بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: نتائج الفكر في النَّحو للسُّهَيلي
المؤلف الإمام / أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السُّهَيلي (المتوفي ٥٨١ هـ)
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة الأولى: ١٤١٢ - ١٩٩٢ م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
* * *
من لطائف هذا الكتاب
قال المؤلف ﵀:
مسألة
واستشهد أيضا بقوله سبحانه:
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)
وفي هذه الآية ضروب من الأسئلة، منها أن يقال:
ما فائدة البدل في الدعاء، والداعي مخاطب لمن لا يحتاج إلى البيان، والبدل
يقصد به بيان الاسم الأول؟
ومنها أن يقال: ما فائدة تعريف الصراط المستقيم بالألف واللام، وهلَّا أخبر
بمجرد اللفظ دونهما، كما قال: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢)، وكما قال: (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) .
ومنها أن يقال: ما معنى الصراط؟
ومن أي شيء اشتقاقه؟ ولم جاء على وزن فعال؟
ولم ذكر في أكثر المواضع في القرآن بهذا اللفظ.
وذكر في سورة الأحقاف بلفظ الطريق، فقال: (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)؟
ومنها أن يقال: ما الحكمة في إضافته إلى (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)
بهذا اللفظ، ولم يقل: النبيين ولا الصالحين، وجاء باللفظ مبهمًا غير مفسر؟
ومنها أن يقال: لم عبر عنه بلفظ " الذين " موصولة بصلتها، وقد كان أوجز
وأخصر أن يقال: المنعم عليهم، إذ الألف واللام في معنى الذي، كما قال:
(المغضوب عليهم) ولم يقل: " الذين غضبت عليهم؟ ".
ومنها أن يقال: لم وصفهم بـ (غير)، وقد كان الظاهر أن يقول هاهنا
" لا المغضوب عليهم "، كما تقول: " مررت بزيد لا عمرو، وبالعاقل لا الأحمق ".
ومنها أن يقال: لم استحق اليهود دون النصارى اسم المغضوب عليهم.
والمغضوب عليهم أيضًا النصارى؟
ولم استحق النصارى اسم (الضالين)، وقد ضلت اليهود؟
ومنها أن يقال: لم قدم (المغضوب عليهم) على (الضالين) في اللفظ؟
ولم جاء لفظ (الضالين) على وزن " الفاعلين "، ولم يجئ على وزن
" المفعولين "، كماجاء ما قبله، من قوله تعالى: (المغضوب عليهم)
ومن قوله: (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، لأن معناه: المنعم عليهم، بلفظ المفعول؟.
ومنها أن يقال: ما فائدة العطف بـ " لا " من قوله: (ولا الضالين) .
ولو قال: (الضالين)، لما اختل الكلام، وكان أوجز؟
ولم عطف بـ " لا "، وهي لا يعطف بها
مع " الواو " إلا بعد نفي، ولو كانت وحدها لعطف بها بعد إيجاب، كقولك: مررت بزيد لا عمرو؟.
والجواب عن السؤال الأول، وهو: ما فائدة البدل في الدعاء؟
أن الآية وردت في معرض التعليم للعباد الدعاء، وحقُّ الداعي أن يستشعر عند دعائه ما يجب عليه اعتقاده مما لا يتم الإيمان إلا به.
إذ " الدعاء مخ العبادة ".
والمخ لا يكون إلا في عظم، والعظم لا يكون إلا تحت دم ولحم، فإذا وجب إحضار معتقدات الإيمان عند الدعاء، وجب أن يكون الطلب ممزوجًا بالثناء، فمن ثم جاء لفظ الطلب: للهداية ولفظ الرغبة مشوبا بالخير تصريحًا من الداعي به بمعتقده، وتوسلًا من الداعي بذلك
المعتقد إلى ربه، فإذا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) .
والمخالفون للحق يزعمون أنهم على الصراط المستقيم أيضا، والداعي يجب عليه اعتقاد خلافهم وإظهار الحق الذي في نفسه، فلذلك أبدل وبين ليمرن اللسان على ما اعتقده الجنان، فأخبر مع الدعاء أن الصراط المستقيم هو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين.
لا من خالفهم من الكافرين.
وأما تعريف (الصِّرَاط) بالألف واللام، فإن الألف واللام إذا دخلت على اسم موصوف اقتضت أنه أحق بتلك الصفة من غيره، ألا ترى قولك: جالس فقيها أو عالما، ليس كقولك: جالس الفقيه أو العالم؟
ولا: أكلت طيبًا، كقولك: أكلت الطيب؟
ألا ترى إلى قوله ﵊:
" أنت الحق ووعدك الحق "، ثم قال: " ولقاؤك حق والجنة حق، والنار حق "، فلم يدخل الألف واللام على الأسماء المحدثة، وأدخلها على اسم الباري ﷾ وما هو صفة له، وهو القول والوعد.
فإذا ثبت هذا فلو قال: " صراطًا مستقيمًا " لكان الداعي إنما يطلب الهداية على صراط مستقيم على الإطلاق، وقد علم أنه على صراط مستقيم وهو الإسلام، فإنما يطلب ما هو أقوى من طريقته التي هو عليها في علمه، لأن كل فريق من المسلمين
مستقصر لنفسه في العمل، وراغب إلى ربه، في التوبة والهداية إلى الأفضل، حتى ينتهي الأمر إلى محمد ﷺ فيقولها أيضًا، لأنها أخوف لربه، وأكثر استقصارًا لعمله، وكان يستغفر ربه ﷿ ويتوب إليه في اليوم مائة مرة، وقال في الحديث:
" نظرت إلى جبريل كأنه حلس لاط، فعرفت فضل عمله علي ".
فإن قيل: فقد قال تعالى لنبيه ﷺ: (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) وقد كان على الصراط الأقوم، فضلًا عن صراط مستقيم على الإطلاق؟
فالجواب: أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية، وكان المسلمين قد كرهوا
ذلك الصلح ورأوا أن الرأي خلافه، وكان الله ورسوله أعلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلم يرد صراطًا مستقيمًا في الدين، وإنما أراد صراطًا مستقيمًا في الرأي والحرب والمكيدة وقوله تعالى:
(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
أي: تهدي من الكفر والضلال إلى صراطٍ مستقيم.
