ثناء على كتاب «نشأة حقوق الإنسان»
إهداء
شكر وتقدير
مقدمة
1 - فيض المشاعر
2 - بشر أمثالنا
3 - لقد ضربوا مثلا عظيما
4 - لن تكون هناك نهاية
5 - القوة الناعمة للإنسانية
ملحق
الهوامش
ثناء على كتاب «نشأة حقوق الإنسان»
إهداء
شكر وتقدير
مقدمة
1 - فيض المشاعر
2 - بشر أمثالنا
3 - لقد ضربوا مثلا عظيما
4 - لن تكون هناك نهاية
5 - القوة الناعمة للإنسانية
ملحق
الهوامش
نشأة حقوق الإنسان
نشأة حقوق الإنسان
لمحة تاريخية
تأليف
لين هانت
ترجمة
فايقة جرجس حنا
مراجعة
محمد إبراهيم الجندي
ثناء على كتاب «نشأة حقوق الإنسان»
كتاب فريد ... تغطي الكاتبة العديد من الموضوعات في صفحات معدودات، وبمثل هذا الوضوح فإن كتاب نشأة حقوق الإنسان هو عمل ينم عن براعة فائقة.
جوردون إس وود، المراجعة النقدية
لصحيفة نيويورك تايمز
ربط حقوق الإنسان بالتاريخ الاجتماعي بهذه الطريقة هو أسلوب مبتكر أصيل وشائق في تناول الموضوع ... تقدم [هانت] تاريخا نابضا بالحياة وثريا بالمعرفة.
جوشوا مورافتشيك،
صحيفة وول ستريت جورنال
أظهرت لين هانت في هذا الكتاب - وطوال حياتها المهنية - أن ثمة الكثير الذي يمكن تعلمه عن طريق إقامة علاقات بين الأحداث السياسية التي شكلت الحياة السياسية المعاصرة والتطورات الأدبية التي شكلت ملكات الحس المعاصرة.
مجلة لندن ريفيو أوف بوكس
يقدم كتاب لين هانت الرائع، «نشأة حقوق الإنسان»، إجابات واضحة وبسيطة ومبتكرة ... تضع هانت ببراعة خطبهم عن الحقوق في إطار سلسلة من التغيرات الثقافية الأوسع التي غيرت كيفية ارتباط البشر (الغربيين) بعضهم ببعض ... إن معرفة هانت الدقيقة بالمناخ العام في أوروبا القرن الثامن عشر يجعل للكتاب قيمة مضاعفة باعتباره تفسيرا جديدا لثقافة عصر التنوير.
مايا جازانوف،
صحيفة واشنطن بوست
في الوقت الذي بدأ فيه الأمريكيون يحاسبون قادتهم على الأخطاء المرتكبة في الحرب ضد الإرهاب، يقوم هذا الكتاب بدور دليل للتفكير في أحد أكثر الأخطاء فداحة على الإطلاق وهو خطأ الاعتقاد بأن أمريكا يمكن أن تنتصر في الحرب عن طريق إبطال «الإعلان» الذي كان له الفضل في نشأة الأمة الأمريكية.
آلان وولف، مجلة كومونويل
لم تنتشر مبادرة كتابة تاريخ حقوق الإنسان إلا في العقد الماضي. وكتاب لين هانت «نشأة حقوق الإنسان» هو أبرز نتائج هذه المبادرة ... كتاب ممتع.
صامويل موين، مجلة ذي نيشن
كتبت هانت كتابا بات الآن نقطة انطلاق حتمية نحو التفكير في تاريخ حقوق الإنسان. كتاب غاية في الأهمية.
إس إن كاتز، مجلة تشويس
حققت لين هانت كل شيء أرادت تحقيقه تقريبا بكتابها «نشأة حقوق الإنسان» ... من الجلي أن هانت شغوفة بالموضوع كما يتضح من أسلوب كتابتها والزاوية التي تتناول منها القضية ... إنه سرد ثري ومتعمق.
كريستوف مارك،
صحيفة ذي ديلي يوميوري (اليابان)
يقدم الكتاب [نشأة حقوق الإنسان] ملخصا منطقيا لموضوع يمثل أهمية لكل مفكر من الرجال والنساء. أوصي به.
بوب ويليامز،
مدونة ذي كومبالسيف ريدر
يؤكد التاريخ الذي خطته هانت تأكيدا متبصرا على فكرة أن حقوق الإنسان مشروع ممتد بلا انقطاع، مشروع لم يتحقق المأمول منه بعد.
ألكساندر بيفيلاكوا، هارفارد بوك ريفيو
تاريخ ثقافي من طراز رفيع؛ أوصي به ليكون ضمن مجموعات الكتب الدراسية والعامة.
ديفيد كيمر، مجلة لايبراري جورنال
إهداء
إلى لي وجين.
الأختين، والصديقتين، والملهمتين.
شكر وتقدير
أثناء كتابة هذا الكتاب استفدت من عدد لا حصر له من الاقتراحات التي قدمها لي أصدقائي، وزملائي، والمشاركون في مختلف الحلقات الدراسية والمحاضرات. وما من تعبير عن الامتنان يمكن أن يسدد تلك الديون التي أسعدني الحظ بها، وكل ما أرجوه أن يتعرف البعض على ما أضافوه في فقرات معينة أو في حواشي الكتاب. إن محاضرات «باتين» التي ألقيتها في جامعة إنديانا، ومحاضرات «ميرل كورتي» التي ألقيتها في جامعة ويسكونسن، ماديسون، ومحاضرات جميس دابليو ريتشارد التي ألقيتها في جامعة فيرجينيا، منحتني فرصا لا تقدر بثمن لمحاولة اختبار أفكاري الأولية. وخرجت أيضا بأفكار رائعة من الجماهير التي التقيتها بكلية كامينو، وكلية كارلتون، ومركز أبحاث ودراسة علوم الاقتصاد بالمكسيك، وجامعة فوردهام، ومعهد البحث التاريخي بجامعة لندن، وكلية لويس آند كلارك، وكلية بومونا، وجامعة ستانفورد، وجامعة تكساس إيه أند إم، وجامعة باريس، وجامعة ألستر بولاية كارولينا، وجامعة واشنطن بمقاطعة سياتل، والمعهد الذي أعمل به بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس. مول معظم أبحاثي كرسي يوجين ويبر لدراسة التاريخ الأوروبي المعاصر بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، وقد سهل البحث كثيرا الثراء الاستثنائي الذي تتمتع به مكتبات جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس.
يظن معظم الناس أن التدريس يلي البحث في قائمة أولويات أساتذة الجامعة، غير أن فكرة هذا الكتاب جاءت في المقام الأول نتيجة لتجميع وثيقة حررتها وترجمتها بغرض تدريسها للطلاب: «الثورة الفرنسية وحقوق الإنسان: نبذة تاريخية وثائقية مختصرة (بوسطن ونيويورك: بيدفورد/سانت مارتينز برس، 1996).»
وقد ساعدني في إتمام هذا المشروع الحصول على زمالة من «صندوق المنح الوطنية للدراسات الإنسانية». وقبل أن أستهل كتابة الكتاب، نشرت مسودة مختصرة بعنوان: «الأصول المتناقضة لحقوق الإنسان» في الكتاب الذي حرره جيفري إن واسرستروم، ولين هانت، وماريلين بي يانج بعنوان «حقوق الإنسان والثورات» (لانهام، إم دي: رومان آند ليلتلفيلد، 2000)، من صفحة 3 إلى صفحة 17. وقد نشأت بعض الحجج المعروضة في الفصل الثاني لأول مرة بشكل مختلف في «الجسد في القرن الثامن عشر: مصادر حقوق الإنسان»، ديوجان، 203 (يوليو-سبتمبر 2003): 49-67.
ومنذ أن كان الكتاب مجرد فكرة وحتى خروجه في صورته الأخيرة، كان الطريق - على الأقل في حالتي - طويلا، وشاقا في بعض الأحيان، لكن يسره علي مساعدة أولئك المقربين والأعزاء. قرأت جويس آبلباي، وسوزان ديسان المسودات الأولى من الفصول الثلاثة الأولى وقدمتا اقتراحات رائعة لتحسينها، وأولت محررتي في دار نشر دابليو دابليو نورتون، آمي تشري، عناية خاصة للكتابة والحجج لا يجرؤ معظم مؤلفي الكتب إلا على أن يحلموا بها. ولولا مارجريت جاكوب ما كنت كتبت هذا الكتاب، فقد جعلتني أواصل العمل بحماستها الشديدة للأبحاث والكتابة، وبشجاعتها في المخاطرة بالتطرق إلى مجالات جديدة مثيرة للجدل، وبقدرتها على تنحية كل هذا جانبا كي تعد عشاء فاخرا، وهو أمر بالغ الأهمية. إنها تعرف جيدا كم أنا مدينة لها. وقد مات أبي أثناء كتابتي لهذا الكتاب، لكنني ما زلت أسمع كلمات التشجيع والدعم التي كان يقدمها لي ترن في أذني. وأهدي هذا الكتاب لأختي لي وجين تقديرا لكل ما تشاركناه على مدار سنين عديدة، مع أن هذا الإهداء لا يفيهما حق قدرهما؛ فقد علمتاني دروسي الأولى عن الحقوق، وتسوية الصراعات، والحب.
مقدمة
نحن نؤمن بأن هذه الحقائق من البديهيات.
أحيانا تنتج أشياء عظيمة عن تنقيح الكتابة تحت الضغط. كتب توماس جيفرسون في مسودته الأولى لإعلان الاستقلال التي أعدها في منتصف يونيو من عام 1776 يقول: «نحن نعتبر هذه الحقائق من المقدسات التي لا مجال لإنكارها؛ أن جميع الناس خلقوا متساوين ومستقلين، وأنهم يستمدون من هذا الخلق المتساوي حقوقا متأصلة ثابتة، من بينها حق حماية الحياة والحرية والسعي وراء السعادة.» وبفضل التنقيحات التي أجراها جيفرسون بنفسه في المقام الأول، تخلصت عبارته من عيوبها لتتحول إلى عبارة أوضح تتسم بنبرات واضحة رنانة: «نحن نؤمن بأن الحقائق الآتية من البديهيات، وهي أن جميع البشر قد خلقوا متساوين، وأن خالقهم قد حباهم بحقوق معينة لا يمكن انتزاعها، من بين هذه الحقوق حق الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة.» وبهذه الجملة الواحدة حول جيفرسون وثيقة من الوثائق التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر بشأن المظالم السياسية إلى إعلان دائم لحقوق الإنسان.
1
وبعد مرور ثلاثة عشر عاما، كان جيفرسون في باريس عندما بدأ الفرنسيون يفكرون في تحرير بيان لحقوقهم. وفي يناير من عام 1789 - قبل اقتحام سجن الباستيل بعدة أشهر - أعد صديق جيفرسون، الماركيز دي لافاييت - المحارب في حرب الاستقلال الأمريكية - الإعلان الفرنسي، بمساعدة جيفرسون على الأرجح. ومع سقوط سجن الباستيل في الرابع عشر من يوليو واندلاع الثورة الفرنسية بقوة، اكتسبت المطالبة بإعلان رسمي قوة دفع كبيرة. وعلى الرغم من جهود لافاييت المضنية في صياغة الوثيقة، فإن أحدا لم يستطع إخراجها بالشكل الذي قدمها به جيفرسون للكونجرس الأمريكي. ففي العشرين من أغسطس، فتحت الجمعية الوطنية التأسيسية الجديدة باب المناقشة حول أربع وعشرين مادة صاغتها لجنة لم يكن من السهل قيادتها بسبب عدد نوابها المفرط الذي وصل إلى أربعين نائبا. وبعد مرور ستة أيام من النقاش المحتدم والتعديلات التي لا حصر لها، لم يصادق النواب الفرنسيون إلا على سبع عشرة مادة فحسب ، ولما أنهك الجدال المرير المستمر النواب، وكانت هناك حاجة إلى الانتقال إلى بعض القضايا الأخرى الملحة، صوت النواب في السابع والعشرين من أغسطس 1789 بتعليق النقاش في أمر المسودة، والإقرار المؤقت بالمواد التي أجيزت بالفعل باعتبارها «إعلان حقوق الإنسان والمواطن».
كان البيان الذي صيغ على نحو متسرع جدا مذهلا من حيث بساطته وسعة إحاطته؛ فقد نادى الإعلان، الذي لم يأت قط على ذكر الملك، أو النبلاء، أو الكنيسة، بأن تكون «حقوق الإنسان الطبيعية الثابتة والمقدسة» هي أساس أي سلطة، وقد عزا السيادة إلى الأمة، وليس إلى الملك، وأعلن أن الجميع متساوون أمام القانون، ومن ثم لكل واحد الحق في الحصول على الوظائف والرتب بحسب قدراته وجدارته، وضمنيا لا يفضل رجل على رجل بناء على أصوله. بيد أن الجانب الأكثر إثارة للدهشة من أي ضمان بعينه تمثل في تعميم الحقوق الموضوعة؛ فإسناد البيان إلى «الناس»، و«الإنسان»، و«كل إنسان»، و«جميع الناس»، و«جميع المواطنين»، و«كل مواطن»، و«المجتمع»، و«كل مجتمع» جعل الإسناد إلى الشعب الفرنسي بمفرده يبدو ضئيلا تافها بالمقارنة.
وعلى هذا، أثار نشر الإعلان على الفور الرأي العام العالمي حول موضوع الحقوق، سواء الحقوق المستحقة للإنسان أو الواجبة عليه. وفي الرابع من نوفمبر من عام 1789، في إحدى العظات التي ألقاها في لندن الواعظ والفيلسوف ريتشارد برايس، صديق بنجامين فرانكلين، الناقد المستمر للحكومة الإنجليزية، أطرى برايس بحماس شديد على الحقوق الجديدة للإنسان فقال: «قد عشت حتى رأيت حقوق الإنسان مفهومة للناس أكثر من أي وقت مضى، والأمم تلهث وراء الحرية، التي بدا وكأنها نسيت دلالتها ومعناها.» ولما ثارت ثائرة إدموند بيرك، كاتب المقال المعروف وعضو البرلمان، من حماسة برايس الساذجة من أجل «أفكار الفرنسيين التجريدية الميتافيزيقية»، سطر في عجالة ردا متقدا بالغضب، ونال كتيبه «تأملات في الثورة في فرنسا» (1790) التقدير الفوري باعتباره نواة مذهب المحافظين السياسي. قال إدموند بيرك بغضب: «نحن لسنا أتباع روسو، نحن نعلم أننا لم نهتد إلى أي اكتشافات، ونرى أنه لن تكون هناك أي اكتشافات؛ في الأخلاقيات ... نحن لم نجر ونوثق كي يجري حشونا، مثل الطيور المحنطة في المتاحف، بالقش والأسمال البالية وقصاصات ورق حقوق الإنسان الغامضة.» أما الشيء الذي اتفق عليه كل من برايس وإدموند فهو الثورة الأمريكية؛ فكلاهما أيدها. لكن الثورة الفرنسية غالت في مطالبها أيما مغالاة، وسرعان ما تشكلت خطوط المعركة. فهل كان هذا بمنزلة انبلاج لفجر عصر جديد من الحرية القائمة على المنطق، أم بداية انحدار شديد نحو الفوضوية والعنف؟
2
وعلى مدار قرابة قرنين من الزمان، وعلى الرغم من البلبلة التي أثارتها الثورة الفرنسية، كان «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» تجسيدا لوعد حقوق الإنسان العالمية. وفي عام 1948، عندما تبنت الأمم المتحدة «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، نصت مادته الأولى على أنه: «يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق.» وكانت بالفعل المادة الأولى من إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 قد نادت بأنه: «يولد الناس ويعيشون أحرارا متساوين في الحقوق.» ومع أن التعديل اللغوي كان ذا مغزى، فلا يخفى على أحد التكرار البين في الوثيقتين.
لا تخبرنا أصول الوثائق بالضرورة بشيء ذي مغزى عن النتائج التي ترتبت عليها، فهل يهم بحق أن نعرف أن مسودة جيفرسون الأولية قد مرت بستة وثمانين تعديلا قبل أن تصل إلى حالتها النهائية سواء أجراها جيفرسون بنفسه، أو أدخلتها لجنة الخمس، أو الكونجرس؟ من الواضح أن جيفرسون وآدمز كانا يظنان أن هذا مهم؛ إذ ظلا حتى عشرينيات القرن التاسع عشر - أي في العقد الأخير من عمرهما المديد الحافل بالأحداث - يتجادلان حول من أسهم بماذا في الوثيقة. ومع ذلك فلم يكن لإعلان الاستقلال الأمريكي منزلة دستورية؛ إذ كان يعلن عن نوايا فحسب، ومر خمسة عشر عاما قبل أن تصدق الولايات المتحدة أخيرا على مشروع قانون الحقوق المختلف تمام الاختلاف في عام 1791. وقد زعم الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن بأنه يحمي الحريات الفردية، لكنه لم يمنع مجيء حكومة فرنسية قمعت الحقوق (عرفت باسم حكومة الإرهاب)، وصاغت الدساتير الفرنسية المستقبلية - التي ظهر الكثير منها - إعلانات مختلفة أو استغنت عن الإعلانات كلية .
غير أن الأكثر إزعاجا هو أن أولئك الذين أعلنوا بمنتهى الثقة أن الحقوق عالمية في أواخر القرن الثامن عشر، اتضح أنهم كانوا يفكرون في شيء أقل من العالمية بكثير. ولا عجب أنهم اعتبروا الأطفال، أو مختلي العقل، أو المساجين، أو الأجانب عديمي الأهلية، غير جديرين بالمشاركة الكاملة في العملية السياسية، فنحن نفعل هذا أيضا، ولكنهم استثنوا أيضا أولئك الذين لا يحوزون الممتلكات، والرقيق، والأحرار السود، والأقليات الدينية - في بعض الأحوال - والنساء، دائما وفي كل مكان. وفي السنوات الأخيرة أثارت هذه القيود التي فرضت على «كل الناس» العديد من التعليقات، حتى إن بعض الباحثين تشككوا هل حملت الإعلانات في طياتها أي معنى ينطوي على تحرير حقيقي؟! بل اعتبر مؤسسو تلك الإعلانات وواضعوها ومعلنوها من الصفوة والعنصريين وكارهي النساء؛ نتيجة عدم قدرتهم على رؤية الجميع متساوين في الحقوق بالفعل.
لا يجدر بنا أن نغفل القيود التي فرضها رجال القرن الثامن عشر على الحقوق، لكن إذا توقفنا عند هذه النقطة لنهنئ أنفسنا على «التقدم» النسبي الذي أحرزناه، فسنضل غايتنا. فكيف لأولئك الرجال، الذين عاشوا في مجتمعات قائمة على الرق، والخنوع، وذل طبيعي فيما يبدو، أن ينظروا إلى أناس يختلفون عنهم تمام الاختلاف، وللنساء أيضا في بعض الحالات، باعتبارهم مساوين لهم؟ كيف أصبحت المساواة في الحقوق حقيقة «بديهية» في مثل هذه الأماكن التي يستبعد وقوع هذا فيها؟ من المذهل أن يأتي رجال أمثال جيفرسون مالك العبيد، ولافاييت الأرستقراطي، على ذكر الحقوق البديهية الثابتة لكل الناس كما فعلا، فإذا استطعنا أن نفهم كيفية حدوث هذا، فسنفهم على نحو أفضل ماذا تعني لنا حقوق الإنسان اليوم.
مفارقة البداهة
على الرغم من اختلاف لغتي إعلاني القرن الثامن عشر، فإن كليهما استند على ادعاء بالبداهة. أوضح جيفرسون هذا عندما كتب: «نحن نؤمن بأن هذه الحقائق بديهية.» وقد نص الإعلان الفرنسي صراحة على أن: «الجهل والإهمال وتجاهل حقوق الإنسان هي وحدها أسباب شقاء المجتمع وفساد الحكومات.» وفي هذا الصدد لم يختلف عنهما كثيرا «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» الذي صيغ في عام 1948. لا شك في أن الإعلان الذي أصدرته الأمم المتحدة حمل نبرة أكثر قانونية عندما نص على أنه: «لما كان الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم، ومن حقوق متساوية وثابتة، يشكل أساس الحرية والعدل والسلام في العالم ...» بيد أنه شكل أيضا ادعاء بالبداهة؛ لأن عبارة «لما كان» تعني حرفيا «بما أن الحقيقة هي». وبعبارة أخرى، تعد عبارة «لما كان» صيغة قانونية للتأكيد على حقيقة بديهية.
هذا الادعاء بالبداهة، الذي يعد في غاية الأهمية فيما يخص حقوق الإنسان حتى في وقتنا هذا، يكشف عن مفارقة: فإذا كانت المساواة في الحقوق حقيقة بديهية غنية عن الإيضاح، فما الحاجة إلى هذا التشديد إذن، ولماذا لا يؤكد على هذا التشديد إلا في أوقات وأماكن بعينها؟ كيف يمكن لحقوق الإنسان أن تكون عالمية ما لم يعترف بها عالميا؟ هل ينبغي أن نرضى بالتفسير الوارد بالتصريح الذي قدمه واضعو إعلان عام 1948: «نحن متفقون على الحقوق شريطة ألا يسألنا أحد لماذا»؟ هل يمكن أن تكون هذه الحقوق بديهية في حين قضى الباحثون أكثر من قرنين من الزمان يتجادلون حول ما كان يقصده جيفرسون بعبارته؟ ولسوف يستمر الجدل إلى أجل غير مسمى؛ لأن جيفرسون لم يشعر قط بالحاجة إلى توضيح مقصده، علاوة على أنه لم يشأ أحد من لجنة الخمس أو من الكونجرس أن يعيد النظر في ادعائه، على الرغم من أنهم أدخلوا تعديلات مكثفة على أجزاء أخرى من نسخته الأولية. لقد وافقوه الرأي فيما يبدو، ناهيك عن أنه لو أن جيفرسون كان قد فسر مقصده، لتلاشت بديهية الادعاء؛ فالتأكيد الذي يتطلب برهانا لا يعود بديهيا.
3
أرى أن ادعاء البداهة أمر في غاية الأهمية فيما يخص تاريخ حقوق الإنسان، وهذا الكتاب مكرس لتفسير كيف كان هذا الادعاء مقنعا أيما إقناع في القرن الثامن عشر، ومن حسن الحظ أن الكتاب أيضا يضع تحت بؤرة التركيز نقطة بعينها من هذا التاريخ المتشعب للغاية. لقد أضحت حقوق الإنسان منتشرة في كل مكان في الوقت الحالي، حتى إنها تحتاج فيما يبدو إلى سعة تاريخية كبيرة مماثلة لاستيعابها؛ فهي تشتمل على الأفكار اليونانية عن الإنسان الفرد، والنظرية الرومانية عن القانون والحقوق، والمذاهب المسيحية في النفس البشرية ... وتكمن المجازفة في أن يصبح تاريخ حقوق الإنسان هو تاريخ الحضارة الغربية، أو في الوقت الحالي - في بعض الأحيان - تاريخ العالم بأسره. أفلا تقدم الحضارة البابلية القديمة، والديانة الهندوسية، والبوذية، والإسلام إسهاماتها أيضا؟ كيف لنا إذن أن نعلل التبلور المفاجئ لادعاءات حقوق الإنسان في نهاية القرن الثامن عشر؟
لا بد أن تتوافر في حقوق الإنسان ثلاث سمات متداخلة: لا بد أن تكون الحقوق «طبيعية» (أصيلة في الإنسان)، «متساوية» (واحدة للجميع)، و«عالمية» (قابلة للتطبيق في كل مكان). ولكي تصبح الحقوق حقوقا «للإنسان»، لا بد أن يحوزها جميع البشر على قدم المساواة في كل مكان على وجه البسيطة لا لسبب آخر سوى أنهم بشر. ولقد اتضح أن قبول السمة الطبيعية للحقوق أيسر من قبول سمة العالمية أو سمة المساواة. ونحن ما زلنا نتصارع بطرق عدة مع الآثار المترتبة على المطالبة بمساواة الحقوق وعالميتها. في أي عمر يحق للفرد التمتع بالمشاركة الكاملة في الحياة السياسية؟ هل يحق للمهاجرين - غير المواطنين - أن يشتركوا في التمتع بالحقوق؟ وأي حقوق؟
ولكن حتى طبيعية الحقوق وتساويها وعالميتها ليست كافية تماما؛ فحقوق الإنسان تصبح ذات مغزى ودلالة عندما يكون لها مضمون سياسي. إنها ليست حقوقا للبشر في البرية، بل هي حقوق للبشر تحت مظلة المجتمع. وهي ليست حقوقا للبشر في مقابل حقوق إلهية، أو حقوقا للبشر في مقابل حقوق الحيوانات؛ بل هي حقوق للبشر بعضهم إزاء بعض، ومن ثم هي حقوق مكفولة في العالم السياسي العلماني (حتى وإن أطلقت عليها صفة «مقدسة»)، إلى جانب أنها حقوق تتطلب من أصحابها مشاركة فعالة.
اكتسبت طبيعية الحقوق وتساويها وعالميتها تعبيرا سياسيا مباشرا للمرة الأولى في «إعلان الاستقلال الأمريكي» عام 1776، و«الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن» عام 1789. فعلى الرغم من أن مشروع مذكرة الحقوق الإنجليزي لعام 1689 أشار إلى «الحقوق والحريات القديمة» التي أرسى دعائمها القانون الإنجليزي والمستمدة من التاريخ الإنجليزي، فإنه لم يناد بتساوي الحقوق وعالميتها وطبيعيتها. وعلى النقيض، شدد إعلان الاستقلال الأمريكي على أن «جميع الناس خلقوا متساوين»، وأن جميعهم يملكون «حقوقا ثابتة». وبالمثل، نص إعلان حقوق الإنسان والمواطن على أنه «يولد الناس ويعيشون أحرارا متساوين في الحقوق». لم يخص بالذكر الفرنسيين وحدهم، ولا البيض، ولا الكاثوليك، بل «الناس»، اللفظة التي كانت تعني - وما زالت تعني - جميع البشر رجالا ونساء. وبعبارة أخرى، في وقت ما في الفترة ما بين عامي 1689 و1776، تحولت الحقوق التي غالبا ما كانت تعد قاصرة على فئة بعينها من الناس - المواليد الأحرار من الإنجليز على سبيل المثال - إلى حقوق للبشر جميعا؛ حقوق عالمية طبيعية، وضع لها الفرنسيون مصطلحا يعني «حقوق الإنسان».
4
حقوق الإنسان و«حقوق الفرد»
إذا قمنا بزيارة قصيرة إلى تاريخ المصطلحات، فسوف تساعدنا على أن نحدد بوضوح لحظة ظهور مصطلح «حقوق الإنسان». على الأرجح لم يستخدم أناس القرن الثامن عشر تعبير «حقوق الإنسان»، ومتى استخدموه كانوا يقصدون به عادة شيئا مختلفا عما نقصده نحن اليوم. فقبل عام 1789، غالبا ما تحدث جيفرسون - على سبيل المثال - عن «الحقوق الطبيعية»، ولم يبدأ في استخدام مصطلح «حقوق الفرد» إلا بعد عام 1789، وعندما استخدم مصطلح «حقوق الإنسان» كان يعني شيئا ذا طابع أكثر سلبية وأدنى من الناحية السياسية من الحقوق الطبيعية أو حقوق الفرد. ففي عام 1806 - على سبيل المثال - استخدم المصطلح في الإشارة إلى شرور تجارة الرقيق:
أهنئكم، أيها الأخوة المواطنون، على الدنو من الفترة التي يمكن أن تستخدموا فيها سلطتكم بصفة دستورية؛ لمنع مواطني الولايات المتحدة من المزيد من المشاركة في هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان التي دامت طويلا ضد سكان أفريقيا الذين لم يرتكبوا جرما، والتي تاقت طويلا أخلاقيات بلدنا وسمعتها ومصالحها إلى تحريمها.
ومع تأكيد جيفرسون على أن الأفارقة يتمتعون بحقوق الإنسان، فلم يلمح بتاتا إلى العبيد الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية في الوطن. فحقوق الإنسان، وفقا لتعريف جيفرسون، لا تتيح للأفارقة - ناهيك عن الأمريكيين من أصول أفريقية - حرية التصرف بأنفسهم .
5
إبان القرن الثامن عشر، تبين أن مصطلحات مثل «حقوق الإنسان»، و«حقوق البشرية»، «وحقوق الإنسانية»، في كل من اللغة الإنجليزية والفرنسية، مصطلحات عامة للغاية، فلا تمت بصلة مباشرة إلى الاستخدام السياسي؛ فكانت تشير إلى ما يميز ما هو بشري عما هو إلهي من ناحية، وعما هو حيواني من ناحية أخرى، وليس إلى الحقوق المتعلقة بالسياسة مثل حرية التعبير أو الحق في المشاركة في الحياة السياسية. وهكذا، في واحدة من الاستخدامات الأولى لمصطلح «حقوق الإنسانية» في اللغة الفرنسية (عام 1734)، سخر الناقد اللاذع واسع الاطلاع، نيكولاس لنيجلي-دوفريسنوي، الذي كان هو نفسه كاهنا كاثوليكيا، من «أولئك الرهبان الأفذاذ الذين عاشوا في القرن السادس والذين تخلوا عن كل «حقوق الإنسانية»، حتى إنهم رعوا كالحيوانات وسرحوا عارين عريا تاما». وبالمثل في عام 1756 ادعى فولتير على سبيل الهزل أن بلاد فارس كانت الدولة الملكية التي نعم فيها الفرد أيما نعمة «بالحقوق الإنسانية»؛ نظرا لأن الفارسيين اقتنوا أعظم «الموارد للتخلص من السأم». وظهر مصطلح «حق الإنسان» للمرة الأولى في اللغة الفرنسية عام 1763، بمعنى مماثل «للحق الطبيعي»، لكن لم يشع استخدامه، مع أن فولتير استخدمه في «رسالة التسامح»
6
واسعة الانتشار والتأثير.
وفي الوقت الذي ظل فيه المتحدثون بالإنجليزية يؤثرون استخدام مصطلح «الحقوق الطبيعية» أو كلمة «الحقوق» فحسب، طيلة القرن الثامن عشر، ابتكر الفرنسيون تعبيرا جديدا في ستينيات القرن الثامن عشر هو: «حقوق الفرد». ولكل من مصطلح «الحق الطبيعي (الحقوق الطبيعية)» أو «القانون الطبيعي» (في اللغة الفرنسية، تعبير واحد يحمل كلا المعنيين) تاريخ أطول يعود إلى مئات السنين، لكن ربما كان لمصطلح «الحق الطبيعي» عدة معان ممكنة نتيجة لذلك؛ فقد قصد به أحيانا ببساطة جعل الشيء يبدو منطقيا في إطار النظام التقليدي. ولهذا استخدم الأسقف بوسويه، المتحدث الرسمي عن الحاكم المطلق الملك لويس الرابع عشر، على سبيل المثال، مصطلح «الحق الطبيعي» فقط عند وصف دخول المسيح إلى السماء: («دخل إلى السماء بمقتضى حقه الطبيعي.»)
7
شاع استخدام مصطلح «حقوق الفرد» في فرنسا بعد ظهوره في كتاب جان جاك روسو «العقد الاجتماعي» عام 1762، على الرغم من أن روسو لم يطرح تعريفا للمصطلح، وعلى الرغم من أنه استخدمه متلازما مع «حقوق الإنسانية» و«حقوق المواطن» و«حقوق السيادة»، أو ربما بسبب ذلك. وأيا كان السبب، فبحلول شهر يونيو عام 1763، أصبح مصطلح «حقوق الفرد» مصطلحا شائعا بناء على رسالة إخبارية سرية:
أدى ممثلو المسرح الفرنسي اليوم للمرة الأولى مسرحية بعنوان «مانكو» (تدور أحداثها حول إمبراطورية الإنكا القديمة في بيرو) التي تحدثنا عنها آنفا. إنها واحدة من أسوأ المسرحيات التراجيدية نسجا. ثمة دور لأحد الهمجيين كان يمكن أن يصير دورا غاية في الروعة؛ فهو يسرد شعرا يذكر فيه كل شيء قرأناه مبعثرا عن الملوك، والحرية، وحقوق الفرد، في كتب «عدم المساواة في الظروف»، و«إيميل»، و«العقد الاجتماعي».
ومع أن المسرحية نفسها لم تستخدم في الحقيقة عبارة «حقوق الفرد» بدقة، وإنما العبارة المرتبطة بها: «حقوق كينونتنا»، فإن المصطلح قد دخل بوضوح في إطار الاستخدام الثقافي، وكان يرتبط بالفعل بأعمال روسو مباشرة. وبعدئذ استخدمه أدباء آخرون من عصر النهضة أمثال البارون دي هولباخ، ورينال، وميرسيير في سبعينيات وثمانينيات القرن الثامن عشر.
8
وقبل عام 1789 لم ينتقل مصطلح «حقوق الفرد» إلى اللغة الإنجليزية إلا قليلا. لكن الثورة الأمريكية حفزت الماركيز دي كوندرسيه، بطل عصر التنوير الفرنسي، ليقوم بالمحاولة الأولى لتعريف «حقوق الفرد» التي في رأيه اشتملت على أمن الفرد، وأمن الممتلكات، والعدالة النزيهة المحايدة، والحق في المساهمة في صياغة القوانين. وفي مقاله الذي نشره عام 1786 بعنوان «عن تأثير الثورة الأمريكية على أوروبا»، ربط صراحة حقوق الفرد بالثورة الأمريكية: «إن المشهد الرائع لأمة عظيمة تؤخذ فيها حقوق الفرد مأخذ الاحترام، لهو نافع لبقية الأمم، على الرغم من الفروق في المناخ والعادات والدساتير.» وصرح بأن إعلان الاستقلال الأمريكي ليس أقل من «عرض بسيط وسام لهذه الحقوق التي هي شديدة القدسية، وفي الوقت نفسه منسية منذ زمن طويل». وفي يناير عام 1789 استخدم إيمانويل جوزيف سييس تعبير «حقوق الفرد» في كتيبه التحريضي المناوئ لطبقة النبلاء الذي حمل عنوان: «ما الطبقة الثالثة؟» وأشارت مسودة لافاييت لإعلان الحقوق في يناير عام 1789 إشارة واضحة إلى «حقوق الفرد»، وتكرر الأمر في مسودة كوندرسيه التي صاغها في أوائل عام 1789. ومنذ ربيع 1789 - حتى من قبل سقوط سجن الباستيل في الرابع عشر من يوليو - شاعت في الأوساط السياسية الفرنسية الأقوال عن الحاجة إلى وجود إعلان عن «حقوق الفرد».
9
وعندما بزغت لغة حقوق الإنسان في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، لم يكن هناك في بادئ الأمر تعريف واضح لهذه الحقوق. لم يقدم روسو أي تفسير عندما استخدم مصطلح «حقوق الفرد»، وعرفها ويليام بلاكستون، فقيه القانون الإنجليزي، على أنها: «الحرية الطبيعية للبشر»، بمعنى «الحقوق المطلقة للفرد، باعتباره إنسانا حرا منح القدرة على التمييز بين الخير والشر». ومعظم أولئك الذين استخدموا العبارة في فرنسا في سبعينيات وثمانينيات القرن الثامن عشر، أمثال رمزي عصر التنوير اللذين كانا مثارا للجدل؛ البارون دي هولباخ والكونت دي ميرابو، أشاروا إلى حقوق الفرد كما لو كانت واضحة وضوح الشمس وليست في حاجة إلى دفاع أو تعريف، وبعبارة أخرى، كانت حقوقا بديهية. زعم دي هولباخ - على سبيل المثال - أنه متى تضاءلت خشية الإنسان من الموت، «فعندئذ سيدافع عن حقوق الفرد على نحو أكثر جسارة وإقداما.» وشجب ميرابو أعداءه الألداء «معدومي الشخصية والضمير، لأنهم لا يملكون أدنى فكرة على الإطلاق عن حقوق الفرد». ولم يقدم أحد على الإطلاق قائمة مفصلة بهذه الحقوق قبل عام 1776 (وهو تاريخ إعلان حقوق ولاية فيرجينيا الذي صاغه جورج ماسون).
10
ونجح في إماطة اللثام عن غموض حقوق الإنسان القس الكالفيني الفرنسي جان بول رباءوت سانت إتيان، الذي كتب إلى الملك الفرنسي في عام 1787 ليتظلم بشأن إعاقة «مرسوم التسامح» المقترح من أجل البروتستانت أمثاله. تشجع رباءوت بالشعور المتزايد لمصلحة حقوق الفرد، فأصر قائلا: «نحن نعرف اليوم كنه الحقوق الطبيعية، وهي قطعا تمنح الأفراد أكثر مما يمنحه المرسوم للبروتستانت ... لقد حان الوقت الذي لم يعد مقبولا فيه لأي قانون أن ينقض جهارا حقوق الإنسانية التي باتت معروفة حق المعرفة للعالم أجمع.» ولربما باتت حقوق الإنسانية «معروفة حق المعرفة»، غير أن رباءوت نفسه سلم بأن ملكا كاثوليكيا لا يمكن أن يجيز رسميا حق الكالفينيين في ممارسة حقهم في العبادة العامة. وخلاصة القول، اعتمد كل شيء آنذاك - كما هي الحال الآن أيضا - على تفسير عبارة الشيء الذي «لم يعد مقبولا».
11
كيف أصبحت الحقوق بديهية
من العسير تحديد كنه حقوق الإنسان؛ نظرا لأن تعريفها - بل وجودها نفسه في واقع الأمر - يعتمد على المشاعر بالقدر نفسه الذي يعتمد به على المنطق. وادعاء البداهة يعتمد في آخر المطاف على مخاطبة العاطفة؛ فهو مقنع إذا مس شغاف قلب الفرد، علاوة على أننا موقنون بشدة بأن حق الإنسان يكون موضع نزاع عندما ننزعج جراء انتهاكه. لقد علم رباءوت من سانت إتيان أنه يستطيع أن يخاطب المعرفة الضمنية بما «لم يعد مقبولا». وفي عام 1755 كتب مؤلف عصر النهضة الفرنسي المؤثر دنيس ديدرو عن «الحق الطبيعي» يقول: «إن استخدام هذا المصطلح مألوف للغاية، حتى إنه يكاد يكون جميع الناس على قناعة داخلية أن هذا الحق واضح وضوح الشمس. وهذا الشعور الداخلي يتقاسمه كل من الفيلسوف والرجل العادي الذي لم يسبق له أن مارس التأمل قط.» وقدم ديدرو - على غرار آخرين من معاصريه - تلميحا غامضا فحسب لمعنى الحقوق الطبيعية، فخلص إلى الآتي: «بصفتي إنسانا، لست أملك حقوقا طبيعية أخرى ثابتة بحق بخلاف تلك الحقوق التي تملكها الإنسانية.» بيد أنه وضع يده على أهم سمة من سمات حقوق الإنسان؛ أنها حتمت وجود «شعور داخلي»
12
معين يتقاسمه نطاق عريض من البشر.
وحتى فيلسوف القانون الطبيعي السويسري المتشدد جان جاك بورلماكي أصر على أن الحرية لا يمكن بلوغها إلا من خلال المشاعر الداخلية لكل إنسان عندما صرح قائلا: «مثل هذه الأدلة الشعورية تسمو فوق كل عائق وتولد أرسخ القناعات الإيمانية.» وحقوق الإنسان ليست مجرد مذهب صيغ في وثائق، بل هي في جوهرها نزعة نحو الآخرين، أو مجموعة من القناعات حول كنه الناس وكيف يميزون الصواب من الخطأ في العالم العلماني. وكان لا بد للأفكار الفلسفية، والتقاليد الشرعية ، والسياسات الثورية أن تتحلى بمثل هذا النوع من المرجعية الشعورية الداخلية كيما تصير حقوق الإنسان «بديهية» بالفعل. وكما أصر ديدرو، كان لا بد أن يشعر كثير من الناس بهذه المشاعر، وليس فقط الفلاسفة الذين كتبوا عنها.
13
كان تعزيز هذه الأفكار المتعلقة بالحريات والحقوق في جوهره مجموعة من الافتراضات عن الاستقلال الفردي؛ فلكي تكون لدينا حقوق للإنسان، كان لا بد أن ينظر إلى الناس باعتبارهم أشخاصا مستقلين قادرين على إبداء رأي أخلاقي مستقل، فكما وصفها بلاكستون؛ حقوق الإنسان تقتضي أن يعتبر الفرد «إنسانا حرا منح القدرة على التمييز بين الخير والشر». لكن لكي يصبح هؤلاء الأفراد المستقلون أعضاء في أحد المجتمعات السياسية بناء على تلك الآراء الأخلاقية المستقلة، كان لا بد أن يقدروا أولا على التعاطف مع الآخرين. سيتمتع كل فرد بحقوقه فقط إذا أمكن النظر لكل الناس على أنهم متساوون بصورة جوهرية. لم تكن المساواة مجرد مفهوم تجريدي أو شعار سياسي، وكان لا بد أن تدمج بطريقة ما في طبيعة الإنسان.
