
دخل ضابط ألماني على رئيس البلدية المسيو روبر ونهب جواهره وما وجده من النقود في خزينته، وفي مساء ذلك اليوم رأى رئيس البلدية تسعة خواتم نسائية وبضعة أساور في يد جندي ألماني فسأل الجندي عما دعاه إلى ذلك، فقال له إن قوادنا يجزوننا عن كل خاتم وعن كل سوار بأربعة ماركات. •••
ومن الفظائع هاتان الحادثتان:
الحادثة الأولى: فاشيلي فوديانو - عمره 24 سنة وهو أونباشي في إحدى ألايات المشاة الروس أسره الألمان في 27 إبريل 1915 بجوار بلد، بينما كان يستطلع بجوارها.
وقد طلب ملازم ثان ألماني من فوديانو في غابة وبحضور جنديين معلومات عن مركز أركان الحرب الروسي وعدد المشاة الروس وهدده بفقء عينيه وصلم أذنيه إذا أبى الإذعان، فلما رفض ذلك استل الضابط مديته «كنجال» وقطع بهما شحمة أذن فوديانو اليسرى ومحارة أذنه اليمنى، ثم قال: «سنعلمك النطق.» وقبض على خناقه وظل يضغطه حتى سقط مغمى عليه، وظل فوديانو في هذه الحال ساعات عديدة، ولما أفاق من إغمائه وجد لسانه مقطوعا أيضا ولكنه تمكن مع ما عاناه من شدة الألم من هذه الجراح وما نزف منها من الدماء أن يزحف في الغابة هائما حتى التقت به دورية روسية فنقلته إلى مركز هيئة من هيئات أركان الحرب الروسي. •••
الحادثة الثانية: وقع ملازم أول من فصيلة استطاع تابعة لأركان حرب الجيش ... اسمه بوفيري باناسوك وعمره 26 سنة في أسر جنود مخفر ألماني بينما كان يستطلع في مساء 15 مارس 1915 ونقل إلى قرية كوزخي، حيث أخذ عشرة ضباط ألمان يسألونه عن مواقع الفيلق السيبيري وسائر فيالقنا ووعدوه بمكافأة حسنة إذا أوقفهم على المعلومات التي طلبوها منه، فرفض أن يبوح بشيء على الإطلاق فخاطبه ضابط من أركان الحرب العام بالروسية قائلا: «اقصر من هذيانك، وقد رأيناك في أماكن عديدة على طول خط قتالنا.» وأصدر في الوقت عينه أمرا بالألمانية ولم يكد يتم عبارته حتى جاء ضابط آخر بمقص صغير فتناوله ضابط أركان الحرب وقطع به شحمة الأذن اليمنى من أذني باناسوك وأردف فعلته بقوله: «أيسرك هذا؟ فلربما توقفنا الآن على شيء مما طلبناه منك.» ولكن ذلك لم يحمل باناسوك على الإذعان، فعاد ضابط أركان الحرب وقطع بالمقراض الذي كان بيده ثلاث قطع من الأذن عينها الواحدة تلو الأخرى من غير أن ينبس باناسوك ببنت شفة أو تبدو منه بادرة خشية أو رهبة، ثم مسكه بأنفه بشدة وعنف عظيمين فأذاه إذاء شديدا، وصفعه بعد ذلك على وجهه، وقد تمكن باناسوك من التملص من أسره في تلك الليلة عينها ووصل بعد بضعة أيام إلى مواقع جنودنا.
وقد حلف باناسوك اليمين على صحة ما تقدم في التحقيق أمام عضو من أعضاء لجنة التحقيق في 9 مايو 1916. •••
وقد أسر الألمان بالقرب من ريبه جنديين إنكليزيين أصيبا بجروح خطرة في إحدى المعارك فقتلوهما أمام مستشار البلدية وعدد كبير من الأهلين. •••
بينما كانت فصيلة من جنود البلجيك تحفر خندقا أمام أحد حصون لياج وهم عزلا من السلاح أحدق بهم الألمان من كل جانب وأصلوهم نارا حامية فرفع البلجيكيون الراية البيضاء مستسلمين، ولكن الألمان تغاضوا عن تلك العلامة وظلوا يمطرونهم نارا حامية حتى أبادوهم على بكرة أبيهم. •••
ومن أشنع الفظائع التي جرت في مقاطعة ألواز ما حدث لشابين فرنسويين رافقا اثنين من البلجيكيين في سفرهم فأخذهم الألمان جميعهم للتحقيق معهم، ولما عرف رئيس المجلس وهو ضابط كبير أن اثنين منهم بلجيكيان قال إن أهل بلجيكا وقحون أسافل وأخذ مسدسه وقتل الأربعة في أقل من دقيقة. •••
وقال الجندي دريفوس من فرقة ... إنه جرح في سومان في 10 سبتمبر سنة 1915؛ فخرج من خط القتال وإذا هو أمام ثلاثة جنود من الألمان فكلمهم بالألمانية وأخبرهم بأنه ترك ساحة القتال لجرح أصابه، فأجابوه: وأي مانع من أن تصاب بجرحين؟ ثم أطلقوا عليه الرصاص فجرحوه في وجهه جرحا بالغا. •••
ماذا فعلوا بالجرحى: لقد أيد الجرحى الإنكليز الذين عادوا من ساحة الحرب ما كان البلجيكيون والفرنسويون يروونه عن معاملة الألمان للجرحى في ساحة الحرب، فقالوا إن جنود الألمان كانوا يجولون في سلنرل الحرب بعد انتهاء المعركة ويبحثون عن الجرحى فكلما عثر واحد منهم على جريح من الأعداء أدخل فوهة بندقيته في فم ذلك الجريح وأطلقها فيه فتمزق رأسه إربا إربا. •••
