نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
ژانرها
27
ومع ذلك فحتى هنا، عمل منطق الحقوق عمله، وإن كان على نحو متقطع؛ ففي يوليو من عام 1790، فاجأ كوندرسيه قراءه بمقالة افتتاحية مذهلة في إحدى الصحف بعنوان «حول منح المرأة حقوق المواطنة»، شرح فيها بوضوح الأساس المنطقي لحقوق الإنسان التي كانت تتطور بثبات في النصف الثاني من القرن الثامن عشر: «تنبع حقوق الإنسان فقط من حقيقة أن البشر كائنات ذات إحساس، قادرة على اكتساب أفكار أخلاقية وعلى التأمل في هذه الأفكار.» ألا تتمتع النساء بنفس الخصال؟ الإجابة كما يؤكد كوندرسيه هي أنه: «لما كانت النساء تنعم بنفس الخصال، فهن يتمتعن بالضرورة بحقوق متساوية.» وتوصل كوندرسيه إلى النتيجة المنطقية التي واجه رفاقه الثوار صعوبة بالغة في التوصل إليها: «إما أنه لا يملك أي فرد في البشرية حقوقا حقيقية، وإما أن الجميع لهم نفس الحقوق؛ وعليه فإن أي إنسان يصوت ضد حقوق إنسان آخر أيا كان دين هذا الآخر أو لونه أو نوعه، فإنه بذلك ينكر حقوقه هو نفسه.»
هنا تتجلى الفلسفة الحديثة لحقوق الإنسان في أنقى صورها؛ فالخصائص الفردية للبشر (ربما بخلاف السن، فالأطفال غير قادرين بعد على التفكير بأنفسهم) لا ينبغي أن تحظى بأهمية، حتى فيما يتعلق بالحقوق السياسية. وعلل كوندرسيه أيضا السبب في أن عددا كبيرا من النساء - وكذلك الرجال - يقبل باستسلام الخضوع غير المبرر للمرأة: «يمكن أن تؤدي العادة إلى تكيف البشر مع انتهاك حقوقهم الطبيعية إلى الدرجة التي لا يحلم معها أي من أولئك الذين فقدوا حقوقهم باسترداد تلك الحقوق أو حتى يعتقد أنه تعرض لجور ما من الأساس.» وطالب كوندرسيه قراءه بالإقرار بأن النساء كانت لهن دائما حقوق، وبأن الأعراف الاجتماعية قد أعمت عيونهم عن تلك الحقيقة الجوهرية.
28
في سبتمبر عام 1791، قلبت الكاتبة المسرحية المناهضة للعبودية أولمب دي جوج «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» رأسا على عقب؛ إذ أكدت فيما أسمته «إعلان حقوق المرأة» أن: «المرأة ولدت حرة وتعيش مساوية للرجل في الحقوق» (المادة الأولى)، «لا بد أن يكون لجميع المواطنات والمواطنين، باعتبارهم متساوين أمامه [القانون]، الحق في الوظائف والرتب العامة بحسب مقدرتهم، ولا يجوز أن يفضل إنسان على إنسان في هذا الصدد إلا بفضائله ومعارفه» (المادة السادسة). ولا يكاد الانقلاب في لغة الإعلان الرسمي لعام 1789 يبدو صادما لنا الآن، غير أنه بدا حينها صادما بالتأكيد. وفي إنجلترا، لم تصل ماري وولستونكرافت لما وصلت إليه قريناتها الفرنسيات في المطالبة بحقوق سياسية متساوية مساواة مطلقة للمرأة، غير أنها كتبت باستفاضة وبمشاعر حارة أن التعليم والتقاليد أعاقت نمو عقل المرأة. وفي كتابها «المطالبة بحقوق المرأة» الذي نشر عام 1792، ربطت تحرير المرأة بانفجار كل أشكال التسلسل الهرمي في المجتمع. وعانت وولستونكرافت، على غرار دي جوج، من التشنيع العلني بسبب جسارتها، بل إن مصير دي جوج كان أشد وطأة؛ فقد حكم عليها بالإعدام بقطع رأسها بتهمة أنها مناوئة «وقحة» للثورة، وإنسانة غير سوية («خنثى»).
29
ما إن تكون الزخم وزاد، لم تقتصر حقوق المرأة على منشورات قلة من الرواد؛ ففي الفترة بين 1791 و1793 أقامت النساء نوادي سياسية في خمسين مدينة وبلدة على الأقل بالإضافة إلى باريس. ونوقشت حقوق المرأة في النوادي، والصحف، والكتيبات. وفي أبريل من عام 1793، إبان الفترة التي كان ينظر فيها في مسألة المواطنة في ظل دستور مقترح جديد للجمهورية، طرح أحد النواب حجة مستفيضة لصالح منح المرأة حقوقا سياسية متساوية. وبينت حجته أن الفكرة كسبت بعض المناصرين لها. قال ذلك النائب معترفا ومقرا: «لا شك أن ثمة اختلافا بين الرجل والمرأة هو اختلاف الجنس ... لكني لا أعرف كيف يؤدي اختلاف الجنس إلى اختلاف في المساواة في الحقوق ... دعونا نحرر أنفسنا من التحيز ضد الجنس، تماما كما حررنا أنفسنا من التحيز العنصري ضد لون بشرة الزنوج.» غير أن باقي النواب لم يحذوا حذوه.
30
بدلا من أن يحذو النواب حذو ذلك النائب، تحركوا في أكتوبر عام 1793 ضد نوادي المرأة. وكرد فعل للمشاجرات التي نشبت في الشوارع بين النساء حول الشعارات الثورية، صوتت الجمعية على إيقاف كافة النوادي السياسية للمرأة بحجة أن هذه النوادي تصرفهن عن موالاة واجباتهن المنزلية كما ينبغي. ووفقا لرأي النائب الذي قدم مرسوم إيقاف النوادي، فإن النساء لا يملكن المعرفة، أو الخبرة، أو التفاني، أو نكران الذات، وهي أمور يجب التحلي بها في ممارسة السياسة والحكم . ويجدر بهن أن يلتزمن ب «المهام الخاصة التي قدرتها الطبيعة ذاتها للمرأة». لم يبد في منطقه شيء جديد؛ وإنما ما كان جديدا هو الحاجة إلى التصدي للمرأة ومنعها من تشكيل النوادي السياسية والمشاركة فيها. ربما كان وضع المرأة هو أقل وآخر موضوع نوقش، غير أن حقوقهن ظهرت أخيرا على جدول أعمال الجمعية، وما قيل عنهن في تسعينيات القرن الثامن عشر - لا سيما فيما يخص الحقوق - كان له أثر دام حتى يومنا هذا.
31
صفحه نامشخص