وعلى الرغم من أننا نأخذ أفكار الاستقلال الذاتي والمساواة، بالإضافة إلى حقوق الإنسان، على أنها مسلم بها، فإنها لم تكتسب فعاليتها إلا في القرن الثامن عشر. ولقد تعقب فيلسوف الفلسفة الأخلاقية المعاصر جيه بي شنيويند أصول ما يطلق عليه «نشأة الاستقلالية»، وأكد شنيويند قائلا: «ركزت النظرة الجديدة التي بزغت في نهاية القرن الثامن عشر على الاعتقاد بأن كل الأشخاص الطبيعيين قادرون بالتساوي على العيش معا في إطار فضيلة الاستقلال الذاتي.» ويكمن وراء أولئك «الأشخاص الطبيعيين» تاريخ طويل من الكفاح. في القرن الثامن عشر (وحتى وقتنا هذا في الواقع)، لم يمكن تصور كافة «الناس» على أنهم قادرون بالتساوي على الاستقلال الذاتي الأخلاقي؛ إذ اشتمل الأمر على سمتين وثيقتي الصلة لكنهما مختلفتان بوضوح: القدرة على تحكيم العقل، والاستقلالية في اتخاذ القرار. ولا بد من توافر كلتيهما لكي يتمتع الفرد بالاستقلالية الأخلاقية. وتنعدم القدرة الضرورية على تحكيم العقل لدى فاقدي الأهلية من أطفال ومختلي العقل، لكنهم ربما يكتسبون هذه القدرة أو يستعيدونها يوما ما. وكما الأطفال، كان الرقيق، والخدم، ومن ليست لديهم ممتلكات، والنساء، يفتقرون إلى وضع الاستقلال اللازم كيما يكونوا مستقلين استقلالا كاملا. ولعل الأطفال يتمتعون يوما ما بالاستقلال الذاتي عندما يكبرون، والخدم عندما يتركون الخدمة، ومن ليست لديهم ممتلكات عندما يبتاعون الممتلكات، بل حتى الرقيق عندما يشترون حريتهم. وبدا أن النساء وحدهن ليست أمامهن أي من هذه الخيارات؛ فقد وضعن في إطار أنهن معتمدات بالفطرة على آبائهن أو أزواجهن. ولو أن أنصار حقوق الإنسان العالمية المتساوية الطبيعية استثنوا تلقائيا بعض فئات الناس من مزاولة تلك الحقوق، فهذا يرجع في المقام الأول إلى أنهم يرون هذه الفئات أقل من أن تتمتع بالقدرة الكاملة على الاستقلالية الأخلاقية.
14
غير أن قدرة التعاطف حديثة الاكتشاف استطاعت أن تقاوم أقدم الآراء المسبقة وأكثرها رسوخا؛ ففي عام 1791 منحت الحكومة الفرنسية الثورية اليهود المساواة في الحقوق، وفي عام 1792 منح حتى غير مقتني الممتلكات حق الاقتراع، وفي عام 1794 ألغت الحكومة الفرنسية الرق رسميا. ولم يكن لكل من الاستقلالية والتعاطف شكل محدد المعالم، فهما مهارتان يمكن اكتسابهما، كما يمكن تفنيد القيود «المقبولة» المفروضة على الحقوق، وقد كانت تفند بالفعل. ولا يمكن وضع تعريف نهائي دائم للحقوق؛ ذلك لأن قاعدتها الشعورية تتغير على الدوام، ويعزى هذا جزئيا إلى إعلانات الحقوق. وتظل الحقوق عرضة للمناقشة؛ لأن مفهومنا عن هوية من يملك الحقوق وماهية هذه الحقوق يتغير على الدوام. إن ثورة حقوق الإنسان مستمرة بحكم طبيعتها الخاصة.
إن الاستقلال الذاتي والقدرة على التعاطف هما ممارستان ثقافيتان، وليستا مجرد فكرتين، ومن ثم فهما مجسمتان بالمعنى الحرفي، بمعنى أن لهما أبعادا فيزيائية تماما مثل الأبعاد العاطفية. يتوقف الاستقلال الفردي على إحساس متزايد بانفصال الأجساد البشرية وقدسيتها: فجسدك ملك لك أنت، وجسدي ملك لي أنا، وينبغي لكلينا أن يحترم الحدود بين جسدينا. أما التعاطف فهو يتوقف على الاعتراف بأن الآخرين يشعرون ويفكرون مثلنا، وأن مشاعرنا الداخلية متشابهة تشابها جوهريا. ولكي يصير الإنسان مستقلا ذاتيا، فلا بد أن يكون منفصلا قانونيا، وفي انفصاله هذا يتمتع بالحماية ، لكن لكي تدعم الحقوق هذا الانفصال الجسدي، لا بد أن تقدر فردية الإنسان تقديرا يغلب عليه الطابع العاطفي. تتوقف حقوق الإنسان على امتلاك الذات، وعلى الاعتراف بأن كل الآخرين [يمتلكون ذواتهم] على قدم المساواة. وعدم اكتمال فكرة حق الآخرين في امتلاك ذواتهم هو المسئول عن ظهور أشكال عدم المساواة كافة في الحقوق التي شغلتنا على مر التاريخ.
لم تظهر الاستقلالية الذاتية والتعاطف في القرن الثامن عشر بدون سابق إنذار، بل كانت لهما جذور عميقة. فعلى المدى الطويل لقرون عديدة، بدأ الأفراد ينسحبون بعيدا عن حبائل المجتمع وأصبحوا أفرادا مستقلين أكثر فأكثر، من الناحية القانونية والنفسية. فقد أوجد الخجل المتزايد طيلة الوقت من الوظائف الجسدية والإحساس المتزايد بآداب اللياقة الجسدية احتراما أعظم للتكامل الجسدي وحدودا أوضح للفصل بين أجساد الأفراد. وبمرور الوقت، بدأ الناس ينامون في الفراش بمفردهم أو مع الزوج أو الزوجة فقط، واستخدموا الأواني لتناول الطعام، وبدءوا ينظرون إلى السلوك الذي كانوا يقبلونه قبلا، على أنه سلوك كريه، مثل إلقاء الطعام على الأرض أو مسح فضلات الجسم في الملابس. وكان التغير المستمر في الأفكار والنظريات المتعلقة بدواخل النفس وعمقها، بدءا من الروح المسيحية ومرورا بالضمير البروتستانتي ووصولا إلى أفكار القرن الثامن عشر عن الإدراك الحسي، قد ملأ النفس بمحتوى جديد. وقد حدثت كل هذه العمليات على مدى فترة زمنية طويلة.
لكن حدثت هناك طفرة مفاجئة في تطور هذه الممارسات في النصف الثاني من القرن الثامن عشر؛ صارت سلطة الآباء المطلقة على أبنائهم موضع تساؤل، وبدأت جموع الناس تشاهد العروض المسرحية أو تنصت إلى الموسيقى في هدوء، نافس فن تصوير الأشخاص وتصوير مشاهد الحياة اليومية هيمنة اللوحات الزيتية التي تتناول الأساطير والتاريخ التابعة للرسم الأكاديمي، وانتشرت الروايات والصحف، مما أتاح وصول قصص الحياة العادية إلى أيدي قاعدة كبيرة من الجموع، وبدأ الناس يستهجنون كلا من التعذيب الذي كان جزءا من العملية القضائية، وأشكال العقاب البدني الأكثر تطرفا. كل هذه التغيرات أسهمت في تعزيز الإحساس بالانفصال وامتلاك كل فرد لجسده ، بالإضافة إلى إمكانية التعاطف مع الآخرين.
ولأفكار التكامل الجسدي والتفرد التعاطفي، التي نتعرض لها في الفصول التالية، تاريخ لا يختلف عن تاريخ حقوق الإنسان، التي تجمعها بها صلة وثيقة. وبعبارة أخرى، بدا أن التغيرات التي طرأت على وجهات النظر حدثت بدون سابق إنذار في منتصف القرن الثامن عشر. تأمل على سبيل المثال مسألة التعذيب؛ ففي الفترة ما بين عامي 1700 و1750، أشارت معظم استخدامات كلمة «التعذيب» في اللغة الفرنسية إلى الصعوبات التي جابهها الكاتب عندما كان يقدح زناد فكره للعثور على التعبير الموفق. في هذا أشار ماريفو عام 1724 إلى «تعذيب ذهن المرء كي يخرج بالتأملات». أما ذلك التعذيب المصرح به قانونيا للحصول على الاعترافات باقتراف جريمة أو أسماء شركاء الجريمة، فقد بات قضية جوهرية بعدما هاجم مونتيسكيو هذه الممارسات في كتابه «روح القوانين» (عام 1748)؛ ففي واحدة من أكثر الفقرات التي صاغها تأثيرا، يؤكد قائلا: «كتب عدد هائل من الرجال الشجعان والعباقرة في مناهضة هذه الممارسة (التعذيب القضائي) حتى إنني لا أجرؤ على أن أنبس ببنت شفة من بعدهم.» ثم يمضي قدما في حديثه في كلمات أكثر غموضا فيقول: «كنت سأقول إنها قد تليق بالحكومات المستبدة، حيث كل شيء يثير الخوف يعد جزءا من أدوات الحكومة؛ كنت سأقول إن الرقيق وسط اليونانيين والرومانيين ... لكنني أسمع صوت الطبيعة يعارضني بقوة.» وتقدم البداهة هنا أيضا - في قوله «صوت الطبيعة يعارضني بقوة» - أساس النقاش. وقد لحق بالركب بعد مونتيسكيو فولتير وكثيرون غيره، لا سيما بيكاريا الإيطالي. وبحلول ثمانينيات القرن الثامن عشر، بات إلغاء التعذيب والأشكال الوحشية للتعذيب البدني من المواد الهامة في مذهب حقوق الإنسان الجديد.
15
وقدمت التغيرات التي طرأت على ردود الفعل تجاه أجساد الآخرين والذوات الدعم الرئيسي للأساس العلماني الجديد للسلطة السياسية، ومع أن جيفرسون كتب أن «خالقهم» حباهم بحقوقهم، فإن دور الخالق انتهى عند هذه النقطة. فالحكومة لم تعد تعتمد على الله، ناهيك عن الاعتماد على تفسير الكنيسة لإرادة الله. لقد قال جيفرسون: «أنشئت الحكومات وسط الناس كي تكفل هذه الحقوق»، وهي تستمد قوتها «من رضا المحكومين». بالمثل نص إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي لعام 1789 على أن: «هدف كل اتحاد أو تجمع سياسي هو حفظ الحقوق الطبيعة التي للإنسان والتي لا يجوز مسها»، و«يستند أساس كل سيادة على الأمة في المقام الأول». وبمقتضى وجهة النظر هذه، تستمد السلطة السياسية من الطبيعة الداخلية للأفراد وقدرتهم على خلق مجتمع من خلال الرضا والقبول. وقد بحث علماء السياسة والمؤرخون هذا المفهوم عن السلطة السياسية من زوايا مختلفة، لكنهم لم يولوا الكثير من الانتباه إلى وجهة نظر الأجساد والذوات التي جعلت هذا المفهوم ممكنا.
16
وسوف يعظم نقاشي من تأثير أنواع جديدة من التجارب؛ بدءا من رؤية صور معروضة في المعارض العامة ووصولا إلى قراءة الروايات الرسائلية التي تحظى بشعبية هائلة والتي تدور عن الحب والزواج؛ فمثل تلك التجارب ساعدت في نشر ممارسات الاستقلال الذاتي والتعاطف. زعم عالم السياسة بيندكت أندرسون أن الصحف والروايات قد خلقت «المجتمع المتخيل» الذي تحتاجه القومية كي تنتعش. ويعد المصطلح الذي يمكن أن يشار إليه ب «التعاطف المتخيل» حجر أساس حقوق الإنسان وليس القومية، ولا يقصد بكلمة «متخيل» هنا معنى «الاختلاق»، بل معنى أن التعاطف يتطلب قفزة إيمانية في تصور أن شخصا آخر هو مثلك. وقد أنتجت قصص التعذيب هذا التعاطف المتخيل عن طريق رؤى جديدة للألم، كما ولدته الروايات عن طريق تحفيز أحاسيس جديدة عن الذات الداخلية، وعزز كل بطريقته الخاصة فكرة مجتمع يقوم على أشخاص مستقلين ذاتيا ومتعاطفين بإمكانهم التوحد بقيم كونية أعظم خارج محيط عائلاتهم المباشرة، أو انتماءاتهم الدينية، أو حتى بلادهم.
17
وليس ثمة طريقة سهلة أو واضحة لإثبات تأثير التجارب الثقافية الجديدة في الناس الذين عاشوا في القرن الثامن عشر أو حتى قياس هذا التأثير، ناهيك عن تأثيرها في مفاهيمهم عن الحقوق. ولقد ثبت أن الدراسات العلمية للاستجابات في عصرنا الحالي للقراءة أو مشاهدة التليفزيون صعبة للغاية، وهي التي تتمتع بمزية أن الخاضعين للتجربة أحياء يمكن تعريضهم لاستراتيجيات بحث دائمة التغير. ومع ذلك يحرز أخصائيو الجهاز العصبي وأطباء علم النفس الإدراكي بعض التقدم في ربط بيولوجية المخ بالنتائج النفسية وبالنتائج الاجتماعية والثقافية في نهاية الأمر. لقد أثبتوا - على سبيل المثال - أن القدرة على تأليف القصص تقع في نطاق بيولوجية المخ، وتعد مهمة للغاية في تكوين أي فكرة عن النفس. وتؤثر أنواع معينة من التلف الذي يلحق بالمخ على فهم القصص، وثمة أمراض مثل مرض التوحد توضح أن القدرة على التعاطف - أي القدرة على الاعتراف بأن الآخرين لديهم ذهن مثل ذهنك - لها أساس بيولوجي. بيد أن هذه الدراسات لا تتناول غالبا سوى طرف واحد فحسب من المعادلة، وهو الجانب البيولوجي. فمع أن معظم الأطباء النفسيين، بل حتى بعض أخصائي الأعصاب، متفقون على أن المخ نفسه يتأثر بالقوى الاجتماعية والثقافية، فقد كانت دراسة مثل هذا التفاعل أكثر صعوبة. بالفعل ثبت أن دراسة النفس ذاتها عملية غاية في الصعوبة. ونحن نعلم أن لنا تجربة تتمثل في أن لكل منا نفسا، لكن علماء الأعصاب لم يفلحوا في تحديد موقع هذه التجربة، ناهيك عن تفسير آلية عملها.
18
إذا كانت العلوم العصبية والعقلية والنفسية لا تزال متشككة في طبيعة النفس، فربما ليس من المستغرب إذن أن المؤرخين لم يحاولوا تناول هذا الموضوع بالمرة. لعل معظم المؤرخين يرون أن النفس قد شكلتها إلى حد ما العوامل الاجتماعية والثقافية، بمعنى أنها في القرن العاشر كانت تعني شيئا مختلفا تماما عما تعنيه اليوم. ومع ذلك فلا يعرف الكثير عن تاريخ النفس باعتبارها مجموعة من الخبرات؛ فقد استفاض الباحثون بشدة في الكتابة عن بزوغ الفردية والاستقلالية الذاتية باعتبارهما مذهبين، لكنهم كتبوا أقل القليل عن الكيفية التي قد تتغير بها النفس بمرور الوقت. وأتفق مع المؤرخين الآخرين في أن معنى النفس يتغير بمرور الوقت، وأظن أن تجربة النفس - وليس مجرد الفكرة - تتغير لدى بعض الناس في القرن الثامن عشر تغيرا حاسما.
تعتمد حجتي على فكرة أن الاطلاع على قصص التعذيب أو روايات الرسائل كانت له تأثيرات مادية تحولت إلى تغيرات طرأت على المخ ثم ظهرت في صورة مفاهيم جديدة عن منظومة الحياة الاجتماعية والسياسية. فقد خلقت أنواع جديدة من القراءة (والمشاهدة والإنصات) تجارب فردية جديدة (التعاطف) أوجدت بدورها مفاهيم اجتماعية وسياسية جديدة (حقوق الإنسان). وأحاول في هذه الصفحات أن أزيل اللبس عن آلية عمل العملية. ولما أغفل مجال دراستي للتاريخ لزمن طويل أشكال النقاش النفسي كافة - فنحن المؤرخين نتحدث عادة عن الاختزال النفسي بينما لا نأتي قط على ذكر الاختزال الاجتماعي أو الثقافي - فقد أغفل إلى حد بعيد إمكانية إيراد حجة أو إجراء نقاش يقوم على سرد لما يدور بداخل النفس.
إنني أحاول الآن أن أعيد تركيز الانتباه على ما يدور في عقول الأفراد. وقد تبدو عقول الأفراد مكانا واضحا للبحث عن تفسير للتغيرات الاجتماعية والسياسية القادرة على إحداث التحول، ولكن عقول الأفراد - على خلاف عقول المفكرين والأدباء العظماء - قد أغفلت على نحو مثير للدهشة في أعمال العلوم البشرية والاجتماعية الحديثة. لقد انصب التركيز على السياقات الاجتماعية والثقافية، وليس على الطريقة التي بها تفهم عقول الأفراد هذه السياقات وتعيد تشكيلها. وأظن أن هذا التغير الاجتماعي والسياسي - الذي تمثله حقوق الإنسان في هذه الحالة - يحدث نتيجة لأن أفرادا كثيرين قد اجتازوا تجارب مشابهة، ليس لأنهم جميعا عاشوا في نفس السياق الاجتماعي، بل لأنه من خلال تفاعلاتهم بعضهم مع بعض وقراءتهم واطلاعهم خلقوا فعليا سياقا اجتماعيا جديدا. خلاصة القول أنني ما زلت عند رأيي أن أي قصة موضوعها تغير تاريخي لا بد أن تعلل في نهاية المطاف التغير الحادث في تفكير الأفراد، ولكي تصبح حقوق الإنسان حقوقا بديهية، اضطر الناس العاديون أن يعتنقوا مفاهيم جديدة ولدتها أنواع جديدة من المشاعر.
الفصل الأول
فيض المشاعر
قراءة الروايات وتخيل المساواة
قبل أن ينشر روسو كتابه «العقد الاجتماعي» بعام، جذب أنظار العالم إليه من خلال روايته الأكثر مبيعا «جولي، أو إلواز الجديدة» (1761). ومع أن القراء المعاصرين ينظرون أحيانا إلى الرواية الرسائلية أو المكتوبة في صورة خطابات على أنها بطيئة التطور على نحو مثير للضجر، فإن قراء القرن الثامن عشر تجاوبوا معها تجاوبا شعوريا عميقا، لقد أثار العنوان الفرعي توقعاتهم؛ ذلك لأن قصة العصور الوسطى التي تدور حول حب إلواز وأبلارد المقدر له الفشل كانت ذائعة الصيت، والتي فيها أغوى فيلسوف القرن الثاني عشر، رجل الإكليروس الكاثوليكي، بيتر أبلارد، تلميذته إلواز ودفع ثمن ذلك غاليا على يد عمها الذي أخصاه، وبعد أن انفصل الحبيبان إلى الأبد، أخذا يتبادلان خطابات الهيام التي أسرت ألباب القراء على مر العصور. وللوهلة الأولى بدت محاكاة روسو المعاصرة لهذه القصة الواقعية تشير إلى اتجاه مختلف تمام الاختلاف؛ فإلواز الجديدة، التي هي جولي في قصة روسو، تقع في غرام مدرسها أيضا، لكنها تتخلى عن حبيبها سانت برو المعدم نزولا على طلب والدها المتسلط بأن تتزوج من وولمار، الجندي الروسي الذي يكبرها سنا، والذي أنقذ حياة والدها ذات مرة. إنها لا تتغلب على مشاعرها تجاه سانت برو فحسب، بل تعلمت أيضا على ما يبدو أن تحبه كمجرد صديق قبل أن تموت بعد إنقاذ ابنها الصغير من الغرق. فهل قصد روسو في قصته أن يشيد برضوخها للسلطة الأبوية والزوجية، أم أنه رمى إلى تصوير تضحيتها برغباتها الخاصة على أنها مأساة؟
ولا تفسر الحبكة الدرامية - حتى مع الغموض الذي يشوبها - فيض المشاعر المتفجر الذي شعر به قراء روسو؛ فما حرك مشاعرهم هو توحدهم الشديد مع شخصيات الرواية، ولا سيما جولي. ولما كان روسو يحظى بالفعل بشهرة عالمية، فقد انتشرت أخبار اقتراب نشر روايته الجديدة كالنار في الهشيم؛ كان أحد أسباب هذا هو أنه قرأ فقرات منها على مسامع العديد من الأصدقاء، ومع أن فولتير هزأ منها واصفا إياها ب «النفاية البائسة»، فإن جان لو رون دي المبير، المحرر المساعد لدنيس ديدرو في «موسوعة الفنون والعلوم والحرف»، كتب إلى روسو يخبره أنه «التهم» الكتاب التهاما. وقد نبه روسو إلى أن يتوقع النقد في «بلد يسهب أبناؤه في الحديث عن الأحاسيس والمشاعر ولا يعرفون عنها إلا أقل القليل». أقرت صحيفة «دي سافانت» أن الرواية بها عيوب، بل بعض الفقرات المليئة بالإطناب، إلا أنها انتهت إلى أن قساة الأفئدة وحدهم هم من يستطيعون أن يقاوموا «فيض المشاعر الذي يجتاح النفس بشدة، والذي يعتصر من أعين الناس، بقوة قاهرة مستبدة، تلك الدموع المريرة».
1
كتب رجال الحاشية الملكية، ورجال دين، وعسكريون، وأناس عاديون من شتى مناحي الحياة إلى روسو يصفون شعورهم ب «نار مستعرة آكلة» تجتاحهم، و«تراكم لمشاعر متأججة واضطرابات متزايدة». روى أحدهم أنه لم يبك موت جولي، بل بالأحرى كان «يولول ويعوي كالحيوانات» (انظر الشكل رقم
1-1 ). وكما علق أحد معلقي القرن العشرين على هذه الخطابات التي بعثها القراء إلى روسو، فإن قراء الرواية في القرن الثامن عشر لم يقرءوها بسرور، بل ب «شغف، واهتياج، وتشنجات، وتنهدات». وظهرت الترجمة الإنجليزية في غضون شهرين من صدور النسخة الفرنسية الأصلية، وتبعها صدور عشر طبعات باللغة الإنجليزية في الفترة بين عامي 1761 و1800. وصدرت مائة وخمس عشرة طبعة من النسخة الفرنسية في نفس الفترة؛ لتسد الشهية الشرهة للجماهير من قراء الفرنسية في جميع أنحاء العالم.
2
شكل 1-1: موت جولي. (أثار هذا المشهد الأسى أكثر من بقية مشاهد رواية «جولي، أو إلواز الجديدة». رسم هذه الصورة نيكولاس ديلوناي استلهاما من لوحة الفنان المعروف جان ميشيل مورو التي ظهرت في طبعة عام 1782 لمجموعة أعمال روسو.)
عرضت «جولي» قراءها لشكل جديد من أشكال التعاطف. ومع أن روسو ساهم في رواج مصطلح «حقوق الفرد»، فلا تكاد حقوق الإنسان بأي صورة تكون الموضوع الرئيسي لروايته التي تدور عن المشاعر والحب والفضيلة. على أن «جولي» شجعت على التوحد المشحون بالمشاعر مع شخصيات الرواية، وبهذا مكنت القراء من التوحد الذي يتخطى الطبقات الاجتماعية والنوع والحدود القومية؛ إذ كان قراء القرن الثامن عشر - حالهم حال سابقيهم - يتعاطفون مع أولئك المقربين منهم، وأولئك الذين يشبهونهم بوضوح؛ من أفراد أسرهم وذويهم وأبناء أبرشيتهم، وأندادهم الاجتماعيين المألوفين لهم بوجه عام. لكن اضطر الأشخاص الذين عاشوا في القرن الثامن عشر أن يتعلموا التعاطف في إطار أكثر اتساعا. يروي ألكسيس دي توكوفيل واقعة كان قد رواها سكرتير فولتير عن مدام دو شاتيليه التي لم تكن تتردد في أن تتجرد من ملابسها أمام خدمها «غير معتبرة أن كون الخدم من الرجال حقيقة ثابتة»، ولا يمكن أن يكون هناك معنى لحقوق الإنسان إلا عندما ينظر إلى الخدم على أنهم رجال أيضا.
3
الروايات والتعاطف
جذبت روايات مثل «جولي» قراءها إلى التوحد مع شخصيات عادية، مجهولة للقارئ على المستوى الشخصي. وتعاطف القراء مع شخصيات الرواية، لا سيما البطل أو البطلة بفضل الشكل نفسه الذي صيغت به الرواية. وبعبارة أخرى، علمت الروايات الرسائلية قراءها، من خلال التبادل التخيلي للخطابات، طريقة جديدة في التفكير، وخلال ذلك وضعت الأسس لنظام اجتماعي وسياسي جديد. لقد جعلت الروايات من جولي التي تنتمي إلى الطبقة الوسطى - بل حتى الخدم من أمثال «باميلا»، بطلة رواية صامويل ريتشاردسون التي تحمل نفس الاسم - مساوية للأثرياء، بل أفضل من بعضهم أمثال «السيد بي»، سيد باميلا الذي يحاول إغواءها. أوضحت الروايات أن جميع الناس متشابهون في جوهرهم بفضل مشاعرهم الداخلية، وقد سلطت العديد من الروايات الضوء على الرغبة في الاستقلال الذاتي بصفة خاصة، وبهذه الطريقة، خلقت قراءة الروايات حسا بالمساواة والتعاطف من خلال الانغماس الوجداني في القصة. هل يمكن أن يكون نشر أعظم ثلاث روايات تناولت موضوع التوحد النفسي في القرن الثامن عشر - روايتي «باميلا» (1740) و«كلاريسا» (1747-1748) لريتشاردسون، ورواية «جولي» (1761) لروسو - في الفترة التي سبقت مباشرة ظهور مفهوم «حقوق الفرد» محض مصادفة؟
غني عن القول أن شعور التعاطف لم ينشأ في القرن الثامن عشر، فالقدرة على التعاطف قدرة بشرية جامعة؛ لأنها متأصلة في بيولوجية المخ؛ فهي تعتمد على قدرة بيولوجية على فهم ذاتية الآخرين وعلى تخيل أن مشاعرهم الداخلية تشبه مشاعر الإنسان نفسه. فمثلا: الأطفال الذين يعانون مرض «التوحد» لديهم صعوبة كبيرة في فهم معنى تعبيرات الوجه باعتبارها مؤشرات على المشاعر، ولديهم صعوبة عامة في أن ينسبوا الحالات الشخصية إلى الآخرين. وباختصار، يتسم مرض التوحد بعدم القدرة على التعاطف مع الآخرين.
4
في الوضع الطبيعي يتعلم كل فرد التعاطف في مرحلة مبكرة من العمر، ومع أن البيولوجيا توفر النزعة الطبيعية الأساسية للتعاطف، فإن كل ثقافة تشكل التعبير عن التعاطف على طريقتها الخاصة. لا يتطور التعاطف إلا من خلال التفاعل الاجتماعي، وعلى هذا يتشكل التعاطف من خلال أشكال هذا التفاعل بطرق هامة. في القرن الثامن عشر، تعلم قراء الروايات توسيع نطاق تعاطفهم؛ فأثناء القراءة تمكنوا من ممارسة التعاطف بما يتجاوز الحدود الاجتماعية التقليدية بين طبقتي النبلاء والعامة، وبين السادة والعبيد، وبين الرجال والنساء، بل ربما أيضا بين الكبار والصغار. ونتيجة لذلك، بدءوا ينظرون إلى آخرين - أشخاص لم يعرفوهم معرفة شخصية من قبل - على أنهم مشابهون لهم، ولديهم نفس المشاعر الداخلية. وبدون عملية التعلم هذه، ما كان ممكنا أن تحظى «المساواة» بهذا المعنى العميق، وبالأخص ما كانت لتحقق نتيجة سياسية. والمساواة بين الأرواح في السماء لا تعني تساوي الحقوق هنا على الأرض؛ فقبل القرن الثامن عشر، كان يسهل على المسيحيين قبول أمر المساواة بين الأرواح في السماء دون أن يقروا بالحقوق المتساوية على الأرض.
وربما كان بالإمكان اكتساب القدرة على التعاطف عبر الحدود الاجتماعية بطرق شتى، ولا أدعي أن قراءة الروايات كانت هي الطريقة الوحيدة لذلك. غير أن هذه الطريقة تبدو وثيقة الصلة بالموضوع أكثر من غيرها، ويعزى هذا جزئيا إلى أنه تصادف بلوغ نوعية معينة من الروايات - الرواية الرسائلية - ذروة رواجها في وقت تزامن مع مولد مفهوم حقوق الإنسان. بزغت الرواية الرسائلية باعتبارها لونا جديدا من ألوان الكتابة في الفترة ما بين ستينيات وثمانينيات القرن الثامن عشر، ثم تلاشت على نحو شديد الغموض في تسعينيات القرن نفسه. كانت الروايات من كل نوع قد نشرت من قبل، لكنها ازدهرت باعتبارها لونا جديدا من ألوان الأدب في القرن الثامن عشر، ولا سيما بعد عام 1740 الموافق لنشر رواية «باميلا» لريتشاردسون. في فرنسا، نشرت ثماني روايات جديدة في عام 1701، واثنتان وخمسون رواية في عام 1752، ومائة واثنتا عشرة رواية في عام 1789. وفي بريطانيا تضاعف عدد الروايات الجديدة ست مرات في الفترة ما بين العقد الأول وستينيات القرن الثامن عشر؛ كان يظهر زهاء ثلاثين رواية جديدة كل عام في سبعينيات نفس القرن، وأربعين رواية كل عام في ثمانينيات نفس القرن، وسبعين رواية كل عام في تسعينيات نفس القرن. علاوة على ذلك، زاد عدد الأشخاص الذين يستطيعون القراءة، وأبرزت الروايات في ذلك الحين الأشخاص العاديين باعتبارهم الشخصيات المحورية التي تجابه المشكلات اليومية؛ من مشكلات في الحب، والزواج، والنجاح في الحياة. وارتفع معدل الإلمام بالقراءة والكتابة، حتى إن الخدم - الذكور منهم والإناث - قرءوا الروايات في المدن الكبيرة، مع أن قراءة الروايات لم تكن شائعة حينذاك، ولا حتى الآن، وسط الطبقات الأدنى؛ فالفلاحون الفرنسيون - الذين كانوا يشكلون ما يعادل ثمانين في المائة من عدد السكان - لم يقرءوا الروايات عادة؛ هذا إن كانوا يستطيعون القراءة أصلا.
5
وعلى الرغم من محدودية جمهور القراء، فإن الأبطال والبطلات العاديين لروايات القرن الثامن عشر، بدءا من «روبنسون كروزو» و«توم جونز» ووصولا إلى «كلاريسا هارلو» و«جولي دي إيتانجيه»، ذاع صيتهم في كل حدب وصوب، بل أحيانا وسط أولئك الذين لا يعرفون القراءة. وفي ذلك الوقت أفسحت شخصيات الطبقة الأرستقراطية أمثال «دون كيشوت» و«أميرة كليف» - التي انتشرت بشدة في روايات القرن السابع عشر - الطريق أمام الخدم والبحارة وفتيات الطبقة الوسطى (فحتى جولي، بوصفها ابنة نبيل سويسري متواضع الشأن، تبدو أقرب إلى الطبقة الوسطى). إن سطوع نجم الرواية في القرن الثامن عشر لم يمر مرور الكرام، بل ربطه الدارسون على مر السنين بالرأسمالية، والطبقة المتوسطة الطموحة، وانتشار منتديات الرأي، وظهور الأسر الصغيرة، والتحول الذي حدث في العلاقة بين الجنسين، بل بظهور القومية أيضا. وأيا كانت أسباب نهضة الرواية، فما يعنيني هو آثارها النفسية وكيف ترتبط ببزوغ حقوق الإنسان.
6
ولكي نفهم كيفية تشجيع فن الرواية على التوحد النفسي، سأركز على ثلاث روايات مؤثرة من الروايات الرسائلية: رواية «جولي» لروسو، وروايتين لسلفه وقدوته - باعترافه هو نفسه - صامويل ريتشاردسون هما: «باميلا» (1740)، و«كلاريسا» (1747-1748). كان من الممكن أن تتناول مناقشتي الرواية في القرن الثامن عشر على وجه العموم، وإذن لكنت أخذت بعين الاعتبار النساء العديدات اللائي كتبن الروايات والشخصيات الذكورية أمثال «توم جونز » أو «تريسترام شاندي» اللذين نالا حظهما من الاهتمام بلا شك، لكنني قررت التركيز على «جولي»، و«باميلا»، و«كلاريسا»، وهي الروايات الثلاث التي كتبها رجال وركزت على أبطال من الإناث، بسبب تأثيرها الثقافي الذي لا جدال فيه. هذه الروايات ليست هي المسئولة وحدها عن التغيرات التي طرأت على التعاطف والتي نقتفي أثرها هنا، ولكن النظر عن كثب لكيفية استقبالها يبين لنا التعلم الجديد للتعاطف أثناء حدوثه. ولكي نفهم ما الذي استجد على «الرواية» - وهي كلمة اقتصر استخدامها على المؤلفين فحسب في النصف الثاني من القرن الثامن عشر - من المفيد أن نرى كيف أثرت روايات معينة على قرائها.
في الرواية الرسائلية، لا توجد وجهة نظر للمؤلف خارج الأحداث وأعلاها (كما حدث لاحقا في الرواية الواقعية في القرن التاسع عشر)؛ فوجهة نظر المؤلف هي نفسها آراء الشخصيات كما اتضحت في خطاباتهم. لقد خلق «محررا» الخطابات - كما أطلق كل من ريتشاردسون وروسو على أنفسهما - حسا واقعيا قويا، ويرجع هذا على وجه التحديد إلى احتجاب حرفتهما الكتابية وسط تبادل الخطابات، مما عزز حس التوحد عند القراء كما لو كانت شخصية الرواية حقيقية وليست من وحي الخيال. وقد علق كثيرون من المعاصرين على هذه التجربة؛ بعضهم بفرح وإعجاب، والبعض الآخر بقلق، بل باشمئزاز.
أثار نشر روايات ريتشاردسون وروسو ردود فعل فورية؛ لم يقتصر هذا على البلد الذي ظهر فيه النص الأصلي لكل رواية. وقد نشر رجل فرنسي مجهول الهوية حينذاك - وبات معلوما الآن أنه كان قسا - خطابا مكونا من اثنتين وأربعين صفحة في عام 1742 وصف فيه تفصيليا الاستقبال «النهم» الذي لاقته الترجمة الفرنسية لرواية «باميلا»، قال فيه: «لا يمكنك أن تدخل إلى منزل من المنازل دون أن تجد فيه باميلا ما.» ومع أنه يدعي أن الرواية يشوبها الكثير من العيوب، فإنه يعترف قائلا: «لقد التهمتها التهاما.» (وقد اتضح لاحقا أن لفظة «الالتهام» هي الاستعارة الأكثر شيوعا عند الإشارة لقراءة هذه الروايات.) وهو يصف مقاومة باميلا لمناغاة السيد «بي»، رب عملها، كما لو كانا شخصين حقيقيين وليسا شخصيتين من وحي الخيال. ثم يجد نفسه مأخوذا في غياهب الحبكة الدرامية؛ فيرتجف متى كانت باميلا في خطر، ويتملكه الغضب الشديد متى تصرفت الشخصيات الأرستقراطية أمثال السيد «بي» بطريقة مشينة منحطة، ويعزز على الدوام اختياره للكلمات وأسلوبه في الحديث حس الانغماس العاطفي الذي تخلقه قراءة الرواية.
7
كانت الرواية المكونة من خطابات تستطيع خلق مؤثرات نفسية أخاذة؛ لأن شكلها الروائي يسر تطور «الشخصية»، أي ذات الشخص الداخلية. فعلى سبيل المثال: تصف باميلا لأمها في أحد خطاباتها الأولى كيف حاول رب عملها أن يغويها، فتقول: ... قبلني مرتين أو ثلاث بلهفة مخيفة، وأخيرا تخلصت من قبضته، وهممت بالخروج من المنزل الصيفي، لكنه جذبني وأوصد الباب. كنت أفضل الموت على الاستسلام له. ثم قال لي: لن أؤذيك يا باميلا، لا تخافي مني. قلت له: لن أمكث. فقال: لن تمكثي أيتها الفاجرة! أما تعلمين إلى من تتحدثين؟ تحررت من كل مخاوفي وكل حدود اللياقة وأجبته: بلى يا سيدي، أعلم، أعلم جيدا! ولسوف أنسى أنني خادمتك متى نسيت شيم السيد النبيل. بكيت وانتحبت بحزن هائل. فقال لي: يا لك من حمقاء فاجرة! هل مسستك بأذى؟ أجبته: أجل يا سيدي، وأي ضرر أبلغ من هذا في الدنيا، لقد علمتني أن أنسى نفسي وما يليق بي، ورفعت الكلفة والفوارق التي وضعها القدر بيني وبينك عندما حططت من قدر نفسك بتهجمك على خادمة فقيرة.
لقد قرأنا الخطاب مع الأم؛ فلا يحول بيننا وبين باميلا راوية، وليست هناك علامات اقتباس، ولا يسعنا إلا أن نتوحد مع باميلا ونعيش معها الإلغاء المحتمل للمسافة الاجتماعية بالإضافة إلى الخطر المحدق باستقلال ذاتها.
8 (انظر الشكل رقم
1-2 ).
شكل 1-2: السيد بي يقرأ أحد خطابات باميلا لوالديها. (في أحد المشاهد الافتتاحية للرواية، يفاجئ السيد بي باميلا ويأمرها بأن تريه الخطاب الذي تكتبه. تمثل الكتابة طريقتها في التعبير عن استقلالها الذاتي. لم يستطع الفنانون والناشرون مقاومة إضافة تفاسير تصويرية للمشاهد الرئيسية. ظهرت هذه الصورة التي رسمها الفنان الهولندي جان بونت في ترجمة فرنسية مبكرة نشرت في أمستردام .)
ومع أن المشهد يحظى بالعديد من الخصائص المسرحية، وأعد خاصة أثناء الكتابة لتظهر فيه والدة باميلا، فهو يختلف أيضا عن الأداء المسرحي؛ لأن باميلا تسهب في الكتابة عن مشاعرها الداخلية. وبعد وقت طويل ستسطر صفحات عن تفكيرها في الانتحار عندما تبوء بالفشل خططها للهرب. وعلى النقيض، ما كانت المسرحية لتسير على هذا المنوال البطيء في الإفصاح عن الذات الداخلية، وهو أمر يستدل عليه عادة من الأحداث أو من خلال الحديث. فالرواية المدونة في عدة مئات من الصفحات يمكنها أن تظهر جوانب الشخصية بمرور الوقت، علاوة على أنها تفعل ذلك من منظور الذات الداخلية. والقارئ لا يتابع أفعال باميلا وحسب، بل أيضا يشاطرها تطور شخصيتها وهي تكتب، ويصبح القارئ في نفس الوقت هو نفسه باميلا، حتى حينما يتخيل نفسه صديقا لها ومراقبا خارجيا للأحداث.
وما إن عرف أن مؤلف رواية باميلا هو ريتشاردسون في عام 1741 (إذ نشرت الرواية في أول الأمر من دون اسم)، حتى بدأ ريتشاردسون يتلقى الخطابات، لا سيما من المتحمسين. قال عنها صديقه آرون هيل: «روح الدين، وحسن التربية، وحصافة الرأي، ودماثة الخلق، والفطنة، والذوق الرفيع، والفكر الراقي، والفضيلة.» وكان ريتشاردسون قد أرسل نسخة من الرواية إلى بنات آرون هيل في أوائل ديسمبر عام 1740، فسطر هيل على الفور ردا فوريا متعجلا قال فيه: «منذ أن تسلمتها وأنا لا أفعل شيئا سوى أن أقرأها على مسامع الآخرين، وأسمع الآخرين يتلونها على مسامعي؛ أظن أنني من المرجح ألا أفعل أي شيء آخر بخلاف هذا، والله وحده يعلم إلى متى سيستمر هذا الأمر ... إنها تستحوذ على خيالي طوال الليل، كل صفحة فيها تحمل سحرا؛ سحر العاطفة والمعنى.» عرض الكتاب قراءه لنوع من السحر؛ فطريقة سرد الرواية - بأسلوب تبادل الخطابات - تجرد القارئ من نفسه على نحو غير متوقع وتدخله في مجموعة جديدة من التجارب.
9
ولم يكن هذا شأن هيل وبناته وحدهم، فسرعان ما اجتاح إنجلترا ولع شديد برواية «باميلا»، وقد قيل إنه في إحدى القرى قرع السكان أجراس الكنيسة لدى سماعهم إشاعة بأن السيد بي قد تزوج من باميلا في نهاية المطاف. وظهرت الطبعة الثانية في يناير 1741 (نشرت الطبعة الأصلية في السادس من نوفمبر 1740)، ثم توالت الطبعات فظهرت الطبعة الثالثة في مارس، والرابعة في مايو، والخامسة في سبتمبر. وبحلول ذلك الوقت، كان آخرون قد كتبوا بالفعل آثارا مقلدة هزلية، ومقالات نقدية مطولة، وقصائد شعرية، ونسخ رخيصة التكلفة مقلدة عن النسخة الأصلية. وبمرور السنين توالى ظهور العديد من المعالجات المسرحية للرواية، والرسومات والصور المطبوعة للمشاهد الرئيسية. وفي عام 1744 انضمت الترجمة الفرنسية إلى القائمة البابوية «للكتب المحظورة»، ولحق بها فيما بعد رواية روسو «جولي»، بالإضافة إلى العديد من الأعمال الأدبية لعصر التنوير. ولم ير جميع الناس في مثل هذه الروايات «روح الدين»، أو «الفضيلة» التي ادعى هيل أنه رآها.
