نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
ژانرها
23
سخر مويارت من منهج بيكاريا العقلي فقال: «يأخذ المؤلف على عاتقه مهمة اقتفاء أثر قوانين جميع الأمم، ويجعلنا نرى أننا ما زلنا حتى الآن لا نملك أي فكرة دقيقة أو متماسكة حول هذا الموضوع الحيوي.» ويرى مويارت أن السبب وراء صعوبة إصلاح القانون الجنائي هو أنه مبني على قانون وضعي، ويعتمد على التجربة والممارسة أكثر مما يعتمد على العقل والمنطق. وما تعلمنا إياه التجربة هو الحاجة إلى السيطرة على المتمردين الجامحين وليس الترفق بمشاعرهم. يقول مويارت: «من ذا الذي لا يعرف حقيقة أنه لما كانت الأهواء هي التي تشكل البشر، فغالبا ما تهيمن انفعالاتهم على عواطفهم؟» ويؤكد مويارت على أنه لا بد أن نحكم على الرجال كما هم، وليس كما يجدر بهم أن يكونوا، وأن قوة العدالة المنتقمة التي تبث الخوف في نفوس الناس هي وحدها التي من شأنها أن تكبح جماح هذه الانفعالات.
24
إن مشهد الألم الذي يتكبده المدان على المقصلة قد صمم خصيصا من أجل غرس الرعب في نفوس المشاهدين، ومن ثم قام هذا المشهد بدور الرادع. كان الغرض أن يتوحد الحاضرون - وكثيرا ما كان يحضر الناس في حشود غفيرة - مع ألم الشخص المدان، وفي خضم هذا يشعرون بالسيادة القهرية للقانون وللدولة ولله في نهاية الأمر، وعليه وجد مويارت أنه من المقزز أن بيكاريا حاول أن يبرر حججه بالاستناد إلى «شدة الحساسية تجاه ألم المذنب»، تلك الحساسية التي أنجحت النظام التقليدي: «على وجه التحديد لأنه لما توحد كل رجل مع ما حدث لآخر ولما كان كل شخص لديه رعب من الألم بالفطرة، كان من الضروري عند اختيار العقوبات تفضيل تلك العقوبة الأشد قسوة على جسد المذنب.»
25
شكل 2-7: موكب إلى قرية تايبرن للفنان ويليام هوجارث، 1747. (لوحة «إعدام المتمرن العاطل في تايبرن» هي اللوحة الحادية عشرة ضمن سلسلة هوجارث «الصناعة والبطالة»، التي تقارن بين مصير اثنين من المتمرنين المهنيين. يمكن رؤية المشانق الموجودة في الخلف عن يمين منتصف الصورة إلى جانب المدرج الهائل الذي يقف عليه الجمع. يعظ واعظ ميثودي السجين الذي يقرأ الإنجيل على الأرجح فيما هو منقول على عربة هو ونعشه. وفي المقدمة عن اليمين ثمة رجل يبيع الكعك، يحيط بسلته أربع شمعات؛ لأنه جاء منذ الفجر ليبيع للأشخاص الذين جاءوا مبكرا ليحصلوا على أماكن جيدة. وثمة صبي مشاغب ينشل جيبه. وخلف المرأة التي تبيع اعترافات توماس آيدل امرأة أخرى تبيع الخمر من السلة المربوطة بوسطها، وأمامها امرأة تضرب رجلا، فيما يقف رجل آخر على مقربة ويستعد لإلقاء كلب صغير على الواعظ. يصور هوجارث كل مظاهر الفوضى والانفلات الجامح للجموع المحتشدة لمشاهدة تنفيذ حكم الإعدام. ويقول التعليق المكتوب تحت الصورة: «صممها ونقشها دابليو هوجارث، ونشرت بموجب قانون البرلمان الصادر بتاريخ 30 سبتمبر 1747.»)
ولما كان العقاب بمنزلة شعيرة قربانية، صاحبت الخوف دائما مظاهر احتفالية، وأحيانا طغت على الخوف وحجبته؛ فتنفيذ حكم الإعدام على الملأ كان يحشد آلاف الأشخاص معا للاحتفال بتطهير المجتمع من جرح الجريمة. وفي باريس كانت أحكام الإعدام تنفذ في نفس الميدان - بليس دي جريف - الذي كانت تطلق فيه الألعاب النارية للاحتفال بمواليد العائلة المالكة وزيجاتها. على أنه ثمة خاصية متغيرة بشأن هذه النوعية من الاحتفالات كما ورد مرارا وتكرارا على لسان المشاهدين لها؛ فلطالما عبرت الطبقات الإنجليزية المثقفة على نحو متزايد عن استهجانها ل «أكثر مشاهد السكر والعربدة إثارة للدهشة» التي صاحبت كل إعدام في تايبرن (انظر الشكل
2-7 ). وتحسر كتاب الخطابات العموميون لسخرية الجمع من القس الذي كان يرسل من أجل الاعتناء الروحي بالسجناء، وللنزاعات التي تنشب بين صبيان الجراحين وأصدقاء المعدومين بسبب الجثث، وتأسفوا عموما لأنه ثمة تعبيرات عن «نوع من الجذل، كما لو كان المشهد باعثا على السعادة وليس الألم!» وفي أحد التقارير حول الشنق في شتاء عام 1776 في جريدة «مورنينج بوست» التي كانت تصدر في لندن، استهجنت الجريدة أن «الجمع القساة الأفئدة تصرفوا بأقصى درجة من درجات السفه الهمجي، فقد كانوا يصرخون، ويضحكون، ويقذفون الكرات الجليدية بعضهم على بعض، ولا سيما على القلة القليلة التي كانت تشعر بالشفقة اللائقة ببلايا إخوانهم من البشر».
26
في ظل المفهوم التقليدي، لا تنتمي آلام الجسد بالتمام إلى الفرد المدان. وكان لهذه الآلام أغراض دينية وسياسية أسمى من أجل إصلاح المجتمع وترميمه، فمن الممكن تشويه الأجساد بغية تثبيت أقدام السلطة، وسحقها أو حرقها بغية استعادة النظام الأخلاقي والسياسي والديني. وبعبارة أخرى، يصبح المجرم نوعا من أنواع القرابين التي تكسب معاناته المجتمع كمالا والدولة نظاما. وكانت الطبيعة القربانية لهذه الشعيرة في فرنسا موضع توكيد عن طريق تضمين قانون رسمي للتعبير عن الندم والتوبة في العديد من الأحكام الفرنسية (يطلق عليه اسم معناه «الإصلاح الجدير بالاحترام»)، وبموجب هذا القانون يحمل المجرم المدان شعلة نارية ويقف أمام الكنيسة طالبا العفو والغفران في طريقه إلى المقصلة.
صفحه نامشخص