ماذا عملوا بالنساء والبنات: لقد اتفقت كلمة الشهود من فرنسويين وبلجيكيين وهولنديين ودانيمركيين من الذين رأوا بعينهم ما فعله الألمان في دينان ودياست ولوفان وفيزه ولكسه ومولاه وفورون وبرنا وغيرها من مدن البلجيك وفرنسا والقرى التي احتلوها، على أنهم كانوا يأتون ما نخجل أن نسطره من ضروب المنكرات؛ فقد روى جندي إنكليزي من الآلاي السابع من المشاة قال: كنت أنا وأربعة من رفاقي في بلدة ونغي سان جورج بالبلجيك فرأينا عددا من مشاة الألمان يدخلون بيتا؛ فسددنا بنادقنا على باب ذلك البيت لنرمي به أعداءنا حين خروجهم منه ولكن قلوبنا وجمت وأيدينا ارتجفت لما رأيناهم خارجين وهم يسوقون أمامهم امرأة حبلى، وقد جرودها من جميع ثيابها ولم يتركوا عليها ما يستر عورتها؛ فأشفقنا أن نطلق النار خوفا من أن تصيب تلك المسكينة وبينما نحن نترقب الفرصة السانحة لإصلاء هؤلاء الوحوش نارا حامية إذا واحد منهم أخرج حربته من غمدها وطعن بها تلك البائسة في صدرها طعنة نجلاء فصرخت صرخة مؤلمة مزقت قلوبنا، وقطعتها وسقطت على الأرض والدم يتدفق من صدرها فزادت عداوتنا لأولئك اللئام وغلت مراجل الغيظ في صدورنا فأطلقنا عليهم بنادقنا وما زلنا نطلقها حتى أتينا على آخر واحد منهم. •••
دخل جنود الغزاة قرية روبه في فرنسة فنهبوها وبحجة التفتيش هجموا على مخزن امرأة في التاسعة والعشرين من عمرها فعروها وعلقوها بشعرها، ولكن لحسن حظها وصل أحد الجنود الألزاسيين فخلصها من أيديهم بعد جهد جهيد. وكذلك دخل بضعة جنود في القرية عينها على السيدة ... وقصدوا التعدي على عفتها فتهددتهم بمسدسها فاستشاطوا غضبا ونصبوا المشنقة وكتفوها، وما كادوا يضعون الحبل في عنقها حتى دخل عليهم ضابط كان الجيران قد دعوه فخلصها منهم وأخرجهم من منزلها.
ودخل بعض الجنود أحد المنازل في قرية استرناي قاصدين النهب فوجدوا فيه أرملة وابنتيها ومعهن سيدتان أيضا فانتهى الأمر بقتل بعضهن رميا بالرصاص وجرح الأخيرات؛ لأنهن أبين بذل طهرهن على مذابح سفالتهم.
التقت فصيلة من الجنود في قرية خربميل بمدام فينجر وخادمها وخادمتيها فرموهن بالرصاص وقتلوهن اعتباطا. •••
ولم تقف الفظائع في بلدة تريكور عند حد ويظهر أن بعض الجنود حنقوا على المدموازيل هيلانه بروسه؛ لأنها شكتهم إلى أحد الضباط فأضرموا النار في القرية مبتدئين من منزل المدعو جول غاند الذي قتلوه وهو خارج من منزله، ثم تفرقوا في الأزقة والشوارع وأخذوا يطلقون البنادق يمنة ويسرة فقتل الشاب جورج ليكورتيه والمسيو ألفرد لالمان، وأصيب المدعو توتوليه بثلاث رصاصات في يده.
وقد خشيت المدموازيل بروسه عاقبة الأمر فأسرعت هي وأمها وجدتها وعمتها العجوزتان والمدموازيل لورمينيهان للاختباء في منزل غير منزلهن فأبصرهن الألمان وقتلوهن، ثم جمعوا أجسادهن وأخذوا يرقصون ويضربون على البيانو وكانت النار قد التهمت قسما كبيرا من القرية فمات بها شيخ في السبعين من عمره، وطفل عمره شهران، وخرج المدعو إيجيه من منزله الذي التهمته النار فأسرع الجنود الألمانيون وراءه ورموه بالرصاص فأصيب بخمس رصاصات منها في ثوبه، ونجا من الموت الأحمر بأعجوبة من السماء، وقد ذهب خوري القرية لمقابلة دوق ورتمبرج شاكيا إليه هذه المظالم، فقال له الدوق: وماذا تريد أن نعمل يا حضرة الأب فبين جنودنا أشقياء كثيرون كما أن بين جنودكم أشقياء كثيرين أيضا؟ •••
فاجأت زمرة من الجنود الألمانية في قرية «كوربك لو» بجوار لوفان امرأة فتية عمرها 22 سنة وبعض أقربائها، وكان زوج تلك المرأة قد التحق بالجيش البلجيكي؛ فحبس الألمانيون أقرباء المرأة في بيت مهجور، ثم سحبوها هي إلى كوخ واعتدى خمسة منهم على عرضها متعاقبين عليها الواحد بعد الآخر.
وفي 20 أغسطس 1917 أخرج الجنود الألمان من القرية نفسها فتاة عمرها 16 سنة ووالديها من منزلهم واقتادوهم إلى منزل مهجور في الضواحي وأمسك بعضهم بوالدي الفتاة، ودخل الآخرون المنزل فألزموا الفتاة شرب الخمر الذي أتوا به من السرداب، حتى إذا ثملت ذهبوا بها إلى مرج قريب واعتدوا جميعا على عفتها، وبعد ارتكابهم هذه الجريمة الشنعاء طعنوها في صدرها بحراب بنادقهم وانصرفوا عنها.
