أسبوعان مرا وأنا في حيرة شديدة، وبكاء متجدد ، هذا هو الحلم الجميل للشاب الوسيم ذي الجبهة العريضة يقف أمامي بشحمه ولحمه، فلماذا أتردد؟ لماذا لا أقول له «نعم.» وانتهى الأمر وينتهي عذابي؟ لم أشعر بغصة في صدري؟ ولما وجدني أبي على هذه الحالة قال لي: «سأطلبه ليأتي عندنا وحده، ونجلس نتكلم معه، ثم نرى ما ستجري عليه الأمور.»
في اليوم التالي حضر رائد مع باقة ورد كبيرة آسرة الجمال، كان يرتدي ثيابا رسمية، سروالا رماديا وقميصا كحليا، وكنت أرتدي ثيابي التي أخرج بها إلى الشارع، معطفي العسلي، وغطاء بنيا على رأسي. جلس أمامي مع والدي وتحدثا معا دقائق، ثم ذهب أبي إلى غرفة أخرى، وبقينا وحدنا. - كيف حالك سما؟ - الحمد لله. - تأخرت بردك كثيرا. - يعني ... امم ... تعرف ... - نعم أعرف من حقك أن تتدللي. - أنا لا أتدلل، أنا أفكر. - وأنا في انتظارك دائما. - هل لي أن أسألك لم اخترتني أنا بالذات؟ - سؤالك جميل؛ لأنني أعتقد أنك الفتاة المناسبة لي، ولنا معا ذكريات جميلة. لا أريد أن أتورط بعلاقة من الوسط الفني؛ فكلهم كاذبون، أما أنت فمختلفة عن الجميع، أنت صادقة، ثم إن النجاح الذي حققته لن يكمل إلا بوجودك معي، سأتألق أكثر وأنت معي، تعرفين الصحافة والإعلام وظيفتها أن تتسقط هذه الأخبار، ألا ترين الكاميرات لا تتركني لحظة واحدة؟ أراهن أنهم الآن خلف الشباك يحاولون التقاط صورة أو سماع كلمة مما أقوله الآن.
فكرت في نفسي: نجاحك أنت؟ وهل هذا هو المهم؟ أن يتحدث عنك الإعلام؟ لم أقل شيئا، فقال: سأجلب لك مكتبة بأكملها وأشتري لك كتب العالم، هل تذكرين سما؟ كم كنت أعمى في ذلك الوقت، قبل أعوام، هل تذكرين في مكتبة النيل الجديد؟ - سأحضر لك القهوة.
وقمت من فوري إلى المطبخ، قلبي يتقاطر خوفا، وأصابعي تهتز رعشة، كلماته هزتني من الأعماق، أرعبتني وأسعدتني في الوقت نفسه، يا للحيرة التي تملكتني؟ وزادت علي! ذهبت إلى المطبخ، وبمساعدة والدتي حضرت فنجانا من القهوة له، وكوبا من الشاي بالنعناع لي. أخذت نفسا عميقا حتى أتمكن من حمل الصينية بثبات، مشيت باتجاهه وأنزلت الصينية ليتناول فنجانه. أشعر بنظراته تخترقني وهو ينظر إلي من مكانه، استدرت وأخذت كوبي، مسكته بيدي الاثنتين أتلمس منه حرارة أدفئ بها برودة أطرافي وأسكن رعشة قلبي. قال: شاي يا سما؟ ألا تشربين القهوة؟ - لا؛ فأنا لا أحبها. - خسارة، علي إذن أن أبذل جهدا في جعلك تحبينها؛ فأنا أعشقها، كيف سنشربها معا كل صباح؟
ثم ارتشف رشفة من فنجانه وأخذ يتحدث عن نفسه، وأنا ما عدت أصغي إليه، كلماته كانت كمصباح وضعني على الطريق الصحيح، وتراقصت أمامي ذكريات كلمات أخرى صادقة ... - تعرفين يا سما، أنت مثل القهوة، تضيفين نكهة رائعة إلى الحياة. - لكني لا أحب القهوة. - القهوة لا تدرك قيمة ذاتها، وما تفعله في القلوب. - لا أعرف ماذا علي أن أقول! - لا شيء على الإطلاق، غدا تقولين لي.