ولو قال في هذا الموطن: " الصراط المستقيم "، لجعل للكفر والضلال حظًا من الاستقامة، إذ الألف واللام تنبئ أن ما دخلت عليه من الأسماء الموصوفة أحق بذلك المعنى مما تلاه في الذكر، أو ما قرن
به في الوهم، ولا يكون أحق به إلا والآخر فيه طرف منه.
وأما اشتقاق الصراط فمن " سرطت الشيء أسرطه "، إذا بلعته بلعًا سهلًا.
فالصراط هو الطريق السهل القويم، وجاء على وزن " فعال "، لأنه مشتمل على سالكة اشتمال الحلق على الشيء المسروط، وهذا الوزن كثير في المشتملات على الأشياء كاللحاف والخمار والرداء، وكذلك الشكال والعنان، إلى سائر الباب.
وأما ذكره بلفظ (الطريق) في سورة الأحقاف خاصة، فلأنه انتظم بقوله
سبحانه: (سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) .
وإنما أراد أنه سبيل مطروق قد مرت عليه الرسل قبله، وأنه ليس ببدع، كما قال في السورة نفسها، فاقتضت البلاغة والإعجاز لفظ " الطريق "، لأنه " فعيل " بمعنى " مفعول ".
أي: إنه مطروق مشت عليه الرسل والأنبياء قبل، وليس في المواضع الأُخر ما يقتضي هذا المعنى.
فكان لفظ الصراط بها أولى، لأنه أمدح من جهة الاشتقاق والوزن كما تقدم.
وأما إضافته إلى اللفظ المجمل، ولم يقل: " صراط النبيين والصالحين ".
فلفائدتين: إحداهما: نفي التقليد عن القلب، واستشعار العمل بأن من هدي إلى هذا الصراط فقد أنعم عليه، ولو ذكرهم بأعيانهم لم يكن فيه هذا المعنى.
والفائدة الأخرى أن الآية عامة في طبقات المسلمين مسيئهم وصالحهم.
والمسيء لا يطلب درجة العالي حتى ينال التي هي أقرب إليه، ولفظ
(الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يشمل الجميع، وجميع المأمورين بهذا الدعاء يطلب صراط الذين أنعم الله عليهم، وهم أصناف، كما أن السائلين لدرجاتهم أصناف.
وأما قوله تعالى: (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، ولم يقل: " المنعم عليهم "، فلأن
ذكر نعمة المنعم والثناء بها عليه وذكر النعم شكر، وإبراز ضمير الفاعل العائد على الله سبحانه من قوله: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ذكر لله تعالى باللسان والقلب، ولو قال: " المنعم عليهم " لخلا هذا اللفظ من هذه الفوائد المقرونة بالدعاء، وهي الشكر والذكر، ألا ترى إلى قول إبراهيم ﵇: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ)؟
فأضاف الفعل إلى ربه، ثم قال: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) .
ولم يقل: " أمرضني "، كما قال: (يُطْعِمُنِي)، إذ ليس في قولك
" أمرضني " إلا الإخبار المجرد عن الشكر والثناء، وربما اقترن به تسخط وتضجر، فعدل عنه إلى قوله: (مَرِضْتُ) .
ولذلك قال سبحانه: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ولم يقل:
" الذين غضبت عليهم "، إذ ليس في الإخبار عنه بالغضب من الشكر والإحسان ما في قوله: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)؟
فكان اللفظ الوجيز أولى.
ولفائدة أخرى وهي أن الغضب صفة ينبغي للعبد أن يشترك فيها مع الرب
فيغضب لغضب الله تعالى، فاليهود قد غضب عليهم لغضب الله وجميع المؤمنين، فاستشعر الداعي هذا المعنى فلم يقل: " الذين غضبت عليهم ".
إذ لو قال ذلك لأخرج نفسه عن أن يغضب لغضب الله، كما أخرج نفسه عن أن ينعم، وأفرد الرب بالإنعام فقال: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) .
وفائدة أخرى، وهو أن الألف واللام في (المغضوب)، وإن كانت بمعنى
" الذين " فليست مثلها في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات الاسم، فإن قولك: " الذين فعلوا " معناه: القوم الذين فعلوا، وقولك:
" الضاربون والمضربون " ليس فيه ما في قولك " الذين ضَرَبوا أو ضُرِبوا "، وإذا صح هذا وتأملته فالذين أنعمت عليهم بلفظ (الذين) إشارة إلى تعرفهم بأعيانهم، وتعرفهم من الدين ولا سيما النبيين.
بخلاف من غضب الله عليهم فوجب الإعراض عنهم وترك الالتفات إلى ذاتهم، فاقتصر على الصفة المذمومة دون أن يعينوا بالذين.
وأما قوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) نعتًا للذين، ولم يقل: " إلا الغضوب عليهم "
فلفائدة وهو أن اليهود والنصارى يدعون أن الله - تعالى - أنعم عليهم بالكتابين، وأنهم على الصراط المستقيم، فبين سبحانه أن الذين أنعم عليهم هم غير المغضوب عليهم، وهم اليهود، ولم يقل اليهود، " تجريدًا للفظ، ليخرجهم بذكر الغضب عن صفة المنعم عليهم، وكذلك الضالين.
وقد تقدم في باب العطف ذكر " لا " في هذا الموضع، وأنها تعطي العطف بعد
إيجاب فلو عطف بها هاهنا لم يكن في الكلام أكثر من نفي إضافة الصراط إلى اليهود والنصارى، فلما جاء بغير، وهي اسم ينعت بها، زاد في الكلام فائدة الوصف والثناء للذين أنعم عليهم.
وأما استحقاق اليهود لهذا الاسم فلنزول غضب الله بهم في الدنيا، لتسليطه
الملوك عليهم وانتزاع الملك منهم، كما قال تعالى:
(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) .