وفي اليوم التالي أعيدت الفتاة إلى منزل والديها، ولخطورة حالها عرفها الكاهن ونقلت إلى مستشفى لوفان في حالة الاحتضار. •••
وحرقوا بلدة سوميل فلم يسلم منزل واحد من منازلها، وحدث في هذه البلدة حادث فظيع تقشعر له الأبدان؛ وهو أن السيدة ... التجأت مع أولادها الصغار إلى منزل عائلة أرنو وكان عمر ابنتها الكبيرة إحدى عشرة سنة وعمر ابنها الكبير خمس سنوات والثاني أربع سنوات والثالث سنة ونصفا، فوجد أهل القرية بعد بضعة أيام المدعو أرنو قتيلا برصاصة اخترقت صدره، ورأوا السيدة ... مقطعة إربا إربا والابنة مقطوعة الرجلين والولد بلا رأس. •••
وفي أوائل سبتمبر سنة 1915 دخل فارس ألماني أحد البيوت في «مليسيون» وطلب كأس خمر؛ فقام رب البيت ليأتيه بما طلب ولكنه لم ينتظر بل أطلق رصاص بندقيته على السيدة صاحبة المنزل فجرحها جرحا بالغا، وقد نقلت إلى «ليفري سوادرك» فداواها الأطباء الألمانيون وقطعوا يدها اليسرى، وقد توفيت إثر ذلك في المستشفى. •••
ولما دخلت الجنود البلجيكية مدينة «هوفستاد» وجدت جثة امرأة طاعنة في السن كان الألمان قد أثخنوها بالجراح، ورأت بين أناملها الإبر التي كانت تحوك بها حينما قتلوها، وعثرت تلك الجنود على جثمان امرأة وجثة ابنها البالغ من العمر 15 أو 16 سنة وكلاهما ملقيان على أديم الأرض ومثخنان بطعنات الحراب. •••
إرهاب المسالمين: وقال شهود عدل إنهم رأوا الألمانيين في نامور يسوقون أهل القرى المسالمين نساء ورجالا كبارا وصغارا ويوقفونهم أمام مدافعهم الكبيرة لتخويفهم وإرهابهم، نعم إن هؤلاء المساكين كانوا بعيدين عن الأذى والضر لأن فوهات المدافع كانت أعلى كثيرا منهم، ولكن ليحكم القارئ في موقفهم في تلك الحالة ودوي المدافع يصم آذانهم من الوراء، وألسنة نارها تندلع فوق رءوسهم، ودخانها الكثيف يعمي أبصارهم ورائحة البارود تسد منافسهم.
سوق الأهالي أمام الجنود ليتلقوا النار عنهم.
وأفظع من ذلك جدا أن الألمان كانوا يسوقون الأهالي المسالمين أحيانا أمامهم ليتلقوا عنهم بصدورهم وابل القنابل والرصاص الذي كان يمطرهم إياه البلجيكيون.
وقد استفزت هذه الفظائع المنكرة ذلك السياسي الكبير والشيخ الجليل المستر أسكويث إلى إلقاء تلك الخطبة الرنانة التي لا تصدر إلا عن شبان مملوئين حمية وحماسة، وما ذلك إلا لما كان يتلهب في صدره من العواطف الشريفة حتى لقد قال: «ولا أبصرنا الفظائع التي لا تحصى «والبلص» الذي فرضه الألمان على غير المحاربين الأبرياء من البلجيكيين وشاهدنا أكبر جريمة ارتكبت بحق الحضارة منذ «حرب الثلاثين سنة» وأعني بها نهب لوفان، وحرقها وحرق الآثار والتحف التي لا تثمن بنار انتقام التوحش الأعمى، فبأي دفاع كانت حكومة هذه البلاد وشعبها يدافعان أمام محكمة ضمير الأمم وقاضي الشرف، لو أغضينا عن عهودنا المقدسة وصبرنا على ما تقدم ولم نبذل جهدنا لمنعه والانتقام لهذه الفظائع التي لا تطاق؟! أما أنا فأفضل أن يمحى اسم بلادنا هذه من لوح التاريخ على أن أقف شاهدا صامتا يرى انتصار القوة على القانون والتوحش على الحرية.»
ونجتزئ باليسير عن الكثير مما أثبته شهود ثقة من تلك الفظائع؛ خشية السآمة والملل فمن ذلك ما قاله شاهد عيان: «لم أر بعدما تركت بلدة «فيرت سان جورج» إلا قرى التهمتها النيران، وقرويين في حالة الذهول والرعب الشديد وهم يرفعون أيديهم فوق رءوسهم علامة على خضوعهم، وقد رأيت أمام جميع المساكن حتى المحروق منها راية بيضاء ملقاة بين الأطلال بعد احتراقها.
وسألت في هذه البلدة بعض السكان عن السبب الذي حدا بالألمانيين إلى هذا الانتقام الفظيع فأكدوا لي بأن الأهلين لم يطلقوا عيارا ناريا واحدا عليهم؛ لأن الأسلحة كانت قد أخذت منهم قبلا، وأن الألمان انتقموا من السكان لأن نفرا من الضابطة البلجيكية قتل فارسا ألمانيا من فرقة اليوهلان، وقد فر السكان الباقون في لوفان أمام الجنود الألمانية والنار، واحتموا في ضواحي «هافرلي» حيث غص بهم المكان، ثم ابتدأت النيران في مكان غير بعيد من الكلية الأمريكية فدمرت البلدة كلها ما عدا دار المجلس البلدي ومحطة سكة الحديد، وما زالت النار ملتهبة حتى اليوم الذي سافرت فيه من لوفان ولم يبد الألمان أقل رغبة في إخمادها، بل زادوها ضراما بما كانوا يطرحونه فيها من القش لا سيما في الشارع الملاصق لدار المجلس البلدي، وأصبحت دار الكتب والملهى والكنيسة أطلالا دائرة وصارت المدينة خالية من الأنيس لا يمرح فيها إلا الجنود السكارى وفي أيديهم زجاجات الخمر والمشروبات الروحية، والضباط جلوس حول موائد الخمر يتعاطون أقداح الراح وجثث الخيل النافقة ملقاة في الشوارع، وقد دب فيها التعفن وانبعثت منها الروائح النتنة حتى عمت الآفاق.» •••