10
وعندما بدأ ريتشاردسون في نشر رواية «كلاريسا» في ديسمبر 1747 ارتفعت التوقعات بشدة؛ ففي الوقت الذي ظهرت فيه المجلدات الأخيرة (بلغت مجلدات الرواية في مجملها سبعة مجلدات، يتراوح كل منها بين ثلاثمائة إلى أربعمائة صفحة!) في ديسمبر عام 1748 كان ريتشاردسون قد تلقى بالفعل خطابات القراء الذين يتوسلون إليه أن يضع نهاية سعيدة للرواية. تهرب كلاريسا مع لافلاس الماجن كي تتخلص من خاطبها الكريه الذي اقترحته عائلتها ليتزوج منها، وعندئذ تضطر كلاريسا أن تدرأ اعتداءات لافلاس، الذي يتمكن في آخر الأمر من اغتصابها بعد تخديرها. وعلى الرغم من عرض لافلاس التائب بالزواج منها، والمشاعر التي تكنها له، تموت كلاريسا مكسورة الفؤاد جراء اعتداء الرجل الماجن على عفتها وإحساسها بذاتها. تحكي الليدي دوروثي برادشاي لريتشاردسون رد فعلها لدى قراءتها مشهد الموت فتقول: «انقبض صدري على نحو غريب، واضطرب نومي، واستيقظت تلك الليلة منفجرة في فورة من البكاء، وبكيت أيضا على الإفطار في الصباح التالي، وها أنا ذا أبكي الآن أيضا مرة أخرى.» وكتب الشاعر توماس إدواردز في يناير عام 1749 يقول: «ما شعرت في حياتي كلها بكل هذا البؤس الذي شعرت به من أجل هذه الفتاة الغالية.» التي أشار إليها قبلا باسم «كلاريسا المقدسة».
11
راقت رواية كلاريسا للقراء المثقفين أكثر من عامة الناس، ومع ذلك فقد ظهر منها خمس طبعات على مدار الثلاثة عشر عاما التالية، وسرعان ما ترجمت إلى الفرنسية (1751)، والألمانية (1752)، والهولندية (1755). وأظهرت دراسة للمكتبات الشخصية الفرنسية في الفترة بين 1740 و1760 أن روايتي «باميلا» و«كلاريسا» قد احتلتا مرتبتين في قائمة الروايات الإنجليزية الثلاث التي يرجح بشدة وجودها ضمن محتويات تلك المكتبات (كانت رواية توم جونز للمؤلف هنري فيلدينج هي ثالثتهما). ولا شك أن طول رواية «كلاريسا» قد ثبط عزيمة بعض القراء؛ فحتى قبل أن تدخل مخطوطات المجلدات الثلاثين مرحلة الطباعة، استبد القلق بريتشاردسون وحاول أن يختصرها. قدمت إحدى الرسائل الإخبارية الأدبية التي تصدر في باريس رأيا متضاربا عن الترجمة الفرنسية للرواية، قالت فيه: «لدى قراءتي لهذه الرواية شعرت بشيء غير عادي بالمرة؛ أبلغ سرور، وأعظم ملل.» غير أنه بعد مرور عامين أعلن مشارك آخر في نفس الرسالة الإخبارية أن عبقرية ريتشاردسون في تقديم العديد من الشخصيات المتفردة جعل من كلاريسا «أروع عمل خطته يد إنسان تقريبا».
12
ومع أن روسو ظن أن روايته أسمى من رواية ريتشاردسون، فإنه صنف كلاريسا على أنها أفضل من سائر الروايات الأخرى: «لم يكتب أحد بعد، بأي لغة من اللغات، رواية تضاهي كلاريسا، أو حتى تدانيها.» واستمرت المقارنة بين روايتي «كلاريسا» و«جولي» على مدار القرن. صرحت جان ماري رولاند، زوجة أحد الوزراء والمنسق غير الرسمي لحزب الجيروندين السياسي إبان الثورة الفرنسية، لإحدى صديقاتها في عام 1789، أنها تعيد قراءة رواية روسو كل عام، ومع ذلك لا تزال تعتبر عمل ريتشاردسون ذروة الكمال، وقالت لها: «ليس في العالم من الناس من يمكنه أن يقدم رواية تضاهي كلاريسا؛ إنها تحفة هذا النوع من الأدب، وهي النموذج الأسمى ومبعث اليأس لكل محاك.»
13
توحد الرجال والنساء على السواء مع البطلات النساء في هذه الروايات، ومن الخطابات التي بعثت إلى روسو نعرف أن الرجال - حتى الضباط العسكريون منهم - تأثروا تأثرا شديدا بجولي. كتب شخص يدعى لويس فرانسوا، وهو ضابط عسكري متقاعد، إلى روسو يقول: «لقد جعلتني مجنونا بها! ولك إذن أن تتخيل الدموع التي اعتصرها مني موتها ... لم أبك قط في حياتي مثل تلك الدموع المبهجة. كان لقراءة تلك الرواية أشد الأثر في نفسي، حتى إنني أوقن أنني كنت سأرحب بالموت بكل سرور خلال تلك اللحظة السامية.» واعترف بعض القراء جهارا بتوحدهم مع شخصية البطلة الأنثى. وقال سي جيه بانكوك - الذي صار فيما بعد ناشرا ذائع الصيت - لروسو: «مست نقاوة مشاعر جولي شغاف قلبي.» تخطى التوحد النفسي الذي يؤدي إلى التعاطف حدود النوع بالفعل؛ إذ لم يتوحد قراء رواية روسو من الذكور مع سانت برو، العاشق الذي أجبرت جولي على هجره، وكان تعاطفهم أقل مع وولمار، زوجها اللطيف، أو البارون دي إيتانج، والدها المتسلط. لقد توحد القراء الرجال - شأنهم شأن النساء - مع شخصية جولي نفسها؛ فقد أضحى نضالها للتغلب على مشاعرها ولعيش حياة العفة هو نضالهم هم.
14
من خلال شكلها ذاته إذن، استطاعت الرواية الرسائلية أن تبرهن أن الذاتية تعتمد على صفات «الكينونة الداخلية» (أن يكون للإنسان جوهر داخلي)؛ ذلك لأن شخصيات الرواية تعبر عن مشاعرها الداخلية في خطاباتها. علاوة على ذلك أوضحت الرواية الرسائلية أن كل النفوس تملك هذه الكينونة الداخلية (فالعديد من الشخصيات تكتب)، ومن ثم كل النفوس متساوية بطريقة ما؛ لأن جميعها متشابه في امتلاك الكينونة الداخلية. فعلى سبيل المثال: أحال تبادل الخطابات الفتاة الخادمة باميلا إلى نموذج لشخصية تتمتع بالفردية والاستقلال الذاتي الأبي بدلا من النمط المتكرر للخادمة التي تدوسها الأقدام. وعلى غرار باميلا، تمثل كل من كلاريسا وجولي رمزا للفردية ذاتها، وهكذا يصبح القراء أكثر وعيا بكينونتهم الداخلية وكينونة كل فرد آخر.
15
وبلا شك لم يشعر كل القراء بنفس المشاعر عند قراءة تلك الروايات؛ فمثلا سخر الكاتب والروائي الإنجليزي الساخر هوراس والبول من «المناحات المملة» لريتشاردسون «التي هي صور مستوحاة من حياة الترف كما رآها بائع كتب، وقصص عشق أضفى عليها أحد معلمي الميثودية الطابع الروحي». غير أنه سرعان ما شعر الكثيرون أن ريتشاردسون وروسو قد أصابا وترا ثقافيا حيويا . وبعد مرور شهر واحد على نشر المجلدات الأخيرة من كلاريسا، نشرت ساره فيلدينج، شقيقة الغريم الأعظم لريتشاردسون، التي كانت هي نفسها روائية ناجحة، كتيبا مكونا من ست وخمسين صفحة تدافع فيه عن الرواية من دون ذكر اسمها. ومع أن شقيقها هنري كان قد نشر واحدة من أول الآثار المقلدة الساخرة ل «باميلا» (بعنوان: «دفاع عن حياة السيدة شاميلا أندروس» يفضح ويدحض الأكاذيب والافتراءات المشينة الكثيرة لكتاب بعنوان «باميلا»، 1741)، فإن ساره كانت قد كونت علاقة صداقة قوية مع ريتشاردسون، الذي طبع إحدى رواياتها. وتصر إحدى شخصياتها الروائية - السيد كلارك - على أن ريتشاردسون قد نجح أيما نجاح في استدراجه إلى شبكة الخيال: «من جانبي، أنا على معرفة وثيقة بكل آل هارلوس (كما وردت في النص)، كما لو كنت قد عرفتهم منذ نعومة أظافري.» وتؤكد شخصية أخرى - الآنسة جيبسون - على مزايا أسلوب ريتشاردسون الأدبي قائلة: «حقا يا سيدي ما قلته عن أن القصة المسرودة بهذا الأسلوب لا يمكن أن تسير إلا ببطء، ولا يمكن أن نرى شخصياتها إلا من خلال الانتباه الشديد للحكاية ككل، غير أن الكاتب يحظى بهذه المزية عن طريق الكتابة في زمن المضارع، كما يقول هو نفسه، والكتابة بصيغة المتكلم بحيث تمس أفكاره قلوبنا في الحال، ونشعر بكل الآلام التي يصورها؛ فلا نبكي من أجل كلاريسا فحسب، بل نبكي معها أيضا، ونصحبها خطوة بخطوة في محنتها وآلامها.»
16
نشر عالم الفسيولوجيا السويسري الشهير والباحث الأدبي ألبرشت فون هالر مقالا، دون أن يذكر اسمه، عبر فيه عن خالص إعجابه برواية «كلاريسا» في مجلة «جنتلمان» في عام 1749. اجتهد فون هالر باستماتة كي يتعامل مع أصالة ريتشاردسون؛ فمع أنه قدر المزايا المتعددة للروايات الفرنسية الأولى، فإنه أكد على أنها: «في العموم لم تقدم ما يزيد عن مجرد صور للأحداث الشهيرة الخاصة بالشخصيات اللامعة»، بينما يرى القارئ في رواية ريتشاردسون إحدى الشخصيات «من نفس الطبقة الاجتماعية التي ننتمي إليها». وأولى الكاتب السويسري اهتماما خاصا إلى شكل الرواية الرسائلية؛ فمع أن القراء قد يواجهون صعوبة في الاقتناع بأن كل الشخصيات راق لها أن تمضي وقتها في تدوين كل مشاعرهم وأفكارهم الداخلية، فإن الرواية الرسائلية استطاعت أن تعرض لوحات في غاية الدقة لشخصيات الأفراد، ومن ثم أثارت ما أطلق عليه هالر الشفقة حين قال: «لم يصور أحد البائسين بمثل هذه القوة قط، ويتضح هذا في أمثلة كثيرة، حتى إن أكثر الطباع قسوة وجمودا تلين وتتحول إلى الشفقة، فتذرف الدمع على إثر موت كلاريسا ومعاناتها وأشجانها.» ويختم بقوله: «إننا لم نقرأ أي عمل، بأي لغة من اللغات، يمكن أن يرتقي لمضارعتها.»
17
انحطاط أم سمو؟
عرف المعاصرون من تجاربهم الخاصة أن قراءة هذه الروايات كان لها عظيم الأثر، ليس على الأذهان فحسب، بل على الأجساد أيضا، لكنهم لم يتفقوا بشأن العواقب. شجب رجال الإكليروس الكاثوليك والبروتستانت احتمال ظهور الفسق والإغواء والانحطاط الأخلاقي. وفي وقت مبكر، عام 1734، وجد نيكولاس لينجليت ديفرسنوي - وهو نفسه رجل دين إكليريكي تلقى تعليمه في السوربون - أنه من الضروري أن يدافع عن الروايات ضد انتقادات زملائه، لكنه فعل هذا تحت اسم مستعار؛ لقد فند على نحو مثير للضيق كل الاعتراضات التي دفعت السلطات إلى حظر الروايات «باعتبارها وخزات كثيرة تعمل على تهييج مشاعر شديدة الحيوية والقوة في نفوسنا». وأكد بشدة على أن الروايات مناسبة في أي فترة زمنية، قائلا: «السذاجة والحب والنساء هيمنت في جميع الأزمنة، ومن ثم يتابع الناس الروايات ويتذوقونها في جميع الأزمنة.» ورأى أنه من الأفضل التركيز على تحسينها بدلا من قمعها بالكلية.
18
ولم تتوقف الهجمات عندما حقق إنتاج الروايات النجاح في منتصف القرن. ففي عام 1755 كتب رجل دين كاثوليكي آخر، وهو رئيس دير يدعى أرماند بيير جاكوين، عملا أدبيا من أربعمائة صفحة يوضح فيه أن قراءة الروايات تقوض الأخلاق، والدين، ومبادئ النظام الاجتماعي كافة. كتب يقول مؤكدا: «طالع تلك الأعمال، وسوف تجد في جميعها تقريبا انتهاكا للحقوق الإلهية والعدالة الإنسانية، وازدراء لسلطة الآباء على الأبناء، وتحطيما لعرى الزواج المقدسة وأواصر الصداقة.» يكمن الخطر على وجه التحديد في قدرتها على الجذب؛ فعن طريق اللعب باستمرار على إغواءات الحب، شجعت القراء على التصرف وفقا لأسوأ دوافعهم ونزواتهم، وعدم الانصياع لنصائح آبائهم والكنيسة، وتجاهل القيود الأخلاقية للمجتمع. وكانت الطمأنة الوحيدة التي قدمها جاكوين هي افتقار الروايات إلى القدرة على الاستمرار؛ فالقارئ قد يلتهم إحداها في المرة الأولى لكنه لا يعيد قراءتها بعد ذلك قط. يقول: «هل جانبني الصواب عندما تنبأت أن رواية باميلا سرعان ما ستنسى؟ ... سينطبق نفس الشيء على روايتي توم جونز وكلاريسا في ظرف ثلاث سنوات.»
19
وتوالت شكاوى مشابهة في كتابات البروتستانت الإنجليز. لخص الكاهن المبجل فيسيسموز نوكس عقودا من الاضطرابات الدائمة في عام 1779 عندما صرح بأن الروايات هي ملذات منحطة ومثيرة لمشاعر الذنب تحول عقول الشباب عن القراءات الأكثر جدية وتنويرا. وقال إن الازدهار المفاجئ للروايات البريطانية لم يؤد إلا إلى نشر العادات الإباحية الفرنسية، وهو يفسر الفساد المتفشي في عصرنا الحالي. وأقر نوكس بأن ريتشاردسون كتب رواياته «بنوايا طيبة خالصة»، لكنه يرى أن المؤلف حتما سرد مشاهد وأثار مشاعر لا تتفق مع الفضائل. ولم يكن رجال الإكليروس وحدهم من استهجنوا الروايات، فقد نظمت قصيدة في مجلة ليدي عام 1771 تلخص وجهة نظر منتشرة وسط قطاع عريض من الناس:
لا أعرف رواية باميلا تحديدا
معرفة وثيقة
لأنني لا ألوث ذهني
بالروايات المقيتة
خشي كثيرون من أنصار المذهب الأخلاقي أن الروايات زرعت الشعور بالسخط في الأذهان، لا سيما أذهان الخدم والفتيات الصغار.
20
ربط الطبيب السويسري صامويل أوجست تيسوت قراءة الروايات بممارسة العادة السرية، التي أدت إلى حدوث انحطاط بدني وعقلي وأخلاقي من وجهة نظره؛ رأى تيسوت أن الأبدان تميل بحكم طبيعتها إلى الفساد، وأن العادة السرية قد سرعت من حدوث عملية الفساد لدى كل من الرجال والنساء فقال: «كل ما يمكنني قوله هو أن الفراغ والكسل والمكوث في الفراش لفترات طويلة؛ فراش وثير للغاية، والنظام الغذائي الدسم والمملح والحار والذي يحوي الخمور، والأصدقاء المشبوهين، والكتب الماجنة، هي الأسباب التي تهيئ الفرصة للانغماس في مثل هذه الممارسات.» ولم يقصد تيسوت باستخدامه لفظة «الماجنة» معنى الإباحية صراحة؛ ففي القرن الثامن عشر كان يقصد بلفظة «ماجن» أي شيء يرتبط بالشهوة، غير أنها كانت تختلف عن اللفظة الأكثر استهجانا؛ لفظة «داعر». وهكذا انضمت روايات الغرام - وكانت أغلبية روايات القرن الثامن عشر تدور عن الغرام - بسهولة إلى فئة «المجون». وفي إنجلترا بدت الفتيات في المدارس الداخلية في خطر شديد؛ إذ كان في متناولهن الحصول على مثل هذه الكتب «الخليعة المثيرة للاشمئزاز» وقراءتها في الفراش.
21
ومن ثم اتفق رجال الدين والأطباء على اعتبار قراءة الروايات مضيعة للوقت، والسوائل الحيوية، والدين، والأخلاقيات، وافترضوا أن القارئة سوف تحاكي أحداث الرواية، على نحو تندم معه أشد الندم. فقارئة رواية «كلاريسا» - على سبيل المثال - قد تتجاهل رغبات عائلتها، وتوافق - على غرار كلاريسا - أن تهرب مع أحد الفجار أمثال لافلاس الذي يقودها - شاءت أم أبت - إلى إهلاك نفسها. وفي عام 1792 أكد ناقد إنجليزي مجهول قائلا: «يساعد ارتفاع عدد الروايات في تفسير ارتفاع نسبة البغاء والعدد المهول من الزناة وحالات الفرار مع العشاق التي نسمع بها في بقاع متفرقة من المملكة.» وطبقا لوجهة النظر هذه، أثارت الروايات الأبدان إثارة مفرطة، وشجعت على الانغماس في الذات المريب أخلاقيا، وحرضت على الأفعال المدمرة للسلطة العائلية، والأخلاقية، والدينية.
22
زعم كل من ريتشاردسون وروسو أنهما قاما بدور المحرر وليس المؤلف، ومن ثم تمكنا من تحاشي السمعة المشينة التي ارتبطت بالروايات، وعندما نشر ريتشاردسون «باميلا»، لم يشر إليها قط على أنها رواية؛ إذ كان العنوان الكامل للطبعة الأولى هو دراسة في الاعتراض الكثير: «باميلا: أو مجازاة العفة. سلسلة من الخطابات المألوفة من صبية جميلة إلى والديها: تنشر للمرة الأولى الآن كي تغرس مبادئ العفة والدين في عقول الشباب من كلا الجنسين. حكاية ترتكز على مبادئ الحق والطبيعة، وفي الوقت عينه تبث المتعة والتسلية من خلال مجموعة متنوعة من الأحداث المؤثرة والغريبة، وهي مجردة تماما من كل تلك الصور التي تنشر في الكثير من المواضع بغرض اللهو فحسب، وتميل إلى إلهاب العقول التي يجدر بها أن توجهها.» برر تمهيد ريتشاردسون، الموقع باسم «المحرر»، نشر ما أسماه «الخطابات اللاحقة» تبريرا أخلاقيا؛ فهي سوف توجه عقول الشباب وتطورها، وتغرس فيها الدين والأخلاقيات، وتبين الرذيلة «بالألوان المناسبة»، وهكذا.
23
ومع أن روسو أشار إلى نفسه بالمحرر أيضا، فهو لم يعتبر العمل صراحة رواية؛ ففي الجملة الأولى من تمهيد رواية «جولي»، ربط الروايات بنقده الشهير للمسرح فقال: «لا بد أن تضم المدن الكبيرة مسارح، ولا بد أن يمتلك الفاسدون روايات.» وكما لو كان هذا تحذيرا غير كاف، قدم روسو أيضا تمهيدا في صورة «حوار عن الروايات بين «المحرر» وأحد «الأدباء»». وفي هذا الحوار، تعرض شخصية «آر» [روسو] كل التهم المعتادة التي توجه إلى الرواية للتلاعب بالمخيلة لخلق الرغبات التي لا يمكن إشباعها بعفة:
نسمع شكاوى من أن الروايات تشوش أذهان الناس، وأنا أؤمن بهذا تماما؛ فعندما نضع باستمرار أمام أعين قراء هذه الروايات السحر الزائف لإحدى الضياع التي لا يقتنونها، فإن هذا السحر يغويهم، ويدفعهم إلى النظر إلى مقتنياتهم بازدراء، بل يستبدلون بها في مخيلتهم تلك الضياع التي أغوتهم الروايات باشتهائها. إن محاولة أن نكون ما ليس نحن تحملنا على أن نظن أنفسنا مختلفين عما نحن، وهذا هو الطريق إلى الجنون.
غير أن روسو يمضي قدما في تقديم رواية لقرائه، بل يدعوهم للنزال متحديا؛ فيقول إذا أراد أي شخص أن ينتقدني لكتابتي إياها، فليخبر بهذا كل إنسان على وجه الأرض فيما عداي. وأما أنا، فلن أكن أي تقدير البتة لمثل هذا الرجل. ويعترف روسو في جذل بأن الكتاب قد يصدم جميع الناس تقريبا، لكنه على الأقل لن يقدم مجرد متعة فاترة. توقع روسو تماما ردود أفعال عنيفة من جانب قرائه.
24
ورغم المخاوف التي ساورت كلا من ريتشاردسون وروسو بشأن سمعتيهما، فإن بعض النقاد بدأ بالفعل في تكوين وجهة نظر أكثر إيجابية عن تصنيف الروايات؛ ففي دفاع كل من ساره فيلدينج وفون هوللر عن ريتشاردسون، لفتا الأنظار بالفعل إلى التعاطف - أو الشفقة - الذي توقظه في النفس قراءة رواية «كلاريسا». وبهذه النظرة الجديدة، أثرت الروايات في القراء فجعلتهم أكثر تعاطفا مع الآخرين، بدلا من مجرد الانغماس في النفس، ومن ثم سمت أخلاقهم ولم تنحط. وكان من أكثر المدافعين عن الرواية فصاحة، ديدرو، وهو مؤلف مقال عن الحقوق الطبيعية في «الموسوعة»، وكان هو نفسه روائيا، وعندما مات ريتشاردسون عام 1761، كتب ديدرو تأبينا يشبه فيه ريتشاردسون بأعظم المؤلفين القدماء أمثال هوميروس، ويوربيديس، وسوفوكليس. بيد أن ديدرو أسهب في الحديث عن انغماس القارئ في عالم الرواية فقال: «يتقمص المرء، على الرغم من كل التحذيرات، أحد الأدوار في العمل الفني فيجد نفسه منخرطا في حوار، يستحسن أمورا ويستهجن أخرى، وتعجبه أشياء ويسخط وينقم على أخرى. كم مرة وجدت نفسي فيها - كما يفعل الصغار الذين يصحبون إلى المسرح للمرة الأولى - أصيح: «لا تصدق هذا، إنه يخدعك ... إذا انخرطت في هذا فسيقضى عليك».» ويقر ديدرو بأن قصة ريتشاردسون تخلق انطباعا بأنك موجود ضمن الأحداث، بل انطباعا أن هذا العالم هو عالمك، فلا تقع هذه الأحداث في بلد بعيد عنك أو في موضع غريب أو في قصة من وحي الخيال: «فشخصيات الرواية مستوحاة من المجتمع العادي ... والمشاعر التي يصورها هي نفس المشاعر التي أشعر بها في نفسي.»
25
ولا يستخدم ديدرو مصطلحات مثل «التوحد» أو «التعاطف»، لكنه يقدم وصفا قويا لهما، فيقر بأنك تجد نفسك في الشخصيات وتقفز على نحو تخيلي إلى قلب الأحداث، وتراودك نفس المشاعر التي يشعر بها شخصيات الرواية. خلاصة القول أنك تتعلم التعاطف مع شخص هو ليس نفسك، ولا يمكن الاتصال به اتصالا مباشرا أبدا (على خلاف أفراد العائلة على سبيل المثال)، إلا أنه هو نفسك أيضا ولكن على نحو تخيلي، الأمر الذي يعد عنصرا في غاية الأهمية في عملية التوحد. وهذه العملية تعلل سبب كتابة بانكوك إلى روسو: «مست نقاوة مشاعر جولي شغاف قلبي.»
يعتمد التعاطف على التوحد. يرى ديدرو أن أسلوب ريتشاردسون الروائي يشده على نحو يتعذر تجنبه إلى هذه التجربة؛ فهو بيئة خصبة لنمو التعلم العاطفي: «مررت في غضون ساعات معدودات بعدد هائل من المواقف التي لا يمكن أن يمر بها إنسان طوال حياته مهما طالت ... شعرت أنني اكتسبت خبرة.» ويتوحد ديدرو بشدة مع الرواية، حتى إنه يشعر بالوحشة والشجن بنهاية الرواية، فيقول: «اجتاحتني نفس المشاعر التي يشعر بها أناس ارتبطوا معا بعلاقات وثيقة، وعاشوا معا لفترة طويلة من الزمن، وأصبحوا الآن على شفا الانفصال. ففي النهاية، بدا لي فجأة أنني تركت وحيدا.»
26
أثناء القراءة ينغمس ديدرو في الأحداث ويسترد ذاته في الوقت نفسه، يجتاحه شعور قوي بالانفصال عن ذاته أكثر من ذي قبل - فهو يشعر بالوحدة الآن - لكن يتملكه شعور قوي بأن الآخرين أيضا لهم ذوات. وبعبارة أخرى، يملك ما يطلق هو نفسه عليه تلك «المشاعر الداخلية» ذات الأهمية الكبرى لحقوق الإنسان. ويدرك ديدرو بالإضافة إلى ذلك أن تأثير الرواية غير محسوس على مستوى الوعي؛ إذ يقول: «يجد المرء نفسه مندفعا نحو الخير بنوع من التهور لا يدركه، فعندما يجابه الظلم يجتاحه نوع من الاشمئزاز لا يعرف كيف يعلله لنفسه.» أحدثت الرواية أثرها من خلال الانخراط في الحكاية، وليس من خلال الوعظ الأخلاقي الصريح.
27
حظي الاطلاع على الأدب الروائي بأكثر المعالجات الفلسفية جدية في عمل هنري هوم - الشهير أيضا باسم لورد كاميس - «عناصر النقد» (1762)، الذي لم يناقش فيه الفيلسوف وفقيه القانون الاسكتلندي الروايات في حد ذاتها، لكنه أكد على أن الأدب القصصي غير الواقعي عموما يخلق نوعا من «الوجود النموذجي» أو «حلم اليقظة» الذي يتخيل فيه القارئ نفسه وقد انتقل إلى مكان الأحداث. ويصف كاميس هذا «الوجود النموذجي» بأنه أشبه بحالة من الغفوة؛ فالقارئ «يلقى في نوع من أحلام اليقظة، وبفقده الوعي بالذات وبالقراءة، التي هي النشاط الذي يزاوله الآن، يتصور كل حدث على أنه يحدث في وجوده، تماما وكأنه شاهد عيان». وأهم ما في الأمر من وجهة نظر كاميس أن هذا التحول يعزز الأخلاقيات؛ إذ يعرض «الحضور النموذجي» القارئ لمشاعر من شأنها أن توطد روابط المجتمع؛ فهو يجذب الأفراد بعيدا عن مصالحهم الخاصة، ويحفزهم على أداء «أفعال تنطوي على الكرم والخير والبر». وكان مصطلح «الحضور النموذجي» تعبيرا آخر عن عبارة آرون هيل «سحر العاطفة والمعنى».
28
وفيما يبدو شاركه توماس جيفرسون وجهة النظر نفسها؛ فعندما كتب روبرت سكيبويز - الذي تزوج من الأخت غير الشقيقة لزوجة جيفرسون - إلى جيفرسون في عام 1771 يطلب منه قائمة بالكتب المقترحة للقراءة، اقترح جيفرسون عليه الاطلاع على العديد من الأعمال الكلاسيكية، القديم منها والحديث في مجالات السياسة، والدين، والقانون، والعلوم، والفلسفة، والتاريخ. واشتملت القائمة على كتاب لورد كاميس «عناصر النقد»، لكن جيفرسون استهل قائمته بالشعر، والمسرحيات، والروايات بما فيها روايات لورنس ستيرن، وهنري فيلدينج، وجان فرانسوا مارمونتل، وأوليفر جولدسميث، وريتشاردسون، وروسو. وفي الخطاب الذي اشتمل على قائمة الكتب، أشاد جيفرسون بلباقة بما أسماه «متعة الأدب القصصي»، وعلى غرار كاميس، شدد على أن الأدب القصصي يمكن أن يغرس المبادئ ويعزز مزاولة الفضيلة. وبعد أن أشاد جيفرسون بكل من شكسبير، ومارمونتل، وستيرن على وجه التحديد، أوضح أنه بالاطلاع على مثل هذه الأعمال نشعر «في أنفسنا برغبة قوية في أداء أعمال الخير والعرفان» وعلى النقيض، ننفر من الأفعال الشريرة أو السلوك غير الأخلاقي، وأكد على أن الأدب الروائي يولد الرغبة في المحاكاة الأخلاقية على نحو أكثر فعالية حتى من قراءة الأعمال التاريخية.
29
كانت الفكرة المهمة التي تتعرض للخطر في صراع الآراء المختلفة ذاك عن الروايات هي فكرة تقدير قيمة الحياة المدنية العادية باعتبارها الأساس الذي تقوم عليه الأخلاق. فمن وجهة نظر نقاد قراءة الروايات، شجع التعاطف مع شخصية بطلة روائية على ظهور أسوأ ما في الإنسان (من رغبات غير مشروعة وتقدير مفرط للذات)، وبرهن على الانحطاط غير القابل للإصلاح للعالم المدني. وعلى النقيض، يرى أنصار الرأي الجديد الذي ينادي بأخلاقيات التعاطف أن مثل هذا التوحد أظهر أن إثارة المشاعر يمكن أن يساعد على حدوث تحول في الطبيعة الداخلية للفرد وينتج مجتمعا أسمى أخلاقيا. لقد آمن هؤلاء بأن الطبيعة الداخلية للبشر هي التي شكلت أساس السلطة الاجتماعية والسياسية.
30
وهكذا اتضح أن سحر الرواية يحدث تأثيرات عظيمة؛ فعلى الرغم من أن أنصار الرواية لم يعلنوا ذلك جهارا، فإنهم أدركوا أن الكتاب من أمثال ريتشاردسون وروسو يجذبون قراءهم جذبا فعالا نحو الحياة اليومية باعتبارها تجربة دينية بديلة من نوع ما. وقد تعلم القراء أن يقدروا شدة عاطفة الأشخاص العاديين وقدرة أناس أمثالهم على خلق عالم أخلاقي بأنفسهم. وقد نمت حقوق الإنسان في تربة مزروعة بهذه المشاعر، ولا يمكن لحقوق الإنسان أن تزدهر إلا عندما يتعلم الناس أن ينظروا للآخرين على أنهم مساوون لهم، وأنهم يشبهونهم تشابها جوهريا. لقد تعلموا هذه المساواة - جزئيا على الأقل - عن طريق التوحد مع شخصيات عادية بدت مألوفة وحاضرة على نحو مؤثر، وإن كانت شخصيات قصصية خيالية في نهاية المطاف.
31
المصير الغريب للنساء
في الروايات الثلاث المختارة هنا، كان موضع تركيز التوحد النفسي ينصب على شخصية أنثى شابة من وحي خيال مؤلف رجل. وغني عن القول أنه حدث توحد مع شخصيات من الذكور أيضا، فقد تعاطف جيفرسون - على سبيل المثال - بحماس شديد مع شخصية «تريسترام شاندي» التي ألفها ستيرن (1759-1767)، وشخصية «يوريك» التي تمثل الأنا الثانية لستيرن في عمله «رحلة عاطفية» (1768). وكان للكتاب من النساء أيضا معجبون من القراء من كلا الجنسين؛ فقد اقتبس الفرنسي جاك بيير بريسو - مصلح قانون العقوبات ونصير إلغاء الرق - كثيرا من رواية «جولي» لروسو، لكن روايته الإنجليزية المفضلة كانت رواية «سيسليا» للروائية فاني بيرني (1782). لكن كما يؤكد نموذج بيرني، نعمت الشخصيات النسائية بأسمى مكانة؛ فقد حملت رواياتها الثلاث أسماء بطلاتها.
32
كانت البطلات النساء آسرات للاهتمام؛ لأن سعيهن للاستقلال الذاتي ما كان لينجح مطلقا على نحو كامل. فالنساء كن يتمتعن بالقليل من الحقوق الشرعية في حال انفصالهن عن الوالد أو الزوج. وقد وجد القراء أن سعي البطلات للاستقلال ملوع؛ لأنهن سرعان ما يدركن القيود التي تجابهها أمثالهن حتما. وفي نهاية سعيدة للأحداث، تتزوج باميلا من السيد بي وتقبل القيود المفروضة على حريتها، وعلى النقيض، تموت كلاريسا، بدلا من أن تتزوج من لافلاس بعدما يغتصبها. ومع أنه يبدو أن جولي تقبل أن يجبرها والدها على التخلي عن الرجل الذي تحبه، فإنها تموت أيضا في المشهد الأخير.
يرى بعض النقاد المحدثين في هذه الروايات تلذذا بتعذيب الذات والألم، لكن النقاد المعاصرين لزمن تلك الروايات رأوا سمات أخرى؛ فالقراء من الرجال والنساء على السواء توحدوا مع هذه الشخصيات؛ لأن النساء أظهرن عزيمة بالغة وشخصية قوية. ولم يشأ القراء إنقاذ البطلات فحسب، بل أرادوا أن يكونوا مثلهن أيضا، حتى مثل كلاريسا وجولي على الرغم من نهايتهما المأسوية. وتكاد كل أحداث الروايات الثلاث تستخدم تعبيرات تتعلق بإرادة الأنثى، وهي الإرادة التي تصطدم عادة بالقيود الأبوية أو المجتمعية؛ فباميلا لا بد أن تقاوم السيد بي كي تصون حسها بالعفة وحسها بذاتها، وفي نهاية المطاف تؤدي مقاومتها إلى فوزها به. وتصمد كلاريسا في حزم أمام عائلتها ثم أمام لافلاس من أجل الأسباب عينها، وفي النهاية يتمنى لافلاس باستماتة أن يتزوج بها، وهو العرض الذي ترفضه. ولا بد أن تتخلى جولي عن سانت برو وتتعلم أن تحب حياتها بمعية وولمار؛ فكان الكفاح كله كفاحها وحدها. في كل رواية يتوقف كل شيء على رغبة البطلة في تحقيق الاستقلال، وتأتي أفعال الشخصيات الذكورية لتسلط الضوء فحسب على هذه العزيمة الأنثوية. وهكذا تعلم القراء المتعاطفون مع البطلات أن جميع الناس - حتى النساء - يطمحون لاستقلال أعظم، وأدركوا في مخيلاتهم الجهد النفسي الذي يستلزمه ذلك الكفاح.
عكست روايات القرن الثامن عشر انشغالا ثقافيا أعمق بالاستقلال. آمن فلاسفة عصر التنوير إيمانا راسخا بأنهم أحدثوا طفرة في هذا الشأن في القرن الثامن عشر. فعندما كانوا يتكلمون عن الحرية، كانوا يقصدون استقلال الفرد، سواء أكانت تلك الحرية حرية التعبير عن الآراء أو ممارسة شعائر الدين الذي يختاره الفرد، أو الاستقلال الذي كان يعلم للغلمان إذا اتبع أحدهم مبادئ روسو في دليله التعليمي «إيميل» (1762). ووصلت حكاية انتشار فكرة الاستقلال في عصر التنوير ذروتها في مقال إيمانويل كانط «ما التنوير؟» عام 1784. عرف كانط «الاستقلالية» ببراعة على أنها: «خروج البشرية من عدم النضج الذي ابتلت به نفسها.» ومضى قدما معرفا عدم النضج بأنه: «عدم القدرة على استغلال الفهم الذي يحققه الإنسان دون الاستعانة بتوجيه شخص آخر.» والتنوير في رأي كانط هو الاستقلال الفكري، أي قدرة الإنسان على التفكير بنفسه.
33
نبع تأكيد عصر التنوير على الاستقلال الفردي من ثورة القرن السابع عشر في الفكر السياسي، التي أشعل شرارتها هوجو جروشيوس وجون لوك، اللذان أكدا على أن إبرام الرجل المستقل اتفاقية اجتماعية مع أفراد مثله هو الأساس الوحيد الممكن لسلطة سياسية شرعية. فلو أردنا أن يحل عقد مبرم بين رجال مستقلين محل السلطة المدعومة بالحق الإلهي والكتاب المقدس والتاريخ، لكان لزاما أن نعلم الغلمان أن يفكروا بأنفسهم. وعليه تحولت النظرية التعليمية، التي كان للوك وروسو أثر بالغ في تشكيلها، من التأكيد على الطاعة المفروضة بواسطة العقاب إلى غرس حذر للمنطق باعتباره الوسيلة الرئيسية للاستقلال. ووضح لوك أهمية الممارسات الجديدة في أطروحته «أفكار عن التربية» (1693) فقال: «لا بد أن ننظر إلى أولادنا عندما يكبرون على أنهم مثلنا ... فنحن نحب أن ينظر إلينا على أننا مخلوقات عاقلة، وننعم بالحرية، ونؤثر ألا نظل خاضعين للتوبيخ والتخويف المستمرين.» وكما أدرك لوك، يعتمد الاستقلال السياسي والفكري على تنشئة الأطفال (صبيان وبنات، وفق رأيه) على توجهات جديدة؛ فالاستقلال يتطلب علاقة جديدة بالعالم، وليس مجرد أفكار جديدة.
34
ومن ثم كي يفكر الإنسان بنفسه ويقرر بنفسه لا بد من حدوث تغيرات نفسية وسياسية مكافئة للتغيرات الفلسفية. في دراسته بعنوان «إيميل» دعا روسو الأمهات إلى بناء جدران نفسية عازلة بين أطفالهن وكل الضغوط الخارجية الاجتماعية والسياسية، فحثهن قائلا: «ضعي في وقت مبكر سياجا حول نفس طفلك.» وأكد الواعظ الإنجليزي ومؤلف الكتيبات السياسية ريتشارد برايس في عام 1776، عندما كتب مؤيدا لسكان المستعمرات الأمريكيين، أن أحد الجوانب العامة الأربعة للحرية هو جانب الحرية البدنية فقال: «مبدأ «التلقائية» هذا، أو «حق تقرير المصير»، هو الذي يجعنا أحرارا.» من وجهة نظره، كانت الحرية مرادفا لتوجيه الذات أو حكم الذات، وتوحي الاستعارة السياسية في هذا السياق بحكم الذات نفسيا، غير أن المصطلحين مرتبطان ارتباطا وثيقا.
35
أراد المصلحون الذين ألهمهم عصر التنوير أن يصلوا إلى ما هو أبعد من حماية الأجساد أو بناء سياج لحماية النفس بالصورة التي نبه إليها روسو، فطالبوا بتوسيع نطاق عملية صنع القرار الفردي. وتوضح القوانين الثورية الفرنسية التي فرضت على العائلة عمق المخاوف من القيود التقليدية المفروضة على الاستقلال. في مارس من عام 1790، ألغت الجمعية الوطنية التأسيسية حق البكورية، الذي يمنح حقوق وراثة استثنائية للابن الذكر البكر، و«المراسيم المختومة» المشينة التي كانت تخول للعائلات سجن أولادها بدون جلسات استماع. وفي أغسطس من نفس العام، أنشأ المشرعون المجالس العائلية للاستماع إلى المنازعات بين الآباء والأبناء حتى سن العشرين، بدلا من منح الآباء السيطرة المطلقة على أبنائهم. وفي أبريل من عام 1791، أصدرت الجمعية مرسوما يقر بأنه لا بد أن يرث كل الأبناء، الذكور منهم والإناث، بالتساوي. وبعدئذ، في أغسطس من عام 1792، خفض المشرعون سن الرشد من الخامسة والعشرين إلى الحادية والعشرين، وأعلنوا أن البالغين ما عادوا خاضعين للسلطة الأبوية، ولأول مرة في تاريخ فرنسا أباحوا الطلاق، فجعلوه متاحا استنادا على نفس الأسس القانونية لكل من الرجال والنساء. خلاصة القول، فعل الثوار كل ما في وسعهم لإزالة المعوقات التي تعوق الاستقلال الشخصي.
36
وفي بريطانيا العظمى ومستعمراتها في أمريكا الشمالية، يمكن اقتفاء أثر الرغبة في استقلال أعظم في السير الذاتية والروايات بسهولة أكبر من اقتفائه في القانون، على الأقل قبل الثورة الأمريكية. في الواقع، في عام 1753، حرم «قانون الزواج» في إنجلترا الزواج لأولئك الذين لم يناهزوا سن الحادية والعشرين إلا برضا الأب أو الوصي. وعلى الرغم من إعادة التأكيد هذه على السلطة الأبوية، فإن نمط الهيمنة الذكورية القديم الذي يسود فيه الأزواج على الزوجات والآباء على الأبناء تراجع في القرن الثامن عشر. وبدءا من رواية «روبنسون كروزو» للكاتب دانييل ديفو عام 1719، ووصولا إلى السيرة الذاتية لبنجامين فرانكلين (التي كتبت في الفترة ما بين عامي 1771 و1788)، أشاد الكتاب الإنجليز والأمريكيون بالاستقلال باعتباره فضيلة أساسية. فكانت رواية ديفو التي تدور عن البحار الذي تحطمت سفينته ونجا من الغرق، بمنزلة كتيب للتعليمات الأساسية عن كيفية تعلم الإنسان حماية نفسه وإعالتها. لذا ليس مستغربا أن اعتبر روسو قراءة رواية ديفو ضرورية لإيميل الصغير، أو أن تطبع رواية «روبنسون كروزو» للمرة الأولى في المستعمرات الأمريكية عام 1774، في ذروة أزمة الاستقلال المستفحلة. وكانت رواية روبنسون كروزو واحدة من أفضل الكتب مبيعا في المستعمرات الأمريكية عام 1775، ولا يباريها سوى خطابات لورد تشيسترفيلد إلى ابنه، وكتاب جون جريجوري «إرث الأب لبناته»، اللذين كانا لتبسيط وتعميم آراء لوك عن تعليم الصبيان والبنات.