فمن حيث أخبر عنهم أنهم قد باؤوا بغضب سماهم (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) .
وأما تقديمهم على (الضالين) فقد تقدم من أصول التقديم في باب العطف ذكر التقديم بالزمان، وذكر التقديم بالرتبة.
واليهود متقدمون بالرتبة والمكان، لأنهم كانوا مجاورين لرسول الله ﷺ وللمخاطبين بالآية.
وأقرب إليهم (ذكرًا) من النصارى.
وأما ذكر (الضالين) بلفظ " فاعلين "، ولم يرد بلفظ المفعولين، لئلا يكون
كالعذر لهم، وإنما ينبغي أن يخبر عنهم باكتسابهم ضلالهم، لا بإضلال الله ﷿ إياهم وأما فائدة العطف بلا مع " الواو " فلتأكيد النفي الذي تضمنه (غير)، فلولا ما فيها من معنى النفي لما عطف بلا مع " الواو ".
وفائدة هذه التوكيد أن لا يتوهم أن " الضالين " داخل في حكم
(الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)، أو وصف لهم، ألا ترى أنك إذا قلت:
" ما مررت بزيد وعمرو "، توهم أنك إنما تنفي الجميع بينهما خاصة، فإذا قلت: " ما مررت بزيد وعمرو "، علم أنك تنفي
الفعل عنهما جميعًا، على كل حال من اجتماع وافتراق؟
* * *
1 / 24
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة المصنف
رب يسر يا كريم
قال الشيخ الفقيه الأستاذ العلامة، أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن
(أحمد بن أبي) الحسن الخثعمي ثم السهيلي - رحمة الله تعالى عليه، آمين -:
بحمد الله نفتتح كلامنا، وبنعمته نستديم سلامتنا وإسلامنا، وإليه بتوفيقه نوجه رغبتنا واستسلامنا، ولعله أن يحفظ بمنِّه من فضول البطالة ألسنتنا وأقلامنا، ويغسل من غباوة الجهالة وغبرات الضلالة آراءنا وأحلامنا. ونسأله أن يصلي على محمد نبيه الذي نور بحبه قلوبنا، وشحذ بنوره أفهامنا، كما شرف بدينه عوامنا، وفضل باتباع آئاره أعلامنا.
أما بعد، فإني رأيت اقتباس أنوار الحكم أولى ما صرفت إليه حكمات
الهمم، وأشرف ما عنيت به الأمم، وأنفس ما ثنيت إليه سوالف الآمال من بعد ومن أمَم، فكن أيها الطالب للأشرف ممن كرع في بحره وغرف، وإلا كنت قمامة لغرف، فقيمة كل امرئ ما يحسنه، وذو العلم رفيع وإن مُني بحاسد يلسنه.
فبدار بدار قبل الفوت، فإنما العلم حياة والجهل موت، قال الله سبحانه
1 / 25
وتعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) .
ثم قال من سدد في المقال:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... فأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرًا لم يحيى بالعلم ميت ... فليس له حتى النشور نشور
وكل علم - وإن تميز حامله عن البهيمة - فليس العلم الذي يلبس طالبه أكرم شيمة، ويحيى فؤاد صاحبه كما تحيى الديمة الهشيمة - إلا ما أودع الله ﷿ كتابه العلي من أنوار المعارف، وتضمنه كلام النبي العربي - ﷺ من الفوائد واللطائف، فذلك العلم الذي ينهض حامله إلى أعلى المراتب، ويأخذ بضبع طالبه
حتى يقعده على هام الكواكب، ويكشف عن بصر فؤاد صاحبه فينزهه في رياض البدائع والعجائب.
ثم لا يطمع في الاستبصار والاستكثار من فوائده ونضاره.
والاستبحار في فنون فوائده ومباحث أغواره إلا بعد معرفة باللسان الذي أنزل به القرآن، ولغة النبي ﷺ الذي أحلنا عليه في البيان، فإنه ﷾ يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) .
وقال سبحانه: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) .
فإذا كانت صناعة الإعراب مرقاة إلى علوم الكتاب، لا يتولج فيها إلا من
أبوابه ولا يتوصل إلى اقتطاف زهراتها إلا بأسبابه فواجب على الناشئين تحصيل
أصولها، وحتم على الشادين البحث عن أسرارها وتعليلها.
وقد عزم لي بعد طول مطالبة من الزمان، ومجاذبة لأيدي الحدثان، وأمراض
همة لا تغب، وزمانة مرض تنيم الخاطر فلا يهب - على جمع نبذ من نتائج الفكر، اقتنيتها في خلس من الدهر، معظمها من علل النحو اللطيفة، وأسرار هذه اللغة الشريفة.
فالآن حين أردت زفافها إلى أسماع الطالبين، فإن لم يكونوا لأبكارها خاطبين،
1 / 26
ولا في نفائسها بحكم هذا الزمن النائم أهله راغبين.
ومقصدنا أن نرتبها على أبواب كتاب (الجمل) (١) لميل قلوب الناس إليه، وقصرهم الهمم عليه.
والله المعين على ما يقرب منه ويزلف لديه، وإياه في كل حال نستخير.
وبوجهه من كل ما يسخطه ويباعد منه نستجير، وهوحسبي ونعم الوكيل.
_________
(١) وهو كتاب مشهور قد نال من عناية أهل العلم فتعددت شروحه وهو لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي.
1 / 27
مسألة
في إضافة الاسم إلى الله ﷿
والإضافة ثلاثة أقسام: إضافة ملك كقولك: كلام زيد، وإضافة ملابسة
ومصاحبة كقولك: سرج الدابة ونحوه، وإضافة تخصيص وهو أن تخصص الاسم بإضافته إلى وصله أو إلى لقب علم، كقولهم: زيد بطة، وفي الوصف: مسجد الجامع، و(جانب الغربي) .
