ولما تنازل المحامي المشار إليه عن الدفاع عنه، قال حافظ إنه سيدافع عن نفسه بنفسه، وإنه في غنى عن جميع المحامين، فأظهر في مرافعته اقتدارا غريبا حتى أعجب به البعض وبكى الآخرون.
ومما يروى عن محاكمته أنه جيء بشاهد إثبات كان قبل القبض على حافظ نجيب محسوبا عليه، فشهد شهادة تثبت الجرم على حافظ، وعند ذاك التفت رئيس المحكمة إليه وقال: «وما قولك الآن في شهادة هذا الرجل الذي طالما غمرته بإنعامك؟»
فأجابه حافظ لساعته: لقد كنت إلى ما قبل اليوم ماديا لا أعرف ما هي الأديان ولا أعترف بالأنبياء الأطهار، أما الآن فقد عرفت أن نبينا محمدا نبي كريم إذ قال: «أبت النفس الخبيثة أن تخرج من جسم صاحبها قبل أن تسيء إلى من أحسن إليها.»
وقد جاء هذا الحديث الشريف مصداقا لما ورد عن ذلك الشاهد، فدهش القضاة والسامعون من قوة عارضته وسرعة بديهته.
غير أن ذلك الذكاء لم ينقذ حافظا من السجن، فحكم عليه بالنزول فيه عامين كاملين، فرضخ راغما لأحكام القضاء وسيق إلى سجن الحضرة لقضاء تينك السنتين.
وما شعر بغيابة السجن، وما لحق به من الهون بعد ذلك الحكم حتى كتب إلي كتابا مطولا يندب فيه سوء حظه، وكأنه عز عليه أن يعترف بخطئه الذي أثبته القضاء، فقال: «وإنني - وحرمة الحق - بريء من كل ما عزي إلي من النصب أو التبديد، ولكن هي الظروف صورتني للقضاء مبددا محتالا.» «هو الحب أنزلني منزل الشقاء، وكم لهذا الحب من ضحايا!» •••
ولاح لي من كتبه العديدة التي أرسلها إلي من سجن الحضرة أن السجن لم يؤثر عليه كثيرا إلا في الأيام الأولى فقط، ثم تعود على سكناه بعد ذلك فأخذ يمرح فيه كأنه في قصر مشيد تحيط به الحدائق الغناء.
ومن نوادره في سجن الحضرة أنه كان يضع الخبز في إناء الماء الخاص به، حتى إذا اهترأ صنع منه جوزة أو شيشة وأهداها إلى المغرمين من ساكني السجن بشرب التنباك أو الحشيش.
ولا ريب في أنه لم يكن يقصد من عمل هذه الأركيلة إلا أن يظهر للمسجونين أنه على جانب عظيم من الدهاء حتى ينال شهرة ذائعة بينهم، وهذه الشهرة هي الضالة الوحيدة التي ينشدها في هذه الحياة مهما عرض له في سبيلها من المصائب والعثرات.
ومن نوادره أيضا حصوله على ورق أميري من أوراق السجن وإرساله الخطابات العديدة منه بطريق البريد، وتأليفه الرواية التي نشرها في كتاب نابغة المحتالين مع أن نظام السجن يمنع المسجونين من الكتابة على الإطلاق.
صفحه نامشخص