استاق الألمان إلى ميادين محطات لوفان 75 شخصا من بينهم جملة من علية القوم فيهم الأسقف كولوبت وقسيس إسباني وآخر أمريكي، وبعدما فرق بينهم وبين نسائهم وأولادهم عوملوا معاملة تشمئز منها النفوس الأبية، وهددوا مرارا بإطلاق النار عليهم وأكرهوا على السير أمام الجيوش إلى أن بلغوا قرية «كمبنهوفت» حيث حبسوا في الكنيسة طول الليل، ولما كانت الساعة الرابعة من الصباح جاءهم ضابط ألماني فأمرهم بأداء الفروض الدينية الأخيرة وتناول سر الاعتراف؛ لأنه كان قد تقرر إعدامهم بعد نصف ساعة، وفي الساعة الرابعة والدقيقة 30 من الصباح أطلق سراحهم ولكن لواء ألمانيا عاد فقبض عليهم وأكرههم على السير أمامه إلى مدينة مالين، وحدث أن أحد هؤلاء الأسرى سأل ضابطا ألمانيا عما يضمره الألمان لهم فأجابه بأن الألمان عقدوا النية على إذاقتهم طعم مدافع البلجيكيين السريعة الانطلاق أمام مدينة «أنفرس»، ولكن الألمان عادوا فأخلوا سبيلهم عشية يوم الخميس أمام أبواب مدينة مالين. •••
جرى قتال بين البلجيكيين والألمانيين في هيلن؛ فارتد البلجيكيون وخلفوا وراءهم بعض الجرحى ومنهم القومندان فان دام الذي كان ملقى على ظهره لا يعي شيئا من شدة ما أصابه من الجراح وما نزف من دمه؛ فتقدم إليه بعض الجنود الألمانيين وأفرغوا مسدساتهم في فيه فأجهزوا عليه. •••
هجم بعض المشاة البلجيكيين واثنان من رجال الجندرمة على الفرسان الألمانيين الذين كانوا محتلين قرية لنشو ولم يشاركهم في ذلك أحد من أهل القرية غير المحاربين، ومع ذلك فقد غزا الألمانيون تلك القرية في 10 أغسطس سنة 1914 بعد تخييم الغسق ودمروا مزرعتين بجوارها وستة بيوت في ضواحيها بقنابل المدافع وتركوها طعمة للنار، ثم دخلوا القرية وأمروا جميع السكان أن يخرجوا من منازلهم، ثم بحثوا فيها فعثروا على بعض البنادق، وكانت جميع الدلائل تدل على أنها كانت قد أطلقت قبل وصول الألمانيين إلى تلك القرية بمدة طويلة، ولكن الغزاة قسموا أهل القرية إلى ثلاث فرق، فرقة شدوا وثاقها ووضعوا أحد عشر من رجالها في خندق حفروه، وفي اليوم التالي وجد هؤلاء الرجال مقتولين قتلا فظيعا وعظام رءوسهم محطمة من ضربها بخشب بنادق الألمانيين. •••
ودخلت قوة كبيرة من الفرسان الألمانيين في ليل 10 أغسطس سنة 1914 أيضا قرية «فلم» وكان أهلها نياما فلم يعترضهم معترض ولا تحرش بهم أحد، ومع ذلك فإنهم أطلقوا النار على منزل المسيو دجليم جفرس، ثم دخلوه وحطموا أثاثه وسلبوا ما عثروا عليه من النقود وحرقوا مخازن الحبوب وجميع أدوات الفلاحة وكل ما في العزبة وقتلوا ستة ثيران، ثم حمل بعض الفرسان مدام دجليم وهي بثياب النوم إلى مسافة بعيدة عن القرية حيث خلوا سبيلها، وزودوها بعدما بعدت عنهم قليلا ببضعة طلقات من بنادقهم فلم تصبها، وحمل آخرون المسيو دجليم في جهة أخرى وأطلقوا عليه بنادقهم فأصابوه إصابات مميتة. •••
وشهد شهود عدول بما رأوه من الفظائع التي ارتكبها الألمانيون في قريتي أورزمايل ونيرهسبن قالوا: قبض الألمانيون على شيخ طاعن في السن في قرية نيرهسبن وجرحوه ثلاثة جروح بالغة في ذراعه قصدا، ثم علقوه بشجرة ورأسه مدلى إلى أسفل وأضرموا النار تحته فحرقوه حيا، أما في قرية أوزرمايل فقد فعلوا بالبنات والصبيان ما يندى منه جبين الإنسانية حياء وخجلا وشوهوا كثيرين من أهلها تشويها فظيعا لا يمكن وصفه، وكانوا قد التقطوا جنديا بلجيكيا من سلاح راكبي الدراجات مثخنا بالجراح فشنقوه في ساحة القرية، ورأوا في طريقهم إلى سان ترون جنديا آخر يعنى بجندي جريح فأمسكوه وربطوه إلى عمود تلغراف هناك وأعدموه بالرصاص، ثم عادوا إلى الجندي الجريح فأجهزوا عليه. •••
ودخل الألمان بلدة أرشوت بعدما كانت الجنود البلجيكية قد ذادت عنها في اليوم السابق - فلم يعترضهم أهلها ولا أطلقوا عليهم طلقا واحدا، بل إن الباقين القليلين منهم دخلوا منازلهم وأغلقوا أبوابها ونوافذها بحسب الأوامر العمومية التي أصدرتها إليهم حكومتهم، ولكن الألمانيين دخلوا تلك المنازل عنوة وأمروا من فيها بالخروج منها حالا، وأمسك الألمانيون في شارع واحد أول ستة رجال خرجوا من منازلهم وأعدموهم على مرأى من نسائهم وأولادهم، ثم غادروا البلدة يوما واحدا وعادوا إليها في اليوم التالي بقوة أكبر من قوتهم الأولى وأرغموا أهلها على الخروج من منازلهم، ثم ساقوهم إلى مكان بعيد عن البلدة نحو 200 متر حيث قتلوا المسيو تيالمانس المحافظ وابنه البالغ من العمر 15 عاما وكاتب المجلس البلدي وعشرة من أوجه وجوه البلدة، ثم عمدوا إلى البلدة فحرقوها وتركوها أطلالا بالية. •••
