نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
ژانرها
حضر النواب بقوائم المظالم التي أعدوها إلى الافتتاح الرسمي ل «مجلس طبقات الأمة» في الخامس من مايو عام 1789. وبعد مرور أسابيع من النقاش العقيم حول الإجراءات، أعلن نواب «الطبقة الثالثة» أنفسهم، من جانب واحد، أعضاء «الجمعية التأسيسية الوطنية» في السابع عشر من يونيو؛ زعموا أنهم يمثلون الأمة بأسرها، وليس مجرد «طبقة». وما لبث أن انضم إليهم العديد من رجال الإكليروس، وسرعان ما وجد النبلاء أنفسهم أمام خيار من اثنين هما تركهم أو الانضمام إليهم. وفي التاسع عشر من يونيو، وفي قلب هذه النزاعات، طالب أحد النواب أن تباشر الجمعية الجديدة في الحال «المهمة العظيمة المتعلقة بإعلان الحقوق»، التي أكد على أن الناخبين فوضوها لهم؛ ومع أن هذه الفكرة لم تكن مطلبا عموميا شاملا بأي حال، فقد انتشرت وشغلت عقول الجميع بلا أدنى شك. وعينت لجنة وضع الدستور في السادس من يوليو، وفي التاسع من نفس الشهر، أنبأت اللجنة «الجمعية التأسيسية الوطنية» أنها سوف تبدأ ب «إعلان حقوق الإنسان الطبيعية التي لا يجوز المساس بها»، الذي وضع في ملخص الجلسة تحت اسم «إعلان حقوق الإنسان».
23
كتب توماس جيفرسون، الذي كان في باريس حينها، إلى توماس بين في إنجلترا في الحادي عشر من يوليو يخبره بالحكاية المثيرة للأحداث الجارية. وكان توماس بين هو مؤلف كتيب «المنطق السليم» (1776)، وهو الكتيب المنفرد الأعظم أثرا على حركة الاستقلال الأمريكية. ووفقا لما رواه جيفرسون: «أطاح نواب الجمعية التأسيسية الوطنية بالحكومة القديمة، وهم يشرعون الآن في تشكيل حكومة من البداية.» وذكر جيفرسون أنهم اعتبروا أن أول مهمة هي صياغة «إعلان لحقوق الإنسان الطبيعية التي لا يجوز المساس بها»؛ وهي نفس المصطلحات التي استخدمتها لجنة صياغة الدستور. وتشاور جيفرسون عن كثب مع لافاييت، الذي قرأ مسودته المقترحة للإعلان على مسامع الجمعية في نفس هذا اليوم. وسارع العديد من النواب البارزين الآخرين إلى طباعة مقترحاتهم. وتنوعت المصطلحات ما بين «حقوق الإنسان في المجتمع»، و«حقوق المواطن الفرنسي»، أو مجرد لفظة «الحقوق»، لكن غلب مصطلح «حقوق الفرد» على العناوين.
24
وفي الرابع عشر من يوليو، أي بعد ثلاثة أيام من خطاب جيفرسون إلى توماس بين، تسلحت جموع في باريس وهاجمت سجن الباستيل ورموز أخرى من رموز السلطة الملكية، وكان الملك قد أمر بانتقال آلاف الجنود إلى باريس، مما أثار خوف النواب من نشوب انقلاب عسكري مضاد للثورة. وسحب الملك جنوده، غير أن مسألة الإعلان ظلت عالقة. وفي أواخر يوليو وأوائل أغسطس، كان النواب لا يزالون يتجادلون حول مسألة هل هم في حاجة إلى إعلان؟ وهل ينبغي أن يتقدم الإعلان على الدستور؟ وهل لا بد أن يصاحبه إعلان عن واجبات المواطنين؟ عكس الانقسام حول ضرورة صياغة إعلان خلافات عميقة في سياق الأحداث. فإذا كان كل ما تحتاجه السلطة الملكية هو مجرد إصلاحات بسيطة، فلا توجد ضرورة إذن لإعلان «حقوق الإنسان». وعلى النقيض، فمن وجهة نظر أولئك الذين اتفقوا مع جيفرسون في تحليله بأنه لا مفر من إعادة بناء الحكومة من البداية، كان إعلان الحقوق ضروريا.
أخيرا صوتت الجمعية في الرابع من أغسطس من أجل تحرير إعلان للحقوق لا يشتمل على الواجبات. ولم يستطع أحد حينها أو منذ ذلك الحين أن يعلل تعليلا وافيا كيف مال الرأي أخيرا لصالح صياغة مثل ذلك الإعلان، ويرجع ذلك بقدر كبير إلى أن النواب كانوا منهمكين للغاية في مجابهة القضايا التي تظهر يوميا، حتى إنهم لم يعوا المغزى الأكبر لكل قرار يتخذونه. وكنتيجة لذلك، ثبت أن خطاباتهم، بل وحتى مذكراتهم اللاحقة غامضة بشدة فيما يتعلق بالتحول في الآراء. ونحن على يقين من أن الأغلبية بدأت تؤمن بضرورة وضع أسس جديدة بالكامل. وقدمت حقوق الإنسان مبادئ رؤية بديلة للحكومة. وكما فعل الأمريكيون قبلهم، أعلن الفرنسيون الحقوق باعتبارها جزءا من التمادي في قطع العلاقات مع السلطة الموجودة. وقد علق النائب رباءوت سانت إتيان على هذا التشابه في الثامن عشر من أغسطس قائلا: «مثل الأمريكيين، نريد أن نعيد بناء أنفسنا من جديد، لهذا يعد إعلان الحقوق غاية في الأهمية.»