37
سارت النزعات في حياة الأشخاص في عالم الواقع في الاتجاه نفسه، وإن كان على نحو أكثر تذبذبا؛ فقد توقع الشباب على نحو متزايد أن يختاروا بأنفسهم عند الزواج، مع أن العائلات ظلت تمارس ضغطا بالغا عليهم، كما يتضح في عدد هائل من الروايات التي تدور حبكاتها عن هذه النقطة («كلاريسا» على سبيل المثال). وتكشف ممارسات تربية الأطفال أيضا التغيرات الطفيفة التي طرأت على التوجه. فقد أقلع الإنجليز عن تدثير الأطفال بالأغطية قبل الفرنسيين (لروسو عظيم الفضل في صرف الفرنسيين عن هذه العادة) غير أنهم ظلوا يضربون الصبيان في المدرسة وقتا أطول. وبحلول خمسينيات القرن الثامن عشر، توقفت العائلات الإنجليزية الأرستقراطية عن استخدام سيور الجلد التي كان يشد بها الطفل من كتفيه في أثناء تدرجه نحو المشي، وفطمت الرضع بعد فترات أقصر، ولأنهم ما عادوا يدثرون الأطفال بالأغطية، دربوهم على استخدام المراحيض في وقت مبكر أيضا، وجميعها علامات على التأكيد المتزايد على الاستقلال.
38
غير أن التأريخ كان أكثر تشوشا في بعض الأحيان؛ فالطلاق في إنجلترا، على خلاف بقية البلدان البروتستانتية، كان مستحيلا فعليا في القرن الثامن عشر؛ ففي الفترة بين عامي 1700 و1857 - حين نتج عن «قانون القضايا الزوجية» إنشاء محكمة خاصة للاستماع إلى قضايا الطلاق - لم تقع سوى 325 حالة طلاق بموجب قانون خاص أصدره برلمان إنجلترا، وويلز، وأيرلندا. وعلى الرغم من أن عدد حالات الطلاق ارتفع من 14 حالة في النصف الأول من القرن الثامن عشر إلى 117 حالة في النصف الثاني من نفس القرن، فإن الطلاق اقتصر في الواقع على عدد محدود من رجال الطبقة الأرستقراطية؛ نظرا لأن المبررات اللازمة لمنح الطلاق كادت تجعل الطلاق مستحيلا أن تحصل عليه النساء. ويعني هذا الرقم أنه منح 2,34 حالات طلاق سنويا فحسب في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وعلى النقيض، بعدما أباح الثوار الفرنسيون الطلاق، وقعت 20000 حالة طلاق في فرنسا في الفترة ما بين عامي 1792 و1803، بمعدل 1800 حالة طلاق سنويا. أما عن مستعمرات بريطانيا في أمريكا الشمالية، فقد التزمت عموما بالممارسات الإنجليزية في منع الطلاق، على أنها سمحت ببعض أشكال الانفصال القانوني، لكن بعد الاستقلال بدأت المحاكم الجديدة تقبل عرائض الطلاق في معظم الولايات. وقدمت معظم النساء عرائض الطلاق في السنوات الأولى لاستقلال الولايات المتحدة الناشئة، مرسيات بذلك نزعة تكررت فيما بعد في فرنسا الثورة.
39
في مذكرات دونها توماس جيفرسون في عامي 1771 و1772 عن إحدى قضايا الطلاق، ربط بوضوح الطلاق بالحقوق الطبيعية، فالطلاق سوف يعيد «للمرأة حقها الطبيعي في المساواة». وأصر جيفرسون على أنه من طبيعة العقود المبرمة بالرضا المتبادل أن تكون قطعا قابلة للفسخ إذا أخل أحد الأطراف بالاتفاق؛ نفس الحجة التي استخدمها الثوار الفرنسيون في عام 1792. علاوة على ذلك فإن إمكانية الطلاق القانوني سوف تكفل «حرية المشاعر» التي هي حق طبيعي أيضا. وكان حق «السعي وراء السعادة»، الذي اشتهر من خلال إعلان الاستقلال الأمريكي، يتضمن الحق في الطلاق؛ لأن «الغاية من الزواج هي التكاثر والسعادة»، لذا فإن حق السعي وراء السعادة يتطلب الطلاق. وليس من قبيل المصادفة أن جيفرسون ساق حججا مماثلة عندما تحدث عن انفصال أمريكا عن بريطانيا العظمى بعدها بأربع سنوات.
40
وفي الوقت الذي كان الناس في القرن الثامن عشر ينادون فيه بتوسيع حق تقرير المصير، واجهوا معضلة: ما الذي عساه أن يقدم مرجعية المجتمع في ظل هذا النظام الجديد الذي يشدد على حقوق الفرد؟ إن توضيح كيفية استخلاص الأخلاق من المنطق البشري العقلاني وليس من الكتاب المقدس أو أن الاستقلال أفضل من الطاعة العمياء شيء، ومحاولة التوفيق بين استقلال الفرد الذي يتمتع بالتوجيه الذاتي وبين المصلحة العامة شيء مختلف تماما. وضع الفلاسفة الاسكتلنديون في منتصف القرن مسألة المجتمع العلماني في بؤرة اهتماماتهم ، وقدموا إجابة فلسفية منسجمة مع ممارسة التوحد الذي تعلمه الرواية. أطلق الفلاسفة - على غرار عموم الناس الذين عاشوا في القرن الثامن عشر - على إجابتهم اسم «التعاطف». لقد استخدمت لفظة «التوحد»
empathy
من قبل لأنه على الرغم من أنها لم تدخل اللغة الإنجليزية إلا في القرن العشرين، فإنها تعبر بشكل أفضل عن معنى الرغبة القوية في التوحد مع الآخرين شعوريا. فعادة ما تدل الآن لفظة التعاطف على «الشفقة»، التي تحمل في فحواها معنى التفضل، وهو الشعور الذي يتنافى مع الشعور الحقيقي بالمساواة.
41
كان للفظة «التعاطف» معنى واسع للغاية في القرن الثامن عشر؛ فكان التعاطف في رأي فرانسيس هاتشسن نوعا من الحس، أي ملكة أخلاقية؛ فالتعاطف - أو المشاركة الوجدانية - الذي هو أكثر نبلا من حاسة البصر أو السمع - وهما حاستان نتشاركهما مع الحيوانات - لكنه أقل نبلا من الضمير، هو ما جعل الحياة الاجتماعية ممكنة. وبفضل قوة الطبيعة الإنسانية، التي تسبق أي منطق، كان التعاطف بمنزلة نوع من قوى الجذب الاجتماعية التي تخرج الأشخاص من أنفسهم. وضمن التعاطف أن السعادة لا يمكن تعريفها في ضوء الرضا الذاتي وحده. وخلص هاتشسن إلى أنه: «بواسطة نوع من أنواع العدوى أو التفشي، تزيد كل مباهجنا - حتى أدناها - زيادة غريبة عندما نتشاركها مع الآخرين.»
42
كرس آدم سميث - مؤلف كتاب «ثروة الأمم» (1776) وأحد تلامذة هاتشسن - أحد أعماله الأولى لقضية التعاطف؛ ففي الفصل الافتتاحي من كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» (1759)، استخدم نموذج التعذيب ليصل إلى آلية عمل التعاطف. فما الذي يحملنا على التعاطف مع معاناة شخص يعذب على المخلعة؟ فحتى لو كان المعذب هو أخونا، لا يمكننا البتة أن نشعر مباشرة بما يشعر به، كل ما في وسعنا هو أن نتوحد فحسب مع معاناته بفعل الخيال الذي يجعلنا نضع أنفسنا في مكانه ونتحمل نفس الآلام؛ «كأننا نلبس جسده ونصير هو نفسه بقدر ما.» عملية التوحد الخيالي تلك - التعاطف - تسمح للمشاهد بأن يشعر بما يشعر به ضحية التعذيب، غير أن المشاهد لا يستطيع أن يصبح كائنا أخلاقيا بحق إلا عندما يخطو الخطوة التالية ويدرك أنه هو أيضا يحظى بمثل هذا التوحد الخيالي. وعندما يرى نفسه يحظى بمشاعر التعاطف من الآخرين، يستطيع أن يخلق بداخل نفسه «مراقبا محايدا» يقوم بدور البوصلة الأخلاقية. من ثم يرى سميث أن الاستقلال والتعاطف متلازمان، فالشخص المستقل وحده هو من يستطيع أن يخلق «مراقبا محايدا» بداخل نفسه، على أنه لا يمكنه أن يفعل هذا ما لم يتوحد مع الآخرين أولا، كما يوضح سميث.
43
كان للتعاطف أو الحس المرهف - وكان مصطلح الحس المرهف أكثر شيوعا بكثير في فرنسا - أصداء ثقافية واسعة على جانبي الأطلنطي في النصف الأخير من القرن الثامن عشر. قرأ توماس جيفرسون أعمال هاتشسن وسميث، مع أنه استشهد تحديدا بالروائي لورنس ستيرن معتبرا أنه يقدم «أفضل منهج للأخلاق». وفي ضوء انتشار الإشارة إلى التعاطف والحس المرهف على شاطئي الأطلنطي، لا يبدو من قبيل المصادفة أن أول رواية كتبها أمريكي، ونشرت عام 1789، كان عنوانها «قوة التعاطف». تغلغل التعاطف والحس المرهف في نسيج الأدب والرسم، بل الطب أيضا، حتى إن بعض الأطباء بدأ يساورهم القلق بشأن الإفراط فيهما؛ إذ خافوا من أنهما قد يؤديان إلى الإصابة بالمالنخوليا (وهو اضطراب ذهني حاد مصحوب بالاكتئاب والشعور بالذنب واليأس)، أو الوساوس المرضية، أو الاضطرابات العصبية الهستيرية. ورأى الأطباء أن السيدات اللاتي يتاح لهن وقت فراغ طويل (ممن يستطعن القراءة) أكثر عرضة لهذه الأمراض من غيرهن.
44
جاء التعاطف والحس المرهف في مصلحة كثير من المجموعات المحرومة من الحقوق، ولكن ليس النساء. واستفادة من نجاح الرواية في إبراز أشكال جديدة من التوحد النفسي، شجع أنصار إلغاء الرق الأوائل الرقيق الذين أعتقوا على كتابة سيرهم الذاتية بطابع روائي، بل إضافة أجزاء من وحي خيالهم في بعض الأحيان من أجل كسب مؤيدين للحركة الناشئة. وظهرت مساوئ وشرور العبودية بوضوح عندما وصف رجال - مثل أولوداه إكويانو، الذي نشر كتابه «القصة الشائقة لحياة أولوداه إكويانو، أو الأفريقي جوستافوس فاسا، كما كتبها» لأول مرة في لندن عام 1789 - تجاربهم الشخصية مع العبودية ، ومع ذلك عجز معظم أنصار إلغاء الرق عن إدراك وجود علاقة بين حقوق الرقيق وحقوق المرأة؛ فبعد عام 1789، كان العديد من الثوار الفرنسيين يخرجون في وقفات احتجاجية عامة قوية من أجل حقوق البروتستانت، واليهود، والسود الأحرار، بل حتى العبيد، وفي الوقت نفسه يعارضون بشدة منح المرأة حقوقها. ومع أن موضوع الرق أثير على الفور وأصبح مثار جدل محتدم في الولايات المتحدة الناشئة حديثا، فإن موضوع حقوق المرأة أثار في أمريكا جدلا أقل مما أثاره في فرنسا. ولم تنعم المرأة بأي حقوق سياسية متساوية في أي مكان في العالم قبل القرن العشرين.
45
نظر الناس الذين عاشوا في القرن الثامن عشر - تقريبا مثل جميع من عاشوا قبلهم في تاريخ البشرية كله - إلى المرأة على أنها عالة على زوجها أو والدها تبعا لوضعها الاجتماعي، ومن ثم فهي لا تتمتع بالقدرة الكاملة على الاستقلال السياسي. كانوا يدافعون عن حق تقرير المصير باعتباره فضيلة أخلاقية شخصية دون ربطه بالحقوق السياسية؛ فالنساء لهن حقوق، لكنها ليست الحقوق السياسية. وباتت تلك النظرة واضحة عندما صاغ الثوار الفرنسيون دستورا جديدا عام 1789. وضح آبي إيمانويل جوزيف سييس - وهو مفسر بارز للنظرية الدستورية - الفارق الناشئ بين الحقوق الطبيعية والمدنية من ناحية، والحقوق السياسية من ناحية أخرى. أكد القس جوزيف سييس أن جميع المواطنين، بمن فيهم النساء، يتمتعون بحقوق تسمى حقوق المواطن المذعن؛ حقوق حماية أنفسهم وممتلكاتهم وحرياتهم، لكن ليس كل المواطنين مواطنين فاعلين ينعمون بالحق في المشاركة المباشرة في الشئون العامة. وكان يعرف «النساء - على الأقل بوضعهن الراهن - والأطفال والأجانب؛ أولئك الذين لا يقدمون أي مساهمات في حفظ المؤسسة العامة» على أنهم مواطنون سلبيون مذعنون. أفسحت عبارة سييس المقيدة التي تقول «على الأقل بوضعهن الراهن» مساحة ضئيلة لحدوث تغيرات مستقبلية في حقوق المرأة، ولسوف يحاول آخرون أن يستغلوا هذه المساحة لكن دون طائل على المدى القصير.
46
أظهرت القلة القليلة التي ناصرت حقوق المرأة في القرن الثامن عشر ازدواجية وتناقضا فيما يخص الروايات. رأى المعارضون التقليديون للروايات أن المرأة عرضة بشدة لفتنة القراءة عن الحب، بل حتى المدافعون عن الروايات، مثل جيفرسون، ساورتهم المخاوف أيضا بشأن تأثيراتها على الفتيات؛ ففي عام 1818 حذر جيفرسون - الذي تقدم به العمر كثيرا عن عمره حين كان شديد الحماس لكتابه المفضلين في عام 1771 - من «العاطفة الجامحة» التي تثيرها الروايات وسط الفتيات، وقال: «إن المحصلة النهائية هي مخيلة منتفخة» و«رأي مريض». لا عجب إذن أن المدافعين المتحمسين عن حقوق المرأة تعاملوا مع هذه الشكوك بجدية. وكما هي حال جيفرسون، قارنت ماري ويلستونكرافت - مؤسسة الحركة النسائية الحديثة - صراحة قراءة الرواية - وهي «النوع الوحيد من القراءة المقصود به إثارة اهتمام عقل بريء تافه» - بقراءة التاريخ وبالفهم العقلاني الفعال على وجه العموم. ومع ذلك فقد كتبت ويلستونكرافت نفسها روايتين بطلتاهما من الإناث، ونقدت العديد من الروايات في دوريات منشورة، وأشارت لها على الدوام في مراسلاتها. وعلى الرغم من اعتراضاتها على إيعاز روسو بتعليم الإناث في كتابه «إيميل»، قرأت رواية «جولي» بنهم شديد، واستخدمت العبارات الحاضرة في ذهنها من رواية «كلاريسا» وروايات ستيرن كي تعبر عن مشاعرها الشخصية في خطاباتها.
47
إن تعلم التوحد مهد السبيل أمام حقوق الإنسان، غير أنه لم يضمن أن كل شخص سيكون بمقدوره أن يسلك هذا السبيل في الحال، ولم يدرك أحد هذا أو يتعذب بسببه أكثر من كاتب «إعلان الاستقلال»؛ ففي خطاب بعثه جيفرسون في عام 1802 لرجل الدين والعالم والمصلح الإنجليزي جوزيف بريستلي، عرض جيفرسون النموذج الأمريكي للعالم أجمع بقوله: «من المستحيل ألا ندرك أننا نعمل من أجل خير البشرية جمعاء، وأن الظروف التي حرم منها الآخرون ونعمنا نحن بها قد فرضت علينا واجب إقرار درجة الحرية وحكم الذات التي يمكن أن يتركها المجتمع لأفراده.» وطمح جيفرسون إلى أقصى «درجات الحرية» التي يمكن تخيلها، والتي عنت في نظره إفساح المجال للمشاركة السياسية لأكبر عدد ممكن من البيض، بل ربما أيضا من الهنود الحمر في آخر المطاف، لو أمكن تحويلهم إلى مزارعين. ومع أنه اعترف بآدمية الأمريكيين من أصول أفريقية، بل بحقوق العبيد باعتبارهم بشرا، فإنه لم يتصور حكومة يشاركون فيها مشاركة فعالة؛ لا هم ولا النساء من أي لون. لكن كانت هذه أقصى درجات الحرية التي يمكن تخيلها للأغلبية الساحقة من الأمريكيين والأوروبيين، وإلى أن مات جيفرسون بعدها بأربعة وعشرين عاما.
48
الفصل الثاني
بشر أمثالنا
إلغاء التعذيب
في عام 1762 - وهو نفس العام الذي ابتكر فيه روسو مصطلح «حقوق الفرد» - أدانت إحدى المحاكم في مدينة تولوز بجنوب فرنسا رجلا بروتستانتيا يبلغ من العمر أربعة وستين عاما ويدعى جان كالاس بتهمة قتل ابنه لمنعه من التحول إلى المذهب الكاثوليكي. أصدر القضاة الحكم عليه بالإعدام بسحق عظامه على عجلة السحق، وقبيل تنفيذ حكم الإعدام تعين على كالاس أن يقاسي أولا تحت الإشراف القضائي عذابا يعرف باسم «الاستجواب التمهيدي»، أعد خصيصا من أجل أن يدلى أولئك الذين أدينوا بالفعل بأسماء شركائهم في الجريمة. أوثق الجلادون معصمي كالاس بإحكام إلى قضيب خلف ظهره، ثم مطت آلة تعمل بالكرنكات والبكرات جسمه بحيث تشد ذارعيه إلى أعلى باستمرار فيما يحفظ ثقل حديدي قدميه ثابتتين في مكانهما (انظر الشكل رقم
2-1 ). وعندما امتنع كالاس عن ذكر أي أسماء بعد نوبتين من التعذيب، أوثقوه في مقعد، ثم صبوا قوارير الماء في حلقه عنوة فيما ظل فمه مفتوحا باستخدام عصوين صغيرتين (انظر الشكل رقم
2-2 ). ولما عذب من جديد كي يدلي بالأسماء، جاء رده كالآتي: «حين لا توجد جريمة من الأساس، لا يمكن أن يكون هناك شركاء في الجريمة.»
شكل 2-1: التعذيب القضائي. (يكاد يستحيل العثور على لوحات تصور التعذيب الذي كان القضاء يبيحه. يدعي هذا النحت الخشبي المصنوع على صفحة كاملة (21,6سم × 14,4سم) الذي يعود إلى القرن السادس عشر أنه يوضح وسيلة كانت مستخدمة في تولوز تشبه تلك التي خضع لها جان كالاس بعدها بقرنين، وهي تمثل نموذجا لأدوات التعذيب القضائي التي كانت ذائعة الانتشار في أوروبا وكانت تسمى «آلة المط»
strappado ، وهي كلمة مشتقة عن كلمة إيطالية تعني الشد العنيف أو التمزيق.)
شكل 2-2: التعذيب بالماء. (يصور هذا النحت الخشبي الذي يعود إلى القرن السادس عشر (مقاس 21,6سم × 14,4سم) طريقة فرنسية للتعذيب بالماء، وهي ليست نفس الطريقة التي خضع لها كالاس بالضبط، لكنها قريبة منها بالقدر الكافي لتوصيل الفكرة.)
لم يكن المعذبون يموتون سريعا، ولم يكن هذا هو المراد. كان السحق على العجلات، المخصص لأولئك المدانين في جرائم القتل أو السطو المسلح، يتم على مرحلتين؛ أولا: يوثق الجلاد المدان على صليب على شكل حرف إكس (
x ) ثم يكسر على نحو مدروس عظم الساعدين، والساقين، والفخذين، والذراعين عن طريق تسديد ضربتين قويتين إلى كل منها. وباستخدام رافعة مثبتة في حبل ملفوف حول رقبة المدان، يخلع مساعد للجلاد يقف تحت المشنقة الفقرات العنقية عن طريق شد الحبل شدا عنيفا. في تلك الأثناء يسدد الجلاد ثلاث ضربات عنيفة إلى الجزء الأوسط من الجسم باستخدام قضيب من الحديد. ثم ينزل الجلاد الجسد المهشم ويوثقه إلى عجلة عربة موضوعة على قمة قضيب طوله عشرة أقدام، بحيث تكون الأطراف مثنية للوراء على نحو مؤلم للغاية. ويظل المدان مربوطا في هذا الوضع فترة طويلة بعدما يلقى حتفه، منهيا بذلك «مشهدا مرعبا إلى أبعد حد». وبناء على توجيه سري، تفضلت المحكمة وأنعمت على كالاس بالخنق حتى الموت بعد ساعتين من العذاب، قبل أن يوثق إلى العجلة. ومات كالاس وهو لا يزال يؤكد براءته.
1
أثارت «قضية» كالاس الانتباه عندما اهتم بها فولتير بعد مرور أشهر قلائل على تنفيذ حكم الإعدام. جمع فولتير المال من أجل العائلة، وكتب خطابات باسم العديد من أفراد عائلة كالاس يؤكد أنها تقدم رؤيتهم الشخصية للأحداث، ثم نشر كتيبا وكتابا يتناولان القضية، وكان أشهر هذه الأعمال مقالته «رسالة عن التسامح بمناسبة موت جان كالاس»، التي استخدم فيها للمرة الأولى مصطلح «حق الإنسان»؛ كان جوهر حجته أن التعصب محال أن يكون حقا من حقوق الإنسان (لم يستخدم الحجة الإيجابية التي تقول إن حرية اختيار الدين حق من حقوق الإنسان)، ولم يعترض فولتير في الأساس على التعذيب أو سحق العظام باستخدام عجلة السحق، ما أثار سخطه هو ذلك التعصب الديني الأعمى الذي انتهى إلى أنه يحرك رجال الشرطة والقضاة: «من المستحيل أن نعقل كيف يمكن لرجل، بناء على هذا المبدأ [حق الإنسان]، أن يقول لآخر «آمن بما أؤمن به والذي لا يمكنك أن تؤمن به وإلا ستموت»! فبهذا الأسلوب يتكلم الناس في البرتغال، وإسبانيا، وجوا» [بلدان ذات سمعة مشينة بسبب محاكم التفتيش].
2
لما كان التعبد علانية بالمذهب الكالفيني محظورا في فرنسا منذ عام 1685، كان جليا أنه لم يكن من الصعب أن تصدق السلطات أن كالاس قتل ابنه لمنعه من التحول إلى المذهب الكاثوليكي. ففي ليلة من الليال، بعدما التفت العائلة لتناول العشاء، وجدوا مارك-أنطوان يتدلى من العتبة العليا لأحد أبواب مخزن خلفي؛ إنه انتحار واضح، ولتحاشي الفضيحة، ادعوا أنهم عثروا عليه مرميا أرضا وكأنه تعرض للقتل؛ وذلك لأن قانون فرنسا يعاقب على الانتحار؛ فالشخص الذي ينتحر لا يدفن في أرض مقدسة، وإذا ثبتت إدانته في إحدى جلسات الاستماع، تخرج جثته من القبر وتجر في كل أنحاء المدينة ثم تعلق من القدمين ثم تلقى في مقلب النفاية.
استغلت الشرطة نقاط التضارب والاختلاف في أقوال أفراد الأسرة، وقبضت فورا على الأب والأم والأخ، بالإضافة إلى الخادمة وشخص كان في زيارتهم، ووجهت لهم جميعا تهمة القتل، وقضت محكمة محلية بخضوع كل من الأب والأم والأخ للتعذيب؛ بغية انتزاع اعترافات باقتراف الجريمة (فيما يعرف بالاستجواب التمهيدي)، لكن عند الاستئناف نقض برلمان تولوز حكم المحكمة المحلية، إذ رفض استخدام التعذيب قبل ثبوت الإدانة، وأدان الأب فحسب على أمل أن يقر بأسماء الآخرين عندما يخضع للتعذيب قبيل إعدامه مباشرة. أتت الدعاية الحرون التي شنها فولتير حول القضية بثمارها لمصلحة العائلة التي لم تكن قد برئت ساحتها بعد. في بادئ الأمر علق المجلس الملكي الأحكام الصادرة لأسباب فنية طوال عامي 1763 و1764، ثم صوت في عام 1765 من أجل تبرئة ساحة جميع المتورطين في القضية وإعادة الممتلكات المصادرة إلى الأسرة.
أثناء العاصفة التي ثارت حول قضية كالاس، بدأ تركيز فولتير يتحول، وعلى نحو متزايد بدأ نظام العدالة الجنائية نفسه؛ ولا سيما استخدامه للتعذيب والقسوة ، يتعرض للنقد؛ ففي كتابات فولتير الأولى عن قضية كالاس في عامي 1762 و1763، لم يأت فولتير قط على ذكر مصطلح «تعذيب» (واستعاض عنها باللفظة القانونية الأكثر لطفا «الاستجواب»)، واستهجن فولتير التعذيب القضائي للمرة الأولى عام 1766، ومنذ ذلك الحين فصاعدا كثيرا ما بدأ يربط بين كالاس والتعذيب. أكد فولتير على أن مشاعر الشفقة الطبيعية تحمل كل إنسان على النفور من قسوة التعذيب، مع أنه هو نفسه لم يجاهر بهذا من قبل. يقول فولتير: «ألغي التعذيب في بلدان أخرى بنجاح، ومن ثم فالقضية محسومة.» حدث تحول كبير في آراء فولتير، حتى إنه شعر في عام 1769 أنه يتعين عليه إضافة مقال جديد عن «التعذيب» إلى «قاموسه الفلسفي» الذي نشر للمرة الأولى في عام 1764، والذي كان مدرجا بالفعل في «القائمة البابوية للكتب المحظورة». وفي المقال استخدم فولتير أسلوبه المعتاد الذي يبدل فيه بين السخرية والنقد اللاذع كي يستهجن الممارسات الفرنسية الهمجية؛ إذ يشير إلى أن الغرباء يكونون رأيهم عن فرنسا من خلال مسرحياتها، ورواياتها، وأشعارها، وممثلاتها الحسناوات، دون أن يفطنوا إلى أنه ما من أمة تفوقها قسوة، ويخلص فولتير إلى أن الأمة المتحضرة ما كانت لتداوم على اتباع «العادات الوحشية الموغلة في القدم»، وما كان يبدو له ولكثيرين غيره مقبولا منذ أمد بعيد أصبح الآن مشكوكا فيه.
3
كما هي الحال مع حقوق الإنسان بصفة أكثر عمومية، تبلورت توجهات جديدة بشأن كل من التعذيب والعقوبات الآدمية للمرة الأولى في ستينيات القرن الثامن عشر، ليس في فرنسا وحدها، بل أيضا في بقاع أخرى من أوروبا وفي المستعمرات الأمريكية. كان فريدريك الكبير، ملك بروسيا وصديق فولتير، قد ألغى بالفعل التعذيب القضائي في مملكته عام 1754، ثم تبعه آخرون في العقود التالية: السويد في عام 1772، والنمسا وبوهيميا في عام 1776. وفي عام 1780 ألغت الحكومة الملكية الفرنسية استخدام التعذيب بغية انتزاع الاعترافات باقتراف الجريمة قبل صدور الحكم بالإدانة، وفي عام 1788 ألغت إلغاء مؤقتا التعذيب قبل تنفيذ حكم الإعدام مباشرة لمعرفة أسماء شركاء الجريمة، وفي عام 1783 أوقفت الحكومة البريطانية المسيرات العامة إلى منطقة تايبرن في لندن؛ حيث بات تنفيذ حكم الإعدام فيها أحد أهم مصادر التسلية الشعبية ، واستحدثت الاستخدام المألوف ل «هوة المشنقة»، وهي منصة مرتفعة يسقطها الجلاد كي يضمن عمليات شنق أسرع وأكثر آدمية. وفي عام 1789 ألغت الحكومة الثورية الفرنسية أشكال التعذيب القضائي كافة، واستحدثت المقصلة في عام 1792 التي كان الغرض منها جعل تنفيذ عقوبة الإعدام على نفس الدرجة من الألم للجميع وغير مؤلم قدر المستطاع. وبحلول نهاية القرن الثامن عشر، بدا أن الرأي العام يطالب بوضع حد للتعذيب القضائي وكل أشكال الإذلال المتعددة التي تتعرض لها أجساد المدانين، وكما أكد الطبيب الأمريكي بنجامين راش في عام 1787 فإنه لا يجدر بنا أن نغفل أنه حتى المجرمون «لهم أرواح وأجساد مكونة من نفس العناصر التي تتكون منها أرواح وأجساد أصدقائنا وذوينا. هم أمثالنا».
4
التعذيب والقسوة
بدأ استخدام التعذيب الخاضع للإشراف القضائي بغية انتزاع الاعترافات في معظم البلدان الأوروبية - أو أعيد استخدامه - في القرن الثالث عشر؛ نتيجة لإحياء القانون الروماني ونموذج «محاكم التفتيش الكاثوليكية» لمعاقبة الهرطقة. وفي القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، كرس كثيرون من أبرع رجال القانون في أوروبا أنفسهم من أجل تقنين استخدام التعذيب القضائي وتنظيمه كي يحولوا دون أن يسيء استخدامه القضاة المتعصبون تعصبا أعمى أو الساديون. ويعتقد أن بريطانيا العظمى كانت قد استبدلت هيئات المحلفين بالتعذيب القضائي في القرن الثالث عشر، ومع ذلك ما انفك التعذيب يحدث في القرنين السادس عشر والسابع عشر في قضايا مثل إثارة الفتنة ومزاولة السحر. على سبيل المثال: من ضمن وسائل التعذيب التي استخدمها القضاة الاسكتلنديون الأكثر صرامة مع الساحرات: الثقب، والحرمان من النوم، والتعذيب بالحذاء «عالي الساق» (سحق السيقان)، والكي باستخدام الحديد المحمى، وغيرها من الطرق. أما التعذيب بغية الحصول على اعتراف بأسماء شركاء الجريمة فقد كان مسموحا به بموجب قانون ماساتشوستس الاستعماري، لكن من الواضح أنه لم يطبق قط.
5
كانت أشكال العقاب الوحشية عند الإدانة منتشرة في كل أنحاء أوروبا والأمريكتين؛ فمع أن وثيقة الحقوق البريطانية لعام 1689 منعت منعا صريحا العقوبات القاسية، فإن القضاة ما انفكوا يصدرون أحكاما على المدانين بالخضوع للجلد، ومقعد التغطيس، وفلقة العقاب، وعمود التشهير، والوصم بالحديد المحمى، والإعدام بالسحل والتقطيع إلى أربعة أرباع (باستخدام الأحصنة)، أما فيما يتعلق بالمرأة فالإعدام يكون بالسحل والتقطيع والحرق على خازوق. أما ما كان عقوبة «قاسية» في نظرهم، فاعتمد بوضوح على التوقعات الثقافية. ولم يمنع البرلمان حرق المرأة بالشد إلى الخازوق إلا في عام 1790. على أنه قبل ذلك كان البرلمان قد رفع عدد الجرائم التي يعاقب عليها بالإعدام ارتفاعا مذهلا؛ إذ تضاعف ثلاث مرات طبقا لبعض التقديرات في القرن الثامن عشر، وفي عام 1752 اتخذ بعض الإجراءات كي يجعل عقوبات جرائم القتل أكثر ترويعا بغية المزيد من الردع. أمر البرلمان بعرض جثث القتلة كافة على الطبيب من أجل تشريحها - الأمر الذي كان يعد مشينا في ذلك الوقت - وخولوا للقضاة سلطة اتخاذ قرار تعليق جثة أي قاتل ذكر في سلاسل بعد تنفيذ الإعدام. وعلى الرغم من الانزعاج المتزايد من جراء تعليق جثث القتلة، فقد طالت هذه الممارسة إلى أن ألغيت أخيرا في عام 1834.
6
ليس من المستغرب أن العقاب في المستعمرات اتبع الأنماط السائدة في المركز الإمبراطوري. وهكذا، نص ثلث جميع الأحكام الصادرة عن المحكمة العليا بماساتشوستس، حتى في النصف الأخير من القرن الثامن عشر، على عقوبات تنطوي على الإذلال على الملأ تتراوح ما بين تعليق اللافتات إلى قطع إحدى الأذنين، والوصم، والجلد. وصف أحد المعاصرين في بوسطن كيف «كانت تنقل النساء من السجن في قفص ضخم يجر على عجلات، ثم يخرجن من هذا القفص حيث يوثقن إلى عمود عرايا الظهر فيتلقين ثلاثين أو أربعين جلدة وسط صرخات المتهمات وضجيج الجموع». ولم تحم وثيقة الحقوق البريطانية العبيد الذين لم يكن ينظر لهم على أنهم أشخاص لهم حقوق شرعية. وأجازت ولايتا فيرجينيا وكارولينا الشمالية صراحة خصي العبيد عند اقتراف الجرائم المشينة، وفي ميريلاند كان إذا أساء العبد إساءة متعمدة تقطع يده اليمنى، ثم يشنق ويقطع رأسه ويمزق جسده إلى أربعة أجزاء، ثم تعرض الأجزاء المقطوعة أمام العامة. وفي وقت متأخر - نحو أربعينيات القرن الثامن عشر - كان العبيد يحرقون في نيويورك حتى الموت ببطء مؤلم، أو تسحق عظامهم على عجلة السحق، أو يعلقون في السلاسل ويتركون ريثما يموتون جوعا.
7
شكل 2-3: الطوق المعدني. (كان الغرض من هذه العقوبة الإذلال على الملأ. تصور هذه الصورة المطبوعة، التي رسمها فنان مجهول، أحد المدانين بتهمة الاحتيال والتشهير في عام 1760. ووفقا لما ورد في التعليق، أوثق أولا إلى الطوق المعدني مدة ثلاثة أيام، ثم وصم وأرسل إلى سفينة للتجديف بقية حياته.)
ظلت معظم الأحكام التي صدرت عن المحاكم الفرنسية في النصف الأخير من القرن الثامن عشر تتضمن شكلا ما من أشكال العقاب البدني أمام العامة مثل الوصم، أو الجلد، أو ارتداء الطوق المعدني (الذي كان يثبت في العمود أو أداة التشهير، كما في الشكل رقم
2-3 ). وفي نفس العام الذي أعدم فيه كالاس، نظر البرلمان الفرنسي استئناف أحكام عقوبات ضد 235 رجلا وسيدة خضعوا للمحاكمة أولا في محكمة شاتيليه بباريس (محكمة أدنى درجة): 82 منهم حكم عليهم بالنفي والوصم المقترن عادة بالجلد، و9 حكم عليهم بنفس المزيج السابق بالإضافة إلى الطوق المعدني، و19 بالوصم والسجن، و20 بالحبس في المستشفى العام بعد الوصم و/أو الطوق المعدني، و12 بالشنق، و3 بالسحق على عجلة السحق، و1 بالحرق على خازوق. وإذا حسبنا الأحكام الصادرة عن المحاكم الأخرى كافة في باريس، فسنجد أن عدد العقوبات التي تتضمن الإذلال على الملأ يصل إلى 500 أو 600، منها نحو 18 عقوبة إعدام؛ كل هذا في عام واحد فقط وفي ولاية قضائية واحدة.
8
أخذت عقوبة الإعدام في فرنسا خمسة أشكال مختلفة: قطع الرأس للنبلاء، والشنق للمجرمين العاديين، والسحل والتقطيع إلى أربعة أجزاء للمدانين في الجرائم المرتكبة في حق الملك التي تعرف باسم «الخيانة العظمى»، والحرق على خازوق للمدانين في جرائم الهرطقة ومزاولة السحر وإشعال الحرائق ودس السم ومواقعة الحيوانات واللواط، وسحق العظام على عجلة السحق للمدانين في جرائم القتل والسطو المسلح. ونادرا ما أصدر القضاة أحكاما بالسحل والتقطيع إلى أربعة أجزاء والحرق على خازوق في القرن الثامن عشر، أما سحق العظام على عجلة السحق فقد كان حكما شائعا للغاية؛ فعلى سبيل المثال: في الدائرة القضائية لبرلمان بلدة آيكس إن بروفينس جنوب فرنسا، نصت نحو نصف أحكام الإعدام التي بلغت ثلاثة وخمسين حكما الصادرة في الفترة بين عامي 1760 و1762 على الموت بسحق العظام على عجلة السحق.
9
على أنه بدءا من ستينيات القرن الثامن عشر فصاعدا، أدت حملات من مختلف الأنواع إلى إلغاء التعذيب الذي تقره الدولة، وإلى اعتدال متزايد في فرض العقاب (حتى للعبيد). عزا المصلحون إنجازاتهم إلى انتشار مذهب الإنسانية إبان عصر التنوير؛ ففي عام 1786 تذكر المصلح الإنجليزي صامويل روميلي الماضي، وأكد قائلا: «على نحو يتناسب مع تفكر الناس وتأملهم في هذا الموضوع المهم، انهارت الأفكار السخيفة والوحشية عن العدالة، التي سادت لعصور طويلة، واعتنق الناس بدلا منها مبادئ الإنسانية والعقلانية.» انبثقت كثير من المحفزات الفورية للتفكير في الموضوع من المقال القصير الرشيق المؤثر الذي حمل عنوان «عن الجرائم والعقوبات»، والذي نشره عام 1764 شاب إيطالي من الطبقة الأرستقراطية في الخامسة والعشرين من عمره يدعى سيزاري بيكاريا. سلط كتيب بيكاريا - الذي دعمته الدوائر المحيطة بديدرو، وسرعان ما ترجم إلى الإنجليزية والفرنسية حيث قرأه فولتير وسط أحداث قضية كالاس - الأضواء على نظام العدالة الجنائية لكل أمة. لم يرفض الإيطالي المبتدئ التعذيب والعقاب القاسي فحسب، بل أيضا عقوبة الإعدام نفسها في اقتراح استثنائي مدهش في ذلك العصر. وأمام السلطة المطلقة للحكام، والتعصب الديني، والامتيازات التي تتمتع بها طبقة النبلاء، أدلى بيكاريا بدلوه مقدما مقياسا ديمقراطيا للعدالة مفاده: «السعادة القصوى لأكبر عدد من الناس.» ومنذ ذلك الحين غدا كل المصلحين تقريبا، من فيلادلفيا إلى موسكو، يستشهدون بآراء بيكاريا.
10
ساعد بيكاريا على إعلاء شأن لغة المشاعر الناشئة حديثا. ففي رأيه، لا يمكن أن تكون عقوبة الإعدام سوى «عمل خبيث ينخر في عظام المجتمع، وفقا لنموذج الوحشية الذي نراه يقدمه» وفي اعتراضه على «التعذيب والقسوة العقيمة عديمة الجدوى» عند العقاب، يسخر منهما واصفا إياهما ب «وسيلة التعصب المسعور». وعلاوة على ذلك ، في تبريره لتدخله في الأمر، عبر عن أمله أنه: «إذا ساهمت في أن أنقذ من آلام الموت أحد الضحايا الأشقياء للطغيان أو الجهل، وكلاهما مدمر على قدم سواء، فإن امتنانه ودموع سعادته ستكون خير سلوى لي عن ازدراء البشرية بأكملها.» وبعد أن قرأ الفقيه الإنجليزي ويليام بلاكستون أطروحة بيكاريا، أنشأ العلاقة التي غدت منذ ذلك الحين فصاعدا السمة المميزة لوجهة نظر عصر التنوير، ومفادها - كما شدد بلاكستون - أنه: ينبغي أن يكون القانون الجنائي دائما وأبدا «منسجما مع ما يمليه الحق والعدل، ومع المشاعر الإنسانية، وحقوق البشرية الثابتة».
11
مع ذلك، وكما يتضح من مثال فولتير، لم تدرك الصفوة المستنيرة - بل حتى كثير من المصلحين البارزين - على الفور أن ثمة علاقة وثيقة بين لغة الحقوق الناشئة وبين التعذيب والعقوبات القاسية. لقد استنكر فولتير بشدة فشل العدالة في قضية كالاس، لكنه لم يعترض في الأصل على حقيقة أن العجوز تعرض للتعذيب أو سحقت عظامه على عجلة السحق. فلو كانت مشاعر الشفقة الطبيعية تحمل كل فرد على مقت قسوة التعذيب القضائي، كما ذكر فولتير لاحقا، فلماذا إذن لم يكن هذا واضحا قبل ستينيات القرن الثامن عشر، حتى له هو نفسه؟ من الواضح أن ثمة غشاوة من نوع ما كانت تحول دون التوحد الشعوري مع الآخرين قبل ذلك الحين.
12
ما إن بدأ كتاب عصر التنوير والمصلحون القانونيون يلقون بظلال الشك على قضية التعذيب والعقوبات القاسية حتى وقع انقلاب شبه كامل في التوجهات الفكرية في غضون عقدين من الزمن. كان اكتشاف مشاعر المشاركة الوجدانية جزءا من هذا التغيير، لكنه مجرد جزء واحد فحسب. فما كان يقتضيه الأمر إلى جانب التوحد الشعوري هو اهتمام من نوع جديد بالجسد البشري، وهو حقا مطلب أساسي في هذه الحالة من أجل التوحد مع الشخص المدان قضائيا. فالجسد البشري الذي كان مقدسا في وقت من الأوقات فقط ضمن إطار نظام قائم على الدين - فيه يمكن بتر أجزاء من الجسم أو تعذيبه من أجل المصلحة العامة - أصبح مقدسا بذاته في ضوء نظام علماني قائم على الاستقلال الذاتي للفرد وحرمته. وثمة شقان لهذا التطور؛ فالأجساد اكتسبت قيمة أكثر إيجابية عندما أصبحت أكثر انفصالا، ومملوكة أكثر للذات، وأكثر فردية على مدار القرن الثامن عشر، في حين أثار انتهاكها ردود أفعال سلبية على نحو مطرد.