وفي الحقيقة إضافة الشيء إلى نفسه محال، لا بد أن يكون المضاف غير
المضاف إليه، ولكن الصفة أفادت معنى ليس في الموصوف، فصرت كأنك تضيف إلى ذلك المعنى، وفي اللقب إنما تضيف المسمى إلى الاسم الثاني، وهو اللقب، فمعنى (زيد بطة) أي: صاحب هذا اللقب.
فإن قيل: فهلا جاز ذلك في جميع النعوت حتى يقال: زيد القائم، كما تقول: مسجد الجامع؟ .
1 / 28
قلنا: إنما فعلت العرب هذا في الوصف المعرفة اللازم للموصوف لزوم اللقب
في الأعلام وأما الوصف الذي لا يثبت كالقائم والقاعد ونحوه فلا يضاف الموصوف إليه، لعدم الفائدة التي قدمنا ذكرها في " زيد بطة "، وهي أنك تريد إضافة المسمى بالاسم الأول إلى الاسم الثاني لتعرفه بإضافته إليه، فإن كان غير لازم لم تفد إضافته إليه شيئًا نحو: زيد الضاحك، وكذلك إن كان لازمًا ولم يكن معرفة نحو: رجل قرشي.
فإن قلت: زيد القرشي، كان مثل (جانب الغربي)، لأنه لازم معرفة
وكذلك: عمرو قفه.
* * *
فصل
[في الإضافة في بسم الله]
فإذا ثبت ذلك رجعنا إلى مسألتنا فنقول: إضافة (بسم الله) أهي إضافة ملك، أم إضافة استحقاق، أم إضافة تخصيص؟.
فالجواب أن نقول: هذه المسألة تبنى على أصل القوم في الاسم والمسمى.
أهو هو أم (هو) غيره؟ وهي مسألة طال فيها التنازع وكثر فيها القول بين الأصوليين والمتفلسفين وشاركهم فيها طائفة من النحويين، حتى ألفوا فيها التواليف، وصنفوا فيها التصانيف، وشنع كل فريق على مخالفة بأنواع من التشنيع والتعنيف، وبدع بعضهم بعضًا أو كاد يكفره.
والأمر في ذلك - إن شاء الله تعالى - سهل المسلك.
قريب المدرك، لمن شرح الله صدره ونور بصيرته وإن كان " أبو حامد " قد زعم أنها طويلة الذيل، قليلة النيل.
وليس الأمر عندي كما ذكر، بل نيلها كثير لمن نظر واستبصر، وذلك أنها مسألة إذا انفتح ما استغلق منها، انفتح بذلك على الناظر كثير من المشكلات في كتاب
1 / 29
الله ﷿، وفي حديث رسول الله ﷺ وكلام العرب الذين بفهم كلامهم نفهم عن الله ﷿ وعن رسوله ﷺ، ونتوصل إلى فهم الكتاب وتأويله.
* * *
فصل
[في الاسم والمسمى]
الاسم الذي هو " السين " و" الميم " عبارة عن اللفظ الذي وضع دلالة على
المعنى، والمعنى هو الشيء الموجود في العيان - إن كان من المحسوسات - كزيد وعمرو - وفي الأذهان - إن كان مع المعقولات - كالعلم والإرادة. فذلك الموجود الذي في العيان أو الموجود الذي في الأذهان وضعت له عبارة في اللسان.
بما يترجم عنه، ويتوصلٍ إلى فهمة والكشف عن حقيقته، ثم ذلك الشيء المعبرعنه - وهو الشخص مثلا - كما استحق بأن يكون له عبارة بين المتخاطبين يترجمون بها عنه.
وهي " الزاي " و" الياء " و" الدال " مع قولك " زيد " مثلًا، فكذلك استحق هذا اللفظ المؤلف من هذه الحروف أن يعبر عنه بعبارة أخرى يعبر بها عنه، لأنه شيء موجود في اللسان، مسموع في الأذان.
فاللفظ المؤلف من " ألف " الوصل، و" السين " و" الميم " عبارة عن اللفظ
المؤلف من " الزاي " و" الياء " و" الدال " مثلًا. واللفظ من " الزاي " و" الياء " و" الدال " مثلًا.
عبارة عن الشخص الموجود في العيان والأذهان وهو المسمى، واللفظ الدال عليه الذي هو " الزاي " و" الياء "
و" الدال " هو الاسم، وقد صار أيضًا ذلك اللفظ
مسمى من حيث كان اللفظ الذي هو " السين " و" الميم " عبارة عنه فقد تبين لك في أصل الوضع أن الاسم ليس هو المسمى، وذلك أنك تقول: سميت هذا الشخص بهذا الاسم، كما تقول: حليته بهذه الحلية، والحلية لا محالة غير المحلى، فكذلك الاسم أيضًا غير المسمى.
وقد صرح بذلك سيبويه وقد أخطًا من ادعى غير هذا
عليه، ونسب القول باتحاد الاسم والمسمى إليه، وإن كانوا قد احتجوا بقوله؟
" فأما الأفعال فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء ".
وقوله ها هنا محتمل، والمحتملات لا تعارض بها النصوص.
1 / 30
وقد نص ﵀ قبل هذا الكلام بسطر واحد على أن الاسم غير
المسمى لو تأملوه، ولكنهم تعاموا عنه وأغفلوه، فقال: " الكلام: اسم وفعل وحرف " فقد صرح أن الاسم كلمة، فكيف تكون الكلمة هي المسمى، والمسمى إنما هو شخص، فهذا بيان ونمى، لا سيما مع قوله فيما بعد: " تقول: سميت زيدًا بهذا الاسم كما تقول: علمته بهذه العلامة، وكذلك نص في أكثر من ألف موضع في كتابه على أن الاسم هو اللفظ الدال على المسمى؛ لأنه متى ذكر الخفض أو النصب أو التنوين أو الألف واللام، وجميع ما يدخل على الأسماء ويعتريها من
الزيادة والحذف، حتى يكون بعضها ثلاثيا، وبعضها رباعيا، وبعضها خماسيًا، إلى غير ذلك مما يذكر سيبويه وجميع النحويين أنه يعتري الاسم ويختص به - فلا يتعلق بشيء من ذلك بالمسمى الذي هوالشخص.