شهد القومندان جورج جلسون من الآلاي البلجيكي التاسع وهو طريح الفراش في مستشفى أنفرس بما يأتي، قال: أمرت أن أحمي ظهر جنودنا التي تقهقرت من أمام أرشوت وفي أثناء القتال الذي نشب بيننا وبين الألمانيين يوم الأربعاء 19 أغسطس سنة 1914 بين الساعة السادسة والثامنة صباحا أبصرت فجأة في الطريق العام التي كانت تفصل بيننا وبينهم، فإننا كنا نقاتل على مرمى قريب جدا - أربع نساء يحملن أربعة أطفال وابنتين صغيرتين ممسكتين بأطراف ثيابهن وهن مقبلات من أمام صفوف الألمانيين نحونا؛ فأمرت رجالي بالكف عن إطلاق النار فكفوا عن ذلك حتى دخلت النساء في صفوفنا، ولكن الألمانيين ظلوا يمطروننا وابلا من قنابل مدافعهم السريعة الانطلاق غير مراعين حرمة أولئك النساء والأطفال والبنات ولا ضعفهن وكوننا أبطلنا ضرب النار في هذه الحال كما يفرضه الواجب علينا وعلى كل محارب في قلبه ذرة من الشفقة والإنسانية، أما النسوة فكان يستحيل عليهن الوصول إلى أمام صفوف الألمانيين والسير في الطريق العام التي كن سائرات فيه إلا بإذن الألمانيين وسماحهم، ولكن جميع دلائل الحال تدل على أن الألمانيين قد ساقوا أولئك النسوة أمامهم واستخدموهن كترس تتقي به صفوفهم الأمامية نارنا، وبأمل أننا إذا رأينا نسوتنا وأطفالنا على تلك الحال نكف عن إطلاق النار عليهم. •••
في مقاطعة المارن: كان النهب عاما في مقاطعة المارن بإيعاز من القواد فلم يترك العدو شيئا ثمينا أو غير ثمين إلا نهبه وأرسله إلى المعسكر العام على الأوتومبيلات والمركبات وأضرم النار في مدن وقرى كثيرة بناء على أوامر القائد العام؛ ففي ليبين سأل المدعو كاكه اثنين من الجند المقيمين عنده؛ هل أنتما مرغمان على إضرام النار في منزلي؟ فقالا: لا لقد انتهينا من ليبين، وكانوا قد حرقوا عشرة منازل فيها فدل ذلك على أنهم كانوا ينفذون أوامر رؤسائهم. •••
نشرت الصحف صورة الضابط بويار باور مع نجله الضابط أيضا، وأغرب ما يحكى عنهما أن الوالد كان من جملة الهاجمين على مواقع الألمان في الخط المعروف بخط هندنبرج فعثر على جثة ضابط إنكليزي صدفة واتفاقا في أثناء هجومه، ولما تبينهما وجد أنها جثة ولده وكان يحارب في تلك الجهة قبله على غير علم من والده فتأمل حال ذلك الوالد. •••
لقي الألمان مقاومة عنيفة قبل دخولهم بلدة جريفيلد الجميلة فأخذوا ثأرهم من سكانها وقتلوا عددا كبيرا منهم لا يقل عن 150 نفسا وأضرموا النار فيها فلم يبقوا من 465 منزلا إلا عشرين منزلا فقط تصلح للسكنى - وخرجت السيدة ديهان من منزلها فرأت فصيلة ألمانية تسوق أمامها نيفا ومائة نفس من النساء والأطفال والشيوخ وسمعت الضابط يقول: يجب أن نعدم كل هؤلاء لكي لا يبقى حي وراءنا، وجاء جنود من الألمان إلى رب عائلة من أولاده الخمسة في غرفة من منزله وأضرموا فيها النار فأماتوهم جميعهم وفي 9 أغسطس 1916 زار خوري القرية ورئيسة الراهبات كنيسة القرية فوجدا المذبح منهوبا والكنيسة خالية من كل الأشياء الثمينة، والجنود التي ارتكبت هذه الفظائع في بلدة جريبفيلر هي فرقة البافاريين التي يقودها الجنرال كلوس المشهور بقساوته وفظاعته. •••
وارتكب الألمان في مقاطعة المارن فظائع شخصية عديدة؛ فإنهم أخذوا أناسا رهائن من كل القرى التي احتلوها ولم يرجع من هذه الرهائن إلا قسم قليل جدا؛ ففي قرية سارماز لابان اعتقلوا 150 رجلا وألبسوا قسما كبيرا منهم ملابس الجند الألماني وأجبروهم على المحافظة على الجسور (الكباري)، واعتقلوا أيضا ثلاثين رجلا وخمسا وأربعين امرأة وولدا في قرية بنيكور سوروسول وانقطعت أخبار هؤلاء المعتقلين واسمه إميل بيار، وقد وجد المدعو جاكه الذي اعتقلوه مع أحد عشر رجلا من قرية كور فليكس ميتا قربها، أما خوري شامبوي وخادمه والرهائن الآخرون الذين أخذوهم من قرية شامبوي فلا يعلم ما حل بهم ولم يرجع أحد منهم إلى القرية حتى يوم خروجنا منها، وقتل جندي ألماني ولدا بعزب فيرلاغرافيل ووجد حارس قرية غولت لافوره قتيلا في القرية التي اعتقله الألمان فيها، وحرق الألمان قرية «شامب غيون» وقتلوا فيها المدعو «فرديه» في منزله أمام والديه.
وقبضوا على المدعو بروكار وعلى ابنه في قرية سرماز وزجوهما في السجن أربعة أيام، ولما أطلقوهما كانت الجنود الألمانية قد قتلت زوجتيهما ورمت جثتيهما في الشارع. •••
وكان المدعو هافت المقيم في قرية سانت أندره قد استأذن الضابط الألمان في أن يحرس جثة امرأته التي قتلت في ذلك النهار فأذن له وصدر الأمر في المساء إلى جميع سكان القرية بالالتجاء إلى منازل أفرزوها ساعات معينة؛ فظن يافت أن هذا الأمر لا يسري عليه وتأخر في منزله إلى الساعة الحادية عشرة ، ثم خرج منه فوقفه الحرس وأعدموه في الحال رميا بالرصاص. •••
وأخبر الأب دتيس خوري قرية ريميرفيل أن ضابطا فرنسويا أصيب بجرح اضطره إلى الخروج من خط النار ولكنه بقي عرضة للجنود الألمانية فما مر جندي به إلا وخزه بحربة بندقيته حتى صار جسمه كله جرحا واحدا.