الشخص المستقل
على الرغم من أنه قد يبدو أن الأجساد البشرية بالأساس منفصلة دائما بعضها عن بعض، على الأقل بعد الميلاد، فإن الحدود بين الأجساد أصبحت محددة المعالم بوضوح أكبر بعد القرن الرابع عشر. أمسى الأشخاص أكثر تمتعا بالاستقلال والتحفظ مع تزايد الشعور بالحاجة إلى الحرص على إخفاء فضلات الجسم عن الآخرين. انخفضت عتبة الشعور بالخجل، في حين زادت الحاجة إلى ضبط النفس. بات التغوط والتبول أمام الناس منفرا على نحو متزايد، وبدأ الناس يستخدمون المناديل بدلا من التمخط في أيديهم، وأصبح البصق، وتناول الطعام في وعاء مشترك، وتشارك الفراش مع غريب، من الأمور الكريهة، أو على الأقل غير المستحبة، وأمست الانفجارات الانفعالية العنيفة والسلوكيات العدوانية غير مقبولة اجتماعيا، فكانت هذه التغيرات التي طرأت على التوجهات نحو الجسم بمنزلة مؤشرات سطحية للتحول الجوهري الكامن، ونوهت جميعها بظهور الفرد المتحفظ المنغلق، الذي لا بد أن تراعى حدوده عند التفاعل الاجتماعي، واقتضى امتلاك الذات والاستقلال الذاتي المزيد من ضبط الذات.
13
كانت التغيرات التي طرأت في القرن الثامن عشر على العروض الموسيقية والمسرحية، وفن العمارة المنزلي، وفن الرسم، قائمة على التغيرات الأطول أجلا في التوجهات الفكرية. علاوة على ذلك فإن هذه التجارب الجديدة ثبت أنها غاية في الأهمية من أجل بزوغ ملكة الحس ذاتها. ففي العقود التي تلت عام 1750، بدأ مرتادو الأوبرا الإنصات في سكون إلى الموسيقى بدلا من الخروج ليعرجوا على أصدقائهم ويتسامروا معهم، وهو ما أتاح لهم تذوق مشاعر فردية قوية تجاوبا مع الموسيقى. روت إحدى السيدات ردة فعلها لدى مشاهدة أوبرا «ألسيست» لمؤلفها الألماني جلوك التي عرضت للمرة الأولى في باريس عام 1776 قائلة: «أصغيت إلى هذا العمل الجديد بكل جوارحي ... ومنذ سمعت النغمات الأولى تملكني شعور قوي بالرهبة والإجلال، وشعرت بواعز ديني قوي للغاية ... حتى إنني وبدون وعي انحنيت على ركبتي في مقصورتي وظللت في هذا الوضع، خاشعة مشبكة يدي حتى انتهى العمل.» كانت ردة فعل هذه المرأة (التي وقعت خطابها باسم بولين دي ر...) مدهشة للغاية؛ لأنها تشبه هذه التجربة صراحة بتجربة دينية. كان أساس كل سلطة يتحول من إطار غيبي ديني إلى إطار داخلي إنساني، على أن هذا التحول ما كان سيبدو منطقيا في أعين الناس ما لم يختبروه على المستوى الشخصي، بل عن كثب أيضا.
14
أظهر جمهور المسرح ولعا أكبر بإثارة الجلبة من عشاق الموسيقى، لكن حتى في المسرح أنبأت ممارسات جديدة بمستقبل مختلف تؤدى فيه العروض المسرحية في جو من الهدوء أشبه بالسكون الديني. في أوقات كثيرة من القرن الثامن عشر، كان جمهور المتفرجين الباريسيين يفتعلون معا السعال والبصق والعطس وإخراج الريح؛ بغية التشويش على العروض التي ينفرون منها، وعادة ما كانت تعترض صفوف الممثلين عروض عامة للسكر والمشاجرات. وللمباعدة بين الممثلين والمشاهدين ومن ثم صعوبة التشويش على العروض، ألغي الجلوس على خشبة المسرح في فرنسا عام 1759. وفي عام 1782 بلغت الجهود المبذولة لإرساء النظام في قاعة المسرح ذروتها بإدخال المقاعد إلى المسرح القومي الفرنسي؛ فقبل ذلك الحين كان المتفرجون في الردهة يجولون بحرية، بل أحيانا يتصرفون كغوغاء وليس كجمهور مشاهدين. وعلى الرغم من الجدل المحتدم الذي دار في صحف ذلك الوقت حول المقاعد واعتبار البعض أنها اعتداء خطير على حرية القاعة ووضوحها، فإن اتجاه التطورات بات جليا: كان الهيجان الجماعي في سبيله للاختفاء لتظهر مكانه التجارب الداخلية الفردية الأكثر هدوءا.
15
عزز فن العمارة المنزلي هذا الإحساس بالانفصال الفردي؛ إذ باتت خصوصية «الغرفة» في المنازل الفرنسية تزيد باطراد في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. فما كان في وقت من الأوقات غرفة عامة الأغراض أصبح «غرفة النوم»، وفي الأسر الأيسر حالا كان للأطفال غرف نوم خاصة بهم بمعزل عن الآباء. وبحلول النصف الثاني من القرن الثامن عشر، بات ثلثا منازل باريس يحوي غرف نوم، فيما احتوى منزل واحد بين كل سبعة منازل على غرف طعام. وبدأ علية القوم في باريس يطالبون بعمل حجرات متنوعة للاستخدامات الخصوصية بدءا من البدوار (وهي لفظة مشتقة من كلمة فرنسية بمعنى «التجهم»؛ أي إنها غرفة للتجهم على انفراد) ووصولا إلى المراحيض وغرف الاستحمام. ومع ذلك، لا ينبغي المبالغة في وصف التحول نحو الخصوصية الفردية، على الأقل في فرنسا؛ فقد كان المسافرون الإنجليز يتأففون باستمرار من عادة الفرنسيين المتمثلة في نوم ثلاثة أو أربعة غرباء في غرفة واحدة في النزل (مع أنهم ينامون في أسرة منفصلة)، واستخدام المرحاض على مرأى من الجميع، والتبول في المدفأة، وإلقاء محتويات وعاء التبول والتغوط من النافذة إلى الشارع. غير أن تأففهم يبرهن على أن ثمة عملية مستمرة للتحول نحو المزيد من الخصوصية الفردية في كل البلدان. في إنجلترا، ثمة مثال جديد بارز، وهو الحديقة ذات الممر الدائري التي أنشئت في الضياع الريفية في الفترة بين أربعينيات وستينيات القرن الثامن عشر؛ فقد صممت الحلقة المغلقة بمناظرها وتماثيلها المنتقاة بعناية فائقة بغية تعزيز التأمل واستدعاء الذكريات.
16
لطالما كانت الأجساد في بؤرة اهتمام الرسم الأوروبي، لكن قبل القرن السابع عشر، كان التركيز منصبا في الغالب على أجساد أفراد العائلة المقدسة، والقديسين الكاثوليكيين، أو الحكام ورجال حاشيتهم. وفي القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر على نحو خاص، بدأ المزيد من الناس العاديين يطلبون رسم لوحات لأنفسهم ولعائلاتهم. وبعد عام 1750 احتوت المعارض العامة التي كانت تقام بانتظام - وكانت هي نفسها ملمحا جديدا من ملامح الحياة الاجتماعية - على أعداد متزايدة من اللوحات التي تصور الناس العاديين في لندن وباريس، وإن ظلت الرسومات المستوحاة من حكايات التاريخ تصنف رسميا على أنها الطراز الأصلي لفن الرسم.
في المستعمرات البريطانية في أمريكا الشمالية، ساد فن رسم الأشخاص على جميع الفنون المرئية، ويعزى هذا في جزء منه إلى أن التقاليد الكنسية والسياسية الأوروبية كانت أقل شأنا وقيمة في أمريكا. ولم تنل اللوحات أهمية إلا في مستعمرات القرن الثامن عشر؛ فاللوحات التي رسمت في المستعمرات في الفترة بين عامي 1750 و1776 بلغت ضعف اللوحات التي رسمت بين عامي 1700 و1750 أربع مرات، وكان كثير من هذه اللوحات يصور سكان المدن العاديين وملاك الأراضي (انظر الشكل رقم
2-4 ). وعندما نال فن رسم لوحات مستوحاة من حكايات التاريخ شهرة جديدة في فرنسا في ظل الثورة وإمبراطورية نابليون، ظلت اللوحات التي تصور الأشخاص تشكل 40٪ من الرسومات التي تعرض في الصالونات الفنية. ارتفعت الأسعار التي كان يطلبها رسامو لوحات الأشخاص في العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر، ونشرت الطباعة اللوحات وسط جمهور عريض يتجاوز كثيرا الشخص الأصلي الذي رسمت صورته وعائلته. وكان أشهر رسام إنجليزي في هذا العصر هو السير جوشوا رينولدز الذي اكتسب سمعته عن طريق تصوير الأشخاص، والذي «خلص فن رسم اللوحات من التفاهة»، كما ذكر هوارس والبول.
17
شكل 2-4: لوحة للكابتن جون بيجوت بريشة الفنان جوزيف بلاكبيرن. (مثل العديد من الرسامين الناشطين في المستعمرات الأمريكية، ولد جوزيف بلاكبيرن في إنجلترا وأغلب الظن أنه تدرب هناك أيضا قبل الذهاب إلى بيرمودا في عام 1752، ثم إلى مدينة نيوبورت بولاية رود آيلاند في العام التالي. بعد رسم أعداد هائلة من اللوحات في نيوبورت، وبوسطن، وبورتسماوث في نيو هامبشير، عاد إلى إنجلترا في عام 1764. تمثل هذه اللوحة الزيتية التي تعود إلى خمسينيات أو مطلع ستينيات القرن الثامن عشر (مقاس 127سم × 101,6سم) لوحة رفيقة للوحة أخرى رسمها لزوجة بيجوت. اشتهر بلاكبيرن بتركيزه الشديد على شريط الزينة وغيره من تفاصيل الملابس.)
أعرب أحد المشاهدين المعاصرين عن استنكافه لدى رؤية عدد اللوحات في المعرض الفرنسي عام 1769:
إن العدد الهائل للوحات يا سيدي الذي يباغتني في كل مكان يجبرني رغم أنفي على التحدث في هذا الموضوع الآن ومناقشة هذه المسألة القاحلة المملة التي أرجأتها حتى النهاية. منذ وقت طويل والعامة يشكون دون طائل من أعداد أبناء الطبقة البرجوازية المجهولين الذين يتحتم عليهم المرور على صورهم ورؤيتها بلا انقطاع ... إن سهولة هذا النوع من الفن وفائدته وغرور كل أولئك الأشخاص التافهين يشجع الفنانين الناشئين على هذا ... وبسبب الذوق الفاسد لأبناء هذا القرن ، يتحول الصالون الفني إلى مجرد معرض للوحات.
جاء «الذوق الفاسد» لأبناء هذا القرن من إنجلترا، وفقا للفرنسيين، وكان بمنزلة إشارة للكثيرين إلى النصر الذي توشك التجارة أن تحرزه على الفن الحقيقي. في مقال الفارس لويس دي جويكورت بعنوان «بورتريه» الذي نشر في «موسوعة» ديدرو متعددة المجلدات، خلص جويكورت إلى أن «أكثر ضروب فن الرسم التي يتبعها الناس ويسعون وراءها في إنجلترا هو رسم البورتريه». وفي وقت لاحق من نفس القرن حاول الكاتب لويس-سيباستيان ميرسير أن يقدم ملحوظة مطمئنة: «برع الإنجليز في رسم لوحات البورتريه، ولم تتفوق أي لوحة على لوحات رينولز [كما وردت في النص، والمقصود رينولدز]، التي رسم أهمها بالطول الكامل والحجم الطبيعي، وبنفس مستوى براعة اللوحات التاريخية.» (انظر الشكل رقم
2-5 ). وضع ميرسير يده بأسلوبه البارع المعهود على العنصر الحاسم؛ ففي إنجلترا لوحات البورتريه يمكن مقارنتها بنوع الفن الرائد في أكاديمية الفنون الجميلة بفرنسا، وهو فن الرسم المستوحى من قصص التاريخ. فالآن يمكن أن يصير الشخص العادي شخصية بطولية بفضل تفرده فحسب، وبات الجسد العادي مميزا الآن.
18
شكل 2-5: لوحة لليدي تشارلوت فيتز ويليام، نقشها على النحاس الفنان جيمس ماكارديل محاكاة للوحة سير جوشوا رينولدز عام 1754. (نال رينولدز شهرة واسعة باعتباره رسام لوحات الشخصيات البارزة في المجتمع البريطاني، وعادة ما كان يرسم وجوه وأيدي المرسومين فحسب، ويكلف متخصصين أو مساعدين برسم الملابس والأزياء. كانت تشارلوت في الثامنة من عمرها فحسب عندما رسمت لها هذه اللوحة، غير أن تسريحة شعرها وقرطها اللؤلؤي والدبوس المزخرف منحها مظهرا أكبر من عمرها الحقيقي. ساعدت لوحات من هذه النوعية على زيادة انتشار شهرة رينولدز. وقد نقش جيمس ماكارديل العديد من لوحات رينولدز على النحاس. ومكتوب في التعليق أسفل الصورة: «رسمها جيه رينولدز. نقشها جيه ماكارديل. ليدي تشارلوت فيتز ويليام. نشرها جيه رينولدز بموجب قانون البرلمان لعام 1754.»)
حقا يمكن للوحات البورتريه أن تنقل شيئا مختلفا تمام الاختلاف عن التفرد؛ ففيما حدثت طفرات في الثروة التجارية في بريطانيا العظمى وفرنسا ومستعمراتهما، كان تكليف الرسامين برسم لوحة شخصية تدل على الحالة الاجتماعية ونبالة المحتد يعكس انتعاشة أكثر عمومية للنزعة الاستهلاكية؛ فلم تكن الصور تعبر دائما عن المنزلة الاجتماعية الحقيقية لأصحابها. لم يشأ الأشخاص العاديون أن يظهروا عاديين في لوحاتهم، من ثم اشتهر بعض الرسامين بقدرتهم على إبراز الأربطة والحرائر والستان أكثر من إبراز الوجوه، ومع ذلك فعلى الرغم من أن اللوحات كانت أحيانا تركز على تصوير أنماط أو استعارات الفضائل أو الثروة، فإنها تراجعت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر تراجعا ملحوظا؛ لأن الفنانين وزبائنهم بدءوا يؤثرون الصور الأكثر طبيعية المعبرة عن التفرد في الروح والخلقة. وعلاوة على ذلك فإن الانتشار الكبير للوحة الفرد ذاتها عزز النظرة القائلة إن كل شخص هو فرد؛ بمعنى أنه منفرد، ومنفصل، ومميز، وأصيل، ومن ثم ينبغي تصويره باعتباره كذلك.
19
لعبت النساء دورا مدهشا أحيانا في هذا التطور؛ ففورة الولع والحماس لروايات مثل «كلاريسا» - التي ركزت على المرأة العادية التي تتمتع بحياة داخلية خصبة - جعلت الرسومات الاستعارية للنساء ذوات الأوجه الشبيهة بالأقنعة تبدو غير ملائمة أو ببساطة مجرد زينة. غير أنه فيما سعى الرسامون على نحو متزايد نحو الصراحة والحميمية النفسية في لوحاتهم، فإن العلاقة بين الرسام والمرسوم باتت مشحونة بالتوتر الجنسي البين، ولا سيما عندما كانت النساء ترسم الرجال. ففي عام 1775، سجل جيمس بوزويل نقد صامويل جونسون اللاذع للوحات النساء قائلا: «رأى [جونسون] أن مهنة رسم اللوحات مهنة مستهجنة للمرأة، وقال: «إن المزاولة العامة لأي فن، والتحديق في وجوه الرجال لهو أمر عديم الحشمة من جانب المرأة».» على أنه ذاع بالفعل صيت العديد من رسامات لوحات البورتريه في النصف الأخير من القرن الثامن عشر؛ فقد رسمت إحداهن - وهي الفنانة الألمانية آنا زيربخ - لوحة دنيس ديدرو، وشعر ديدرو أنه مضطر للدفاع عن نفسه ضد الإيحاء بأنه جامعها، فقال عنها في نقده للصالون الفني لعام 1767 حيث ظهرت اللوحة: «إنها ليست بالمرأة الجميلة.» غير أنه تعين عليه أيضا أن يقر بأن ابنته قد ذهلت أيما ذهول للشبه الشديد بينه وبين اللوحة التي رسمتها آنا له، لدرجة أنها كانت تجاهد مائة مرة في غياب والدها لمنع نفسها من تقبيل الصورة خشية إتلافها.
20
وهكذا، مع أن النقاد رأوا أن التشابه الشديد بين اللوحة والمرسوم أمر يلي القيمة الجمالية من حيث الأهمية، فإنه من الجلي أن كثيرا من العملاء وعددا متزايدا من النقاد كانوا يقدرون التشابه أيما تقدير. يشير لورنس ستيرن مرارا وتكرارا في عمله الذي يبوح فيه بمكنونات نفسه «رسائل إلى إليزا» الذي كتبه عام 1767 إلى ما يسميه: «صورتك الجميلة التي تتدفق بالمشاعر»؛ فقد كانت اللوحة التي تصور إليزا - والأرجح أن ريتشارد كوزواي هو من قام برسمها - هي كل ما يقتنيه لورنس من أثر لحبه المفقود. ويقول أيضا في موضع آخر: «صورتك هي أنت بنفسك؛ فهي مفعمة بالمشاعر، والرقة، والصدق ... يا محبوبتي الأصلية! لكم تبدو مشابهة لك؛ ولسوف تظل كذلك، إلى أن تجعليها تغيب بحضورك.» وكما كان الحال في الرواية الرسائلية، لعبت النساء أيضا من خلال اللوحات المرسومة دورا مشحونا بالعاطفة القوية في عملية التوحد والتعاطف. وعلى الرغم من أن معظم الرجال أرادوا - نظريا - أن تحافظ النساء على أدوار التواضع والعفة، فإن النساء عمليا دافعن عن العاطفة، ومن ثم آثرنها، وتلك العاطفة هي شعور لطالما هدد بتخطي حدوده.
21
قدر التشابه بين الصورة وصاحبها كثيرا في نهاية الأمر، حتى إنه في عام 1786 ابتكر الموسيقي والنحات الفرنسي جيل لويس كريتيان آلة أسماها «فسيونوتراس» يمكنها أن تنتج لوحات جانبية ميكانيكيا (انظر الشكل رقم
2-6 ). وبعد ذلك يصغر حجم الصورة الجانبية الأصلية ثم تحفر على طبق نحاسي. كان من بين مئات الصور الجانبية التي أنتجها كريتيان - بالتعاون في البداية مع إدمي كويندي، الرسام الذي كان يرسم الصور المصغرة، ثم بالتنافس معه بعد ذلك - صورة لتوماس جيفرسون في أبريل من عام 1789. نقل أحد اللاجئين الفرنسيين هذه العملية إلى الولايات المتحدة، وصنعت صورة أخرى لجيفرسون في عام 1804. وتعد آلة الفسيونوتراس، التي أصبحت الآن تحفة تاريخية طمسها ظهور التصوير الفوتوغرافي زمنا طويلا، إشارة أخرى على الاهتمام بتصوير الأشخاص العاديين - دعك من جيفرسون - وبإظهار أدق الاختلافات بين الأفراد. وعلاوة على ذلك، كانت لوحات البورتريه، لا سيما المصغر منها، تعمل كمحفز للذاكرة ومناسبة لتذكر مشاعر الهيام، كما توحي تعليقات ستيرن .
22
شكل 2-6: لوحة جانبية لجيفرسون. (يقول التعليق المكتوب باللغة الفرنسية تحت الصورة: مأخوذة من الحياة، وحفرها كويندي.)
المشهد العام للألم
يبدو أن التنزه في الحدائق، والإنصات إلى الموسيقى في هدوء، واستخدام المناديل، ومشاهدة اللوحات، تتناغم جميعها مع صورة القارئ المتعاطف، وتبدو جميعها متعارضة تماما مع تعذيب وإعدام جان كالاس. غير أن القضاة والمشرعين الذين دعموا النظام القضائي التقليدي، بل ودافعوا عن فظاظته وعنفه، لا شك كانوا هم أنفسهم ينصتون إلى الموسيقى في هدوء، ويأتون بمن يرسم لهم صورهم، ويمتلكون منازل ذات غرف نوم، على الرغم من أنهم ربما لم يقرءوا الروايات بحجة ارتباطها بالفتنة والفسق. صدق القضاة على النظام التقليدي للجريمة والعقاب؛ لأنهم آمنوا بأن أولئك المدانين باقتراف الجرائم لا سبيل إلى ردعهم إلا من خلال قوى خارجية؛ فبموجب وجهة النظر التقليدية، لا يستطيع الأشخاص العاديون ضبط انفعالاتهم. فلا بد من قيادتهم، وتحفيزهم لفعل الخير، وردعهم عن الانصياع وراء غرائزهم الدنيئة. وقد نجم هذا النزوع نحو الشر داخل البشر عن الخطيئة الأصلية؛ الاعتقاد المسيحي القائل إن جميع البشر عرضة للخطية بالفطرة منذ أن هبط آدم وحواء من نعمة الله في جنة عدن.
تقدم لنا كتابات بيير فرانسوا مويارت دي فوجلانس رؤية نادرة لوجهة النظر التقليدية؛ لأنه كان واحدا من فقهاء القانون القليلين الذين هرعوا إلى قبول تحدي بيكاريا والدفاع عن الطرق القديمة كتابة. وبالإضافة إلى أعمال مويارت العديدة حول القانون الجنائي، فإنه كتب أيضا كتابين على الأقل يدرأ فيهما الهجمات عن المسيحية ويهاجم نقادها المعاصرين، ولا سيما فولتير. وفي عام 1767، نشر تفنيدا مفصلا للبنود التي طرحها بيكاريا. وقد اعترض بأشد اللهجات على محاولة بيكاريا تأسيس نظامه على «الأحاسيس القلبية غير القابلة للوصف». ويقول مويارت مؤكدا: «إنه لمن دواعي اعتزازي امتلاكي نفس القدر من الحس المرهف كأي إنسان آخر، لكن لا شك أنني لا أملك مجموعة من الألياف [الأطراف العصبية] المنفلتة كتلك التي يمتلكها فقهاء القانون الجنائي المحدثون؛ لأنني لم أشعر بتلك الرعشة الخفيفة التي يتحدثون عنها.» وبدلا من ذلك دهش مويارت ، بل وربما صدم، عندما رأى أن بيكاريا بنى نظامه على أطلال الحكمة المتعارف عليها.
23
سخر مويارت من منهج بيكاريا العقلي فقال: «يأخذ المؤلف على عاتقه مهمة اقتفاء أثر قوانين جميع الأمم، ويجعلنا نرى أننا ما زلنا حتى الآن لا نملك أي فكرة دقيقة أو متماسكة حول هذا الموضوع الحيوي.» ويرى مويارت أن السبب وراء صعوبة إصلاح القانون الجنائي هو أنه مبني على قانون وضعي، ويعتمد على التجربة والممارسة أكثر مما يعتمد على العقل والمنطق. وما تعلمنا إياه التجربة هو الحاجة إلى السيطرة على المتمردين الجامحين وليس الترفق بمشاعرهم. يقول مويارت: «من ذا الذي لا يعرف حقيقة أنه لما كانت الأهواء هي التي تشكل البشر، فغالبا ما تهيمن انفعالاتهم على عواطفهم؟» ويؤكد مويارت على أنه لا بد أن نحكم على الرجال كما هم، وليس كما يجدر بهم أن يكونوا، وأن قوة العدالة المنتقمة التي تبث الخوف في نفوس الناس هي وحدها التي من شأنها أن تكبح جماح هذه الانفعالات.
24
إن مشهد الألم الذي يتكبده المدان على المقصلة قد صمم خصيصا من أجل غرس الرعب في نفوس المشاهدين، ومن ثم قام هذا المشهد بدور الرادع. كان الغرض أن يتوحد الحاضرون - وكثيرا ما كان يحضر الناس في حشود غفيرة - مع ألم الشخص المدان، وفي خضم هذا يشعرون بالسيادة القهرية للقانون وللدولة ولله في نهاية الأمر، وعليه وجد مويارت أنه من المقزز أن بيكاريا حاول أن يبرر حججه بالاستناد إلى «شدة الحساسية تجاه ألم المذنب»، تلك الحساسية التي أنجحت النظام التقليدي: «على وجه التحديد لأنه لما توحد كل رجل مع ما حدث لآخر ولما كان كل شخص لديه رعب من الألم بالفطرة، كان من الضروري عند اختيار العقوبات تفضيل تلك العقوبة الأشد قسوة على جسد المذنب.»
25
شكل 2-7: موكب إلى قرية تايبرن للفنان ويليام هوجارث، 1747. (لوحة «إعدام المتمرن العاطل في تايبرن» هي اللوحة الحادية عشرة ضمن سلسلة هوجارث «الصناعة والبطالة»، التي تقارن بين مصير اثنين من المتمرنين المهنيين. يمكن رؤية المشانق الموجودة في الخلف عن يمين منتصف الصورة إلى جانب المدرج الهائل الذي يقف عليه الجمع. يعظ واعظ ميثودي السجين الذي يقرأ الإنجيل على الأرجح فيما هو منقول على عربة هو ونعشه. وفي المقدمة عن اليمين ثمة رجل يبيع الكعك، يحيط بسلته أربع شمعات؛ لأنه جاء منذ الفجر ليبيع للأشخاص الذين جاءوا مبكرا ليحصلوا على أماكن جيدة. وثمة صبي مشاغب ينشل جيبه. وخلف المرأة التي تبيع اعترافات توماس آيدل امرأة أخرى تبيع الخمر من السلة المربوطة بوسطها، وأمامها امرأة تضرب رجلا، فيما يقف رجل آخر على مقربة ويستعد لإلقاء كلب صغير على الواعظ. يصور هوجارث كل مظاهر الفوضى والانفلات الجامح للجموع المحتشدة لمشاهدة تنفيذ حكم الإعدام. ويقول التعليق المكتوب تحت الصورة: «صممها ونقشها دابليو هوجارث، ونشرت بموجب قانون البرلمان الصادر بتاريخ 30 سبتمبر 1747.»)
ولما كان العقاب بمنزلة شعيرة قربانية، صاحبت الخوف دائما مظاهر احتفالية، وأحيانا طغت على الخوف وحجبته؛ فتنفيذ حكم الإعدام على الملأ كان يحشد آلاف الأشخاص معا للاحتفال بتطهير المجتمع من جرح الجريمة. وفي باريس كانت أحكام الإعدام تنفذ في نفس الميدان - بليس دي جريف - الذي كانت تطلق فيه الألعاب النارية للاحتفال بمواليد العائلة المالكة وزيجاتها. على أنه ثمة خاصية متغيرة بشأن هذه النوعية من الاحتفالات كما ورد مرارا وتكرارا على لسان المشاهدين لها؛ فلطالما عبرت الطبقات الإنجليزية المثقفة على نحو متزايد عن استهجانها ل «أكثر مشاهد السكر والعربدة إثارة للدهشة» التي صاحبت كل إعدام في تايبرن (انظر الشكل
2-7 ). وتحسر كتاب الخطابات العموميون لسخرية الجمع من القس الذي كان يرسل من أجل الاعتناء الروحي بالسجناء، وللنزاعات التي تنشب بين صبيان الجراحين وأصدقاء المعدومين بسبب الجثث، وتأسفوا عموما لأنه ثمة تعبيرات عن «نوع من الجذل، كما لو كان المشهد باعثا على السعادة وليس الألم!» وفي أحد التقارير حول الشنق في شتاء عام 1776 في جريدة «مورنينج بوست» التي كانت تصدر في لندن، استهجنت الجريدة أن «الجمع القساة الأفئدة تصرفوا بأقصى درجة من درجات السفه الهمجي، فقد كانوا يصرخون، ويضحكون، ويقذفون الكرات الجليدية بعضهم على بعض، ولا سيما على القلة القليلة التي كانت تشعر بالشفقة اللائقة ببلايا إخوانهم من البشر».
26
في ظل المفهوم التقليدي، لا تنتمي آلام الجسد بالتمام إلى الفرد المدان. وكان لهذه الآلام أغراض دينية وسياسية أسمى من أجل إصلاح المجتمع وترميمه، فمن الممكن تشويه الأجساد بغية تثبيت أقدام السلطة، وسحقها أو حرقها بغية استعادة النظام الأخلاقي والسياسي والديني. وبعبارة أخرى، يصبح المجرم نوعا من أنواع القرابين التي تكسب معاناته المجتمع كمالا والدولة نظاما. وكانت الطبيعة القربانية لهذه الشعيرة في فرنسا موضع توكيد عن طريق تضمين قانون رسمي للتعبير عن الندم والتوبة في العديد من الأحكام الفرنسية (يطلق عليه اسم معناه «الإصلاح الجدير بالاحترام»)، وبموجب هذا القانون يحمل المجرم المدان شعلة نارية ويقف أمام الكنيسة طالبا العفو والغفران في طريقه إلى المقصلة.
27
حتى لما كان الجمع أكثر هدوءا، كان ثمة شيء مزعج بشأن حجمه الهائل. حول إحدى حالات الإعدام سحقا على العجلة في عام 1787 أورد أحد زوار باريس من البريطانيين ما يلي: «كانت الجلبة الصادرة عن الجموع الغفيرة كأنما الهدير الذي تصنعه أمواج البحر عندما ترتطم بشاطئ صخري؛ ولهنيهة من الزمن سكن الجمع، وفي صمت مرعب شاهد الجمع الجلاد يتناول قضيبا من حديد ويبدأ المأساة بضرب ضحيته على الساعد.» والأمر الذي كان أكثر إزعاجا بالنسبة لهذا الزائر وكثيرين غيره من المراقبين للأحداث هو العدد الغفير من النساء المشاهدات: «من المذهل أن الجنس الناعم من الخليقة، الذي مشاعره هي في غاية الرهافة والنقاء، يحضر أفواجا لرؤية مثل هذا المشهد شديد الدموية، غير أنها الشفقة بالطبع - تلك العاطفة الطيبة التي تخالج صدورهن - هي التي جعلت القلق يستبد بهن بسبب التعذيب الذي ينزل بإخوان لنا من البشر.» وغني عن القول أن هذا لا يعني «بالطبع» أن هذه كانت المشاعر المسيطرة على النساء؛ إذ لم يعد الجمع يشعر بالمشاعر التي صمم هذا المشهد بغرض إثارتها.
28
بالتدريج فقد كل من الألم، والعقاب، ومشاهد المعاناة العلنية، أساساته الدينية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر؛ غير أن هذه العملية لم تحدث بغتة، ولم تفهم جيدا حينذاك، حتى بيكاريا أخفق في أن يرى كافة نتائج طريقة التفكير الجديدة التي أضنى نفسه في بلورتها؛ لقد أراد أن يقيم القانون على أساس أفكار روسو بدلا من الأساس الديني؛ وأكد أن القوانين «ينبغي أن تكون اتفاقيات بين أشخاص يتمتعون بالحرية». ولكن مع أنه نادى باعتدال العقوبة - إذ ينبغي أن تكون «أقل عقوبة ممكنة في القضية المطروحة»، و«متناسبة مع الجريمة» - فإنه ظل مصرا على أنها ينبغي أن تكون علنية؛ فقد رأى أن العقاب العلني يكفل شفافية تطبيق القانون.
29
من وجهة النظر الفردانية والعلمانية الناشئة، كانت الآلام تخص صاحبها وحده في الزمان والمكان الحاليين. لم يتغير التوجه الذهني نحو الألم بسبب تطورات طبية في علاج الألم. لقد حاول الأطباء بالطبع تخفيف الألم في الحال، غير أن الطفرة الحقيقية في علم التخدير لم تحدث إلا في منتصف القرن التاسع عشر مع استخدام الإيثير والكلوروفورم. إنما حدث التغيير في التوجه الذهني نحو الألم كنتيجة لإعادة تقييم جسد الفرد وآلامه. ولما كان الألم والجسد نفسه يخصان الفرد وحده، وليس المجتمع ككل، لم يعد ممكنا التضحية بالفرد من أجل مصلحة المجتمع أو من أجل غاية دينية أسمى. وكما أكد المصلح الإنجليزي هنري داجي فإن: «خير وسيلة لتعزير مصلحة المجتمع هي احترام الأفراد.» وبدلا من أن يكون العقاب بمنزلة تكفير عن الخطيئة، حري بنا أن ننظر إليه على أنه سداد «دين» للمجتمع، ومن البديهي أنه ما من سداد يمكن أن ينتج عن جسد مشوه. وفي حين كان الألم يرمز إلى الإصلاح في ظل النظام القديم، بدا في ذلك الوقت عائقا أمام أي إبراء ذي معنى من الدين. ومن أمثلة هذا التغير في وجهات النظر أن كثيرين من القضاة في المستعمرات البريطانية بأمريكا الشمالية بدءوا في فرض الغرامات المالية في جرائم التعدي على الممتلكات بدلا من الجلد بالسياط.
30
من ثم، كانت وجهة النظر الجديدة تعتبر العقوبات القاسية التي تنفذ في مكان عام هجوما على المجتمع لا تعزيزا له؛ فقد جرد الألم الفرد - والمشاهدين أيضا من خلال التوحد معه - من إنسانيته، وجعله وحشا همجيا بدلا من أن يفتح الباب أمامه إلى الخلاص من خلال التوبة. وعليه استهجن رجل القانون الإنجليزي ويليام إيدن عرض الجثث فقال: «نترك بعضنا نتحلل كأننا خيال المآتة عند سياج الشجيرات؛ وقد عجت مشانقنا بالجثث البشرية. هل من شك في أن الألفة الجبرية بهذه الأشياء لا يمكن أن يكون لها أي تأثير سوى أنها توهن المشاعر وتدمر النزعات الطيبة لدى الناس؟» وبحلول عام 1787، استطاع بنجامين راش أن ينحي جانبا آخر شكوكه، وأكد صراحة قائلا: «لا يمكن أن يتحقق إصلاح المجرم أبدا بالعقاب العلني.» فالعقاب على الملأ يقضي على أي إحساس بالخجل، ولا يسفر عن أي تغييرات في الموقف الذهني، وبدلا من أن يقوم بدور الرادع يكون له أثر معاكس في نفوس المشاهدين. ومع أن دكتور راش وافق بيكاريا الرأي بشأن معارضة عقوبة الإعدام، فإنه اختلف معه عندما نادى بأن يكون العقاب في الخفاء، خلف جدران السجن، غايته إعادة التأهيل؛ بمعنى عودة المجرم إلى المجتمع وإلى حريته الشخصية، «العزيزة جدا على البشر جميعا.»
31
السكرات الأخيرة للتعذيب
حدث اعتناق النخبة لوجهات النظر الجديدة بشأن الألم والعقوبة على مراحل في الفترة بين ستينيات القرن الثامن عشر ونهاية ثمانينيات نفس القرن. نشر كثير من رجال القانون مذكرات في ستينيات القرن الثامن عشر يستنكرون فيها الجور الذي حدث في تجريم كالاس، لكن على غرار فولتير، لم يعارض أحدهم استخدام التعذيب القضائي أو السحق باستخدام عجلة السحق؛ إذ انصب تركيزهم هم أيضا على التعصب الديني الذي كانوا على قناعة بأنه المحرك لعامة الشعب والقضاة في تولوز. وتناولت المذكرات تعذيب جان كالاس وموته، لكن دون أن تطعن في شرعيتهما باعتبارهما أدوات عقاب.
شكل 2-8: إضفاء الطابع العاطفي على قضية كالاس. (كانت الصورة المطبوعة الأكثر تداولا لقضية كالاس هي هذه الصورة الكبيرة الحجم (34سم × 45سم في الأصل) التي رسمها الفنان وصانع المطبوعات الفنية الألماني دانييل شودوفيكي، والتي نقشها محاكاة للصورة الزيتية التي رسمها هو أيضا للمشهد نفسه. وقد رسخ هذا النقش شهرته، وحافظ على استمرار السخط الذي أثارته عقوبة كالاس في كل الأرجاء. كان شودوفيكي قد تزوج امرأة من عائلة بروتستانتية فرنسية لاجئة في برلين قبل أن يرسم هذه اللوحة بثلاث سنوات فقط.)
في واقع الأمر، أيدت المذكرات التي هي في صالح كالاس في الأساس الافتراضات القائمة وراء التعذيب والعقوبات القاسية؛ فلقد افترض المدافعون عن كالاس أن الجسد المتألم سوف يخبر بالحقيقة؛ وقد أثبت كالاس براءته بذكره الحقيقة حتى عندما كان متألما معذبا (انظر الشكل
2-8 ). وبلغة أنصار كالاس، أكد ألكساندر-جيروم لوسيو دي موليون أن «كالاس صمد أمام الاستجواب [التعذيب] بهذا القدر من الاستكانة البطولية التي لا يملكها سوى بريء». فبينما كانت تكسر عظامه عظمة تلو الأخرى كان كالاس ينطق «هذه الكلمات المؤثرة»: «إني أموت بريئا؛ يسوع المسيح، البراءة نفسها، تمنى أن يموت بآلام أشد قسوة. إن الله يخلص مني خطيئة ذلك الشقي [ابن كالاس]، الذي قتل نفسه ... الله عادل، وأنا أحب عقوباته.» وعلاوة على ذلك، زعم جيروم أن «المثابرة العظيمة» التي تمتع بها كالاس كانت بمنزلة نقطة التحول في مشاعر العامة؛ فلما رآه شعب تولوز يؤكد براءته مرارا وتكرارا في خضم آلامه، بدءوا يشعرون بالشفقة تجاهه ويندمون على شكوكهم السابقة غير المبررة في كالاس الكالفيني. ودوت أصداء كل ضربة من القضيب الحديدي «في أعماق أرواح» أولئك الذين كانوا يشهدون تنفيذ حكم الإعدام، «وزرف جميع الحاضرين الدموع الجارفة» بعد فوات الأوان. ودائما ما ستزرف «الدموع الجارفة» بعد فوات الأوان ما دامت الافتراضات التي يعتمد عليها التعذيب والعقوبات القاسية باقية بلا تشكيك أو مواجهة.
32
كان من أهم هذه الافتراضات أن التعذيب يمكن أن يستحث الجسد على قول الحقيقة حتى عندما يقاوم عقل الفرد ذلك. وكان تقليد الفراسة القديم في أوروبا يؤمن بإمكانية قراءة الشخصية من خلال إشارات الجسد أو إيماءاته؛ ففي أواخر القرنين السادس عشر والسابع عشر، نشرت أعمال متنوعة حول «الفراسة الجبهية» (تحليل نفسي من خلال دراسة شكل الجبهة) التي كانت تعد قراءها بتعلم كيفية قراءة شخصية الفرد أو حظه من خطوط الوجه، أو تجاعيده، أو عيوبه. وكان خير مثال على هذه الأعمال كتاب ريتشارد سوندرز «الفراسة، وقراءة الكف، والفراسة الجبهية، والنسب المتناسقة، وشامات الجسد البارزة، مشروحة شرحا وافيا ودقيقا، مع مدلولاتها التنبئية الطبيعية لكل من الرجل والمرأة» الذي نشر عام 1653. ودون حاجة إلى تبني الأشكال الأكثر تطرفا لهذا التقليد، اعتقد العديد من الأوروبيين أن الأجساد يمكنها أن تكشف الإنسان الداخلي بطريقة لاإرادية. ومع أن بقايا مثل هذا التفكير كانت لا تزال باقية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، في شكل علم فراسة الدماغ على سبيل المثال، فإن العلماء والأطباء انقلبوا ضده بعد عام 1750؛ إذ زعموا أنه لا علاقة بين المظهر الخارجي للجسم والنفس الداخلية أو الشخصية، ومن ثم يمكن للمجرم أن يتظاهر بالبراءة، والبريء قد يعترف أيضا بارتكاب جريمة لم يرتكبها. فكما أكد بيكاريا عندما كان يندد بالتعذيب: «القوي سيفلت والضعيف سيدان.» ووفقا لتحليل بيكاريا: «لا يمكن أن يكون الألم اختبارا للحقيقة، كما لو كانت الحقيقة ساكنة في عضلات وألياف البائس الذي يخضع للتعذيب.» فالألم مجرد شعور لا يرتبط بالحاسة الأخلاقية.
33
لم تذكر حكايات رجال القانون سوى القليل نسبيا حول ردود أفعال كالاس تجاه التعذيب؛ لأن «الاستجواب» تم في الخفاء بعيدا عن أنظار المراقبين. بدا تنفيذ التعذيب في الخفاء أمرا منفرا في نظر بيكاريا؛ فهو يعني أن المتهم فقد «حماية العامة» حتى قبل أن تثبت إدانته، وأن أي قيمة ردعية للعقاب قد ضاعت أيضا. بدأت الشكوك تساور القضاة الفرنسيين أيضا بوضوح، لا سيما بشأن التعذيب الذي يستخدم بغرض انتزاع الاعترافات. وبعد عام 1750، بدأت البرلمانات الفرنسية (محاكم الاستئناف الإقليمية) تتدخل كي تحول دون استخدام التعذيب («التمهيدي») قبل البت في القضية، كما فعل برلمان تولوز في قضية كالاس، كما تراجع عدد أحكام الإعدام التي أصدرها القضاة، وغالبا ما كانوا يأمرون بشنق المدان قبل حرقه على الخازوق أو وضعه على عجلة السحق.