فسبحان الله كيف لا يستحيي من عرف هذا من مذهب النحويين أجمعين، ومن مذاهب العرب، ثم يخبر عن أحد منهم بأن الاسم هو المسمى! ما أشار إِلى ذلك نحوي قط ولا اعتقده عربي!
ألا ترى أنهم يقولون: " أجل مسمى " ولا يقولون: " أجل اسم "
ويقولون: " هذا الرجل مسمى يزيد " ولا يقولون: " اسم يزيد ".
وتقول: " باسم الله "، ولا تقول: " بمسمى الله ".
ولو كان الاسم بمعنى المسمى ما امتنع شيء من هذا، فهذا غاية العجب، ونهاية الكذب على العرب!
نعم، وعلى الكتاب الذي نزل بلسانهم "، نعم، وعلى الرسول الذي يقول: " لي خمسة أسماء، و" سموا باسمي ولاتكنوا بكنيتي ".
وإذا ثبت حقيقة الاسم والمسمى فلم يبق إلا حقيقة التسمية التي بها مَوَّه
كثير من الناس، وبها يقع الغلط والالتباس، فتقول: التسمية عبارة عن فعل المسمى
1 / 31
ووضعه الاسم عبارة عن الشيء المسمى (به)، كما أن التحلية عبارة عن فعل
المحلى، وهو وضع الحلي على المحلى به.
فهذه ثلاثة ألفاظ: اسم، ومسمى، وتسمية، ولكل لفظ معنى، ولا سبيل إلى جعل لفظين مترادفين على معنى واحد إلا بدليل واضح، ولا دليل هنا، فثبت أن لكل لفظ من هذه الألفاظ معنى غير الذي للآخر، وإذا جعلت الاسم هو المسمى بطل أحد المعاني الثلاثة التي قدمنا بيان وجودها واستحالة بطلانها، وبالله تعالى التوفيق.
* * *
فصل
فإن قيل: فمن أين مثار الغلط في هذه المسألة من العلماء؟ وكيف غاب ما
قلتموه عن بعض الجلة القدماء كالباقلاني ومن تبعه من الأشعرية، وهم أرباب
التحقيق والمؤيدون بالتسديد والتوفيق؟.
والجواب: أن مثارات الغلط في ذلك كثيرة، منها شبهة داخلة في النظر، ومنها ظواهر من القرآن والأثر، وأبيات من كلام العرب خفي المقصد فيها عن كثير من أهل البصر، ولا توفيق إلا بالله.
فمن أقوى الشبه الداخلة في النظر إجماع المسلمين واعتقاد كافة الموحدين
أن الله - جل ثناؤه وتقدست أسماؤه - لم يزل بجميع صفائه وأسمائه، تعالى أن يكون أسماؤه مخلوقة أو صفاته محدثة.
وهذه عقيدة من زلَّت عنها قدمه أريق دمه.
والجواب عن هذا السؤال، وحل هذا الإشكال: أن الله ﷿ لم يزل بجميع أسمائه وصفاته، ونحو إذا قلنا: " الاسم غير المسمى "، فليس يلزمنا من ذلك حدوث أسمائه تعالى، وإن كان كل غير الله ﷿ مخلوقًا ومحدثًا، لأنه ﷿ هو المسمى نفسه بكلامه القديم، الذي هو صفة ذاته، لأن القرآن قديم لا محالة، وتعسًا لمن يخالف فيه من فرق الضلالة.
ثم القرآن متضمن لأسماء الله
1 / 32
الحسنى، فثبت أنه لم يزل بجميع أسمائه كما اعتقدناه، وثبت بما قدمناه من البرهان أن الاسم هو اللفظ الدال على المسمى، وإنه غيره، فرجع الحدوث إلى عبارات المخلوقين وألفاظهم، دون كلام رب العالمين، المتقدس عن الحرف والصوت الذي منه ينتظم اللفظ، وأنه مسمى نفسه في الأزل بكلامه الذي لم يزل صفة له، والمنطق عبارة فيما لا يزال بقدرته على التعبير بالعبارة الحادثة عما تضمنه كلامه القديم.
فقد حصحص الحق وانحسم الإشكال، وآل المعنى إلى أن أسمه - سبحانه
وتعالى - إذا تلقيته من كلامه فلا تقل: هو هو، ولا تقل، هو غيره، لأنه حينئذ من (كلامه القديم، وإذا تلقيته من) كلام غيره فهو لا محالة غير المسمى، إذًا الاسم كلمة، فحكمها حكم الكلام الذي هى منه، والقائل أن الاسم هو المسمى على الإطلاق مخالف لمذاهب أهل السنة، لأن أصلهم في الكلام أن لا يقال: هو هو.
وقد قال هذا في الاسم أنه المسمى، المسمى هو المتكلم بالكلام، الذي
الاسم كلمة منه، فقد قال ما لا يقوله أحد، لأنه لم يذهب أحد من الناس إلى أن الكلام هو المتكلم، فلا هو مع المعتزلة ولا (هو) مع السنة.
وأصلنا المتقدم موافق للغة، موافق لمذهب أهل السنة، مخالف لمذهب المعتزلة، لأنهم يقولون بقدم الكلام، فالاسم على مذهبهم هو المسمى، كان من كلام الخالق أو من كلام المخلوق، وهذا باطل وبدعة، نعوذ بالله منها، فقد حصحص الحق، وتبين القصد، والحمد لله.
* * *
فصل
[في أدلة القائلين بأن الاسم هو المسمي]
وأما مثار الغلط من ظواهر القرآن، فأقواها عندهم قوله ﷿:
(تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ)، (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ)، وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) . ولا يجوز
1 / 33
التسبيح لغير الله، ولا أمر ﷺ أن يذكر غير الله. وهذه الحجة لمن تأملها عليهم لا
لهم، لأن رسول الله ﷺ كان من أشد الناس امتثالًا لأوامر ربه، فلو فهم منها الذي قالوه لقال في تسبيحه: (سبحان اسم ربي) ولم يقل ذلك قط، ولا روي عنه، على كثرة تسبيحه لمولاه ﷺ.
