نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
ژانرها
على أنه بدءا من ستينيات القرن الثامن عشر فصاعدا، أدت حملات من مختلف الأنواع إلى إلغاء التعذيب الذي تقره الدولة، وإلى اعتدال متزايد في فرض العقاب (حتى للعبيد). عزا المصلحون إنجازاتهم إلى انتشار مذهب الإنسانية إبان عصر التنوير؛ ففي عام 1786 تذكر المصلح الإنجليزي صامويل روميلي الماضي، وأكد قائلا: «على نحو يتناسب مع تفكر الناس وتأملهم في هذا الموضوع المهم، انهارت الأفكار السخيفة والوحشية عن العدالة، التي سادت لعصور طويلة، واعتنق الناس بدلا منها مبادئ الإنسانية والعقلانية.» انبثقت كثير من المحفزات الفورية للتفكير في الموضوع من المقال القصير الرشيق المؤثر الذي حمل عنوان «عن الجرائم والعقوبات»، والذي نشره عام 1764 شاب إيطالي من الطبقة الأرستقراطية في الخامسة والعشرين من عمره يدعى سيزاري بيكاريا. سلط كتيب بيكاريا - الذي دعمته الدوائر المحيطة بديدرو، وسرعان ما ترجم إلى الإنجليزية والفرنسية حيث قرأه فولتير وسط أحداث قضية كالاس - الأضواء على نظام العدالة الجنائية لكل أمة. لم يرفض الإيطالي المبتدئ التعذيب والعقاب القاسي فحسب، بل أيضا عقوبة الإعدام نفسها في اقتراح استثنائي مدهش في ذلك العصر. وأمام السلطة المطلقة للحكام، والتعصب الديني، والامتيازات التي تتمتع بها طبقة النبلاء، أدلى بيكاريا بدلوه مقدما مقياسا ديمقراطيا للعدالة مفاده: «السعادة القصوى لأكبر عدد من الناس.» ومنذ ذلك الحين غدا كل المصلحين تقريبا، من فيلادلفيا إلى موسكو، يستشهدون بآراء بيكاريا.
10
ساعد بيكاريا على إعلاء شأن لغة المشاعر الناشئة حديثا. ففي رأيه، لا يمكن أن تكون عقوبة الإعدام سوى «عمل خبيث ينخر في عظام المجتمع، وفقا لنموذج الوحشية الذي نراه يقدمه» وفي اعتراضه على «التعذيب والقسوة العقيمة عديمة الجدوى» عند العقاب، يسخر منهما واصفا إياهما ب «وسيلة التعصب المسعور». وعلاوة على ذلك ، في تبريره لتدخله في الأمر، عبر عن أمله أنه: «إذا ساهمت في أن أنقذ من آلام الموت أحد الضحايا الأشقياء للطغيان أو الجهل، وكلاهما مدمر على قدم سواء، فإن امتنانه ودموع سعادته ستكون خير سلوى لي عن ازدراء البشرية بأكملها.» وبعد أن قرأ الفقيه الإنجليزي ويليام بلاكستون أطروحة بيكاريا، أنشأ العلاقة التي غدت منذ ذلك الحين فصاعدا السمة المميزة لوجهة نظر عصر التنوير، ومفادها - كما شدد بلاكستون - أنه: ينبغي أن يكون القانون الجنائي دائما وأبدا «منسجما مع ما يمليه الحق والعدل، ومع المشاعر الإنسانية، وحقوق البشرية الثابتة».
11
مع ذلك، وكما يتضح من مثال فولتير، لم تدرك الصفوة المستنيرة - بل حتى كثير من المصلحين البارزين - على الفور أن ثمة علاقة وثيقة بين لغة الحقوق الناشئة وبين التعذيب والعقوبات القاسية. لقد استنكر فولتير بشدة فشل العدالة في قضية كالاس، لكنه لم يعترض في الأصل على حقيقة أن العجوز تعرض للتعذيب أو سحقت عظامه على عجلة السحق. فلو كانت مشاعر الشفقة الطبيعية تحمل كل فرد على مقت قسوة التعذيب القضائي، كما ذكر فولتير لاحقا، فلماذا إذن لم يكن هذا واضحا قبل ستينيات القرن الثامن عشر، حتى له هو نفسه؟ من الواضح أن ثمة غشاوة من نوع ما كانت تحول دون التوحد الشعوري مع الآخرين قبل ذلك الحين.
12
ما إن بدأ كتاب عصر التنوير والمصلحون القانونيون يلقون بظلال الشك على قضية التعذيب والعقوبات القاسية حتى وقع انقلاب شبه كامل في التوجهات الفكرية في غضون عقدين من الزمن. كان اكتشاف مشاعر المشاركة الوجدانية جزءا من هذا التغيير، لكنه مجرد جزء واحد فحسب. فما كان يقتضيه الأمر إلى جانب التوحد الشعوري هو اهتمام من نوع جديد بالجسد البشري، وهو حقا مطلب أساسي في هذه الحالة من أجل التوحد مع الشخص المدان قضائيا. فالجسد البشري الذي كان مقدسا في وقت من الأوقات فقط ضمن إطار نظام قائم على الدين - فيه يمكن بتر أجزاء من الجسم أو تعذيبه من أجل المصلحة العامة - أصبح مقدسا بذاته في ضوء نظام علماني قائم على الاستقلال الذاتي للفرد وحرمته. وثمة شقان لهذا التطور؛ فالأجساد اكتسبت قيمة أكثر إيجابية عندما أصبحت أكثر انفصالا، ومملوكة أكثر للذات، وأكثر فردية على مدار القرن الثامن عشر، في حين أثار انتهاكها ردود أفعال سلبية على نحو مطرد.
الشخص المستقل
على الرغم من أنه قد يبدو أن الأجساد البشرية بالأساس منفصلة دائما بعضها عن بعض، على الأقل بعد الميلاد، فإن الحدود بين الأجساد أصبحت محددة المعالم بوضوح أكبر بعد القرن الرابع عشر. أمسى الأشخاص أكثر تمتعا بالاستقلال والتحفظ مع تزايد الشعور بالحاجة إلى الحرص على إخفاء فضلات الجسم عن الآخرين. انخفضت عتبة الشعور بالخجل، في حين زادت الحاجة إلى ضبط النفس. بات التغوط والتبول أمام الناس منفرا على نحو متزايد، وبدأ الناس يستخدمون المناديل بدلا من التمخط في أيديهم، وأصبح البصق، وتناول الطعام في وعاء مشترك، وتشارك الفراش مع غريب، من الأمور الكريهة، أو على الأقل غير المستحبة، وأمست الانفجارات الانفعالية العنيفة والسلوكيات العدوانية غير مقبولة اجتماعيا، فكانت هذه التغيرات التي طرأت على التوجهات نحو الجسم بمنزلة مؤشرات سطحية للتحول الجوهري الكامن، ونوهت جميعها بظهور الفرد المتحفظ المنغلق، الذي لا بد أن تراعى حدوده عند التفاعل الاجتماعي، واقتضى امتلاك الذات والاستقلال الذاتي المزيد من ضبط الذات.
13
صفحه نامشخص