34
لكن القضاة لم يتخلوا تماما عن التعذيب، وما كانوا ليتفقوا مع ازدراء بيكاريا لوضع التعذيب في إطار ديني . واستنكر المصلح الإيطالي بيكاريا باختصار «دافعا آخر للتعذيب يدعو للسخرية، وهو على وجه التحديد: تطهير الإنسان من عار الفعل الخبيث!» ولا يمكن تفسير هذه «السخافة» سوى بأنها «نتاج الدين». فلما كان التعذيب هو ما ألحق العار بالضحية في المقام الأول، فإنه بالطبع لا يستطيع أن يزيل وصمة العار التي لحقت به. ودافع بيير فرانسوا مويارت دي فوجلانس عن التعذيب ضد حجج بيكاريا؛ فمثال البريء الوحيد الذي أدين على نحو خاطئ لا يذكر أمام «المليون الآخرين» الذين كانوا مذنبين بالفعل، لكن لا يمكن الحكم عليهم بدون استخدام التعذيب. وعليه لم يكن التعذيب القضائي مفيدا فحسب، بل يمكن تبريره أيضا بقدم استخدامه وعالميته. وأكد مويارت أن الاستثناءات التي تذكر كثيرا في هذا الصدد إنما هي إثبات للقاعدة التي ينبغي تتبعها عبر تاريخ فرنسا نفسها والإمبراطورية الرومانية المقدسة. وطبقا لما ورد عن مويارت فإن نظام بيكاريا يناقض القوانين الكنسية، والمدنية، والعالمية، «وتجارب كافة البلدان».
35
لم يشدد بيكاريا نفسه على العلاقة بين آرائه حول التعذيب ولغة الحقوق الوليدة، لكن آخرين كانوا على أهبة الاستعداد لأن يفعلوا ذلك نيابة عنه؛ فقد عدل مترجمه الفرنسي، رئيس الدير أندريه مورليه، ترتيب آراء بيكاريا ليلفت الأنظار إلى ارتباطها ب «حقوق الفرد». استغل مورليه إشارة بيكاريا الوحيدة إلى «حقوق الفرد» في الفصل الحادي عشر من النسخة الإيطالية الأصلية لعام 1764 ونقلها إلى مقدمة الترجمة الفرنسية لعام 1766 بغرض خدمة هدفه في تأييد «حقوق الفرد». وهكذا بدا الدفاع عن حقوق الفرد هو هدف بيكاريا الأساسي، وأن تلك الحقوق تأكدت باعتبارها الوقاية اللازمة ضد معاناة الفرد. واستخدمت إعادة الترتيب التي قام بها مورليه في العديد من الترجمات اللاحقة، بل وحتى في الطبعات الإيطالية في وقت لاحق.
36
على الرغم من جهود مويارت المحمومة للدفاع عن التعذيب، انقلب التيار ضد التعذيب في ستينيات القرن الثامن عشر؛ فعلى الرغم من نشر أعمال كانت تحتوي على هجوم شديد على التعذيب من قبل، فإن قطرات المنشورات تحولت في تلك الفترة إلى سيل من المنشورات، وكانت ترجمات عمل بيكاريا والنسخ المعاد طبعها والمعاد تنقيحها تتصدر هذا الهجوم. ظهر نحو ثمان وعشرين طبعة باللغة الإيطالية، كثير منها يحمل دمغة ناشر مزورة، وتسع طبعات باللغة الفرنسية قبل عام 1800، ومع ذلك انضم الكتاب إلى القائمة البابوية للكتب المحظورة في عام 1766. ونشرت الترجمة الإنجليزية في لندن عام 1767، تبعها ظهور طبعات في جلاسجو ودابلن وإدنبره وتشارلستون وفيلادلفيا، ثم سرعان ما لحقتها طبعات باللغات الألمانية والهولندية والبولندية والإسبانية. وقد نجح مترجم بيكاريا في لندن في التعبير عن تغير روح ذلك العصر عندما قال: «لا تزال قوانين العقوبات ... معيبة للغاية، ويلازمها كم هائل من ملابسات القسوة التي لا ضرورة لها في كل الأمم، حتى إن محاولة تقليصها إلى معيار العقل لا بد أن تكون مثيرة لاهتمام البشرية جمعاء.»
37
كان تأثير بيكاريا المتنامي مذهلا للغاية، حتى إن مناوئي التنوير ادعوا أنهم رأوا المؤامرة التي تحاك؛ فهل كان محض مصادفة أن يعقب قضية كالاس تخطيط محدد المعالم في الإصلاح الجنائي؟ زد على ذلك أن من خطه هو رجل إيطالي غير معروف ولا يملك من المعرفة القانونية إلا قشورا. في عام 1779، أورد الصحفي المشاغب على الدوام سيمون نيكولاس هنري لينجويت، أن أحد الشهود أوضح له الأمر برمته كما يلي:
بعد فترة وجيزة من قضية كالاس، كتب كتاب «الموسوعة»، معتمدين على التعذيب الذي تعرض له كالاس ومستفيدين من الظروف المواتية - دون أن يضعوا أنفسهم موضع الريبة مباشرة، كما هي عاداتهم - إلى جناب القس بارنابايت في ميلان، المصرفي الإيطالي وعالم الرياضيات الشهير، أخبروه أنه قد حان الوقت لإصدار بيان رسمي للتنديد بقسوة التعذيب والتعصب؛ وأنه ينبغي أن تكون الفلسفة الإيطالية هي نيران مدفعية، وأنهم سيحققون الاستفادة منها سرا في باريس.
تبرم لينجويت من أن قاعدة عريضة من الناس تنظر إلى عمل بيكاريا على أنه ملخص غير مباشر لمصلحة كالاس وغيره من ضحايا الجور المعاصرين .
38
ساعد تأثير بيكاريا في تدشين الحملة ضد التعذيب، غير أن الحملة تحركت ببطء في بادئ الأمر. وقد صور مقالان حول التعذيب في «موسوعة ديدرو»، كلاهما نشر في عام 1765، غموض الأمر. في المقال الأول، الذي يدور حول فقه التعذيب، أشار أنطوان جاسبار باوتشر دي أرجي على نحو عملي إلى «التعذيب العنيف» الذي يتعرض له المتهم، لكن من دون أن يحكم على التعذيب من حيث كنهه. بيد أنه في المقال التالي الذي اعتبر التعذيب جزءا من الإجراءات الجنائية، هاجم شوفالييه دي جوكورت استخدام التعذيب بضراوة، مستعرضا كل الذرائع التي طالتها يداه بدءا من «صوت البشرية» ووصولا إلى فشل التعذيب في تقديم الدليل القاطع على الإدانة أو البراءة. وأثناء النصف الثاني من ستينيات القرن الثامن عشر، ظهرت خمسة كتب جديدة تؤيد إصلاح القانون الجنائي. وفي ثمانينيات نفس القرن، نشر تسعة وثلاثون كتابا من مثل هذه الكتب.
39
خلال سبعينيات وثمانينيات نفس القرن أيضا، نالت الحملة المنادية بإلغاء التعذيب واعتدال العقاب دفعة محفزة عندما قدمت المجتمعات المثقفة في الولايات الإيطالية، والأقاليم السويسرية، وفرنسا، الجوائز لأفضل مقالات حول الإصلاح الجنائي. وجدت الحكومة الفرنسية نبرة النقد المتنامية مقلقة للغاية، حتى إنها أصدرت أوامرها إلى أكاديمية «شالون سير مارن» لوقف طبع نسخ من المقال الفائز لعام 1780 الذي كتبه جاك بيير بريسو دي مارفيل؛ فقد أطلقت بلاغة بريسو في النقد اللاذع إنذارات الخطر أكثر من أي مقترحة جديدة أخرى:
لا تزال تلك الحقوق المقدسة التي يكتسبها الإنسان من الطبيعة، والتي ينتهكها المجتمع كثيرا بجهازه القضائي، تتطلب الحد من العقوبات المشوهة، وتخفيف العقوبات التي لا بد من الاحتفاظ بها. لا يمكن تصور أن أمة لطيفة [رصينة]، تعيش في مناخ معتدل في ظل حكومة معتدلة، يمكنها أن تجمع ما بين الشخصية اللطيفة والعادات السلمية وبين وحشية أكلة لحوم البشر؛ إذ إن عقوباتنا القضائية لا تستنشق سوى دم وموت، وتنفث غضبا وقنوطا في قلب المتهم.
لم يرق للحكومة الفرنسية أن ترى نفسها في موضع مقارنة مع أكلة لحوم البشر، لكن بحلول ثمانينيات القرن الثامن عشر، غدت البربرية التي تشوب التعذيب القضائي والعقوبات القاسية هي شعار الإصلاح. في عام 1781، أطرى جوزيف ميشيل أنطوان سرفان - الذي كان له باع طويل في الإصلاح الجنائي - على إلغاء الملك لويس السادس عشر للتعذيب بغرض انتزاع الاعترافات من المدان، فقال في وصف التعذيب: «هذا التعذيب المشين الذي اغتصب لقرون عديدة هيكل العدالة نفسه وأحاله إلى مدرسة للمعاناة، حيث احترف الجلادون تمحيص الألم.» ومن وجهة نظره كان التعذيب القضائي: «كائنا خرافيا ... حيوانا خرافيا لا مأوى له إلا وسط الشعوب الهمجية البربرية.»
40
عندئذ تعهد بريسو - الذي تشجع بالمصلحين الآخرين بالرغم من حداثة سنه وقلة خبرته - بنشر العمل المكون من عشرة مجلدات: «المكتبة الفلسفية للمشرع، والسياسي، والقانوني» (1782-1785)، الذي كان لا مفر من طبعه في سويسرا وتهريبه إلى فرنسا، وكان هذا العمل يضم كتابات بريسو نفسه وكتابات أخرى حول الإصلاح، ومع أنه لم يكن سوى مجمع للأفكار، فقد ربط بريسو بوضوح بين التعذيب وحقوق الفرد: «هل يعد المرء صغيرا عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن الحقوق المنتهكة للبشرية؟» وظهرت لفظة «البشرية» (على سبيل المثال في عبارة «مشهد البشرية التي تئن») مرارا وتكرارا في صفحاته. وفي عام 1788، أسس بريسو «جمعية أصدقاء السود»، أول جمعية فرنسية لإلغاء الرق. وهكذا باتت حملة الإصلاح الجنائي وثيقة الصلة بالدفاع العام عن حقوق الإنسان.
41
استخدم بريسو نفس الاستراتيجيات البلاغية التي كان يستخدمها المحامون الذين يحررون المذكرات في «القضايا الفرنسية الشهيرة» المختلفة في ثمانينيات القرن الثامن عشر؛ فهم لم يدافعوا عن موكليهم المتهمين زورا فحسب، بل أشاروا أيضا على نحو مطرد إلى النظام القانوني ككل. وعادة كان يستخدم محررو المذكرات أولئك ضمير المتكلم نيابة عن موكليهم بغرض صياغة قصص روائية أدبية تثير المشاعر وتعزز حججهم. وهذه الاستراتيجية البلاغية بلغت أوجها في مذكرتين كتبهما أحد مراسلي بريسو، وهو تشارلز مارجريت دوباتي - قاض من بوردو يعيش في باريس - الذي ترافع نيابة عن ثلاثة رجال حكم عليهم بالسحق على عجلة السحق بتهمة السرقة. المذكرة الأولى لدوباتي التي حررها في عام 1786 والتي بلغ عدد صفحاتها 251 صفحة، لم تندد فقط بكل هفوة في العملية القضائية، وإنما اشتملت أيضا على سرد مفصل لاجتماعه بالرجال الثلاثة في السجن. وفي المذكرة ينتقل دوباتي ببراعة فائقة من استخدام ضمير المتكلم في وصفه للمشهد إلى استخدام صيغة الغائب للسجناء: «عندئذ قال برادير [أحد المدانين]: وأنا تورم نصف جسدي طيلة ستة أشهر. وقال لاردويز [مدان آخر]: وأنا بفضل الله استطعت أن أقاوم [المرض الوبائي في السجن]؛ غير أن ضغط الأصفاد (وأنا [أي دوباتي] أؤمن جدا بما يمكن أن تفعله الأصفاد بعد ثلاثين شهرا!) جرح رجلي جرحا شديدا، حتى إن الغرغرينا بدأت تتملك منها، وكادوا يضطرون إلى بترها.» وينتهي المشهد بدوباتي باكيا، وبذا يحقق المحامي أقصى استفادة من مشاعر المشاركة الوجدانية مع السجناء.
42
عندئذ يحول دوباتي وجهة النظر مرة أخرى، لكنه هذه المرة يخاطب القضاة مباشرة: «يا قضاة شومو، يا قضاة التحقيقات، يا فقهاء القانون الجنائي، أتسمعون؟ ... إنها صرخة العقل، والحق، والعدل، والقانون.» وأخيرا يخاطب دوباتي الملك مباشرة كي يتدخل، فيترجاه أن ينصت إلى دماء الأبرياء، من كالاس إلى اللصوص الثلاثة المتهمين الذين يدافع عنهم: «تفضل من علو عرشك، تفضل وألق نظرة على كل الثغرات الدموية في تشريعاتك الجنائية، حيث قد فنينا، حيث يفنى أبرياء بهذه الثغرات مع كل يوم جديد!» وتنتهي المذكرة بصفحات عديدة يستجير فيها دوباتي بلويس السادس عشر كي يصلح القانون الجنائي بما يتفق مع العقل والإنسانية.
43
هكذا أثارت مذكرة دوباتي الرأي العام في مصلحة المتهمين وضد النظام القانوني، حتى إن برلمان باريس صوت لصالح حرقها على الملأ، واستهجن المتحدث الرسمي للمحكمة الأسلوب الروائي للمذكرة قائلا: «يرى دوباتي إلى جانبه بشرية ترتجف وتلتمس معونته، وطنا فوضويا يكشف له عن جروحه، الأمة بأكملها تتبنى صوته وتأمره أن يتحدث باسمها.» لكن تبين أن المحكمة عاجزة عن كبح جماح أمواج الرأي المتزايدة. ونشر جان كاريتا، ماركيز دي كوندرسيه - الذي لن يلبث أن يصير أكثر مدافعي الثورة الفرنسية عن حقوق الإنسان ثباتا وتأثيرا - كتيبين يؤيد فيهما دوباتي في أواخر عام 1786. ومع أن كوندرسيه لم يكن هو نفسه محاميا، فإنه ندد ب «ازدراء المحكمة للإنسان» و«الانتهاك البين المستمر للقانون الطبيعي» الذي تجلى في قضية كالاس وغيرها من الأحكام الجائرة التي صدرت منذ ذلك الحين.
44
بحلول عام 1788، أقرت الحكومة الملكية الفرنسية نفسها العديد من التوجهات الجديدة؛ ففي المرسوم الذي ينص على الإلغاء المؤقت للتعذيب بغية انتزاع أسماء شركاء الجريمة قبل الإعدام، تحدثت حكومة الملك لويس السادس عشر عن: «البراءة المطمئنة ... تجريد العقاب من أي قسوة مفرطة ... [و] معاقبة الجناة بكل الاعتدال الذي تقتضيه الإنسانية.» في أطروحة بيير فرانسوا مويارت دي فوجلانس التي صاغها عام 1780 حول القانون الجنائي الفرنسي، أقر مويارت قائلا إنه بالدفاع عن صلاحية الاعترافات التي تنتزع بالتعذيب «لا أتجاهل على الإطلاق حقيقة أنه لا مفر من أن أقاوم نظاما اكتسب في الوقت الحالي قبولا واسعا لم يكن يتمتع به في أي وقت مضى». غير أنه رفض أن يدخل في مناظرة، مؤكدا أن مناوئيه ما هم سوى مجادلين، وأن قوة الماضي تعزز رأيه. نجحت حملة الإصلاح الجنائي في فرنسا نجاحا كبيرا، حتى إنه في عام 1789 صنف تصحيح الانتهاكات في القانون الجنائي باعتباره أحد أهم القضايا المقتبسة باستمرار في قوائم المظالم المعدة من أجل المجلس التشريعي القادم.
45
الأهواء والفرد
أثناء هذه المناظرة التي تتحول على نحو متزايد إلى مناظرة من طرف واحد، أصبحت المعاني الجديدة للجسد أكثر وضوحا؛ فقد اكتسب جسد كالاس المكسور، أو حتى رجل اللص لاردواز - الذي كان يدافع عنه دوباتي - المصابة بالغرغرينا، احتراما جديدا. ظهر هذا الاحترام لأول مرة في صورة ردود أفعال سلبية تجاه الهجمات القضائية على الجسد خلال فترة الشد والجذب حول قضية التعذيب والعقوبات الوحشية. لكن أهمية الجسد باتت بمرور الوقت موضوعا لمشاعر التوحد الإيجابية، كما كان جليا في مذكرات دوباتي. ولم تتضح الافتراضات الجديدة فعلا إلا نحو نهاية القرن الثامن عشر. ففي كتيب دكتور بنجامين راش القصير والمنور للقارئ في الوقت نفسه، الذي صدر عام 1787، ربط دكتور راش عيوب العقاب العلني بالمفهوم الناشئ حول الفرد المستقل والمتعاطف في الوقت ذاته. فبصفته طبيبا، أقر راش ببعض فوائد الألم الجسدي في العقاب، مع أنه آثر بوضوح أشكالا للعقاب مثل «العمل، واليقظة، والعزلة، والصمت»، وهذا بمنزلة إقرار بتفرد كل مجرم وبالمنفعة المحتملة. في رأيه، كان العقاب العلني منفرا للغاية كما تبين بسبب نزوعه إلى القضاء على التعاطف، الذي هو «أساس النزعة الإلهية لفعل الخير في عالمنا.» كانت تلك هي الكلمات الأساسية: التعاطف - أو ما نطلق عليه الآن اسم التوحد - هو الأساس الذي تقوم عليه الأخلاق، والأخلاق هي الشرارة الإلهية التي تومض في الحياة البشرية «في عالمنا».
أكد راش أن: «ملكة الحس هي المعنية بحراسة الملكة الأخلاقية.» وقد شبه ملكة الحس هذه ب «إحساس مباغت بالصواب»، أو نوع من ردود الأفعال المكتسبة من أجل المنفعة الأخلاقية. والعقاب العلني قطع الطريق على التعاطف: «فلما كان الكرب الذي يعانيه المجرم هو نتاج لقانون صادر عن الدولة ولا سبيل إلى مقاومته، فإن تعاطف المشاهد يولد مجهضا، ويعود خاويا إلى القلب الذي ولد فيه.» وهكذا قوض العقاب العلني المشاعر الاجتماعية عن طريق جعل المشاهدين قساة الأفئدة أكثر فأكثر؛ فالمشاهدون فقدوا مشاعر «الحب العام» والإحساس بأن المجرمين بشر لديهم أجساد وأرواح مثلهم.
46
مع أن راش حسب نفسه بالطبع مسيحيا صالحا، فإن تصوره عن الإنسان كاد يكون مختلفا في كافة الأوجه عن ذلك التصور الذي وضعه بيير فرانسوا مويارت دي فوجلانس في دفاعه عن التعذيب والعقوبات البدنية التقليدية. فمن وجهة نظر مويارت، فسرت الخطيئة الأصلية عدم مقدرة الإنسان على التحكم في أهوائه. صحيح أن الأهواء وفرت القوة المحفزة للحياة، غير أن الاضطراب - بل وحتى التمرد - المتأصل فيها كان لا بد أن يخضع لسيطرة العقل، وضغوط المجتمع، والكنيسة، وإذا فشل كل هذا - في حالة ارتكاب جريمة - يخضع لسيطرة الدولة. ومن وجهة نظر مويارت أيضا، تنبع الجريمة (الرذيلة) من هوى الرغبة وهوى الخوف؛ «الرغبة في امتلاك الأشياء التي لا يملكها المرء، والخوف من فقدان تلك التي يملكها.» تلك الأهواء خنقت مشاعر الكرامة والعدالة التي غرسها القانون الطبيعي في قلوب البشر. منحت العناية الإلهية الملوك السيادة على حياة الناس، وفوض الملوك تلك السيادة للقضاة، محتفظين لأنفسهم بحق العفو. ومن ثم كان الغرض الرئيسي للقانون الجنائي هو منع غلبة الرذيلة على الفضيلة. وكان احتواء الشر المتأصل في البشرية هو شعار رؤية مويارت للعدالة.
47
أخيرا تحول المصلحون عن هذه الافتراضات الفلسفية والسياسية لهذا النموذج وتبنوا بدلا منها سياسة التهذيب من خلال التعليم وتجربة الخصال البشرية الطيبة الأصيلة. وبحلول منتصف القرن الثامن عشر، اعتنق بعض فلاسفة عصر التنوير وجهة نظر حول العواطف والأهواء لا تختلف عن تلك التي اقترحها مؤخرا طبيب الأمراض العصبية أنطونيو داماسيو، الذي يصر على أن العواطف في غاية الأهمية للعقل والوعي، ولا تتعارض معهما. ومع أن داماسيو ينسب أصوله الفكرية إلى الفيلسوف الهولندي سبينوزا الذي عاش في القرن السابع عشر، فإن النخب الأوروبية لم تقبل عموما تقييما أكثر إيجابية للعواطف - أو الأهواء، وفق مصطلحاتهم - إلا في القرن الثامن عشر. اكتسب «مذهب سبينوزا» سمعة رديئة باعتباره يؤدي إلى «المادية» (الروح عبارة عن مادة، ومن ثم فلا وجود للروح)، والإلحاد (الإله هو الطبيعة، ومن ثم لا يوجد إله). غير أنه بحلول منتصف القرن الثامن عشر، قبل بعض الأفراد المتعلمين المستنيرين نوعا ما من المادية الضمنية أو المعتدلة، التي لم تناد بأي مزاعم لاهوتية بشأن الروح، لكنها أكدت على أن المادة بمقدورها أن تفكر وتشعر. هذا التصور المعدل عن «المادية» أفضى منطقيا إلى توجه المساواة بين البشر باعتبار أن كل البشر يملكون نفس البناء البدني والعقلي، ومن ثم فإن التجارب والتعليم، وليس الميلاد والمنشأ، هي التي تفسر الفروق بينهم.
48
وسواء اعتنقوا فلسفة مادية واضحة أم لا - ومعظم الناس لم يعتنقوها بالفعل - فإن كثيرين من النخب المثقفة اعتنقوا وجهة نظر حول العواطف أو الأهواء مختلفة تماما عن تلك التي اعتنقها مويارت. وباتت العواطف والعقل ينظر إليهما على أنهما شريكان. ووفقا لرأي عالم الفسيولوجيا تشارلز بونيت، فإن العواطف هي «المحرك الفريد للكائن الحساس، وللكائنات العاقلة». كانت العواطف صالحة ويمكن شحذها بواسطة التعليم من أجل تطوير الإنسانية، التي يمكن النظر إليها الآن على أنها قابلة للوصول إلى الكمال وليست شريرة بالفطرة. وبحسب وجهة النظر تلك؛ حقا أخطأ المجرمون لكن يمكن إعادة تهذيبهم . وعلاوة على ذلك فإن الأهواء، المعتمدة على البيولوجيا، تتطور نحو حساسية أخلاقية؛ فالإحساس هو رد فعل عاطفي تجاه شعور مادي، والأخلاق هي تهذيب هذا الإحساس لإبراز مكونه الاجتماعي (ملكة الحس). عبر لورنس ستيرن، الروائي المفضل لتوماس جيفرسون، عن العقيدة الجديدة لعصره على لسان شخصيته الروائية الرئيسية «يوريك» في روايته التي تحمل عنوانا بالغ الدلالة «رحلة عاطفية»:
ملكة الحس العزيزة! ... يا نافورة مشاعرنا المتدفقة للأبد! - ها أنا أجد في طلبك - وها هي قدسيتك تجيش بداخلي ... حتى إن بعض مشاعر الفرحة والاهتمام تفيض من نفسي - وجميعها تنبع منك أيتها العظيمة - يا مركز الحس العظيم في العالم! الذي يهتز إذا وقعت شعرة من شعر رءوسنا أرضا، ولو في أبعد صحراء في خليقتك.
رأى ستيرن هذه الملكة حتى في «أكثر الفلاحين غلظة وفظاظة».
49
قد يبدو من غير المنطقي أن نربط بين مظاهر التمخط في المناديل، أو الاستماع إلى الموسيقى، أو مطالعة الروايات، أو أن يأتي الفرد بمن يرسم له لوحة، وبين إلغاء التعذيب وتخفيف العقوبات القاسية. غير أن التعذيب الجائز قانونا لم ينته لمجرد أن القضاة ضاقوا ذرعا به أو أن كتاب عصر التنوير عارضوه في نهاية الأمر. لقد انتهى التعذيب لأن الإطار التقليدي للألم وكينونة الإنسان كفرد قد انهار ليحل محله بالتدريج إطار جديد يمتلك فيه الأفراد أجسادهم، ويمتلكون الحق في الانفصال وعدم انتهاك حرمة أجسادهم، ويدركون أن للآخرين نفس العواطف والأحاسيس ومشاعر التعاطف كأنفسهم تماما. ولنعد إلى دكتور راش مرة أخيرة إذ يقول: «الرجال، بل وربما النساء، الذين نمقتهم [المجرمين المدانين] لهم أرواح وأجساد مكونة من نفس العناصر التي تتكون منها أرواح وأجساد أصدقائنا وذوينا.» إذا تأملنا في بؤسهم «دون مشاعر أو تعاطف»، فعندئذ «سيتوقف مبدأ التعاطف نفسه عن العمل تماما؛ و... سرعان ما سيفقد مكانه في قلب الإنسان».
50
الفصل الثالث
لقد ضربوا مثلا عظيما
إعلان الحقوق
تعريف كلمة إعلان:
تصريح، أو إخبار، أو عرض، أو إعلان بصراحة أو جهارا أو بصفة رسمية؛ بيان أو تأكيد جازم؛ تأكيد أو إعلان أو تصريح بأسلوب جازم أو رسمي أو قانوني ... تصريح أو بيان علني معبر عنه في وثيقة أو سند أو قانون عام.
قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية،
النسخة الإلكترونية الثانية
لماذا يتعين عرض الحقوق في إعلان؟ لماذا تشعر البلدان والمواطنون بضرورة مثل هذا البيان الرسمي؟ تشير حملات إلغاء التعذيب والعقوبات القاسية إلى إجابة واحدة: البيان العلني الرسمي يؤكد على التغيرات التي طرأت على التوجهات الفكرية الضمنية. على أن إعلاني الحقوق لعامي 1776، 1789 ذهبا إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فهما لم يوضحا التحولات التي حدثت في التوجهات الفكرية والتوقعات العامة فحسب، وإنما ساعدا أيضا في انتقال السيادة من الملك جورج الثالث والبرلمان البريطاني إلى جمهورية جديدة في حالة الإعلان الأمريكي، ومن حكومة ملكية تدعي الحق في السلطة العليا إلى أمة وممثليها في حالة الإعلان الفرنسي. في عامي 1776 و1789، فتح كل من الإعلانين آفاقا سياسية جديدة. فمنذ ذلك الحين فصاعدا اندمجت حملتا مناهضة التعذيب والعقوبات القاسية مع عدد هائل من قضايا حقوق الإنسان الأخرى، التي لم تبرز صلتها بحقوق الإنسان إلا بعد الإعلانين.
يعطي تاريخ لفظة «إعلان» أول مؤشر لتحول السيادة. اشتقت لفظة
declaration
الإنجليزية التي تعني «إعلان» من اللفظة الفرنسية
déclaration . تشير الكلمة في الأساس في اللغة الفرنسية إلى قائمة بالأراضي تمنح إلى أحد اللوردات الإقطاعيين مقابل التعهد بالولاء. وعلى مدار القرن السابع عشر، ارتبطت اللفظة على نحو متزايد بالبيانات العامة الصادرة عن الملك. وبعبارة أخرى، ارتبط فعل الإعلان بالسيادة. ومع انتقال السلطة من اللوردات الإقطاعيين إلى الملك الفرنسي، انتقلت أيضا سلطة إصدار الإعلانات. وفي إنجلترا، حدث العكس أيضا: عندما كان الرعايا يريدون إعادة التأكيد على حقوقهم من الملوك، كانوا يحررون إعلاناتهم الخاصة. هكذا أضفت «الماجنا كارتا» («الوثيقة العظمى») الصادرة سنة 1215 الصفة الرسمية على حقوق البارونات الإنجليز في مقابل حقوق الملك الإنجليزي؛ وأكدت «عريضة الحقوق» لعام 1628 «الحقوق والحريات المختلفة للرعايا »؛ وصدقت «مذكرة الحقوق» البريطانية لعام 1689 على «الحقوق والحريات الحقيقية والعريقة والثابتة لأبناء هذه المملكة».
1
في عامي 1776 و1789، بدت كلمات مثل «وثيقة»، و«عريضة»، و«مذكرة» غير كافية لمهمة ضمان الحقوق (وينطبق الشيء نفسه على الإعلان العالمي لعام 1948). انطوت كل من لفظة «عريضة» و«مذكرة» في فحواها على معنى الطلب والالتماس إلى قوة أعلى (فالمذكرة هي في الأصل عريضة تقدم إلى الحاكم)، أما «الوثيقة» فتعني عادة ميثاقا أو صكا قديما. أما كلمة «إعلان» فكانت أقل تعبيرا عن القدم والخنوع. زد على ذلك أن «الإعلان»، بخلاف «العريضة» و«المذكرة» أو حتى «الوثيقة»، يمكن أن يدل على النية في امتلاك السيادة. وعليه، بدأ جيفرسون «إعلان الاستقلال» بتعليل ضرورة التصريح به قائلا: «حين يتعين على شعب من الشعوب، في سباق الأحداث البشرية، أن يفصم عرى الروابط السياسية التي تربطه بشعب آخر، وأن يحتل بين دول المعمورة المكانة المنفصلة المتساوية التي تؤهله لها قوانين الطبيعة وسنن خالقها، فإن الاحترام الحق لآراء البشرية يفرض عليه «الإعلان» [وهذا هو شاهدي] عن الأسباب التي دفعته إلى هذا الانفصال.» ولم يتسبب تعبير «الاحترام الحق» في حجب النقطة الرئيسية، وهي أن المستعمرات تعلن نفسها دولة منفصلة ومتساوية وتمتلك سيادتها. (انظر الملحق إذا أردت الاطلاع على النص الكامل للإعلان.)
على النقيض، في عام 1789، لم يكن النواب الفرنسيون مستعدين بعد للإفصاح صراحة عن رفضهم لسيادة ملكهم. غير أنهم حققوا تقريبا نفس الأهداف من خلال الحذف المتعمد لأي ذكر للملك في «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»: «إن ممثلي الشعب الفرنسي، الملتئمين في جمعية وطنية، إذ يؤكدون أن الجهل والإهمال وعدم احترام حقوق الإنسان هي وحدها أسباب شقاء المجتمع وفساد الحكومات، يعلنون أنه قد قر عزمهم على أن يعرضوا في إعلان للعموم [وهذا هو شاهدي] حقوق الإنسان الطبيعية، الثابتة، المقدسة.» تعين على الجمعية أن تفعل أكثر من مجرد إلقاء الخطب أو صياغة القوانين حول قضايا بعينها؛ كان عليها أن تثبت كتابة من أجل الأجيال القادمة أن هذه الحقوق لم تنبع من اتفاق بين الحاكم والمواطنين ، ولا من عريضة رفعت إليه أو عهد منحه، وإنما من طبيعة البشر نفسها.
جمع الإعلانان بين النظر إلى الماضي والتطلع إلى المستقبل في الوقت نفسه. ففي الإعلانين، ادعى المعلنون أنهم يؤكدون على حقوق موجودة بالفعل ولا يرقى إليها الشك. لكنهم بهذا صنعوا ثورة في السيادة ووضعوا أساسا جديدا تماما للحكومة. أكد «إعلان الاستقلال» على أن الملك جورج الثالث سحق حقوق ساكني المستعمرات الموجودة مسبقا، وأن أفعاله بررت تأسيس حكومة منفصلة: «متى أصبح أي شكل من أشكال الحكم خطرا على هذه الغايات [ضمان الحقوق]، فإن من «حق» الشعب أن يغيره أو يلغيه، وأن يقيم نظاما جديدا للحكم.» بالمثل أعلن النواب الفرنسيون أن هذه الحقوق قد جرى تجاهلها ببساطة أو إهمالها أو ازدراؤها، ولم يدعوا أنهم ابتكروها. غير أن الإعلان اقترح منذ ذلك الحين فصاعدا أن هذه الحقوق تشكل أساس الحكومة، مع أنها لم تكن موجودة في الماضي. وحتى فيما زعم النواب أن هذه الحقوق موجودة بالفعل وأنهم يدافعون عنها فقط، فإنهم خلقوا شيئا جديدا تماما: حكومات معتمدة على ضمان الحقوق العالمية.
إعلان الحقوق في أمريكا
لم يبدأ الأمريكيون بخطة واضحة للانفصال عن بريطانيا العظمى، ولم يتخيل أحد في ستينيات القرن الثامن عشر أن الحقوق ستؤدي بهم إلى مثل هذه التجربة الجديدة. إن إعادة تشكيل ملكة الحس ساعدت على جعل فكرة الحقوق أكثر واقعية لدى الطبقات المثقفة، كما حدث في المناقشات حول التعذيب والعقوبات القاسية على سبيل المثال، غير أن فكرة الحقوق تغيرت أيضا بتغير الظروف السياسية، وبات لدينا لغتان مختلفتان من لغات الحقوق في القرن الثامن عشر: لغة «الحصر» (اقتصار الحقوق على شعب معين أو ثقافة قومية) ولغة العمومية (حقوق الإنسان بصفة عامة). واستخدم الأمريكيون واحدة أو الأخرى أو مزيجا منهما معا، تبعا للظروف. أثناء أزمة «قانون الطوابع» الذي صدر في منتصف ستينيات القرن الثامن عشر، على سبيل المثال، أكد مؤلفو الكتيبات السياسية على حقوقهم باعتبارهم سكان المستعمرات بداخل الإمبراطورية البريطانية، في حين أن «إعلان الاستقلال» أثار بوضوح الحقوق العالمية لكل البشر. وبعد ذلك وضع الأمريكيون تقليدهم الحصري الخاص في دستور عام 1787 وفي وثيقة الحقوق لعام 1791. وعلى النقيض، اعتنق الفرنسيون على الفور تقريبا اللغة العمومية للحقوق، ويعزى هذا في جزء منه إلى أنها تقوض المزاعم الحصرية والتاريخية للحكم الملكي؛ ففي المناقشات التي دارت حول «الإعلان الفرنسي»، حث الدوق ماثيو دي مونتمورنسي زملاءه من النواب على أن يحذوا حذو الولايات المتحدة قائلا: «لقد ضربوا لنا مثلا عظيما في النصف الجديد من الكرة الأرضية؛ فلنضرب نحن مثلا للعالم أجمع.»
2
قبل أن يعلن الأمريكيون والفرنسيون حقوق الفرد، عاش المؤيدون البارزون للعمومية على هامش القوى العظمى. ولعل هذا التهميش هو نفسه الذي مكن عددا من المفكرين الهولنديين والألمانيين والسويسريين من أن يكونوا المبادرين في المناداة بعالمية الحقوق. ففي وقت مبكر، نحو عام 1625، طرح فقيه كالفيني هولندي اسمه هوجو جروشيوس فكرة أن الحقوق قابلة للتطبيق على كل أفراد الجنس البشري ولا تقتصر على بلد واحد بعينه أو فئة معينة، وقد عرف «الحقوق الطبيعية» على أنها شيء مملوك ذاتيا ويمكن إدراكه بمعزل عن مشيئة الله، واقترح أيضا أن الناس بمقدورهم استخدام حقوقهم - بدون مساعدة الدين - لإرساء الأسس التعاقدية للحياة الاجتماعية. وصور تلميذه الألماني صامويل بوفندورف، أول أستاذ جامعي في القانون الطبيعي بجامعة هايدلبيرج، إنجازات جروشيوس في كتابه عن التاريخ العام لتعاليم القانون الطبيعي الذي نشر عام 1678. ومع أن بوفندورف وجه النقد إلى جروشيوس في بعض النقاط، فإنه ساعد على تعزيز سمعة جروشيوس باعتباره مصدرا أساسيا لنمط عالمية الحقوق.
3
اعتمد منظرو القانون الطبيعي السويسريون على هذه الأفكار في أوائل القرن الثامن عشر، وكان أكثرهم تأثيرا جان جاك بورلماكي الذي كان يدرس القانون في جنيف، والذي جمع كتابات القانون الطبيعي المتنوعة في القرن السابع عشر إلى كتاب «مبادئ القانون الطبيعي» (1747). على غرار أسلافه، قدم بورلماكي القليل من المحتوى القانوني أو السياسي المحدد إلى فكرة الحقوق الطبيعية العالمية؛ وكان غرضه الأساسي هو إثبات وجودها وانبثاقها عن المنطق والطبيعة الإنسانية. وقد حدث المفهوم عن طريق ربطه بما أطلق عليه الفلاسفة الاسكتلنديون المعاصرون «الحس الأخلاقي الداخلي» (ومن ثم تكهن بحجتي في الفصلين الأولين من هذا الكتاب). استخدم عمل بورلماكي، الذي ما لبث أن ترجم إلى اللغات الإنجليزية والهولندية، على نطاق واسع كمنهج دراسي لمادة القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية في النصف الأخير من القرن الثامن عشر. واتخذ روسو وغيره من بورلماكي نقطة انطلاق.
4
عزز عمل بورلماكي نهضة أكثر عمومية للقانون الطبيعي والحقوق الطبيعية في أنحاء غرب أوروبا ومستعمرات أمريكا الشمالية. نشر جان باربيراك، وهو بروتستانتي آخر من مدينة جنيف، ترجمة فرنسية جديدة لعمل جروشيوس الرئيسي في عام 1746؛ وكان قد أصدر قبلا ترجمة فرنسية لأحد أعمال بوفندورف حول القانون الطبيعي. وظهرت سيرة ذاتية لجروشيوس مليئة بالمداهنة كتبها الفرنسي جان ليفسك دي بورجيني في عام 1752، وترجمت إلى الإنجليزية عام 1754. وفي عام 1754، نشر توماس رازرفورث محاضراته التي ألقاها في جامعة كامبريدج حول جروشيوس والقانون الطبيعي. من ثم كان جروشيوس، وبوفندورف، وبورلماكي معروفين جميعهم حق المعرفة لدى الثوار الأمريكيين أمثال جيفرسون وماديسون اللذين قرآ في القانون.
5
قدم الإنجليز مفكرين مهمين يناديان بالعالمية في القرن السابع عشر هما توماس هوبز وجون لوك. ذاع صيت أعمالهما في المستعمرات البريطانية بأمريكا الشمالية، كما ساعد لوك بالأخص في تشكيل الفكر السياسي الأمريكي، فكان تأثيره في الفكر الأمريكي أشد من تأثيره في الآراء الإنجليزية على الأرجح. ويرجع سبب أن هوبز كان أقل تأثيرا من لوك إلى أن هوبز رأى أن الحقوق الطبيعية لا مفر من أن تخضع إلى سلطة مطلقة كيما تحول دون نشوب «حرب الكل ضد الكل» التي ستقع حتما ما لم تكن هناك سلطة كتلك. وفيما عرف جروشيوس الحقوق الطبيعية على أنها حق الحياة، والجسد، والحرية، والكرامة (قائمة بدت أنها وضعت العبودية على وجه الخصوص موضع تشكك)، عرفها لوك على أنها حق «الحياة، والحرية، والملكية». ولما أكد لوك على حق الملكية، فإنه بذلك لم يعترض على العبودية، إنما سوغ عبودية الأسرى الذين يؤخذون في حرب عادلة. بل واقترح لوك سن تشريع لضمان أن: «يتمتع كل رجل حر في ولاية كارولينا بالسلطة والنفوذ المطلقين على عبيده من السود.»
6
لكن على الرغم من تأثير هوبز ولوك، فإن كثيرا من النقاش الإنجليزي حول الحقوق الطبيعية في النصف الأول من القرن الثامن عشر ، ما لم يكن معظمه - ومن ثم النقاش الأمريكي أيضا - ركز على الحقوق التاريخية المحددة للرجل الإنجليزي المولود حرا، وليس على الحقوق القابلة للتطبيق على صعيد عالمي عام. عللت كتابات ويليام بلاكستون في خمسينيات القرن الثامن عشر سبب تركيز أبناء بلده على حقوقهم الخاصة وليس على الحقوق العالمية: «فيما مضى، كانت هذه [الحريات الطبيعية]، سواء المكتسب بالوراثة، أو التي تنال بالشراء، هي حقوق البشر أجمعين؛ لكن فيما يحط من قدر هذه الحريات وتدمر الآن في معظم بلدان العالم الأخرى تقريبا، يمكن القول إنها تظل حقوقا لشعب إنجلترا على نحو فريد ومؤكد.» وأكد الفقيه البارز أنه حتى إن كانت الحقوق عالمية في وقت من الأوقات، فوحدهم الإنجليز رفيعو المقام هم من تمكنوا من الحفاظ عليها.
7
على أنه منذ ستينيات القرن الثامن عشر فصاعدا، بدأ عنصر النظرة العالمية للحقوق يتضافر مع عنصر النظرة الحصرية في المستعمرات البريطانية بأمريكا الشمالية. فعلى سبيل المثال: أكد رجل القانون جيمس أوتيس بمدينة بوسطن في كتيبه «تأكيد حقوق المستعمرات البريطانية وإثباتها» (1764)، على كل من الحقوق الطبيعية للمستعمرين («جمعت الطبيعة كل هذه الحقوق في حالة من المساواة والحرية الكاملة»)، وحقوقهم السياسية والمدنية باعتبارهم مواطنين بريطانيين: «كل رعية من الرعايا البريطانيين ولد في قارة أمريكا، أو في أي مستوطنة أخرى من المستوطنات البريطانية، يحق له بموجب قانون الله والطبيعة، والقانون العام، وقانون البرلمان ... التمتع بكافة الحقوق الطبيعية، والأساسية، والمتأصلة، التي لا يجوز المساس بها، والتي يتمتع بها إخواننا المواطنون في بريطانيا العظمى.» مع ذلك، بداية من: «حقوق إخواننا الرعايا» التي نادى بها أوتيس عام 1764، تطلب الأمر خطوة عملاقة أخرى لبلوغ «الحقوق الثابتة لكل إنسان» التي نادى بها جيفرسون عام 1776.