ومن أقرب ما يعارضون به إجماع الأمة على أن لا يقول أحد: اسم الله أكبر، يريد: الله أكبر، ولا يقول أحد: سجدت لاسم ربي، ولا خفت اسم ربي، ولا: يا اسم الله، ارحمني، فدل ذلك كله على أن الاسترحام والاستعطاف والسجود والخوف لا تعلق له بالاسم الذي هو عبارة عن المسمى ﷻ وأن المسمى هو المقصود بذلك كله، ولو كان الاسم هو المسمى لما امتنع شيء من ذلك.
فإن قيل: كيف جاز (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و(اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ)
والمقصود بالذكر والتسبيح هو الرب ﵎، لا اللفظ الدال عليه؟.
قلنا: هذا سؤال قد كع عنه أكثر المحصلين، ونكتة عجز عنها أكثر
المتأولين، وقد أجاب عنها أبو حامد في كتابه (المقصد الأسنى) بجواب غير شاف ولا كاف، فقال: إنما تعلق التسبيح والذكر بالاسم، وإن كان غير المسمى، لأن التعظيم والتنزيه إذا وجب للمعظم، فقد تعظم ما هو من سببه لأجله، كما يقال: " السلام على حضرة الملك " ونحو هذا من الكلام، وهو ﵀ وإن كان من أهل التحقيق، فقد غابت عنه نكته المسألة وبالله التوفيق وإنما ضعف جوابه ﵀ من وجهين: -
أحدهما: ما تقدم من أن رسول الله ﷺ لم يؤثر عنه، ولا عن أحد من المقتدين به أنه قال في تسبيحه: سبحان اسم ربي، فدل ذلك على أنهم لم يعتقدوا ما قال من أن التسبيح في قوله تعالى:
(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) متعلق بالاسم، بل المقصود به المسمى، والاسم مذكور لحكمة أخرى.
1 / 34
والوجه الثاني: أنه يلزمه أن يطلق على الاسم التكبير والتحميد والتنزيه
والتقديس، وغير ذلك من المعاني المقصود بها الله ﷿، فيقول: كبرت اسم ربي، واسم ربي أكبر، وغير ذلك مما أجمع المسلمون على تركه، ولم يؤثر عن أحد من السلف والخلف، رحمة الله عليهم.
والقول السديد في ذلك - والله المستعان - أن نقول: الذكر على الحقيقة محله القلب لأنه ضد النسيان، والتسبيح نوع من الذكر، فلو أطلق الذكر والتسبيح لما فهم منه إلا ذلك، دون اللفظ باللسان، والله ﷿ إنما تعبدنا بالأمرين جميعًا، ولم يتقبل من الإيمان إلا ما كان قولًا باللسان، واعتقادًا بالجنان، فصار معنى الآيتين في هذا: اذكر ربك أو سبح ربك، بقلبك ولسانك، وكذلك أقحم الاسم تنبيها على
هذا المعنى حتى لا يخلوا الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان، لأن الذكر بالقلب متعلقه بالمسمى المدلول عليه بالاسم دون ما سواه، والذكر باللسان متعلقه اللفظ مع ما يدل عليه، لأن اللفظ لا يراد لنفسه.
فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو التسبيح دون ما يدل عليه من المعنى، هذا ما لا يذهب إليه خاطر، ولا يتوهمه ضمير فقد وضحت تلك الحكمة التي من أجلها أقحم ذكر الاسم، وأنه به كملت الفائدة وظهر
الإعجاز في النظم والبلاغة في الخطاب.
وهذه نكتة لمتدبرها خير من الدنيا بحذافيرها، والحمد لله على ما فهم وعلم.
ومما غلطوا من أجله قوله ﷿: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا) .
والمعبود هو المسمى.
والجواب: أنهم ما عبدوا إلا المسميات، ولكنهم عبدوها من أجل الأسماء
المفخمة الهائلة التي اخترعوها لهم، كاللات والعزى، وتلك أسماء كاذبة غير واقعة على حقيقة، فكأنهم لم يعبدوا إلا الأسماء التي اخترعوها.
وهذا من المجاز البديع الغريب وكذلك قامت الحجة عليهم، ولو كانت الأسماء ها هنا هي المسميات لقلت
فائدة الكلام، ولخلا عن الإعجاز والبلاغة هذا النظام.
1 / 35
إن قيل: ما فائدة دخول الباء في (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) ولم لم
يدخل في (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)؟.
والجواب: أن التسبيح ينقسم قسمين:
أحدهما: أن يراد به التنزيه والذكر دون معنى يقترن به.
والثاني: أن يراد به الصلاة، وهي ذكر مع عمل، ومنه سميت سبحة، وهو في القرآن كئير قال الله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) .
وأشار (به) إلى الصلوات الخمس، وقيل في قوله تعالى: (فلولا أنه كان من
المسبحين)، أي: المصلين. فإذا ثبت ذلك وأردت التسبيح المجرد فلا معنى
للباء، لأنه لا يتعدى بحرف جر، لا تقول: " سبحت بالله ".
وإذا أردت التضمين لمعنى الصلاة دخلت " الباء " تنببهًا على ذلك المعنى، فنقول: " سبح باسم ربك ".
كما تقول: " صل باسم ربك "، أي: مفتتحًا باسمه.
وكذلك أيضًا دخلت اللام في قوله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ)
لأنه أراد التسبيح الذي هو السجود والطاعة، كما قال الله
تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) .
فهذا يقوي ما تقدم من أن ذكر الاسم ها هنا تنبيه على الذكر بالقلب واللسان، ألا ترى أن الصلاة لا بد فيها من
1 / 36
اللفظ باسم الله عند التكبير ولذلك لم يقل: " سبح بربك " تنبيهًا على ما تقدم، والله تعالى أعلم.