وجرى ذلك للجندي «فويه» من الفرقة ... ولكثيرين من الذين شاهدناهم وأكدوا لنا أنهم رأوا بعيونهم الألمان يقتلون الجرحى وأنهم قد نجوا من القتل بتماوتهم، وأطلق الألمان رصاص بنادقهم في عدة أماكن على الأطباء وعلى مستشفيات الصليب الأحمر أيضا. •••
وقد تلقينا في أثناء إقامتنا في نانسي ولونفيل أخبارا كثيرة عن فظائع الألمان في القرى التي لا يزالون فيها، وأفظع ما سمعناه عن قرية نيرنفيل إن الجنود الألمانية ذبحت بعض السكان من نساء ورجال وأطفال بحجة أنهم لم يخبروهم بحركات الجيش الفرنسوي، وكذلك يقتلون كل يوم في دومقر سور فوزوز وأراكور ويزون سورسيل راكور وغيرها من القرى التي كانت لا تزال بيدهم. •••
وأقام الأعداء في كومبيان فلم يمسوا القصر بسوء ولكنهم نهبوا منزل الكونت أورستي وأرسلوا الحلي والأواني الثمينة إلى بلادهم في مركبات الصليب الأحمر. •••
ونزلت هيئة أركان حرب الفرقة التاسعة عشر من فيلق هانوفر في منزل السيدة هيات في قرية تريمبلي فنهبوا منه حلي تقوم بعشرة آلاف فرنك، ولما شكت من ذلك إلى الكولونل قال إنني أتأسف جدا يا سيدتي ولكن هي الحرب، وقد نهب الضباط من هذه القرية مقدارا وافيا من النقود. •••
وشذ عن القاعدة «باكارات»: ولم يقتل العدو أحدا في قرية «باكارات» ولكنه نهبها برمتها بعدما أصدر الأوامر إلى السكان بالاجتماع في المحطة، ثم أضرم النار في بعض أنحائها، قال الجنرال فابريسيوس قومندان الطوبجية في الفيلق الرابع عشر البافاري إنه لم يكن يظن أن قرية صغيرة كباكارات تملك هذه الكمية من النبيذ لأن جنوده أخذت منها ما يزيد على مائة ألف زجاجة، وكان سلوك هذه الفرقة حسنا إذا قوبل بسلوك سائر الفرق الألمانية فإذا اشترت شيئا من القرية دفعت ثمنه بعدما تضطر البائع إلى إنزال خمسين في المائة من الثمن الأصلي. •••
طلب الألمان من المسيو شاردين رئيس البلدية حصانا وعربة فوعدهم بأنه يبذل جهده لإجابة طلبهم وما كاد ينطق بهذه الكلمة حتى وقع قتيلا، وقال المسيو برفو الصيدلي للجنود البافارية التي أرادت أن تنهب صيدليته أنه مستعد لإعطائهم كل ما يطلبونه ولكنهم أردوه قتيلا بثلاث رصاصات، وكان نساء هناك فرآهن الجنود الألمان وجعلوا يضربونهن إلى أن أوصلوهن إلى المحطة، وقد شاهدن في طريقهن جثثا كثيرة ملقاة في الشوارع وكلها من جثث سكان المدينة.
وفي الساعة الرابعة بعد الظهر دخل الألمان مخزن مدام فرنسوي فوجدوها مع ابنها وخادمها فقتلوا الابن والخادم معا.
وحدث في هذه البلدة حادث فظيع جدا وهو أن المدعو فاسه كان مختبئا في منزله مع بعض أصدقائه فأحاط الألمان بالمنزل من كل جهة وأضرموا فيه النار؛ فذعر المختبئون ولاذوا بالفرار ولكنهم كانوا يقتلون ساعة خروجهم من الدار؛ فقتل المدعو مونتره، ثم ابنه ليون وأخته وجاء دور عائلة كيافر فجرحت الأم في زندها وكتفها وقتل الأب والابن والابنة وقتل المدعو «ستريفر» وأحد أولاد فاسه، وأصيبت السيدة مانتره بثلاثة جروح، وقتل المدعو غليوم والشاب باسيمونين وأخته الصغيرة، وجاء ضابط ألماني في تلك الأثناء فأمر الأحياء بالخروج من المنازل، وقال لهم اذهبوا إلى فرنسا.
وكانت الجنود الألمانية تسوق السكان كالأغنام إلى خارج البلدة وتعدمهم رميا بالرصاص، وقد نجا خوري القرية بأعجوبة فأكد لنا أن الذين ارتكبوا هذه الفظائع هم جنود الفرقة الثانية والرابعة من المشاة البارفاريين. •••
وحرق الألمان 19 منزلا في مارفو وسبعة منازل أو ثمانية في غورت لافوري، وخربو قرية غلان برمتها وقرية تورب التي لم يبقوا فيها غير دار المحافظة والكنيسة ومنزلين آخرين، وأضرموا النار في قرية أوف فاحترق القسم الأكبر منها، وفي قرية أتربى لبثت 63 عائلة بلا مأوى. •••
وحرقت الجنود الألمانية الأبنية الجديدة - إلا خمسة منها - في قرية هويرون ولم تبق في قرية سرماز لايان إلا أربعين منزلا من تسعمائة منزل، وكذلك في قرية بينيكور سورسول فلم يبقوا إلا ثلاثة منازل، وأما بلدة سويب فحرقوها ولم يبقوا فيها حجرا على حجر.
وكان الجنود الألمان قبل أن يبدءوا بإضرام النار يطلقون سبيل الرجال في العراء، ثم يقولون إنهم لاذوا بالهرب ليجمعوا شملهم ويعيدوا الكرة علينا، وما شاكل هذه الأباطيل فيصدر ضباطهم - وهما عالمون بالحيلة - الأوامر بإضرام النار في تلك المدن والقرى. •••
التاريخ يعيد نفسه: إن من يتصفح صحف الأخبار في غضون الحرب السبعينية يرى جليا أن مخازي تلك الحرب وفظائعها لم تكن لتقل أذى عما ولي ذلك في الحرب العظمى، بل لم يوجد أدنى فرق يدل على ارتقاء الشعور الإنساني ارتقاء يسمو بالبشر إلى ذرى التمدن فيرفعهم عن المستوى الحيواني، ولقد يطول بنا المجال فيما لو تصدينا إلى نشر تلك الفظائع المطوية في بطون الأوراق، ولكنا نكتفي بذكر صداها بإثبات ما قالته بعض جرائد الفريقين أو آنذاك إشارة إلى إن الإنسانية لم تخط خطوة واحدة صحيحة في سبيل الإقلاع عن الفطرة الهمجية رغما عما تلتحف به من نعومة الملابس ولين الملامس.
قالت ألستنذرد في ديسمبر 1870: «إن البروسيين لم يكتفوا بفرض الضرائب والمغارم الثقيلة على المدن والقرى بل كانوا يهجمون على أملاك العامة ويمعنون فبها نهبا وسلبا وحرقا، ولهؤلاء القوم جشع عظيم في نهب الساعات والمجوهرات والحلي حتى فساطين النساء وثياب الأولاد وكانوا يجمعونها ويرسلونها إلى بلادهم، وقلما نجت قرية من النهب وأضرموا النار في الأبنية الأثرية والكنائس وذبحوا عددا كبيرا من الأسرى بلا شفقة ولا رحمة، وكانوا يجمعون الأهالي من غير الجنود ويضطرونهم إلى حفر الخنادق وترميم الحصون والجسور ويرهقونهم عذابا ومن يتأخر عن العمل كانوا يطلقون عليه الرصاص إرهابا لسواه.