8
زادت قوة النظرة العالمية للحقوق في ستينيات القرن الثامن عشر وفي سبعينيات القرن نفسه بصفة خاصة فيما اتسع الصدع في العلاقات بين مستعمرات أمريكا الشمالية وبريطانيا العظمى. فإن أراد ساكنو المستعمرات إنشاء بلد جديد منفصل، بالطبع ما كانوا يستطيعون أن يعتمدوا فقط على حقوق الإنجليز أحرار المولد؛ وإلا كانوا يرمون إلى الإصلاح وليس الاستقلال. قدمت الحقوق العالمية حجة أفضل، وعليه، بدأت خطب الانتخابات الأمريكية في ستينيات وسبعينيات القرن الثامن عشر تستشهد بأعمال بورلماكي بالتحديد دفاعا عن «حقوق البشر». وظهرت أيضا اقتباسات لجروشيوس، وبوفندورف، ولوك على وجه الخصوص، وسط أكثر الاقتباسات المتكررة لمؤلفي الكتابات السياسية، وتوافرت كتابات بورلماكي بأعداد كبيرة في المكتبات الخاصة والعامة. وفيما أخذت السلطة البريطانية في الانهيار عام 1774، اعتبر سكان المستعمرات أنفسهم في حالة أشبه بالحالة الطبيعية غير المتمدنة التي قرءوا عنها. وكان بورلماكي قد شدد على أن «فكرة الحق، وأشد منها فكرة القانون الطبيعي، مرتبطتان ارتباطا جليا بطبيعة الإنسان. ومن ثم لا بد أن نستدل على مبادئ هذا العلم من «طبيعة» الإنسان هذه نفسها، ومن «تكوينه»، ومن «حالته»». تحدث بورلماكي فقط عن طبيعة الإنسان على وجه العموم، ولم يقصر كلامه على حالة سكان المستعمرات الأمريكيين أو تكوين بريطانيا العظمى، وإنما تحدث عن تكوين البشر عالميا وحالتهم. مكن هذا التفكير العالمي سكان المستعمرات من تخيل الانفصال عن العرف وعن السيادة البريطانية.
9
وحتى قبل أن يعلن الكونجرس الاستقلال، عقد سكان المستعمرات مؤتمرات بين الولايات كي تحل محل الحكم البريطاني، وأرسلوا مفوضيهم محملين بتعليمات المطالبة بالاستقلال، وبدءوا في صياغة دساتير الولايات التي اشتملت عادة على مذكرات حقوق. وأكد إعلان فيرجينيا للحقوق الصادر في الثاني عشر من يونيو عام 1776 أن «كل الناس بحكم الطبيعة أحرار ومستقلون ولهم حقوق أصيلة معينة»، الحقوق التي عرفت على أنها حقوق «التمتع بالحياة والحرية، عن طريق اكتساب وحيازة الممتلكات، والسعي إلى السعادة والسلامة ونيلهما». والأهم من ذلك أن إعلان فيرجينيا تطرق إلى طرح قائمة من الحقوق المحددة مثل حرية الصحافة وحرية المعتقد الديني؛ ومن ثم ساعد في وضع نموذج ليس فقط لإعلان الاستقلال ولكن أيضا من أجل «وثيقة الحقوق» النهائية لدستور الولايات المتحدة. وبحلول ربيع عام 1776، تحركت عملية إعلان الاستقلال - وإعلان الحقوق العالمية وليس الحقوق البريطانية - بخطى أسرع في الأوساط السياسية.
10
هكذا مزجت الأحداث التي وقعت بين عامي 1774 و1776 مؤقتا طريقتي التفكير الحصرية والعالمية في مسألة الحقوق في المستعمرات الثائرة. فردا على بريطانيا العظمى، نوه سكان المستعمرات إلى حقوقهم الموجودة بالفعل بصفتهم رعايا بريطانيين، وفي الوقت نفسه طالبوا بأحقيتهم في الحق العالمي، بأن يكون لهم حكومة تكفل لهم حقوقهم الثابتة بصفتهم أشخاصا متساوين. إلا أنه لما كانت المطالبة بالنوع الثاني من الحقوق تبطل في الواقع حقوقهم الأولى، فعندما تحرك الأمريكيون بخطى أكثر حسما نحو الاستقلال، شعروا بضرورة إعلان حقوقهم كجزء من عمليه الانتقال من الحالة الطبيعية غير المتمدنة والعودة إلى الحكومة المدنية؛ أو الانتقال من حالة الخضوع للملك جورج الثالث إلى كيان سياسي جمهوري جديد. ولم يكن ممكنا إعلان الحقوق العالمية في المستعمرات الأمريكية دون اندلاع الثورة التي أوجدتها مقاومة السلطة البريطانية. ومع أنه لم يكن هناك إجماع على أهمية إعلان الحقوق ولا على نص الحقوق التي ينبغي الإعلان عنها، فإن الاستقلال فتح الباب إلى إعلان الحقوق.
11
حتى في بريطانيا العظمى، بدأت فكرة أكثر عمومية عن الحقوق تزحف إلى الخطب في ستينيات القرن الثامن عشر. كان الحديث عن الحقوق قد خمد مع استعادة الاستقرار بعد ثورة عام 1688 التي أنتجت «مذكرة الحقوق». وفي بريطانيا تراجع عدد الكتب التي ورد في عناوينها ذكر للفظة «الحقوق» تراجعا متزايدا منذ أوائل العقد الأول من القرن الثامن عشر وحتى خمسينيات نفس القرن. ولما اشتد النقاش العالمي حول القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية، بدأت ترتفع أعداد الكتب من جديد في ستينيات القرن الثامن عشر، وبدأت في الازدياد منذ ذلك الحين. ففي كتيب طويل ظهر عام 1768 يندد بالمحسوبية الأرستقراطية في توزيع المناصب الدينية في كنيسة اسكتلندا، نادى المؤلف بكل من «الحقوق الطبيعية للبشرية»، و«الحقوق الطبيعية والمدنية للبريطانيين الأحرار». وبالمثل، أكد الواعظ الأنجليكاني ويليام دود أن الممارسات الدينية للكنيسة الكاثوليكية «تعارضت مع الحقوق الطبيعية للأشخاص عموما وللإنجليز بصفة خاصة». واستخدم المعارض السياسي جون ويلكس عبارة «حقوقكم المكتسبة كرجال إنجليز» دائما عند عرض حجته في ستينيات القرن الثامن عشر. وفي «خطابات جونيوس»، وهي خطابات مجهولة الكاتب نشرت ضد الحكومة البريطانية في أواخر ستينيات القرن الثامن عشر وأوائل سبعينيات القرن نفسه، استخدمت أيضا لغة «حقوق الشعب» للإشارة إلى الحقوق في ظل الأعراف والقوانين الإنجليزية.
12
أبرزت الحرب بين سكان المستعمرات والتاج البريطاني الصفة العالمية إلى الضوء على نحو أكثر اكتمالا في بريطانيا نفسها. فقد اقتبس مقال صدر عام 1776 موقعا بالأحرف «إم دي» عن بلاكستون قوله ما معناه أن سكان المستعمرات «لا يستخدمون من القوانين الإنجليزية سوى القدر المناسب تطبيقه في موقفهم»؛ لذا، إذا انتهكت «البدع» الإجرائية «حقوقهم الأصلية باعتبارهم [إنجليزا] أحرارا»، فإن القيد الحكومي ينكسر، ويمكن أن نتوقع منهم أن يمارسوا «حقوقهم الطبيعية». جعل ريتشارد برايس مسألة الاحتكام إلى عالمية الحقوق واضحة جلية في كتيبه عظيم الأثر الصادر عام 1776 «ملاحظات على طبيعة الحرية المدنية، ومبادئ الحكومة، والعدل وسياسة الحرب مع أمريكا». ظهر ما لا يقل عن خمس عشرة طبعة من الكتيب في لندن عام 1776، وأعيد طبعه في نفس العام في كل من دابلن، وإدنبرة، وتشارلستون، ونيويورك، وفيلادلفيا. أرسى برايس دعمه لسكان المستعمرات على «المبادئ العامة للحرية المدنية»، أي: «ما يبيحه العقل والمساواة وحقوق البشرية»، وليس ما تمن به سوابق قانونية أو لوائح تشريعية أو مواثيق (وكان هذا هو عرف الحرية الإنجليزية في الماضي). وترجم كتيب برايس إلى الفرنسية، والألمانية، والهولندية. وكتب المترجم الهولندي، جوان ديرك فان دير كابلين توت دين بول، إلى برايس في ديسمبر عام 1777 يخبره بدعمه الشخصي للقضية الأمريكية في خطاب طبع فيما بعد وجرى تداوله على نطاق واسع: «أرى الأمريكيين رجالا شجعانا يدافعون بطريقة معتدلة، وشجاعة، وجديرة بالثناء عن حقوقهم، بصفتهم بشرا، التي لم تمنحها إياهم السلطة التشريعية الإنجليزية وإنما وهبهم الله نفسه إياها.»
13
أثار كتيب برايس بلبلة عظيمة في بريطانيا. وما لبث أن ظهر نحو ثلاثين كتيبا ردا على كتيبه تتهمه بالوطنية الزائفة، وإثارة الانشقاق، وقتل الأصول، والتحريض على الفوضى، والتحريض على الفتنة، بل والخيانة . وضع كتيب برايس «الحقوق الطبيعية للبشرية»، و«حقوق الطبيعة البشرية»، ولا سيما «الحقوق الثابتة للطبيعة البشرية» على أجندة قارة أوروبا. كان التساؤل المهم، كما قال أحد المؤلفين بوضوح هو: «هل توجد حقوق أصيلة في الطبيعة البشرية، وثيقة الارتباط بالإرادة، ولا سبيل إلى المساس بها؟» وادعى هذا المناوئ أنه من السفسطة الادعاء أن «حقوقا معينة للطبيعة البشرية هي التي تعد ثابتة». ولا بد من التخلي عن تلك الحقوق - فعلى المرء أن «يتنازل بمحض إرادته عن توجيه ذاته» - كيما يتسنى دخول حالة المدنية. وتظهر المجادلات العنيفة أن معنى الحقوق الطبيعية، والحرية المدنية، والديمقراطية شغل عقول كثيرين من أفضل الساسة البريطانيين الذين قتلوه بحثا.
14
يذكرنا الفارق بين الحرية الطبيعية والحرية المدنية الذي أثاره معارضو برايس بأن التعبير عن الحقوق الطبيعية أنشأ عرفا مضادا استمر إلى يومنا هذا. وعلى غرار الحقوق الطبيعية، التي نمت في معارضة الحكومات التي رآها الناس حكومات مستبدة، كان العرف المضاد تفاعليا أيضا، مما يؤكد أن الحقوق الطبيعية مصطنعة أو لا يمكن أن تكون ثابتة (ومن ثم هي غير وثيقة الصلة بالموضوع). وكان هوبز قد أكد بالفعل في منتصف القرن السابع عشر أن الحقوق الطبيعية كان لا بد من هجرها (ومن ثم فهي غير ثابتة) حتى يمكن تأسيس مجتمع مدني منضبط. دحض روبرت فيلمر، المؤيد الإنجليزي للسلطة الأبوية، حجة جروشيوس صراحة في عام 1679، واعتبر أن «الحرية الطبيعية» «سخافة». وفي كتابه «بطريركا» (1680)، عارض مرة أخرى فكرتي المساواة والحرية الطبيعيتين للبشرية، مؤكدا أن جميع الناس ولدوا خاضعين لأبويهم؛ فمن وجهة نظر فيلمر، تأصل الحق الطبيعي الوحيد في السلطة الملكية التي تنبثق من النموذج الأصلي للسلطة الأبوية وختم عليه في الوصايا العشر.
15
كان الرأي الأكثر تأثيرا على المدى الطويل من نصيب جيرمي بنتام الذي أكد أن القانون الوضعي (الفعلي وليس المثالي أو الطبيعي) وحده هو الذي يهم. كتب بنتام في عام 1775 - قبل أن يشتهر بأنه رائد «النفعية» بوقت طويل - مقالا نقديا حول مجلد بلاكستون بعنوان «تعليقات على قوانين إنجلترا»، أعرب فيه عن رفضه لمفهوم «القانون الطبيعي» قائلا: «لا توجد أي «وصايا»، أي شيء «يتعين» على الإنسان بموجبه أن يقوم بأي من الأفعال التي يزعم أن قانون الطبيعة الزائف يسمح بالتمتع بها. إذا علم أي إنسان بشأن أي منها فليطرحه أمامنا. وإذا كانت قابلة للطرح، فلا حاجة بنا إذن إلى أن نجهد أنفسنا في محاولة «اكتشافها»، كما يزعم مؤلفنا [بلاكستون] بعد ذلك بقليل بأنه يجب علينا اكتشافها، بالاستعانة بالعقل والمنطق.»
اعترض بنتام على فكرة أن القانون الطبيعي أصيل في الإنسان وقابل للاكتشاف بواسطة العقل. وبذا رفض في المقام الأول عرف القانون الطبيعي برمته، ومن ثم الحقوق الطبيعية معه أيضا. إن مبدأ النفعية (السعادة القصوى لأكبر عدد ممكن من البشر، وهي فكرة اقتبسها من بيكاريا)، الذي سيناقشه فيما بعد، كان بمنزلة أفضل معيار للصواب والخطأ. وحدها الإحصاءات التي عمادها الحقائق وليس الآراء التي عمادها المنطق هي التي يمكن أن تضع أساسا يقوم عليه القانون. وفي ضوء هذا الرأي، فإن رفضه اللاحق للإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن لن يدهشنا بنفس القدر. ففي كتيب يستعرض فيه بنتام كل مادة من مواد الإعلان الفرنسي على حدة، أنكر إنكارا قاطعا وجود الحقوق الطبيعية فقال: «الحقوق الطبيعية هي مجرد هراء: الحقوق الطبيعية التي لا يجوز المساس بها، هراء منمق، وجعجعة فارغة.»
16
وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة للحقوق، انتشر الحديث عنها واكتسبت زخما كبيرا بعد ستينيات القرن الثامن عشر. وباتت «الحقوق الطبيعية» التي تممتها الآن «حقوق البشرية»، و«حقوق الإنسانية»، «وحقوق الفرد»، مقبولة لدى الجميع. ولما عززت الصراعات الأمريكية في ستينيات وسبعينيات القرن الثامن عشر الفرصة السياسية لحديث الحقوق تعزيزا شديدا، فإن الحديث عن الحقوق العالمية انتقل عبر الأطلنطي شطر بريطانيا العظمى، والجمهورية الهولندية، وفرنسا. ففي عام 1768 - على سبيل المثال - قدم الاقتصادي الفرنسي المنادي بالإصلاح، بيير صامويل دو بون دي نيمور، تعريفه الخاص ل «حقوق كل إنسان»، واشتملت قائمته على حرية اختيار المهنة، والتجارة الحرة، والتعليم العام، والضرائب النسبية. وفي عام 1776، تطوع دو بون للذهاب إلى المستعمرات الأمريكية وإعداد تقرير للحكومة الفرنسية حول الأحداث هناك (وهو عرض لم يخرج إلى حيز التنفيذ). وفيما بعد صار دو بون صديقا مقربا إلى جيفرسون، وفي عام 1789 انتخب نائبا عن «طبقة العوام».
17
وبالرغم من أن «إعلان الاستقلال» ربما لم يكن «منسيا تقريبا» كما صرحت بولين ماير مؤخرا، فإن التعبير الاصطلاحي العالمي للحقوق عاد إلى موطنه في أوروبا بعد عام 1776. بدأت حكومات الولايات الجديدة في الولايات المتحدة تبني وثائق حقوق منفردة في وقت مبكر نحو عام 1776، غير أن «مواد الاتحاد الفيدرالي» التي صدرت عام 1777 لم تشتمل على أي وثائق حقوق، كما أقر دستور عام 1787 دون وثيقة للحقوق. ولم تظهر وثيقة الحقوق الخاصة بالولايات المتحدة إلى حيز الوجود إلا مع التصديق على التعديلات العشرة الأولى التي أدخلت على الدستور في عام 1791، وكانت وثيقة تميزت بالاقتصار الشديد على فئة بعينها: فقد قامت على حماية المواطنين الأمريكيين ضد انتهاكات حكومتهم الفيدرالية. وبالمقارنة، نجد أن «إعلان الاستقلال الأمريكي» و«إعلان فيرجينيا للحقوق» الصادرين في عام 1776 قد نصا على حقوق أكثر عمومية. وبحلول ثمانينيات القرن الثامن عشر، تراجعت أهمية الحقوق في أمريكا أمام الانشغال ببناء إطار عمل قومي مؤسسي جديد. ونتيجة لذلك، تقدم «الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن» الصادر عام 1789 على وثيقة الحقوق الأمريكية، وما لبث أن حاز اهتماما دوليا.
18
إعلان الحقوق في فرنسا
على الرغم من التحول الأمريكي عن عالمية الحقوق في ثمانينيات القرن الثامن عشر، فإن «حقوق الفرد» نالت دعما هائلا بفضل المثل الذي ضربه الأمريكيون. وبدون ذلك المثل، في حقيقة الأمر، لربما انهار تطور حقوق الإنسان تماما. بعد أن أطلق روسو شرارة الاهتمام الواسع ب «حقوق الفرد» في أوائل ستينيات القرن الثامن عشر، تراجع هو نفسه عن شغفه الشديد بها؛ ففي خطاب مطول كتبه عام 1769 حول قناعاته الدينية، تبرم روسو من الاستخدام المفرط لتلك «اللفظة الجميلة: «الإنسانية»». إن السفسطائيين الدنيويين، «أقل الناس إنسانية»، يستخدمونها كثيرا حتى إنها «تصير بلا مذاق، بل وسخيفة». وأكد روسو على أن الإنسانية لا بد أن تطبع في الأفئدة، وليس فقط على صفحات الكتب . ولم يحيا روسو، مبتكر عبارة «حقوق الفرد»، ليرى الأثر الكامل للاستقلال الأمريكي؛ فقد مات في عام 1778، وهو العام الذي انحازت فيه فرنسا إلى الجانب الأمريكي ضد بريطانيا العظمى. وعلى الرغم من أن روسو كان يعرف بنجامين فرانكلين - الذي ذاع صيته في فرنسا منذ وصوله بصفته وزير المستعمرات المتمردة في عام 1776 - وعلى الرغم من دفاعه في إحدى المناسبات عن حق الأمريكيين في حماية حرياتهم حتى وإن كانوا أشخاصا «مجهولين أو غير معروفين»، فإنه لم يظهر اهتماما كبيرا بالشئون الأمريكية.
19
استمرت الإشارات المتكررة إلى الإنسانية وحقوق الفرد بالرغم من ازدراء روسو، لكن كان يمكن حقا أن تصبح عقيمة ما لم تشحذها الأحداث في أمريكا؛ ففي الفترة بين عامي 1776 و1783، قدمت تسع ترجمات فرنسية مختلفة لإعلان الاستقلال وخمس ترجمات على الأقل لدساتير دول مختلفة ووثائق الحقوق المتنوعة تطبيقات محددة لمذاهب الحقوق وساعدت في بلورة الحس بأن الحكومة الفرنسية أيضا يمكن بناؤها على أسس جديدة. ومع أن بعض المصلحين الفرنسيين كانوا ميالين لنظام الحكم الملكي الدستوري على النمط الإنجليزي، وأن كوندرسيه - على سبيل المثال - أعرب عن إحباطه من «الروح الأرستقراطية» التي تشوب دستور الولايات المتحدة الجديد، فإن كثيرين تحمسوا بشدة للقدرة الأمريكية على التخلص من الرزوح تحت نير الماضي وتأسيس حكومة مستقلة.
20
أصبحت السابقة الأمريكية أكثر إلحاحا من ذي قبل فيما دخل الفرنسيون حالة طوارئ دستورية. ففي عام 1788 - حينما واجهت فرنسا الإفلاس الذي كان يرجع بدرجة كبيرة إلى مشاركتها في «حرب الاستقلال الأمريكية» - وافق الملك لويس السادس عشر على أن يدعو إلى عقد «مجلس طبقات الأمة»، الذي كان قد اجتمع للمرة الأخيرة في عام 1614. وفيما بدأت انتخابات النواب، كان يمكن سماع دمدمة الإعلانات بالفعل. وفي يناير من عام 1789، أعد لافاييت، صديق جيفرسون، مسودة إعلان، وفي الأسابيع التي تلت ذلك صاغ كوندرسيه مسودته في هدوء. وكان الملك قد طلب من رجال الإكليروس (الطبقة الأولى)، ومن النبلاء (الطبقة الثانية)، ومن الناس العاديين (الطبقة الثالثة) لا أن ينتخبوا النواب فحسب، وإنما أيضا أن يعدوا قوائم بمظالمهم. وأشار عدد من القوائم التي أعدت في الأشهر فبراير ومارس وأبريل من عام 1789 إلى «حقوق الإنسان الثابتة»، أو «حقوق الفرد الحر التي لا يمكن المساس بها»، أو «حقوق وكرامة الإنسان والمواطن» أو «حقوق الإنسان الحر المستنير الفكر»، على أن السيادة كانت من نصيب «حقوق الإنسان». كانت لغة الحقوق تنتشر انتشارا سريعا في جو الأزمة المتفاقمة.
21
طالب عدد محدود من القوائم - كانت غالبا قوائم طبقة النبلاء وليس طبقتي رجال الإكليروس والعوام - صراحة بصياغة إعلان للحقوق (وكانت غالبا هي نفس القوائم التي طالبت أيضا بكتابة دستور جديد). فعلى سبيل المثال: طالب نبلاء منطقة بيزيرز الواقعة جنوب فرنسا بأن «تأخذ الجمعية العمومية على عاتقها مهمة دراسة إعلان حقوق الإنسان والمواطن وصياغته، وإعلانه، باعتباره مهمتها الحقيقية». أما قائمة المظالم التي حررتها «طبقة العوام» من خارج باريس فقد كان عنوان الجزء الثاني منها هو «إعلان حقوق»، وجاءت فيه قائمة بتلك الحقوق. وفي الواقع، طالبت كافة القوائم بحقوق محددة بشكل أو آخر: مثلا حرية الصحافة، حرية الدين في حالات محدودة، المساواة في فرض الضرائب، المساواة في المعاملة أمام القانون، الحماية من الاعتقال التعسفي، وما شابه.
22
حضر النواب بقوائم المظالم التي أعدوها إلى الافتتاح الرسمي ل «مجلس طبقات الأمة» في الخامس من مايو عام 1789. وبعد مرور أسابيع من النقاش العقيم حول الإجراءات، أعلن نواب «الطبقة الثالثة» أنفسهم، من جانب واحد، أعضاء «الجمعية التأسيسية الوطنية» في السابع عشر من يونيو؛ زعموا أنهم يمثلون الأمة بأسرها، وليس مجرد «طبقة». وما لبث أن انضم إليهم العديد من رجال الإكليروس، وسرعان ما وجد النبلاء أنفسهم أمام خيار من اثنين هما تركهم أو الانضمام إليهم. وفي التاسع عشر من يونيو، وفي قلب هذه النزاعات، طالب أحد النواب أن تباشر الجمعية الجديدة في الحال «المهمة العظيمة المتعلقة بإعلان الحقوق»، التي أكد على أن الناخبين فوضوها لهم؛ ومع أن هذه الفكرة لم تكن مطلبا عموميا شاملا بأي حال، فقد انتشرت وشغلت عقول الجميع بلا أدنى شك. وعينت لجنة وضع الدستور في السادس من يوليو، وفي التاسع من نفس الشهر، أنبأت اللجنة «الجمعية التأسيسية الوطنية» أنها سوف تبدأ ب «إعلان حقوق الإنسان الطبيعية التي لا يجوز المساس بها»، الذي وضع في ملخص الجلسة تحت اسم «إعلان حقوق الإنسان».
23
كتب توماس جيفرسون، الذي كان في باريس حينها، إلى توماس بين في إنجلترا في الحادي عشر من يوليو يخبره بالحكاية المثيرة للأحداث الجارية. وكان توماس بين هو مؤلف كتيب «المنطق السليم» (1776)، وهو الكتيب المنفرد الأعظم أثرا على حركة الاستقلال الأمريكية. ووفقا لما رواه جيفرسون: «أطاح نواب الجمعية التأسيسية الوطنية بالحكومة القديمة، وهم يشرعون الآن في تشكيل حكومة من البداية.» وذكر جيفرسون أنهم اعتبروا أن أول مهمة هي صياغة «إعلان لحقوق الإنسان الطبيعية التي لا يجوز المساس بها»؛ وهي نفس المصطلحات التي استخدمتها لجنة صياغة الدستور. وتشاور جيفرسون عن كثب مع لافاييت، الذي قرأ مسودته المقترحة للإعلان على مسامع الجمعية في نفس هذا اليوم. وسارع العديد من النواب البارزين الآخرين إلى طباعة مقترحاتهم. وتنوعت المصطلحات ما بين «حقوق الإنسان في المجتمع»، و«حقوق المواطن الفرنسي»، أو مجرد لفظة «الحقوق»، لكن غلب مصطلح «حقوق الفرد» على العناوين.
24
وفي الرابع عشر من يوليو، أي بعد ثلاثة أيام من خطاب جيفرسون إلى توماس بين، تسلحت جموع في باريس وهاجمت سجن الباستيل ورموز أخرى من رموز السلطة الملكية، وكان الملك قد أمر بانتقال آلاف الجنود إلى باريس، مما أثار خوف النواب من نشوب انقلاب عسكري مضاد للثورة. وسحب الملك جنوده، غير أن مسألة الإعلان ظلت عالقة. وفي أواخر يوليو وأوائل أغسطس، كان النواب لا يزالون يتجادلون حول مسألة هل هم في حاجة إلى إعلان؟ وهل ينبغي أن يتقدم الإعلان على الدستور؟ وهل لا بد أن يصاحبه إعلان عن واجبات المواطنين؟ عكس الانقسام حول ضرورة صياغة إعلان خلافات عميقة في سياق الأحداث. فإذا كان كل ما تحتاجه السلطة الملكية هو مجرد إصلاحات بسيطة، فلا توجد ضرورة إذن لإعلان «حقوق الإنسان». وعلى النقيض، فمن وجهة نظر أولئك الذين اتفقوا مع جيفرسون في تحليله بأنه لا مفر من إعادة بناء الحكومة من البداية، كان إعلان الحقوق ضروريا.
أخيرا صوتت الجمعية في الرابع من أغسطس من أجل تحرير إعلان للحقوق لا يشتمل على الواجبات. ولم يستطع أحد حينها أو منذ ذلك الحين أن يعلل تعليلا وافيا كيف مال الرأي أخيرا لصالح صياغة مثل ذلك الإعلان، ويرجع ذلك بقدر كبير إلى أن النواب كانوا منهمكين للغاية في مجابهة القضايا التي تظهر يوميا، حتى إنهم لم يعوا المغزى الأكبر لكل قرار يتخذونه. وكنتيجة لذلك، ثبت أن خطاباتهم، بل وحتى مذكراتهم اللاحقة غامضة بشدة فيما يتعلق بالتحول في الآراء. ونحن على يقين من أن الأغلبية بدأت تؤمن بضرورة وضع أسس جديدة بالكامل. وقدمت حقوق الإنسان مبادئ رؤية بديلة للحكومة. وكما فعل الأمريكيون قبلهم، أعلن الفرنسيون الحقوق باعتبارها جزءا من التمادي في قطع العلاقات مع السلطة الموجودة. وقد علق النائب رباءوت سانت إتيان على هذا التشابه في الثامن عشر من أغسطس قائلا: «مثل الأمريكيين، نريد أن نعيد بناء أنفسنا من جديد، لهذا يعد إعلان الحقوق غاية في الأهمية.»
25
اشتد النقاش في منتصف أغسطس، حتى في نفس الوقت الذي سخر فيه بعض النواب صراحة من «النقاش الميتافيزيقي». ولما وجدت الجمعية التأسيسية الوطنية نفسها أمام مجموعة من البدائل المحيرة، اختارت أن تنظر في وثيقة ترضي الجميع حررتها لجنة فرعية مكونة من أربعين عضوا مجهولين إلى حد كبير. وفي وسط الريبة والتوتر بشأن المستقبل، انخرط النواب طوال ستة أيام في نقاش محتدم (من 20 إلى 24 أغسطس، و26 أغسطس). واتفق النواب على سبع عشرة مادة خضعت للتعديل من إجمالي أربع وعشرين مادة مقترحة (في الولايات المتحدة صدقت الولايات الفردية على عشرة تعديلات فحسب من الاثني عشر تعديلا الأولى المقترحة من أجل الدستور). ولما أنهكت مناقشة المواد وتعديلاتها أعضاء الجمعية، صوتوا في السابع والعشرين من أغسطس لإرجاء أي مناقشات أخرى إلى ما بعد تحرير دستور جديد. ولم يعيدوا فتح باب النقاش في هذا الأمر بتاتا. وبهذه الطريقة غير المباشرة بعض الشيء، أخذ «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» شكله النهائي. (انظر الملحق للاطلاع على النص الكامل للإعلان.)
أعلن النواب الفرنسيون أن جميع الناس، وليس فقط الشعب الفرنسي، «يولدون ويعيشون أحرارا متساوين في الحقوق» (المادة الأولى). ومن بين «حقوق الإنسان الطبيعية، المقدسة ، الثابتة غير القابلة للخلع»، حق الحرية وحق والملكية وحق الأمن وحق مقاومة الظلم والاستبداد (المادة الثانية). وكان هذا يعني عمليا أن وضع أي قيود على الحقوق لا بد أن يكون قائما على أساس قانوني (المادة الرابعة). «جميع المواطنين» لهم الحق في الاشتراك في وضع القانون، الذي ينبغي أن يكون الجميع متساوين أمامه (المادة السادسة)، وحق قبول الضرائب (المادة الرابعة عشرة)، التي ينبغي أن توزع بالتساوي طبقا للقدرة على الدفع (المادة الثالثة عشرة). وبالإضافة إلى ذلك، حظر الإعلان الاعتقالات التعسفية (المادة السابعة)، والعقوبات غير الضرورية (المادة الثامنة)، والافتراض القانوني بالإدانة (المادة التاسعة)، ونزع الحكومة للممتلكات نزعا غير مبرر (المادة السابعة عشرة). وبأسلوب غامض إلى حد ما، أكد الإعلان على أنه «لا يجوز التعرض لأحد لما يبديه من أفكار حتى في المسائل الدينية» (المادة العاشرة)، في حين أنه يشدد بلهجة أكثر قوة على حرية الصحافة في (المادة الحادية عشرة).
هكذا حاول النواب الفرنسيون أن يلخصوا في وثيقة واحدة كلا من الحمايات القانونية لحقوق الأفراد والأسس الجديدة لشرعية الحكومة. ودانت السيادة حصريا للأمة (المادة الثالثة)، وبات المجتمع منوطا به أن يحاسب كل موظف عمومي (المادة الخامسة عشرة). ولم يأت الإعلان على ذكر الملك، أو التقاليد الفرنسية، أو التاريخ، أو العرف، أو الكنيسة الكاثوليكية. وأعلنت الحقوق وفقا للنص: «أمام الكيان الأسمى (الله) وتحت رعايته»، لكن، مع أن هذه الحقوق «مقدسة»، فإنها لم تعز إلى هذا المنشئ الأعظم (الله). عندما سطر جيفرسون إعلانه شعر بضرورة التأكيد على أن جميع الناس «قد حباهم باريهم» بالحقوق؛ في حين أن الفرنسيين استدلوا على الحقوق من مصادر علمانية بالكامل هي الطبيعة والمنطق والمجتمع. وفي أثناء المناقشات، كان ماثيو دي مونتمورنسي قد أكد على أن «حقوق الإنسان في المجتمع أبدية» وأنه «لا حاجة إلى إقرار رسمي لإدراكها». وما من اعتراض على النظام القديم السائد في أوروبا أكثر صراحة من هذا.
26
لم تخص أي من مواد الإعلان بالذكر حقوق جماعات بعينها، فعكس كلمات «الناس»، و«الإنسان»، و«كل إنسان»، و«جميع المواطنين»، و«كل مواطن»، و«المجتمع»، و«أي مجتمع» هو كلمات «لا أحد»، و«لا شخص»، و«لا إنسان»؛ فكان معناها الحرفي إما الجميع أو لا شيء. ولم يكن هناك ذكر للطبقات، والأديان، والأجناس في الإعلان. ومع أن غياب التخصيص ما لبث أن خلق المشكلات، فلا ينبغي أن تكون عمومية التأكيدات مثارا للدهشة؛ إذ كانت لجنة صياغة الدستور قد باشرت في الأصل إعداد ما يصل إلى أربع وثائق مختلفة حول الحقوق: (1) إعلان حقوق الإنسان. (2) إعلان حقوق الأمة. (3) إعلان حقوق الملك. (4) إعلان حقوق المواطن في ظل الحكومة الفرنسية. وقد مزجت الوثيقة التي تبنوها الإعلان الأول والثاني والرابع من دون وضع تعريف محدد لأهليات المواطنة. وقبل أن يخوض النواب في التفاصيل (بشأن حقوق الملك أو أهليات المواطنة)، سعوا أولا إلى وضع مبادئ عامة للحكومة بأكملها. وفي هذا الصدد، تعد المادة الثانية مثالية: «غرض كل اجتماع سياسي حفظ الحقوق الطبيعية التي للإنسان والتي لا يجوز مسها.» ابتغى النواب وضع الأساس لكل اجتماع سياسي؛ ليس للنظام الملكي، أو الحكومة الفرنسية، وإنما لكل اجتماع سياسي. ولسوف يضطرون إلى اللجوء إلى الحكومة الفرنسية عما قريب.
27
لم يحل الإعلان كافة القضايا؛ وإنما في حقيقة الأمر عجل بضرورة النظر في بعض القضايا - كحقوق غير ذوي الممتلكات أو الأقليات الدينية على سبيل المثال - وأثار قضايا جديدة حول بعض الجماعات، مثل الرقيق والمرأة، التي لم تنعم بأي وضع سياسي فيما مضى (سنتناول هذا الموضوع في الفصل التالي). ولعل أولئك المعارضين للإعلان كانوا قد استشعروا أن الإعلان في حد ذاته سيكون له تأثير محفز. فعملية الإعلان فعلت ما هو أكثر من مجرد توضيح الحقوق؛ فمن خلال الإعلان، امتلك النواب زمام السلطة. ونتيجة لذلك، أفسح الإعلان مجالا لنقاش سياسي لم يكن من الممكن تخيله من قبل: فإذا كانت الأمة هي مصدر السلطة، فما دور الملك، ومن أفضل من يمثل الأمة؟ وإذا كانت الحقوق هي عماد الشرعية، فما الذي يسوغ اقتصارها على أشخاص في سن معينة أو طبقة اجتماعية محددة أو جنس بعينه أو دين معين أو ثروة ذات قدر معلوم؟ كانت لغة حقوق الإنسان قد ترعرعت بالفعل بعض الوقت وسط الممارسات الثقافية الجديدة لاستقلال الفرد والسلامة البدنية، غير أنها عندئذ جاشت فجأة في وقت التمرد والثورة. ومن ذا يجدر به أن يضبط الآثار المترتبة عليها، أو من عساه يفعل أو حتى يستطيع أن يفعل ذلك؟
وكان لإعلان الحقوق عواقبه خارج فرنسا أيضا؛ «فإعلان حقوق الإنسان والمواطن» بدل لغة كل إنسان تقريبا بين عشية وضحاها. ويمكن اقتفاء أثر التغيير بوضوح شديد في كتابات وخطب ريتشارد برايس، الواعظ البريطاني المنشق الذي أثار الجدل بحديثه عن «حقوق الإنسانية» تأييدا لسكان المستعمرات الأمريكيين عام 1776. وسار كتيبه الذي صدر عام 1784 «ملاحظات على أهمية الثورة الأمريكية» على نفس المنوال؛ إذ قارن فيه حركة الاستقلال الأمريكية بانتشار المسيحية، وتنبأ أنها سوف «تحدث انتشارا عاما لمبادئ الإنسانية» (على الرغم من مسألة العبودية التي أدانها بشدة). في إحدى المواعظ التي ألقاها في نوفمبر عام 1789، أقر برايس المصطلحات الفرنسية الجديدة قائلا: «لقد عشت حتى رأيت حقوق الإنسان تحظى بالقبول أكثر من أي وقت مضى، والأمم تلهث وراء الحرية، التي بدا في وقت من الأوقات وكأنها فقدت معناها ... وبعد أن شاركت في جني ثمار ثورة سابقة [الثورة الإنجليزية عام 1688]، أبقاني الله لأشهد ثورتين أخريين [الأمريكية والفرنسية] مجيدتين.»
28
وبدوره أثار كتيب إدموند بيرك «تأملات في الثورة الفرنسية» (1790)، الذي كتبه ردا على برايس، جدلا محموما حول حقوق الإنسان في لغات متعددة. أكد بيرك أن «إمبراطورية النور والمنطق الغازية الجديدة» لم يمكنها أن تقدم أساسا متينا لحكومة ناجحة، وهي الحكومة التي لا بد أن تقوم على أساس راسخ من التقاليد العريقة للأمة. وفي اتهامه للمبادئ الفرنسية الجديدة، خص بيرك إعلان الحقوق باستهجان شديد. فأثارت لهجته ثائرة توماس بين، الذي استغل هذه الفقرة المشينة في رده المتقد بالغضب عام 1791 «حقوق الإنسان: ردا على هجوم السيد بيرك على الثورة الفرنسية».
كتب بين يقول: «أساء السيد بيرك بغضبه المعتاد إلى إعلان حقوق الإنسان والمواطن ... في هذا يقول: «قصاصات ورق حقوق الإنسان الحقيرة الغامضة.» فهل يقصد السيد بيرك أن ينكر أن للإنسان أي حقوق؟ إن كان يقصد ذلك، فلا بد أنه يعني أنه لا يوجد شيء اسمه الحقوق في أي مكان في العالم، وأنه هو نفسه ليس له أي حقوق؛ لأنه لا أحد في العالم سوى الإنسان؟» ومع أن الرد الذي كتبته ماري وولستونكرافت بعنوان «المطالبة بحقوق الرجل، في خطاب موجه إلى جناب المبجل إدموند بيرك؛ ردا على كتيبه تأملات في الثورة الفرنسية» ظهر أولا في عام 1790، فإن كتيب توماس بين «حقوق الإنسان» كان له أثر فوري وأكثر إذهالا، ويعزى هذا جزئيا إلى أنه استغل هذه الفرصة لينقد كافة أشكال النظام الملكي الوراثي، بما في ذلك النظام الإنجليزي. وقد ظهر عمله في العديد من الطبعات الإنجليزية خلال العام الأول وحده من تاريخ نشره.
29
نتيجة لذلك، زاد استخدام لغة الحقوق زيادة مذهلة بعد عام 1789. ويمكن رؤية الدليل على هذا الجيشان المذهل بسهولة من خلال عدد عناوين الأعمال الإنجليزية التي حملت لفظة «الحقوق»: فقد تضاعف العدد أربع مرات في تسعينيات القرن الثامن عشر ليصل إلى 418، مقارنة بثمانينيات نفس القرن الذي بلغ فيه العدد 95، أو مقارنة بأي من العقود السابقة في القرن الثامن عشر. حدث شيء مماثل في اللغة الهولندية؛ إذ ظهر مصطلح «حقوق الإنسان» باللغة الهولندية للمرة الأولى في عام 1791 عند ترجمة كتيب بين، وعندئذ توالت استخدامات المصطلح في تسعينيات القرن الثامن عشر، ثم تبعها بعد قليل ظهور مصطلح «حقوق الإنسان» في الأراضي المتكلمة بالألمانية. وعلى نحو ساخر إلى حد ما في ذلك الحين، تسبب جدل عنيف نشب بين كتاب اللغة الإنجليزية في وصول «حقوق الإنسان» الفرنسية إلى أيدي جمهور عالمي. كان الأثر الناتج أعظم مما حدث بعد عام 1776؛ لأن الفرنسيين كان يحكمهم النظام الملكي كمعظم البلدان الأوروبية الأخرى، ولم يتخلوا قط عن اللغة العالمية للحقوق. دفعت أيضا الكتابات المستلهمة من الثورة الفرنسية النقاش الأمريكي للحقوق إلى مستويات أعلى؛ إذ كان أتباع جيفرسون يتحدثون على الدوام عن «حقوق الإنسان»، فيما رفض الفيدراليون اللغة المرتبطة ب «الإفراط الديمقراطي» أو التهديدات للسلطة القائمة. مثل هذه النزاعات ساعدت في نشر لغة حقوق الإنسان في كل أنحاء العالم الغربي.