25
اشتد النقاش في منتصف أغسطس، حتى في نفس الوقت الذي سخر فيه بعض النواب صراحة من «النقاش الميتافيزيقي». ولما وجدت الجمعية التأسيسية الوطنية نفسها أمام مجموعة من البدائل المحيرة، اختارت أن تنظر في وثيقة ترضي الجميع حررتها لجنة فرعية مكونة من أربعين عضوا مجهولين إلى حد كبير. وفي وسط الريبة والتوتر بشأن المستقبل، انخرط النواب طوال ستة أيام في نقاش محتدم (من 20 إلى 24 أغسطس، و26 أغسطس). واتفق النواب على سبع عشرة مادة خضعت للتعديل من إجمالي أربع وعشرين مادة مقترحة (في الولايات المتحدة صدقت الولايات الفردية على عشرة تعديلات فحسب من الاثني عشر تعديلا الأولى المقترحة من أجل الدستور). ولما أنهكت مناقشة المواد وتعديلاتها أعضاء الجمعية، صوتوا في السابع والعشرين من أغسطس لإرجاء أي مناقشات أخرى إلى ما بعد تحرير دستور جديد. ولم يعيدوا فتح باب النقاش في هذا الأمر بتاتا. وبهذه الطريقة غير المباشرة بعض الشيء، أخذ «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» شكله النهائي. (انظر الملحق للاطلاع على النص الكامل للإعلان.)
أعلن النواب الفرنسيون أن جميع الناس، وليس فقط الشعب الفرنسي، «يولدون ويعيشون أحرارا متساوين في الحقوق» (المادة الأولى). ومن بين «حقوق الإنسان الطبيعية، المقدسة ، الثابتة غير القابلة للخلع»، حق الحرية وحق والملكية وحق الأمن وحق مقاومة الظلم والاستبداد (المادة الثانية). وكان هذا يعني عمليا أن وضع أي قيود على الحقوق لا بد أن يكون قائما على أساس قانوني (المادة الرابعة). «جميع المواطنين» لهم الحق في الاشتراك في وضع القانون، الذي ينبغي أن يكون الجميع متساوين أمامه (المادة السادسة)، وحق قبول الضرائب (المادة الرابعة عشرة)، التي ينبغي أن توزع بالتساوي طبقا للقدرة على الدفع (المادة الثالثة عشرة). وبالإضافة إلى ذلك، حظر الإعلان الاعتقالات التعسفية (المادة السابعة)، والعقوبات غير الضرورية (المادة الثامنة)، والافتراض القانوني بالإدانة (المادة التاسعة)، ونزع الحكومة للممتلكات نزعا غير مبرر (المادة السابعة عشرة). وبأسلوب غامض إلى حد ما، أكد الإعلان على أنه «لا يجوز التعرض لأحد لما يبديه من أفكار حتى في المسائل الدينية» (المادة العاشرة)، في حين أنه يشدد بلهجة أكثر قوة على حرية الصحافة في (المادة الحادية عشرة).
هكذا حاول النواب الفرنسيون أن يلخصوا في وثيقة واحدة كلا من الحمايات القانونية لحقوق الأفراد والأسس الجديدة لشرعية الحكومة. ودانت السيادة حصريا للأمة (المادة الثالثة)، وبات المجتمع منوطا به أن يحاسب كل موظف عمومي (المادة الخامسة عشرة). ولم يأت الإعلان على ذكر الملك، أو التقاليد الفرنسية، أو التاريخ، أو العرف، أو الكنيسة الكاثوليكية. وأعلنت الحقوق وفقا للنص: «أمام الكيان الأسمى (الله) وتحت رعايته»، لكن، مع أن هذه الحقوق «مقدسة»، فإنها لم تعز إلى هذا المنشئ الأعظم (الله). عندما سطر جيفرسون إعلانه شعر بضرورة التأكيد على أن جميع الناس «قد حباهم باريهم» بالحقوق؛ في حين أن الفرنسيين استدلوا على الحقوق من مصادر علمانية بالكامل هي الطبيعة والمنطق والمجتمع. وفي أثناء المناقشات، كان ماثيو دي مونتمورنسي قد أكد على أن «حقوق الإنسان في المجتمع أبدية» وأنه «لا حاجة إلى إقرار رسمي لإدراكها». وما من اعتراض على النظام القديم السائد في أوروبا أكثر صراحة من هذا.
صفحه نامشخص