وأرغموا أرباب الصحف أن يكتبوا متخنين في مدحهم والإطناب في عدلهم ومن لم يفعل يقفلون جريدته ويزجونه في غياهب السجون.»
ونشرت هذه الجريدة في موضع آخر في 29 نوفمبر سنة 1870 رسالة من أحد مكاتبيها قال: «إن أهل هولندا أرسلوا إلى فرسايل مستشفى نقالا مستكمل المعدات والأسرة والأدوية لمداواة الجرحى من البروسيين والفرنسويين معا، فاستلمه وكيل السفارة الهولندية وجعله في المدينة إلا أنه بعد معركة شامبيني هجم الضباط البروسيون على المستشفى وألقوا مرضى الفرنسويين وجرحاهم على الأرض ووضعوا جرحاهم على الأسرة مكانهم، فأقام المسيو فان دور ويلد وكيل هولندا الحجة على هذا الاعتداء، وقال إن الهولانديين تبرعوا بهذا المستشفى لجرحى الفريقين فلا يجوز أن يختصه فريق منهم لنفسه وأن ذلك مغاير لحقوق الإنسانية.
وهذا كان جواب الجنرال البروسي: «ولنا حق بأن نطرد كل الفرنسويين والهولنديين بنار بنادقنا.»
وأما المعتمد فسافر إلى الهاي مقيما الحجة على هؤلاء البرابرة.»
وقالت المورننج بوست: «إن أعمال الألمان في فرنسا ليست مما يستحق المدح، لا ننكر انتظام الجنود ودراية ضباطهم وحسن حركاتهم الحربية ولكن ما استعملوه من الفظائع والتوحش من الأهالي والأمور المخلة بحقوق الإنسانية والمعادات الدولية على ما رواه مكاتبونا الحربيون الكثيرون في تقاريرهم يجعلنا نحقر أعمالهم ونلقي تبعة الفظائع التي ارتكبها جنودهم على ضباطهم ورؤسائهم بعدما أطلقوا لهم العنان في السلب والنهب وحرق القرى وقتل الجرحى والأسرى، وفي اعتقادنا أن الحرب واقعة بين أمتين أوروبيتين راقيتين في الحضارة فكيف تبدلت الجيوش الألمانية ورجعت القهقري وتمثلت بعواطف التوتون أسلافها تلك العشائر التي جعلت أوروبا خرابا منذ ألف سنة، نعم إن جنود غليوم هي المنتصرة ولكن التاريخ سيجعل لها اسما محتقرا وسمعة مثلومة من جراء أعمالها البربرية وفظائعها الوحشية، ولا بد أن يحكم التاريخ حكما صارما على التاج الإمبراطوري الذي اكتسبه غليوم بما فعله جنوده.» •••
شهادة الجرائد الألمانية عينها: قالت الجريدة الألمانية بوباختر في 29 ديسمبر 1870: علمنا أن جنودنا المظفرة قبضت في نواحي باريس على 25 نفرا من الفران تيرار وجدتهم مختبئين في إحدى الغابات، ولما سأل الضابط قائده ماذا يفعل بهم قال له اعدمهم بالرصاص فامتثل، وكان بينهم شاب لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره يرتعش خوفا وجزعا من الموت ودموعه على خده، فارتمى على رجلي الضابط طالبا منه الرحمة والعفو بكلمات تفتت القلوب وأنه وحيد والديه حتى تحركت عواطف الحنان والشفقة في قلب الضابط، فلما أطلق الرصاص على الفتى وقع الضابط مغمى عليه وجن على إثر هذه الحادثة.
وقالت الغازت دي فوس التي تصدر في برلين، وكانت من أعظم الجرائد شهرة: «لقد عاقبنا نوجان عند وصولنا إليها بأشد عقاب وأخذنا حاكمها وكهنتها ووجهاءها رهائن عندنا، ولكن علمنا أن جنودنا لم تسلك مسلك العدل والشرف والإنسانية مع الأهالي غير المتجندين.»
وقالت جريدة الأنسيجروس نورمبرج: «يجب أن نسحق كل بلد فيها روح التمرد ونجعلها كنوجان عبرة لمن اعتبر! فقد قذف الجنود عليها 180 قنبلة وهدموا فيها 260 منزلا عدا ألوفا من القتلى والجرحى.»
ونشرت جريدة فلوكس زيتونغ رسالة وردت من أحد الضباط الألمان إلى أبيه:
أبي المحترم
إن نانسي مدينة عامرة زاهرة غير أن أهلها أشرار يترصدون جنودنا والخفر الساهر لحراستنا ويطلقون الرصاص عليه ليلا، وقد أطلقوا الرصاص بالأمس على أحد الحراس والحمد لله لم يقتل بل جرح في رجله، فألقينا القبض على بعض أعضاء زمرة الدفاع من الأهلين وعددهم مائتا نفس وأرغمنا كل واحد منهم أن يحفر قبره بيده وأن يدفن رفيقه المقتول، ثم يعدم بالرصاص في دوره إلى أن أعدمناهم جميعا على هذه الصورة فيا لهول المنظر!
