نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
ژانرها
على الرغم من اختلاف لغتي إعلاني القرن الثامن عشر، فإن كليهما استند على ادعاء بالبداهة. أوضح جيفرسون هذا عندما كتب: «نحن نؤمن بأن هذه الحقائق بديهية.» وقد نص الإعلان الفرنسي صراحة على أن: «الجهل والإهمال وتجاهل حقوق الإنسان هي وحدها أسباب شقاء المجتمع وفساد الحكومات.» وفي هذا الصدد لم يختلف عنهما كثيرا «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» الذي صيغ في عام 1948. لا شك في أن الإعلان الذي أصدرته الأمم المتحدة حمل نبرة أكثر قانونية عندما نص على أنه: «لما كان الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم، ومن حقوق متساوية وثابتة، يشكل أساس الحرية والعدل والسلام في العالم ...» بيد أنه شكل أيضا ادعاء بالبداهة؛ لأن عبارة «لما كان» تعني حرفيا «بما أن الحقيقة هي». وبعبارة أخرى، تعد عبارة «لما كان» صيغة قانونية للتأكيد على حقيقة بديهية.
هذا الادعاء بالبداهة، الذي يعد في غاية الأهمية فيما يخص حقوق الإنسان حتى في وقتنا هذا، يكشف عن مفارقة: فإذا كانت المساواة في الحقوق حقيقة بديهية غنية عن الإيضاح، فما الحاجة إلى هذا التشديد إذن، ولماذا لا يؤكد على هذا التشديد إلا في أوقات وأماكن بعينها؟ كيف يمكن لحقوق الإنسان أن تكون عالمية ما لم يعترف بها عالميا؟ هل ينبغي أن نرضى بالتفسير الوارد بالتصريح الذي قدمه واضعو إعلان عام 1948: «نحن متفقون على الحقوق شريطة ألا يسألنا أحد لماذا»؟ هل يمكن أن تكون هذه الحقوق بديهية في حين قضى الباحثون أكثر من قرنين من الزمان يتجادلون حول ما كان يقصده جيفرسون بعبارته؟ ولسوف يستمر الجدل إلى أجل غير مسمى؛ لأن جيفرسون لم يشعر قط بالحاجة إلى توضيح مقصده، علاوة على أنه لم يشأ أحد من لجنة الخمس أو من الكونجرس أن يعيد النظر في ادعائه، على الرغم من أنهم أدخلوا تعديلات مكثفة على أجزاء أخرى من نسخته الأولية. لقد وافقوه الرأي فيما يبدو، ناهيك عن أنه لو أن جيفرسون كان قد فسر مقصده، لتلاشت بديهية الادعاء؛ فالتأكيد الذي يتطلب برهانا لا يعود بديهيا.
3
أرى أن ادعاء البداهة أمر في غاية الأهمية فيما يخص تاريخ حقوق الإنسان، وهذا الكتاب مكرس لتفسير كيف كان هذا الادعاء مقنعا أيما إقناع في القرن الثامن عشر، ومن حسن الحظ أن الكتاب أيضا يضع تحت بؤرة التركيز نقطة بعينها من هذا التاريخ المتشعب للغاية. لقد أضحت حقوق الإنسان منتشرة في كل مكان في الوقت الحالي، حتى إنها تحتاج فيما يبدو إلى سعة تاريخية كبيرة مماثلة لاستيعابها؛ فهي تشتمل على الأفكار اليونانية عن الإنسان الفرد، والنظرية الرومانية عن القانون والحقوق، والمذاهب المسيحية في النفس البشرية ... وتكمن المجازفة في أن يصبح تاريخ حقوق الإنسان هو تاريخ الحضارة الغربية، أو في الوقت الحالي - في بعض الأحيان - تاريخ العالم بأسره. أفلا تقدم الحضارة البابلية القديمة، والديانة الهندوسية، والبوذية، والإسلام إسهاماتها أيضا؟ كيف لنا إذن أن نعلل التبلور المفاجئ لادعاءات حقوق الإنسان في نهاية القرن الثامن عشر؟