وأما مثار الغلط من جهة أبيات الشعر فقول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولًا كاملًا فقد اعتذر
وقول ذي الرمة:
لا ينعش الطرف إلا ما تخونه ... داع يناديه باسم الماء مبغوم
1 / 37
وقول الآخر:
تَدَاعَيْنَ باسمِ الشِّيبِ في مُتَثَلِّمٍ ... جَوانِبُه من بَصْرةٍ وسِلامِ
يريد صوت (جرع) الماء في الحوض، لأنه يشبه قولك: " شيب. شيب ".
والداعي في البيت قبل هذا هي الظبية، وإنما دعت ولدها بهذا الصوت يعني: " ماء. ماء "، لا بلفظ دال عليه، وهذا كله يدل على أن الاسم هو المسمى.
وقد أجاب بعض الحذاق عن هذا بجواب لا يقوم على ساق، ولا يكاد
يفهم لشدة التكلف فيه والاستغلاق.
وكان هذا الرجل قد ألف في الاسم والمسمى كتابا، ذهب فيه إلى أن الاسم
غير المسمى كما قدمناه، ولكنه تكلف وتعسف، ومن ألف فقد استهدف.
وهذه الأبيات التي احتجوا بها عندي أبين شيء في الرد عليهم، وأدل شيء
على أن الاسم غير المسمى، وذلك أنه قال: " باسم الماء " ولم يقل: " باسم ماء.
1 / 38
ماء ".
والماء - بالألف واللام - ليس إلا الماء المشروب، فكيف يريد بها حكاية
صوتها؟
ولكن الشاعر ألغز حيث وقع الاشتراك بين لفظ الماء وصوتها، فصار صوتها
كأنه هو اللفظ المعبر به عن الماء المشروب، فأي شيء أبين من هذا من أن الاسم غبر المسمى؟.
وأما قوله: " تداعين باسم الشيب " فهو كذلك، لأنه لم يقل: " باسم شيب.
شيبا. وإنما قال: " الشيب " - بالألف واللام - ولفظ الألف واللام غير موجود في صوت الإبل وإنما أراد: تداعين بصوت يشبه في اللفظ اسم الشيب، أعني: جمع " أشيب "، كما في البيت الأول.
وأما قول لبيد: " اسم السلام عليكما " فالسلام اسم من أسماء الله تعالى.
والسلام عبارة عن التحية، وهذا الذي أراد، ولكنه شرفه بأن أضافه إلى الله ﷿، لأنه أبلغ في التحية، كأنه يقول: لو وجدت سلامًا أشرف من هذا لحييتكم به، ولكني لا أجده لأنه اسم السلام، والحمد لله.
ووجه آخر، وهو أحسن في المعنى، وذلك أن لبيدًا لم يرد إيقاع التسليم
عليهم لحينه، وإنما أراده بعد الحول، ولو قال: " ثم السلام عليكما " لكان مسلمًا في وقته الذي نطق به في البيت، فلذلك ذكر الاسم الذي هو عبارة عن اللفظ، أي: إنما اللفظ بالتسليم بعد الحول، وذلك أن السلام دعاء، فلا يتقيد بالزمان المستقبل وإنما هو لحينه، ألا ترى أنه لا يقال بعد الجمعة اللهم ارحم زيدًا ولا بعد الموت اللهم اغفر لي، إنما تقول: " اللهم اغفر لي بعد الموت "، فيكون " بعد " ظرفا للمغفرة والدعاء واقع لحينه.
فإن أردت أن تجعل الوقت ظرفًا للدعاء صرحت بلفظ الفعل فقلت: " بعد
الجمعة ادعو بكذا "، أو أسلم، أو ألفظ (بكذا)، لأن الظروف إنما تقيد بها
الأحداث الواقعة فيها خبرًا أو أمرًا أو نهيًا، وأما غيرها من المعاني كالعقود، أعني عقد الطلاق وعقد اليمين، وكالدعاء والتمني والاستفهام وغير ذلك من المعاني فإنما هي واقعة لحين النطق بها، ولذلك يقع الطلاق لمن قال: " بعد يوم الجمعة أنت
1 / 39
طالق يا فلانة، فهو مطلق لحينه، ولا ينفعه ذكر الوقت.
وكذلك القسم إذا قال: " بعد الحول والله لأخرجن " فقد انعقد اليمين (عليه) حين نطق به، ولا ينفعه أن يقول:
أردت أن لا أوقع اليمين إلا بعد الحول.
فإنه لو أراد ذلك فقال: بعد الحول أحلف أو ألفظ باليمين.
فأما الأمر والنهي والخبر فإنما تقيدت بالظروف، لأن الظروف في
الحقيقة إنما يقع فيها الفعل المأمور به أو المخبر به، دون الأمر والخبر، فإنهما واقعان لحين النطق بهما فإذا قلت: " اضرب زيدًا يوم الجمعة "، فالضرب واقع في اليوم وأنت من الآن آمر.
وكذلك في الخبر إذا قلت: " سأقوم يوم الجمعة " فالقيام في اليوم
وأنت من الآن مخبر. فلا تعلق للظروف إلا بالأحداث، فقد رجع الباب كله بابًا واحدًا، فلو أن لبيدًا قال: " إلى الحول ثم السلام عليكما " لكان مسلمًا لحينه ولكنه أراد أن لا يوقع اللفظ بالتسليم والوداع إلا بعد الحول (ولذلك ذكر الاسم الذي هو بمعنى اللفظ، ليكون ما بعد الحول) ظرفًا له، فافهم ذلك، والحمد لله.
* * *
مسألة
وهي القول في الاسم الذي هو عبارة في الله ﷿
وقد تكلم الناس فيه قديمًا وحديثًا، تكلموا في " الألف واللام " أهي للتعريف
أم للتعظيم أم هي دالة على معنى آخر؟ أم هي (من) نفس الكلمة؟.
وتكلموا في اشتقاقه أهو مشتق أم لا؟
وإذا كان مشتقًا فمن أي شيء اشتق؟
وكثر في ذلك نزاعهم وتباينت أقوالهم.
