أما المؤلفات التي اعتمدت عليها في هذا الموضوع، فأخصها مؤلف «المسيو أرتور لافي»، وهو لم يكتبه إلا بعد أن درس عشرات من المذكرات والكتب التي خصت ب «النسر الأعظم»، وحسبي لإظهار شأنه قول «فرنسوا كوبيه» الشاعر الشهير في مقدمة كتبها له: «اقرأ كتاب المسيو أرتور لافي تعجب بما تراه من الترتيب الفكري، وسكون النفس، وعمران الضمير، والترفع عن التحزب كما يجب على كل مؤرخ بالمعنى الصحيح.»
وإذا صح أن ما يؤثر في نفس الكاتب يؤثر في كل قارئ، فإن هذا المؤلف الصغير الذي أقدمه للقراء الكرام لا يكون أقل أثرا في نفوسهم من «فرخ النسر»؛ لأنهما من معدن واحد، وإذا أخطأ ظني الغرض، فحسبي ما نويته من الخدمة العامة، وإنما الأعمال بالنيات.
يوسف البستاني
الفصل الأول
النسر الأعظم في فقره ومسكنته
في الخامس عشر من شهر أغسطس سنة 1769 شعرت لاتيتيا زوجة شارل بونابارت بآلام الولادة وهي في الكنيسة، فأسرعت إلى بيتها حيث ولدت على سجادة غرفتها ولدا سمته «نابوليون»، فهل كان في تلك السجادة سر من طراز ما يذكرونه في الأقاصيص والحكايات؟ إنا لا نتصدى لمثل هذا البحث ولا نريد مشاركة أهل الخرافات، وإنما نجتزئ بذكر ملاحظة في شأن المحيط الذي ولد فيه النسر الأعظم، وهي أن أمه صرفت الأعوام التي تقدمت زواجها في محيط تجاري مالي عند رجل سويسري من أرباب المصارف اسمه فيش - لأن هذا الرجل تزوج أم والدة نابوليون بعد وفاة زوجها الأول - فتعلمت الضبط والترتيب والنظام، فإذا صح ما يقوله الفلاسفة من أن الأم تورث بنيها من أخلاقها ومزاياها، فإن ما اشتهر به نابوليون الأول من حب النظام والتدقيق في الحساب كان من فضل أمه لاتيتيا، وأول ما شعر به نابوليون حين ترعرع أن حالة بيته كانت تقتضي النظر والتدقيق؛ لأن الحروب أورثت آله الضنك والضيق، فلم يكن لأبيه إلا ملك صغير لا يربو ريعه عن ألف أو ألف وخمسمائة من الفرنكات في العام، ولكن أمه الفاضلة قابلت تلك الحال بثبت الجنان وسكون الجأش، ولجأت إلى حكمتها في تدبير المنزل، وأضمرت حزنها في قلبها الكبير.
ولما بلغ جوزيف كبير ولدها وأخوه نابوليون العمر الذي يجب فيه طلب العلم ووضع الأساس للمستقبل، أخذ أبوه يلتمس هنا وهناك من أرباب الكلمة والشأن أن يسعوا لولديه المذكورين في الحصول على مراكز مجانية في بعض مدارس فرنسا.
وبعد التعب والوصب وتوالي الرجاء والالتماس تمكن أسقف أوتون - وكان حفيد حاكم كورسيكا مسقط رأس نابوليون - من إدخال جوزيف في مدرسة أوتون وإدخال نابوليون في مدرسة بريان رجاء أن يدمجه يوما في سلك البحرية، ولكن نابوليون اضطر قبل الذهاب إلى مدرسة بريان أن يدخل إلى حين مدرسة أوتون ليتعلم اللغة الفرنسوية ويصبح قادرا على الانتظام في عقد البحرية الفرنسوية، وما مضت ثلاثة أشهر على نابوليون حتى صار قادرا على التحدث والكتابة بها.
وكانت أقوال المؤرخين الذين وصفوا نابوليون وهو في مدرسة أوتون منطبقة على عواطفهم الخاصة، فجعله بعضهم أعجوبة الذكاء والعبقرية، ووصفه آخرون ب «طالب متكتم عنيد ميال إلى الاستبداد وسفك الدماء»، وربما كان القول الحق ما ذكره شاتوبريان، وهو أن نابوليون لم يكن إذ ذاك إلا صبيا صغيرا لا يتميز تميزا كبيرا عن الأقران؛ لأنه دخل تلك المدرسة وهو لا يعرف اللغة الفرنسية ولا يعرف عادات الطلاب التي كانت تختلف عن عادات أهل كورسيكا، ولا يشعر إلا بتفوقهم عليه في الثروة ومميزات أخرى، فلا عجب لدى هذا كله أن يكون قليل الكلام، قليل الامتزاج بالطلاب، مستشعرا أثر الغربة ووجوب العزلة، ولما انتقل إلى مدرسة بريان أخذت مواهبه العقلية تظهر وتتجلى، ولكن حالته المادية كانت سيئة ومؤثرة في مسلكه بدليل قوله لكولنكور سنة 1811؛ أي بعد أن صار إمبراطورا: «إني كنت في بريان أشد فقرا من زملائي؛ فهم كانوا يجدون المال في جيوبهم وأنا لم أكن أجد شيئا، على أني كنت عيوفا أنوفا، أفرغ جهدي حتى لا أدع أحدا يشعر بإفلاسي، وكنت لا أعرف الضحك واللهو كسائر الطلاب ... إن التلميذ بونابارت كان حاصلا على علامات جيدة في دروسه، ولكنه لم يكن محبوبا.»
فالقائد العظيم والإمبراطور الأعظم الذي عشقه الجيش والشعب زمنا مديدا يعترف بأنه لم يكن محبوبا في المدرسة، والسر في هذا النفور منه يظهر للباحث في أمرين؛ أولهما: اجتناب نابوليون أسباب النفقة وضروب المعاشرة لفراغ جيبه. والثاني: سخر الطلاب به وتلقيبه ب «الكورسيكي» لما رأوه من ذاك الانقباض ومن اختلاف عاداته وحالاته عما ألفوه في جمهورهم، والحقيقة أن نابوليون لم يكن يخشن إلا لمن ناوأه وهزأ به؛ بدليل ما قاله لبوريان الذي كان أحد الطلاب: «أما أنت فأحبك؛ لأنك لا تهزأ بي ...»
صفحه نامشخص