وكتب أحد الألمان المدعو هانس واشهازون إلى جريدة كولونيا الألمانية وهي من الجرائد المعتدلة ما يأتي: «منذ دخولنا إلى الأراضي الفرنسوية صرنا لصوصا حقيقيين وقطاع طرق في السلب والنهب والحريق والقتل، وصارت كل البلاد والقرى التي مررنا بها خرابا قفرا وبعضها لم يبق لها أثر، وترى الأهلين في الحقول أو على أبواب بيوتهم الخربة يرتعدون فرقا ويركعون أذلاء أمامنا طالبين أن نسد جوعهم بشيء من الخبز والطعام، بل ترى مدنا كثيرة قد درست معالمها ونفدت مئونتها وأهلها يتضورون جوعا، ويتسولون والشيوخ والنساء والأولاد ينظرون إلى جنودنا بيأس حين توزيع المآكل عليهم من دون أن يحصلوا على كسرة من الخبز لحمل أطفالهم على الكف عن البكاء والعويل، وقد حرقنا بالأمس قريتي فياتو وبونيفال لأن أهلها قتلوا ليلا جنديا من جنود الحرس الليلي.» انتهى. •••
الريال المزيف: ومن آفات الجوع القتال حادثة «الريال المزيف» التي وقعت في السنة الثانية من الحرب، وقد تداولتها الألسنة فأفرغها بشارة أفندي الخوري صاحب جريدة البرق البيروتية في القلب الشعري الذي تراه:
ويح الفقير فما تراه يلاقي
سدت عليه منافذ الأرزاق
عصفت به وبسربه ريح الشقا
فتساقطوا كتساقط الأوراق
فإذا بصرت به عجبت لشمعة
كالزعفران تجول في الأسواق
علق المجاعة مص بعض دمائه
وتعسف الحكام مص الباقي •••
أخذ الشقا يدها فسارت خلفه
والليل ممدوح على الآفاق
سارت فماس الخيزران بقدها
ورنت فذاب البحر في الأحداق
وتلوح آثار النعيم بخدها
كالفجر قبل تكامل الإشراق •••
أخذ الشقا يدها فإن هي فكرت
بمصيرها صعقت من الإشفاق
ووهت عزيمتها فألقت نفسها
فوق الثرى وشكت إلى الخلاق
تشكو بمدمعها وذل فؤادها
وبما تحس به من الإحراق
يا رب! قالت وهي جاثية له
إن شئت حل من الحياة وثاقي •••
قد عشت عمري ما عرفت بريبة
وعبدت بعدك عفتي وخلاقي
والآن والأيام ملأى بالأذى
قد أصبحت وقرا على الأعناق
زوجي يحارب في التخوم وطفلتي
فوق الفراش تزيد في إرهاقي
من أمها تبغي الغذاء لجسمها
من أمها تبغي الدواء الواقي
وطرقت أبواب الكرام فأوصدوا
أبوابهم فرجحت بالإخفاق •••
سام الفتى عرضي فيا لك من فتى
كاس الغنى عار من الأخلاق
هب أن أختك والزمان أصابها
مثلي أصابت سافل الأعراق
أفكان سرك أن ترى إحسانه
ثمن العفاف لضمة وعناق
خفف على عنقي الضعيفة واتئد
إني رأيتك آخذا بخناقي
إن الريال غنى ولكن عفتي
فوق الغنى ونفائس الأعلاق •••
أأصون عرضي؟ وابنتي؟ وحياتها
وعلاجها يحتاج للإنفاق
أنا إن أعف قتلتها فعلام لا
تحيى بماء تعففي المهراق
لا! لا تموت فإنها لبريئة
حسناء ما شبت عن الأطواق
إني مفارقة ابنتي أو عفتي
فعلى كلا الحالين مر فراق
والذنب للأيام في حدثانها
والذنب للأخلاق غير رواقي •••
رباه حلمك فالمصائب جمة
وأنا بواحدة يضيق نطاقي
لو شئت موتا لابنتي لأخذتها
وجعلت طهري قدوة لرفاقي
لكن أردت بقاءها وأردت لي
فقري، أتظمئني وأنت الساقي
ستعيش بنتي وليكن ما شئته
ستعيش لكن من لهى العشاق •••
ومشت لموعده بماء جفونها
القرحى وجمر فؤادها الخفاق
لو صوروا اللؤم الذميم فمثلوا (ذاك الفتى) عدوا من الحذاق
ترعى السفالة في مجاهل قلبه
وتطل إن شبعت من الآماق
ومتى يحاول حجب مكنوناته
يلبس محياه حجاب نفاق
قنص الفتاة بفقرها وشقائها «وبما تكابد من أسى وتلاقي»
حتى إذا اختليا انثنى بوصالها
وقد انثنت برياله البراق •••
رجعت وفي يدها الريال ورأسها
لحيائها متواصل الإطراق
وكأنها خطرت لها ابنتها وما
تلقاه من ألم الطوى المقلاق
فأصابها مثل الجنون فتمتمت
بشراك إني عدت بالترياق
هو ذا الريال فإنه نعم الذي
يهب الشفاء لنا ونعم الواقي
هو ذا الريال، وقد تألق - ماحق
دجن الهموم، وقد أردن محاقي •••
هو ذا الريال ولم يكن لولا ابنتي
ليسومني نكرا على الإطلاق
ومضت إلى الطباخ تلجم ما بها
لفتاتها من لاعج الأشواق
قالت وأدته الريال ألا اعطني
بعض الغذا واردد علي الباقي
أسرع فإنك إن تؤخرني تذق
من جوعها بنتي أمر مذاق •••
نقف الريال بإصبعيه وجسه
وانهال بالإرعاد والإبراق
قبحا لوجهك ... ... ... ... ... ... سيدي أتسبني
عفوا وتحسبني من السراق؟
لا فالريال مزيف ... ... ... ... ... ... أمزيف؟
صاحت وقد سقطت من الإرهاق
سقطت على قدم الشقا فبكت لها
عين العلى ومكارم الأخلاق
وبكى عفاف الآنسات عفافها
خلل السجوف بمدمع مهراق
يا طير عفتها فديتك طائرا
هلا حذرت حبائل الفساق •••
طلعت عليها الشمس وهي سجينة
وفتاتها ضيف على الأسواق
أما الأثيم فلا تزال شباكه
منصوبة لنواعس الأحداق
يسقي الرحيق بأكوس ولواحظ
والله يكلأ وهو نعم الواقي •••
لسان حال بعض الدول:
ملأنا البر حتى ضاق عنا
وماء البحر نملؤه سفينا
إنكلترا
على إنني راض بأن أحمل الهوى
وأخلص منه لا علي ولا ليا
أمريكا
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه
قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
النمسا
بقدر الصعود يكون الهبوط
فإياك والرتب العالية
ألمانيا
لم أدر حين وقفت بالأطلال
ما الفرق بين جديدها والبالي
روسيا
إذا لم يسالمك الزمان فحارب
وباعد إذا لم تنتفع بالأقارب
تركيا
قد بعت بيتي وحماري معا
فبت لا فوقي ولا تحتي
الجبل الأسود (تم الكتاب)
صفحه نامشخص