والذي نشير إليه من ذلك ونؤثره ما أختاره شيخنا ﵁ وهو
الإمام أبو بكر محمد بن العربي، قال: الذي اختاره من تلك الأقوال كلها هذا:
1 / 40
أن الاسم غير مشتق من شيء، وأن الألف واللام من نفس الكلمة، إلا أن الهمزة وصلت لكثرة الاستعمال، على أنها (فيه) جاءت مقطوعة من القسم، (حكى سيبويه): " أفالله لأفعلن "، وفي النداء نحو قولهم: " يا لله ".
فهذا يقوي أنها من: نفس الكلمة ويدلك على أنه غير مشتق أنه سبق الأشياء التي زعموا أنه مشتق منها، لا نقول: إن اللفظ قديم، ولكنه متقدم على كل لفظ وعبارة.
ويشهد بصحة ذلك قوله عزوجل: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)؟ فهذا نص في
عدم المسمى، وتنبيه على عدم المادة المأخوذ منها الاسم.
مع أنا إذا قلنا بالاشتقاق فيه تعارضت علينا الأقوال، فمن قائل يقول: من " إله " إذا عبد، فإله هو المعبود.
ومن قائل يقول: من الوله، وهي الحيرة، يريد أن العقول
تحار في عظمته، وهمزة إله عند هؤلاء بدل من واو.
ومن قائل يقول: إنه من " لاه " إذا علا.
وسائر الأقوال قريبة من هذه، فإن لم تكن هي هي في الحقيقة، ولكل قول
شاهد يطول ذكره، فإذا تعارضت الأقوال لم يكن بعضها أولى من بعض، فرجعنا الى القول الأول لما عضده من الدليل، والله الموفق إلى خير قيل.
* * *
مسألة أخرى
إعراب (الرَّحْمَنِ) من قوله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
ذهب قوم إلى أنه نعت، وذهب آخرون إلى أنه بدل من الله، واستبعدوا النعت فيه لأنه علم، وإن كان مشتقا من الرحمة، ولكنه ليس بمنزلة الرحيم ولا الراحم، وغير ذلك مما يطرد القياس فيه، ويكثر في النعوت مثله.
1 / 41
وأما (الرَّحْمَن) فإنه مختص بالعلمية ومصنوع لها، كما أن " الدبران " وإن
كان مشتقًا من " دبرت " ولكنه صيغ للعلمية، فجاء على بناء لا يكون في النعوت.
ويدلك على أنه (علم) وروده في القرآن غير تابع لاسم قبله، كما ورد
غيره من الأسماء التي لا تجري مجرى الأعلام.
فلما ثبت أنه علم امتنع أن يكون نعتًا، لأن العلم ينعت ولا ينعت به، وإذا امتنع أن يكون نعتًا لم يبق إلا أن يكون بدلًا من الله.
هذا منتهى قولهم، وإليه ذهب الأعلم.
والبدل عندي فيه ممتنع، وكذلك عطف البيان، لأن الاسم الأول لا يفتقر إلى تبيين، لأنه أعرف الأسماء كلها وأبينها، ألا ترى أنهم قالوا:
(وما الرحمن)؟ ولم يقولوا: وما الله؟ ولكنه - وإن كان يجري مجرى الأعلام - فإنه مشتق من الرحمة، فهو وصف يراد به الثناء، وكذلك الرحيم، إلا أن الرحمن من أبنية المبالغة كغضبان ونحوه، وإنما دخله معنى المبالغة من حيث كان في آخره ألف ونون كالتثنية، فإن التثنية في الحقيقة تضعيف، وكذلك في الصفة، فكان " غضبان " و" سكران " حاملًا لضعفين من الغضب والسكر، فكان اللفظ مضارعًا للفظ التثنية، لأن التثنية ضعفان
في الحقيقة، ألا ترى أنهم قد شبهوا التثنية بهذا البناء إذا كانت لشيئين متلازمين فقالوا: " الجلمان " و" القلمان "، فأعربوا " النون " كأنه اسم لشيء واحد، فقد اشترك باب " فعلان، وباب التثنية.
ومنه قول عائشة ﵂
" إذا حاضت المرأة حرم الجحران " بالرفع.
1 / 42
وهو قول طائفة من أهل العلم غير " القتبي " ومنه قول فاطمة
﵂ في نداء ابنها " يا حسنان، يا حسينان " هكذا روته الرواة برفع " النون ".
ولمضارعته التثنية امتنع جمعه، فلا يقال في غضبان: " غضبانين "
وامتنع تأنيثه بالهاء، فلا يقال: " غضبانة "، وامتنع تنوينه كما لا ينون
" نون الاثنين ".
فجرت عليه كثير من أحكام التثنية لمضارعته إياها لفظًا ومعنى.
وفائدة الجمع بين الصفتين - أعني (الرحمن الرحيم) - وإن كانتا جميعًا من
الرحمة، الإنباء عن رحمة عاجلة، ورحمة آجلة، أو عن رحمة عامة وأخرى
خاصة، حاصلتين لقارئ القرآن والله أعلم.
* * *
مسألة
[في متعلق الباء في (بِسْمِ]
وأما ما تعلق به الباء من (بِسْمِ) فمحذوف، لا لتخفيف اللفظ كما زعموًا، إذ لو كان كذلك لجاز إظهاره وإضماره، كما يجوز في كل ما يحذف تخفيفًا، ولكن في حذفه فوائد ومعان، منها:
أنه موطن ينبغي أن لا يقدم فيه سوى ذكر الله تعالى، فلو ذكر الفعل - لا سيما وهو لا يستغني عن فاعله - كان ذلك مناقضا للمقصود، فكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى، كما تقول في الصلاة: " الله أكبر "، ومعناه: من كل شيء، ولكن لا تقوله ليكون اللفظ في اللسان مطابقًا لمقصود الجنان، وهو أن لا يكون في قلب ذكر إلا لله وحده.
وفائدة أخرى في حذف الفعل، وهو أن إضمار الفعل وحذفه أكثر ما يكون في الأمر نحو: " إياك والطريق "، (الطريق) ونحو ذلك.
والمتكلم بـ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
1 / 43