ففي تلك الدقائق الثلاث تقرر حظ نابوليون وفرنسا وأوروبا، ولما فكر نابوليون في واجبه بدا له أن واجب كل محب لفرنسا كان يقضي بإسقاط حكومة الكونفانسيون التي نشرت الهول والرعب وضمت إليها كثيرين من أهل الجهل والخلل، ولكنه نظر من جهة أخرى فتصور خمسين ألف نمسوي على أبواب ستراسبورغ وأربعين بارجة إنكليزية أمام برست، فقال في نفسه أن صد العدو الخارجي هو رأس الواجبات، واختار ما جعله كل فرنسوي أساس وطنيته، وما نراه في الحرب العظيمة الناشبة في هذا الوقت، وهو أن «تعضيد كل حكومة واجب على كل وطني في وقت الخطر الخارجي.»
على أن نابوليون لم يقبل ذاك المركز الصعب إلا بشرط، وهو «أن لا يغمد الحسام قبل إعادة النظام» فقبل باراس شرطه، وكان هذا الاتفاق نحو الساعة الواحدة بعد نصف الليل؛ أي ليل 13 فندميير، وما جاء مساء 14 منه حتى تغلب نابوليون على الثوار، وفي اليوم ذاته صدر الأمر بترقيته إلى رتبة قائد فرقة (فريق)، ولما اجتمع أعضاء الكونفانسيون قال لهم فريرون الذي قدمه لباراس: «لا تنسوا أن الجنرال نابوليون الذي عين في ليل 12-13 لم يكن لديه إلا صباح ذاك اليوم لاتخاذ الوسائل التي رأيتم نتائجها»، ثم وقف باراس بعد فريزون فذكر الخدمة الجليلة التي أداها نابوليون، وطلب تثبيته في منصب قائد ثان للجيش الداخلي.
ثم انتقل اسم نابوليون من الكونفانسيون إلى الجرائد، وتداولته الألسنة بعد الأقلام، وفي 26 أكتوبر من تلك السنة عين قائدا عاما للجيش الداخلي، وأقام في المعسكر العام الذي كان وقتئذ في شارع الكبوشيين، وعين الجنرال دوفينيو رئيسا لأركان حربه، ثم ضم نابوليون إليه جونو ومارمون وغيرهما ممن كان لهم شأن وسمعة طيبة في حروبه.
الفصل الرابع
اليسر بعد العسر
وانتقل نابوليون من العسر إلى اليسر بعد انتقاله إلى المعسكر العام، وأصبح الباريسيون يشيرون إليه بالبنان، ولم يعد الجنرال بونابارت يحتذي ذاك الحذاء الملطخ بالوحل ويلبس الملابس العتيقة ويسكن في منزل عليه مسحة المسكنة، بل صار يعنى بنفسه ولا يخرج إلا في مركبة فخمة.
ولعل القارئ يسأل هنا: كيف كان تأثير النعمة التي جاءته بتلك السرعة وليس له من العمر أكثر من ست وعشرين سنة؟ هل تغيرت عواطفه وتبدلت أخلاقه أو بقي كما رأيناه في سنواته المنصرمة؟ إن الأعمال التي قام بها والكتب التي أرسلها تتضمن خير جواب على هذا السؤال؛ فقد كان في مقدمة أعماله بعد وصوله إلى شرفة المجد أنه توسط للجنرال مينو «سلفه في المنصب» فبرأه مما أتهمته به حكومة الكونفاسيون، وفي 13-14 فندميير «الموافق 5-6 أكتوبر » كتب إلى أخيه جوزيف يقول:
انتهى كل شيء، وكان أول ما فكرت فيه إرسال أخباري إليك، وقد أمرت حكومة الكونفاسيون بنزع السلاح من قسم لابيلسييه، وعين باراس قائدا عاما وعينني قائدا ثانيا، فأعددنا جنودنا ثم قهرنا الأعداء الذين هاجمونا عند التويلري ونزعنا السلاح من جميع الأيدي ووطدنا الراحة، ثم رجعت كما تعودت؛ أي دون أن أصاب بأقل جرح ... الطالع السعيد لي والسلام الجزيل لأوجيني وجولي.
ثم كتب إليه في 26 أكتوبر: «عرفت من الجرائد كل ما يتعلق بي، فقد عينت قائدا ثانيا لجيش الداخلية وعين باراس قائدا أول، ثم تغلبنا على الخصوم وبات كل شيء نسيا منسيا ... أودعك وأنا لا أنسى شيئا مما ينفعك ويساعدك على نيل السعادة.»
وكتب إليه في 18 أكتوبر: «إن أحد مواطنينا المدعو بيلون - وأنت تعرفه كما يؤكدون لي - طلب بوليت، ولكنه لا يملك ثروة، وقد كتبت إلى أمي ورغبت إليها أن لا تفكر في أمره، وأنا أستزيد اليوم من الاستفهام والاستعلام.»
صفحه نامشخص