لا بد أن تتوافر في حقوق الإنسان ثلاث سمات متداخلة: لا بد أن تكون الحقوق «طبيعية» (أصيلة في الإنسان)، «متساوية» (واحدة للجميع)، و«عالمية» (قابلة للتطبيق في كل مكان). ولكي تصبح الحقوق حقوقا «للإنسان»، لا بد أن يحوزها جميع البشر على قدم المساواة في كل مكان على وجه البسيطة لا لسبب آخر سوى أنهم بشر. ولقد اتضح أن قبول السمة الطبيعية للحقوق أيسر من قبول سمة العالمية أو سمة المساواة. ونحن ما زلنا نتصارع بطرق عدة مع الآثار المترتبة على المطالبة بمساواة الحقوق وعالميتها. في أي عمر يحق للفرد التمتع بالمشاركة الكاملة في الحياة السياسية؟ هل يحق للمهاجرين - غير المواطنين - أن يشتركوا في التمتع بالحقوق؟ وأي حقوق؟
ولكن حتى طبيعية الحقوق وتساويها وعالميتها ليست كافية تماما؛ فحقوق الإنسان تصبح ذات مغزى ودلالة عندما يكون لها مضمون سياسي. إنها ليست حقوقا للبشر في البرية، بل هي حقوق للبشر تحت مظلة المجتمع. وهي ليست حقوقا للبشر في مقابل حقوق إلهية، أو حقوقا للبشر في مقابل حقوق الحيوانات؛ بل هي حقوق للبشر بعضهم إزاء بعض، ومن ثم هي حقوق مكفولة في العالم السياسي العلماني (حتى وإن أطلقت عليها صفة «مقدسة»)، إلى جانب أنها حقوق تتطلب من أصحابها مشاركة فعالة.
اكتسبت طبيعية الحقوق وتساويها وعالميتها تعبيرا سياسيا مباشرا للمرة الأولى في «إعلان الاستقلال الأمريكي» عام 1776، و«الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن» عام 1789. فعلى الرغم من أن مشروع مذكرة الحقوق الإنجليزي لعام 1689 أشار إلى «الحقوق والحريات القديمة» التي أرسى دعائمها القانون الإنجليزي والمستمدة من التاريخ الإنجليزي، فإنه لم يناد بتساوي الحقوق وعالميتها وطبيعيتها. وعلى النقيض، شدد إعلان الاستقلال الأمريكي على أن «جميع الناس خلقوا متساوين»، وأن جميعهم يملكون «حقوقا ثابتة». وبالمثل، نص إعلان حقوق الإنسان والمواطن على أنه «يولد الناس ويعيشون أحرارا متساوين في الحقوق». لم يخص بالذكر الفرنسيين وحدهم، ولا البيض، ولا الكاثوليك، بل «الناس»، اللفظة التي كانت تعني - وما زالت تعني - جميع البشر رجالا ونساء. وبعبارة أخرى، في وقت ما في الفترة ما بين عامي 1689 و1776، تحولت الحقوق التي غالبا ما كانت تعد قاصرة على فئة بعينها من الناس - المواليد الأحرار من الإنجليز على سبيل المثال - إلى حقوق للبشر جميعا؛ حقوق عالمية طبيعية، وضع لها الفرنسيون مصطلحا يعني «حقوق الإنسان».
4
حقوق الإنسان و«حقوق الفرد»
إذا قمنا بزيارة قصيرة إلى تاريخ المصطلحات، فسوف تساعدنا على أن نحدد بوضوح لحظة ظهور مصطلح «حقوق الإنسان». على الأرجح لم يستخدم أناس القرن الثامن عشر تعبير «حقوق الإنسان»، ومتى استخدموه كانوا يقصدون به عادة شيئا مختلفا عما نقصده نحن اليوم. فقبل عام 1789، غالبا ما تحدث جيفرسون - على سبيل المثال - عن «الحقوق الطبيعية»، ولم يبدأ في استخدام مصطلح «حقوق الفرد» إلا بعد عام 1789، وعندما استخدم مصطلح «حقوق الإنسان» كان يعني شيئا ذا طابع أكثر سلبية وأدنى من الناحية السياسية من الحقوق الطبيعية أو حقوق الفرد. ففي عام 1806 - على سبيل المثال - استخدم المصطلح في الإشارة إلى شرور تجارة الرقيق:
صفحه نامشخص