3 - في داخلك جرح، روحك مضطربة، أشعر بذلك. - وما أدراك أنت؟ - دلائل كثيرة، ثم ألا تثقين بذكائي؟ - لم أعد أعرف شيئا. - أنا لا أدعوك لتثقي بشخصي، بل بذكائي وخبرتي. - ماذا تريد مني؟ - يسرني الحديث إليك ويأخذني إلى عوالم جديدة من الخير الأول، أنت مختلفة، ثم إني متورط بك، والهرب أمر غير وارد بالنسبة إلي. - لقد سئمت وتعبت. - من أي شيء؟ - من كل شيء، ألا تعيش هنا؟ - الحرب! - وهل غيرها؟ - لم تفعل الحرب شيئا سوى أنها وضعتنا على شفرة الحقيقة، عرتنا أمام أنفسنا، عليك تجاهلها وحسب. - كيف وهي تزكم أنوفنا، وتحشر نفسها تحت ألحفتنا؟ - صدقيني، هناك أسوأ من الحرب. - ماذا؟ - الخوف. - الحرب تجلب الخوف. - العكس هو الصحيح. - أحيانا لا أفهمك! - أما أنا، فأفهمك دائما. - مادح نفسه يسلم عليك سيد سليمان! - ههههه، أنت جميلة، وكم أنا سعيد بالحديث معك! هل سنبقى هكذا نتحدث عبر كلمات على الشاشة، أنا كما تعلمين لا أحب تكنولوجيا الشباب، ولولا أنني مضطر إليها لأحدثك لما لجأت إليها. - وما العيب في تكنولوجيا الشباب؟ - لا شيء سوى أنني لا أجيد التعامل مع حرف جامد أظل أفتش عنه في لوحة المفاتيح لأكتب كلمة تستهلك جزءا كبيرا من وقتي. - بإمكانك أن ترسل لي رسالة صوتية إذا أردت، أنا أكتب وأنت تسجل. - هذا أسوأ، أتخيل نفسي أحدث كومة من حديد وأنا وحدي في الغرفة! يا للجنون! - ماذا تريد إذن؟ - أن أراك، وجها لوجه، أحدث كائنا حيا. - تعرف أن هذا صعب جدا علي. - تعالي إلى بيت نور، هناك على الأقل يمكنني أن أراك مصادفة ولو كذبا. - أو بإمكانك أن تأتي هنا إلى البيت. - هل أنت جادة؟ بأي صفة أدخل بيتكم هكذا من الباب؟ - لا أدري، أنت قل لي. - أنتم الشباب عجيبون! هل كل من في عمرك هكذا؟ - هكذا كيف؟ وما خطبنا نحن «الشباب»؟ - كانوا معي في الجامعة، بعضهم لا يزال يتواصل معي إلى الآن، أشعر بالأسف عليهم. - لماذا؟ - تلك ذكرى لا أحب استرجاعها. - هل أساءوا لك؟ - على العكس تماما، بعد أن بادلتهم الود، وفتحت لهم قلبي، كما أفعل معك الآن، وصارت علاقتنا أكثر متانة، تساقطوا من حولي. - كيف؟ - أنت مصرة على إعادة الماضي الحزين. - لكل منا ذكريات حزينة. - حسنا، لقد مات أحدهم. - حقا؟ يا للأسف! رحمه الله. - قتل، إن صح التعبير. - يا إلهي! - نعم، كان الخبر فاجعة كبيرة لي، أحببت ذلك الشاب تحديدا، وبعدها انفرط عقد أصدقائه عني ولم أعد أعرف من أخبارهم شيئا. - هذا مؤسف. - نعم، الألم يموت لكن الجرح يبقى، أحيانا ألوم نفسي على موته. - لماذا؟ وما دخلك أنت؟ - يعني كما تعلمين كنا نتحدث كثيرا، عن الماضي الذي يخصني أحيانا، وكانوا يتأثرون، ربما ثارت النقمة في قلوبهم، خاصة ذلك الشاب، لست أدري، فحمله ذلك على التصرف بتهور. - لا تحمل نفسك فوق طاقتها. - هكذا أقول لنفسي أيضا، لكن مضى على ذلك عام أو يزيد، ومع ذلك فتاريخ استشهاد ذلك الشاب الأشقر محفور في قلبي، «السابع عشر من تموز!»
4
اجتماع مغلق، شعرت بذلك ووالدي يغلق الباب، ويدعوني للجلوس، هذه أول مرة يقوم بذلك، أخذت التوقعات تدور في رأسي عن أي شيء سنتحدث. جلست على طرف الكرسي متوثبة أنتظره أن ينطق، وجلس هو أمامي على الأريكة يحدق في الأرض. الساعة تدور بتثاقل، تك تك تك ، تهزأ بي ربما، أو تطرق على رأسي لتذكرني بوجودها الفج في هذه اللحظة.
نطق أبي أخيرا وقال: «بنتي، هناك شاب تحدث معي بخصوصك، تعرفين، يريد أن يطلبك للزواج.» من يكون؟ سليمان؟ لكنه ليس شابا! أو ربما رائد؟ أو لعله شاب لا أعرفه أبدا! أكمل أبي: «لكن لن أقول لك رأيي فيه حتى أسمع رأيك، لا أريد أن أؤثر عليك؛ فأنت صاحبة القرار.» يا للحنان والحكمة التي تغلف كلماته! تسارع نبض قلبي وحبست أنفاسي أنتظره أن ينطق باسمه، الساعة تصر على إثبات وجودها، تك تك تك، أسند أبي ظهره على الوسائد ونظر إلي وقال: «شادي أشتر.»
أكاد أجزم أن فمي ظل مفتوحا دهرا من وقع المفاجأة، شادي تحدث مع أبي؟! كيف؟ ومتى؟ وأين هو الآن؟ تقافزت الأسئلة إلى ذهني مثل مفرقعات اشتعلت دفعة واحدة، هل أخبره شادي بكل شيء؟ هل يعرف محادثات الفيسبوك؟ يا إلهي، هل أخبره عن لقائنا في المتحف؟ تك تك تك تك، الساعة مجددا أخذت تسلخ بدقاتها قلبي، إنه لم ينسني! إنه جاد في الارتباط بي! «حازم جدا» كما قال لي.
صفحه نامشخص