30
إلغاء التعذيب والعقوبات القاسية
بعد صدور «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» بستة أسابيع، وحتى قبل أن تحدد شروط حق التصويت، ألغى النواب الفرنسيون كافة استخدامات التعذيب القضائي كخطوة على طريق الإصلاح المؤقت للإجراءات الجنائية. وفي العاشر من سبتمبر عام 1789، قدم مجلس مدينة باريس التماسا رسميا إلى الجمعية الوطنية باسم «المنطق والإنسانية» من أجل إصلاحات قضائية فورية من شأنها «إنقاذ الأبرياء»، و«ضمان أفضل لثبوت أدلة الجريمة كي تصبح الإدانة أكثر تأكيدا». يرجع سبب تقديم أعضاء مجلس المدينة لهذا الطلب إلى أن «الحرس القومي» الجديد، المنتشر في باريس تحت قيادة لافاييت، قد ألقى القبض على عدد كبير من الأشخاص خلال أسابيع الاضطرابات التي تلت الرابع عشر من يوليو. هل السرية المعتادة للإجراءات القضائية تعزز التلاعب والاحتيال من جانب أعداء الثورة؟ واستجابة لهذا المطلب كلفت الجمعية الوطنية لجنة مكونة من سبعة أعضاء لصياغة أكثر الإصلاحات إلحاحا، لا من أجل باريس وحدها وإنما من أجل القطر بأكمله. وفي الخامس من أكتوبر، تحت ضغط مسيرة هائلة إلى قصر فرساي، صدق أخيرا الملك لويس السادس عشر تصديقا رسميا على «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»، وأجبر المتظاهرون الملك وعائلته على الانتقال من قصر فرساي إلى باريس في السادس من أكتوبر. وفي وسط هذه الاهتياجات المتجددة، وبالتحديد في الثامن والتاسع من نفس الشهر، أجازت الجمعية المرسوم الذي اقترحته لجنتها. وفي الوقت عينه، صوت النواب على الانضمام إلى الملك في باريس.
31
لم يتناول «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» سوى مبادئ عامة للعدالة: الجميع متساوون أمام القانون، لا يجوز السماح بالسجن التعسفي أو تطبيق العقوبات التعسفية بخلاف «العقاب اللازم الضروري»، وينبغي أن يعتبر المتهم بريئا إلى أن تثبت إدانته. بدأ المرسوم الصادر في الثامن والتاسع من أكتوبر عام 1789 باستحضار لروح الإعلان: «لما كانت الجمعية الوطنية تأخذ بعين الاعتبار أن واحدا من الحقوق الأصيلة للإنسان، الذي اعترفت به، هو حق التمتع - عند اتهامه بارتكاب جريمة جنائية - بالحرية والأمان الكاملين في دفاع يتفق مع مصلحة المجتمع الذي يطالب بالعقاب على الجريمة ...» وبعدئذ مضى المرسوم في تحديد الإجراءات، التي وضع معظمها لضمان الشفافية مع العامة. وفي حركة ساعد على ظهورها الارتياب في الهيئة القضائية القائمة، طالب المرسوم بانتخاب مفوضين مخصوصين في كل مقاطعة للمساعدة في كافة القضايا الجنائية، بما في ذلك مراقبة جمع الأدلة والشهادة، مما يكفل إتاحة كافة المعلومات المجمعة للدفاع وعلانية كافة الإجراءات الجنائية، ومن ثم مزاولة واحد من أثمن مبادئ بيكاريا.
كانت أقصر مادة من مواد المرسوم، التي بلغ عددها ثمان وعشرين مادة، المادة الرابعة والعشرين، وهي أكثرها أهمية فيما يتعلق بمناقشتنا هنا، فهي تنص على إلغاء كافة أشكال التعذيب وأيضا استخدام «مقعد الخلع» من أجل الاستجواب النهائي للمتهم أمام قضاته. وكان لويس السادس عشر قد منع من قبل «الاستجواب التحضيري»، وهو استخدام التعذيب لانتزاع الاعتراف بارتكاب الجريمة، غير أنه لم يمنع استخدام «الاستجواب التمهيدي»، أي التعذيب لمعرفة أسماء شركاء الجريمة، منعا باتا وإنما مؤقتا. وقد ألغت حكومة الملك «مقعد الخلع» في مايو عام 1788، لكن لما كان هذا الإجراء حديثا للغاية، شعر النواب بالحاجة إلى توضيح موقفهم. كان مقعد الخلع وسيلة للإذلال ورمزا لنوع من الإهانة للكرامة الإنسانية، حتى إن النواب نظروا إليه في ذلك الحين على أنه غير مقبول. وقد أرجأ النائب المنوط به تقديم المرسوم إلى اللجنة نقاشه لهذه الإجراءات حتى النهاية كي يسلط الضوء على دلالتها الرمزية. وقد أكد لزملائه من البداية أنه: «لا يمكنكم أن تتركوا وصمات القانون الحالية التي تسحق آدمية الإنسان؛ يجب أن تجعلوها تختفي على الفور.» ثم كاد يبكي عندما تناول موضوع التعذيب:
أعتقد أنني أدين للإنسانية بأن أقدم لكم ملاحظة أخيرة؛ لقد حظر الملك بالفعل ... في فرنسا الممارسات الوحشية التي يندى لها الجبين بغية انتزاع اعتراف بارتكاب الجريمة، باستخدام وسائل التعذيب ... غير أنه ترك لكم شرف إتمام هذا العمل العقلاني العادل العظيم. غير أن قانوننا لا يزال يتضمن التعذيب التمهيدي ... [أقصى درجات الوحشية الخالصة التي يعجز اللسان عن وصفها] الذي لا يزال يستخدم لمعرفة أسماء شركاء الجريمة. إذا ثبتم أنظاركم على بقايا هذه البربرية أيها السادة، فستجدون تحريمها ينبع من أفئدتكم. سيكون هذا مشهدا مؤثرا جميلا للكون: أن ترى ملكا وأمة يلتحمان بعرى المحبة المتبادلة التي لا تنفصم، يباري كل منهما حماسة الآخر من أجل الوصول بالقوانين إلى الكمال، ويحاول أن يمتاز كل منهما على الآخر في رفع أنصاب العدالة والحرية والإنسانية.
في أعقاب إعلان الحقوق، ألغي التعذيب أخيرا إلغاء تاما. لم يكن إلغاء التعذيب مدرجا في جدول أعمال حكومة مدينة باريس في العاشر من سبتمبر، غير أن النواب لم يستطيعوا أن يمنعوا أنفسهم عن اغتنام الفرصة المتاحة أمامهم كي يجعلوا من إلغاء التعذيب تاجا على رأس تعديلهم الأول للقانون الجنائي.
32
وعندما حان الوقت لإتمام تعديل قانون العقوبات بعد مرور أكثر من ثمانية عشر شهرا، أثار النائب المكلف بعرض الإصلاح كافة الأفكار التي باتت مألوفة إبان الحملات المناهضة للتعذيب والعقوبات القاسية. اعتلى المنبر لويس-ميشيل لبلتييه دي سان- فارجو، الذي كان في وقت من الأوقات قاضيا في برلمان باريس، في الثالث والعشرين من مايو عام 1791 كي يعرض أسباب قرارات اللجنة المختصة بالقانون الجنائي (المتابعة لأعمال لجنة السبع التي كونت في سبتمبر عام 1789). ندد ب «أشكال التعذيب الوحشية المفترض وقوعها في القرون البربرية ومع ذلك ظلت مستخدمة في قرون عصر النهضة»، وبانعدام التناسب بين الجرائم والعقوبات (وهو أحد أهم الأمور التي سخط عليها بيكاريا)، وب «ضراوة القوانين السابقة التي يندى لها الجبين» بوجه عام. والآن سوف تشكل «مبادئ الإنسانية» قانون العقوبات، الذي سيستند في المستقبل إلى إعادة التأهيل من خلال العمل وليس العقاب التكفيري من خلال الألم.
33
لكم كانت الحملات المناهضة للتعذيب والعقوبات القاسية ناجحة، حتى إن اللجنة قدمت جزءا مختصا بالعقوبات قبل الجزء المختص بتعريف الجرائم في قانون العقوبات. تعاني كافة المجتمعات من الجريمة، لكن العقاب يعكس طبيعة الكيان السياسي في الدولة. واقترحت اللجنة عمل إصلاح شامل لنظام العقوبات بغية تجسيد القيم المدنية الجديدة: باسم المساواة، يحاكم كل فرد في نفس المحاكم بموجب نفس القانون ويحتمل أن يتلقى نفس العقوبات. ولسوف يكون الحرمان من الحرية هو العقاب الرئيسي، بمعنى أن يحل السجن والأشغال الشاقة محل الإرسال إلى البحر للتجديف في السفن والنفي. فالمواطنون لن يعرفوا شيئا عن مغزى العقاب إذا أرسل المجرم بكل بساطة إلى مكان آخر بعيدا عن المشهد العام. بل إن اللجنة أيدت إلغاء عقوبة الإعدام، باستثناء في حالة التمرد على الدولة، لكنها أدركت أنها سوف تجابه المقاومة في هذه النقطة. وصوت النواب من أجل إرجاع عقوبة الإعدام لعدد محدود من الجرائم، مع أنهم استبعدوا كافة الجرائم الدينية مثل الهرطقة، وانتهاك حرمة المقدسات، ومزاولة السحر، (أما اللواط الذي كان عقوبته الإعدام فيما مضى، فلم يعد مدرجا بوصفه جريمة.) ولسوف تنفذ عقوبة الإعدام عن طريق قطع الرأس فحسب، وهي الطريقة التي اقتصرت على النبلاء وحدهم فيما مضى. وبدأ العمل باستخدام المقصلة التي اخترعت لجعل قطع الرأس بلا ألم قدر المستطاع في أبريل من عام 1792. أما الكسر على عجلة السحق، والحرق بالشد إلى الخازوق، «هذان الشكلان من أشكال التعذيب اللذان لازما عقوبة الإعدام»، فكان لا بد أن ينتهيا؛ فكما أكد لبلتييه فإن: «الإنسانية والرأي العام تمقت كافة أشكال الرعب القانونية هذه. فهذه المناظر الوحشية تحط من الأخلاقيات العامة، ولا تليق بقرن من الزمان يتسم بالإنسانية والتنوير.»
34
ولما غدت إعادة التأهيل وإدخال المجرم إلى المجتمع من جديد الهدفين الرئيسيين، لم يعد التشويه البدني والوصم محتملين. غير أن لبلتييه تردد بعض الوقت في مسألة الوصم؛ فكيف يمكن للمجتمع أن يصون نفسه من المجرمين المدانين دون أي شكل من أشكال العلامات الثابتة التي تشير إلى وضعهم؟ وخلص إلى أنه يستحيل ألا يلاحظ الناس المتشردين أو المجرمين في ظل النظام الجديد؛ لأن مجالس البلدية ستحتفظ بسجلات دقيقة بأسماء كل سكانها. فوصم أجساد المجرمين إلى الأبد سوف يمنعهم من إعادة الاندماج في المجتمع. وإزاء هذه المسألة - كما الحال أيضا في مسألة الألم بصفة عامة - اضطر النواب أن يتحسسوا الخطى؛ فالعقاب كان المقصود به أن يكون رادعا فوريا، وفي الوقت نفسه يؤدي إلى إحداث التكيف من جديد بداخل المجتمع. ولا ينبغي أن يكون العقاب مهينا إلى درجة تحول دون اندماج المدانين في المجتمع مرة أخرى. وعليه، فيما قضى قانون العقوبات بفضح المدان على الملأ، أحيانا مكبلا بالسلاسل، فقد حدد هذا الفضح بحرص (ثلاثة أيام على الأكثر) حسب شدة الجريمة.
ابتغى النواب أيضا محو الصبغة الدينية؛ فألغوا قانون التوبة الرسمي (الإصلاح الجدير بالاحترام)، الذي بموجبه يذهب المدان، مرتديا قميصا فحسب، ويلتف حبل حول عنقه، ويمسك مصباحا في يده، إلى باب الكنيسة حيث يترجى الغفران من الله، والملك، والعدالة. واقترحت اللجنة بدلا منه عقابا أساسه الحقوق يسمى «التجريد المدني» الذي قد يكون العقاب الوحيد الذي ينزل بالمتهم أو قد يضاف إلى عقوبة السجن. وقد وضع لبلتييه كافة إجراءاته بالتفصيل: يقاد المدان إلى مكان عام محدد، حيث يقرأ موظف المحكمة الجنائية هذه الكلمات بصوت مرتفع: «لقد أدانك بلدك بارتكاب فعل مشين، وعليه يجردك القانون والمحكمة من مرتبتك كمواطن فرنسي.» وعندئذ يطوق عنق المدان حيث يظل مفضوحا أمام العامة لمدة ساعتين، ويكتب اسمه وجريمته وقرار الحكم على لافتة توضع على صدره. غير أن النساء، والأجانب، وأرباب السوابق مثلوا مشكلة؛ فكيف لهم أن يفقدوا حقوقهم في التصويت أو تقلد منصب وهم لا يملكون مثل هذه الحقوق من الأصل؟ تناولت المادة الثانية والثلاثون هذه النقطة بالتحديد: في حال إصدار حكم ب «التجريد المدني» ضد النساء، أو الأجانب، أو أرباب السوابق سيحكم عليهم بالطوق الحديدي لمدة ساعتين، ويرتدون لافتة مشابهة لتلك المحكوم على الرجال بارتدائها، على أن موظف المحكمة لن يقرأ العبارة المتعلقة بالتجريد من المرتبة المدنية.
35
قد يبدو «التجريد المدني» عبارة عن منظومة من الكلمات، على أنه لم يشر فحسب إلى تغيير مسار قانون العقوبات، وإنما أيضا إلى النظام السياسي بصفة عامة. فلما صار المدان الآن مواطنا، وليس رعية، لم يعد من الممكن تعريض المدان أو المدانة (كانت النساء مواطنات «مذعنات») للتعذيب، أو العقوبات القاسية غير الضرورية، أو العقوبات المهينة أكثر من اللازم. وعندما قدم لبلتييه إصلاح قانون العقوبات، فرق بين نوعين من العقوبات: عقوبات بدنية (السجن والإعدام) وعقوبات مهينة. فمع أن كافة العقوبات تحمل في طياتها عنصري الخزي والإهانة، كما أكد لبلتييه نفسه، فإن النواب أرادوا الحد من استخدام العقوبات المهينة، وقد أبقوا على الفضح على الملأ والطوق الحديدي، لكن أوقفوا قانون التوبة واستخدام فلقة العقاب وعمود التشهير وجر الجثث على نقالة والتوبيخ القضائي، وإعلان أن القضية ضد المتهم مفتوحة إلى أجل غير مسمى (وعليه يتضمن ذلك القرار بالإدانة). قال لبلتييه: «نقترح أن تتبعوا مبدأ [العقوبات المهينة] لكن لا تكثروا من أشكاله، فبتعدد الأشكال تضعف الفكرة النافعة والمروعة في الوقت نفسه القائلة إن المجتمع والقوانين يلعنون الشخص الذي نجس نفسه بالجريمة.» يمكن تطبيق عقوبة إلحاق الخزي بالمجرم باسم المجتمع والقوانين، ولكن ليس باسم الدين والملك.
36
في خطوة أخرى دللت على إصلاح جوهري، قرر النواب أن تطبق العقوبات المهينة على الفرد المجرم فحسب، وليس على أفراد عائلته، ففي ظل الأشكال التقليدية لعقوبات الإهانة، كان أفراد عائلة المدانين يجنون العواقب مباشرة؛ فلم يكن أحد منهم يستطيع أن يشغل وظيفة أو يتقلد المناصب العامة، وكانت تصادر ممتلكاتهم في بعض القضايا، واعتبرهم المجتمع موصومين بالمثل. وفي عام 1784، حاز المحامي الشاب بيير لويس لاكريتل جائزة من أكاديمية ميتز عن مقاله الذي نادى فيه بأنه لا ينبغي أن يمتد خزي العقوبات المهينة إلى أفراد عائلة المجرم. وكانت الجائزة الثانية من نصيب محام شاب ذي مستقبل واعد من مدينة أراس يدعى ماكسميليان روبسبير.
عكس الاهتمام الذي حظت به العقوبات المهينة، تحولا ضئيلا لكن عظيم الأثر في مفهوم الشرف: فمع انتشار فكرة حقوق الإنسان، كان الفهم التقليدي للشرف يتعرض للنقد الشديد. كان الشرف هو أهم سمة شخصية في ظل السلطة الملكية؛ فقد أكد مونتسكيو بالفعل في كتابه «روح القوانين» (1748) على أن الشرف هو العنصر المحرك في نظام الحكم الملكي. اعتبر كثيرون أن الشرف حكر على أبناء الطبقة الأرستقراطية. وكان روبسبير قد أرجع في مقاله الذي يدور حول العقوبات المهينة فعل إلحاق الإهانة بعائلات بكاملها إلى نقائص في فكرة الشرف نفسها:
إذا تأمل المرء طبيعة هذا الشرف، الخصبة للنزوات والتقلبات، التي تنزع دائما إلى الرقة المفرطة، وتبجل عادة الأشياء من أجل لمعانها وليس من أجل قيمتها الجوهرية، وتبجل الرجال من أجل أدواتهم وألقابهم، التي هي أشياء غير أصيلة فيهم، وليس من أجل خصالهم الشخصية، عندئذ يمكن للمرء أن يفهم بسهولة كيف يمكنه [أي الشرف] أن يزدري أولئك الذين يهتمون لأمر أحد الأوغاد الذين عاقبهم المجتمع.
ومع ذلك استنكر روبسبير أيضا قصر الإعدام بقطع الرأس (الذي يظن أنه أكثر شرفا) على النبلاء وحدهم. هل أراد أن يكون جميع الأشخاص مكرمين على السواء أم أنه يدعو إلى نبذ فكرة الشرف نفسها؟
37
غير أنه حتى قبل ثمانينيات القرن الثامن عشر كان مفهوم الشرف يتعرض للتغيير. فكلمة «الشرف» طبقا لتعريف قاموس الأكاديمية الفرنسية، طبعة عام 1762، تعني «الفضيلة والاستقامة»، أما «فيما يخص المرأة، فتشير كلمة الشرف إلى العفة والاحتشام». في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ميزت الاختلافات في الشرف الرجل عن المرأة أكثر من تمييزها للطبقة الأرستقراطية عن طبقة العوام على نحو متزايد؛ فبالنسبة للرجل، بات الشرف مقترنا بالفضيلة، وهي الخصلة التي ربطها مونتسكيو بالجمهوريات؛ فجميع المواطنين شرفاء إن كانوا أصحاب فضيلة. وفي ضوء هذا الحكم الجديد، اقترن الشرف بالأفعال وليس بالميلاد، وانتقل التمييز بين الرجل والمرأة من مسألة الشرف إلى مسائل المواطنة وأشكال العقوبات. كان شرف المرأة (وعفتها) مسألة خاصة وداخلية؛ فيما كان شرف الرجل مسألة عامة، فمن الممكن أن يهان الرجل والمرأة على السواء في العقاب، لكن الرجال وحدهم يملكون حقوقا سياسية يمكن أن يفقدوها. وبات الأرستقراطيون والعوام متساوين الآن في العقاب كما في الحقوق؛ لكن الرجل والمرأة غير متساوين.
38
ولم يمر التغير في مفهوم الشرف دون ملاحظة واهتمام؛ ففي عام 1794، هجا الكاتب سيباستيان روش نيكولاس تشامفورت، أحد أعضاء الأكاديمية الفرنسية الراقية، هذا التغير قائلا:
من الحقائق المسلم بها أن قرننا هذا وضع الكلمات في نصابها الصحيح؛ فبتخلصه من الترجمات اللاهوتية، والجدلية، والميتافيزيقية، عادت الكلمات إلى بساطة وواقعية الفيزياء والأخلاق والسياسة. وبالحديث عن الأخلاق وحدها، يستشعر المرء كم أن لفظة «الشرف» هذه تجمع أفكارا معقدة وميتافيزيقية. واستشعر قرننا عيوب هذه الأفكار، ولكي يعيد كل شيء مرة أخرى إلى بساطته، ويحول دون أي إساءة في استخدام الكلمات، أثبت أن الشرف يظل جزءا من أي رجل لم يسبق له أن أدين قط بارتكاب جريمة. في الماضي كانت هذه اللفظة مصدرا للمراوغات والخصومات؛ أما في الحاضر، فلا شيء أوضح منها. هل وضع الرجل في الطوق الحديدي أم لا؟ هذا هو السؤال المحدد. فهو سؤال بسيط لحقيقة يمكن أن تجيب عنها بسهولة سجلات موظفي المحكمة. والرجل الذي لم يوضع في الطوق الحديدي هو رجل شريف يمكنه أن يطالب بحقه في أي شيء، في وظيفة في الوزارة، وما إلى ذلك، ويمكنه أن يملك حق الدخول إلى الهيئات المهنية والأكاديميات والمحاكم ذات السيادة. يستشعر المرء إلى أي مدى يمكن للوضوح والدقة أن ينقذانا من النزاعات والجدالات، وكيف أن العلاقات الاجتماعية في الحياة تصبح مريحة وسهلة.
كان لتشامفورت أسبابه الخاصة التي جعلته يتعامل مع كلمة الشرف بجدية. فتشامفورت الطفل اللقيط مجهول الأبوين، حقق سمعة أدبية، وعمل سكرتيرا خاصا لأخت الملك لويس السادس عشر. وقد انتحر في ذروة «حكم الإرهاب» بعد وقت قصير من كتابة هذه الكلمات. وإبان الثورة، انتقد في البداية الأكاديمية الفرنسية الرفيعة المكانة التي كانت قد انتخبته عام 1781، ثم ندم على هذا ودافع عنها. وكان الارتقاء إلى الأكاديمية هو أعظم شرف يمكن منحه لكاتب في ظل الحكم الملكي. وقد أغلقت الأكاديمية عام 1793 ثم انتعشت من جديد على يد نابليون. ولم يسبر تشامفورت غور ضخامة التغير في معنى الشرف فحسب - أي صعوبة الاحتفاظ بالفروق الاجتماعية في عالم يندفع نحو المساواة بنفاد صبر - ولكن أيضا ارتباط قانون العقوبات الجديد به. وكانت عقوبة الطوق الحديدي قد أصبحت القاسم المشترك الأصغر لفقدان الشرف.
39
لم يكن قانون العقوبات الجديد سوى نتيجة واحدة من نتائج كثيرة ترتبت على «إعلان حقوق الإنسان والمواطن». وقد استجاب النواب لإلحاح دوق دي مونتمورنسي الذي حثهم أن يضربوا «مثلا عظيما» عن طريق تحرير إعلان للحقوق، وفي غضون أسابيع من هذا بدءوا يكتشفون إلى أي مدى يمكن أن تكون نتائج هذا المثل غير متوقعة. «كان فعل التصريح، أو الإخبار، أو العرض، أو الإعلان بصراحة أو جهارا أو رسميا» المتضمن في عملية الإعلان ينطوي على منطق خاص به وحده. فحالما أعلنت الحقوق على الملأ، أثارت أسئلة جديدة؛ أسئلة لم تطرح قبلا، ولم تكن قابلة للطرح، واتضح أن عملية الإعلان ما هي إلا الخطوة الأولى في عملية مشحونة ومثيرة للغاية، ومستمرة حتى يومنا هذا.
الفصل الرابع
لن تكون هناك نهاية
عواقب الإعلان
قبل عيد الميلاد عام 1789 مباشرة، وجد نواب الجمعية التأسيسية الوطنية الفرنسية أنفسهم وسط نقاش عجيب. بدأ هذا النقاش في الحادي والعشرين من ديسمبر عندما أثار أحد النواب قضية حقوق التصويت لغير الكاثوليك، حين ذكر زملاءه النواب قائلا: «لقد أعلنتم أن جميع الناس يولدون ويعيشون أحرارا متساوين في الحقوق، كما أعلنتم أنه لا يجوز التعرض لأحد بسبب أفكاره الدينية.» وعلق أن ثمة العديد من النواب البروتستانت الذين يجلسون بين النواب، وعليه يجدر بالجمعية أن تصدر مرسوما في الحال بأن غير الكاثوليك مؤهلون للتصويت، وتقلد المناصب، ولهم الحق في الطموح لأي وظيفة مدنية أو عسكرية «كغيرهم من المواطنين».
كان تعبير «غير الكاثوليك» المقصود به فئة مفردة؛ فعندما استخدمه بيير برونيه دي لا تيك في المرسوم المقترح، كان يعني بوضوح البروتستانت. لكن ألا يندرج تحت هذا التعبير اليهود أيضا؟ لقد كانت فرنسا موطنا لنحو أربعين ألف يهودي عام 1789 بالإضافة إلى عدد يتراوح بين مائة ألف إلى مائتي ألف من البروتستانت (شكل الكاثوليك 99٪ من السكان). وبعد يومين من مبادرة برونيه، قرر الكونت ستانيسلاس دي كليرمونت تونير أن يطرق الحديد وهو ساخن فقال مؤكدا: «ما من حل وسط محتمل»؛ فإما إقرار دين رسمي للدولة، وإما القبول بتصويت الناس من أي ديانة والقبول بانخراطهم في الوظائف العامة. وأكد كليرمونت تونير أنه لا يجب أن يكون المعتقد الديني سببا في الحرمان من الحقوق السياسية، وعليه لا بد أن يتمتع اليهود أيضا بحقوق متساوية. لكن لم يكن هذا كل شيء؛ إذ أكد أنه لا ينبغي أن تكون المهنة سببا للحرمان أيضا؛ فالجلادون والفنانون الذين كانوا محرومين أيضا من الحقوق السياسية فيما مضى لا بد أن ينعموا بالحقوق السياسية الآن أيضا. (اعتبر الجلادون غير شرفاء لأنهم يكسبون عيشهم من قتل الناس، وكذلك الممثلون لأنهم يلبسون شخصيات أخرى غير شخصياتهم الحقيقية.) آمن كليرمونت تونير بأهمية الاتساق والثبات على المبدأ إذ يقول: «يجدر بنا أن نمنع المسرحيات بالمرة، أو أن نزيل العار المقترن بالتمثيل.»
1
هكذا كشفت قضايا الحقوق عن ميل إلى تعاقب القضايا؛ إذ تقود كل قضية إلى الأخرى؛ فما إن نظر النواب لوضع البروتستانت بعين الاعتبار بصفتهم أقلية دينية محرومة من الحقوق، حتى قفزت قضية اليهود إلى المشهد؛ وما إن ظهرت قضية الاستثناءات الدينية على أجندة الجمعية، حتى تبعتها عن قرب الاستثناءات المهنية. في عام 1776، كانت المخاوف قد تسللت بالفعل إلى عقل جون آدمز بشأن حدوث تطورات أكثر جذرية في ولاية ماساتشوستس. كتب آدمز إلى جيمس سوليفان يقول:
تأكد يا سيدي أنه من الخطير أن نفتح مجالا خصبا أمام الجدال والنزاع؛ كذلك الذي سيفتح عن طريق محاولة تعديل أهليات من لهم حق التصويت. لن تكون هناك نهاية؛ بل ستظهر مطالب جديدة؛ فالنساء ستطالب بالحق في التصويت، والصبية من سن الثانية عشرة إلى سن الحادية والعشرين سيعتقدون أن حقوقهم لا تلقى الاهتمام الكافي، وكل رجل لا يملك مليما واحدا سوف يطالب بحق متساو مع أي شخص آخر في كافة قوانين الدولة.
لم يظن آدمز فعليا أن النساء أو الأطفال قد يطالبون بحقهم في التصويت، لكنه كان يخشى عواقب توسيع حق الاقتراع ليشمل غير ذوي الممتلكات. وكان من الأسهل استنكار حق «كل رجل لا يملك مليما واحدا» عن طريق الإشارة إلى الطلبات الأكثر سخافة التي قد تأتي من أناس أدنى من ذلك الرجل نفسه على درجات السلم الاجتماعي.
2
في كل من الولايات المتحدة وفرنسا بحالتهما الجديدة، أشار إعلانا الحقوق إلى «الناس»، و«المواطنين»، و«الأمة»، و«المجتمع»، دون تناول الاختلافات في المرتبة السياسية. وحتى قبل صياغة الإعلان الفرنسي، كان المنظر الدستوري البارع، القس جوزيف سييس، قد ناقش الفرق بين الحقوق الطبيعية والمدنية للمواطن من ناحية والحقوق السياسية من ناحية أخرى. ومن وجهة نظره، ينبغي أن تعتبر النساء والأطفال والأجانب، وأولئك الذين لا يدفعون أي ضرائب مواطنين «مذعنين» فحسب، أما «أولئك الذين يساهمون في مؤسسة الدولة العامة فهم وحدهم الذين يمكن اعتبارهم مساهمين فعليين في المؤسسة الاجتماعية العظمى. هم وحدهم المواطنون الفاعلون الحقيقيون».
3
كانت المبادئ نفسها سارية منذ وقت طويل على الجانب الآخر من الأطلنطي؛ إذ أنكرت المستعمرات الثلاث عشرة على المرأة، والأمريكيين من أصول أفريقية، والهنود الحمر، وغير ذوي الممتلكات، حق التصويت. ففي ولاية ديلاوير - على سبيل المثال - كان حق الاقتراع مقصورا على البالغين من الرجال البيض الذين يمتلكون خمسين فدانا من الأرض، وعاشوا في ديلاوير مدة سنتين، أو ولدوا فيها، وأنكروا سلطة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وأقروا بأن العهدين القديم والجديد موحى بهما من الله. وبعد الاستقلال، سنت بعض الولايات أحكاما أكثر تحررا. فولاية بنسلفانيا - على سبيل المثال - بسطت حقوق التصويت لتشمل كافة الرجال الأحرار البالغين الذين يدفعون ضرائب بأي قدر كان؛ وولاية نيوجيرسي أجازت لوقت قصير حق التصويت للمرأة صاحبة الممتلكات؛ غير أن معظم الولايات أبقت على شروط حيازة الممتلكات، والعديد من الولايات تمسكت بإجراء اختبار ديني، على الأقل فترة من الزمن. عبر جون آدمز عن الرأي السائد حينئذ بقوله: «تلك هي نقيصة القلب البشري، فقلة قليلة جدا من الرجال غير أصحاب الممتلكات، هم الذين يكون لهم رأي مستقل خاص بهم.»
4
من الأسهل تعقب التسلسل التاريخي الأساسي لتوسيع نطاق الحقوق في فرنسا؛ نظرا لأن الحقوق السياسية كان يحددها التشريع القومي، في حين أنه في الولايات المتحدة الجديدة، كانت الولايات الفردية هي ما ينظم هذه الحقوق. في الأسبوع الذي امتد من 20 إلى 27 أكتوبر عام 1789، أصدر النواب سلسلة من المراسيم تحكم شروط أهلية التصويت: (1) أن تكون فرنسيا أو أصبحت فرنسيا بالتجنس. (2) أن تكون قد بلغت سن الرشد، التي كانت الخامسة والعشرين حينها. (3) أن تكون قد أقمت في منطقة الدائرة الانتخابية لمدة عام على الأقل. (4) أن تسدد الضرائب المباشرة بمعدل يساوي القيمة المحلية لثلاثة أيام عمل (وكان يفرض معدل أعلى للحصول على أهلية شغل وظيفة حكومية). (5) ألا تكون خادما في المنازل. ولم يأت النواب على ذكر الدين أو العرق أو الجنس عند وضع هذه الشروط، مع أن افتراض حرمان النساء والعبيد كان واضحا تماما.
على مدار الأشهر والسنوات التالية، أثارت جماعة تلو الأخرى نقاشا معينا، وأخيرا حصل معظمهم على حقوق سياسية متساوية؛ فقد حصل الرجال البروتستانت على حقوقهم في الرابع والعشرين من ديسمبر عام 1789، وانطبق نفس الشيء على الرجال من مختلف المهن. وأخيرا حصل الرجال اليهود على نفس الحقوق في السابع والعشرين من سبتمبر عام 1791. وحصل بعض الرجال، وليس الكل، من السود الأحرار على الحقوق السياسية في مايو عام 1791، ليفقدوها مرة أخرى في الرابع والعشرين من سبتمبر من نفس العام، ثم يستردوها مرة أخرى وتطبق بصورة أعم في الرابع من أبريل عام 1792. وفي العاشر من أغسطس من عام 1792، امتدت حقوق التصويت لتشمل جميع الرجال (في الحضر الفرنسي) فيما خلا الخدم وغير العاملين. وفي الرابع من فبراير عام 1794، ألغيت العبودية ومنحت الحقوق المتساوية للعبيد مبدئيا على الأقل. وعلى الرغم من هذا التوسيع للحقوق السياسية الذي يكاد لا يصدق لتنضم جماعات كانت محرومة من حقوق التصويت فيما مضى، فقد كانت حدود هذا التوسع تقف عند المرأة: فالمرأة لم تحصل قط على حقوق سياسية متساوية إبان الثورة، غير أنها حصلت على حقوق إرث متساوية والحق في الطلاق.
منطق الحقوق: الأقليات الدينية
كشفت الثورة الفرنسية، أكثر من أي حدث آخر أن حقوق الإنسان لها منطق داخلي. ففيما جابه النواب الحاجة إلى تحويل مثلهم الرفيعة إلى قوانين محددة، فإنهم كونوا بدون قصد مقياسا لقابلية التطبيق أو قابلية التصور. لم يدرك أحد مقدما أي جماعة ستناقش حقوقها، أو متى سيثار النقاش، أو ما سيكون الحل لوضعها. لكن سرعان ما أصبح من الجلي أن منح الحقوق لبعض الجماعات (البروتستانت على سبيل المثال) أسهل في التصور من منحها للبعض الآخر (النساء). لقد فرض منطق العملية أنه بمجرد أن يدور النقاش حول جماعة تتمتع بمستوى مرتفع على مقياس قابلية تصور حصولها على تلك الحقوق (الرجال البروتستانت أصحاب الممتلكات مثلا)، فإن من ينتمون للفئة نفسها لكنهم عند مستوى أدنى على مقياس قابلية تصور حصولهم على الحقوق (الرجال اليهود غير ذوي الممتلكات) حتما سيظهرون على أجندة الحقوق. ولم يكن منطق العملية يحرك الأحداث بالضرورة في خط مستقيم للأمام، لكنه كان ينزع إلى ذلك على المدى الطويل. وهكذا، استغل معارضو حقوق اليهود - على سبيل المثال - قضية البروتستانت (فهم مسيحيون على الأقل، بخلاف اليهود) لإقناع النواب بإرجاء قضية حقوق اليهود. ومع ذلك، في خلال فترة لم تتجاوز العامين، حصل اليهود على الحقوق المتساوية، ويعزى هذا جزئيا إلى أن المناقشة الصريحة لحقوقهم جعلت منح الحقوق المتساوية لليهود أكثر قابلية للتصور.
أثناء تطبيق هذا المنطق عمليا، تبين أن طبيعة «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» التي يفترض أنها طبيعة تجريدية ميتافيزيقية، هي أحد الأصول الثمينة للغاية. ولأنه بالتحديد نحى جانبا أي مسائل تتعلق بالتفاصيل، فإن النقاش الذي دار على مدار شهري يوليو حتى أغسطس عام 1789 حول المبادئ الأساسية ساعد في تحفيز طرق تفكير عززت أخيرا ظهور تفاسير أكثر جوهرية للتفاصيل المطلوبة. لقد صمم الإعلان كي يعبر بوضوح عن الحقوق العالمية للبشرية والحقوق السياسية بصفة عامة للأمة الفرنسية ومواطنيها. ولم يعرض الإعلان أهليات محددة للمشاركة الفعالة. فتأسيس حكومة يتطلب الانتقال من التعميم إلى التفصيل؛ وعند الإعداد للانتخابات، بات تحديد أهليات التصويت وتولي المناصب ضرورة ملحة. فميزة البدء بالتعميم غدت واضحة بمجرد طرح التفاصيل.
كان البروتستانت هم أول جماعة هوية دينية ينظر إليها بعين الاعتبار، ومناقشة وضعهم أعطى سمة دائمة للنزاعات التالية، هي أنه لا يمكن أخذ جماعة بعين الاعتبار بمعزل عن الجماعات الأخرى. لا يمكن إثارة قضية البروتستانت دون إثارة قضية اليهود؛ وبالمثل لا سبيل إلى طرح قضية الممثلين للنقاش دون إثارة قضية الجلادين؛ أو حقوق السود الأحرار دون الالتفات إلى العبيد. وعندما تناول مؤلفو الكتيبات حقوق المرأة، حتما قارنوها بحقوق الرجال غير ذوي الممتلكات وحقوق العبيد، بل واعتمدت المناقشات بشأن سن الرشد (التي خفضت من الخامسة والعشرين إلى الحادية والعشرين في عام 1792) على مقارنته بالطفولة. كان وضع وحقوق كل من البروتستانت، واليهود، والسود الأحرار، والمرأة يعتمد بدرجة كبيرة على مكانهم في شبكة الجماعات الأكبر التي تشكل الكيان السياسي للدولة.
كانت قد أثيرت بالفعل قضية البروتستانت واليهود معا من قبل في النقاشات حول صياغة الإعلان؛ فقد أكد النائب الشاب النبيل الكونت دي كاستيلان أنه ينبغي أن ينعم كل من البروتستانت واليهود «بالحق الأكثر قداسة بين جميع الحقوق؛ ألا وهو حق حرية المعتقد». بل إنه أكد أنه لا يجب ذكر دين محدد في الإعلان. أشار رباءوت سانت إتيان، الذي كان هو نفسه قسا كالفينيا من مقاطعة لانجيدوك حيث يقطن الكثيرون من الكالفينيين، إلى الطلب المتعلق بقائمة التظلم المحلية التي قدمها من أجل حرية الدين لغير الكاثوليك، وقد حصر رباءوت اليهود صراحة من ضمن غير الكاثوليك - غير أن نقاشه، شأنه شأن جميع المشتركين في الحوار - انصب على حرية المعتقد الديني، وليس على الحقوق السياسية للأقليات. وبعد ساعات من النقاش المحتدم، أقر النواب مادة لتسوية النزاع في أغسطس لم تأت على أي ذكر للحقوق السياسية (المادة العاشرة من الإعلان): «لا يجوز التعرض لأحد لما يبديه من الأفكار حتى في المسائل الدينية على شرط أن تكون هذه الأفكار غير مخلة بالأمن العام.» وكانت الصياغة غامضة عن عمد حتى إن البعض فسرها على أنها انتصار لصالح المحافظين الذين عارضوا باستماتة حرية الدين. ألن تكدر عبادة البروتستانت العلنية «الأمن العام»؟
5
بحلول ديسمبر - بعدها بأقل من ستة أشهر - سلم معظم النواب بحرية المعتقد الديني. ولكن هل كانت حرية الاعتقاد الديني حينها تعني تساوي الحقوق السياسية للأقليات الدينية بالمثل؟ أثار برونيه دي لاتيك قضية الحقوق السياسية للبروتستانت بعد أسبوع فقط من تحرير لوائح انتخابات البلدية في الرابع عشر من ديسمبر عام 1789؛ فقد أخبر زملاءه أن غير الكاثوليك استبعدوا من القوائم الانتخابية بحجة أن أسماءهم لم تكن مدرجة في القوائم، وقال راجيا: «من المؤكد أيها السادة أنكم لم ترغبوا في أن تسمحوا للآراء الدينية أن تكون سببا رسميا لحرمان بعض المواطنين والسماح للبعض الآخر.» وكان خطاب برونيه مؤثرا ومعبرا؛ فالنواب الآن أصبحوا مضطرين إلى تفسير أفعالهم السابقة في ضوء الحاضر. فقد أراد مناوئو البروتستانت أن يدعوا أن البروتستانت لم تتسن لهم المشاركة لأن الجمعية لم تصوت على مرسوم يسمح بهذا؛ فعلى أي حال البروتستانت مستبعدون من المناصب السياسية بموجب القانون منذ إلغاء «مرسوم النانت» الصادر عام 1685، ولم يصدر منذ ذلك الحين أي قانون يعيد لهم وضعهم السياسي رسميا. وزعم برونيه ومؤازروه أن المبادئ العامة المنصوص عليها في «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» لم تقر بأي استثناءات؛ وأن جميع أولئك الذين استوفوا شروط الأهلية من حيث السن وحيازة الممتلكات لا بد أن يعتبروا تلقائيا مؤهلين، وأن القيود السابقة المفروضة على البروتستانت من ثم لم تعد ملزمة.
6
بعبارة أخرى، كانت العالمية المجردة للإعلان تعود لتفرض نفسها، فلا برونيه ولا أي شخص آخر أثار قضية حقوق المرأة في تلك اللحظة؛ فعلى ما يبدو لم تشتمل الأهلية التلقائية على الفرق في النوع الاجتماعي. لكن في اللحظة التي أثير فيها وضع البروتستانت بهذه الطريقة، انفتحت الأبواب أمام فيضان، واستجاب بعض النواب لهذا بفزع. أثار توسيع منح الحقوق الذي اقترحه كليرمونت تونير، بحيث يمتد من البروتستانت ليشمل كافة الأديان والمهن، نقاشا محتدا. وعلى الرغم من أن النقاش كان قد بدأ بقضية البروتستانت، فقد أصبح الجميع يقرون بأنهم ينبغي أن ينعموا بنفس الحقوق شأنهم شأن الكاثوليك. وأثار أمر منح الحقوق للجلادين والممثلين اعتراضات فردية واهنة للغاية، فيما أثار اقتراح منح الحقوق السياسية لليهود موجة عنيفة من الاعتراضات. فحتى أحد النواب المتقبلين لتحرير اليهود في نهاية الأمر أكد قائلا: «إن كسلهم وتقصيرهم، وافتقارهم إلى اللباقة والذوق، وهي نتيجة حتمية للقوانين والأوضاع المهينة التي تعرضوا لها في أماكن عدة، جميعها تتضافر لجعلهم ممقوتين.» ومن وجهة نظره، لن يفلح منحهم الحقوق إلا في إثارة رد فعل شعبي عنيف ضد اليهود (وكانت أعمال شغب مناوئة لليهود قد اندلعت بالفعل في شرق فرنسا). وفي الرابع والعشرين من ديسمبر، 1789 - في عشية عيد الميلاد - صوتت الجمعية على قرار منح الحقوق السياسية المتساوية «لغير الكاثوليك» وأرباب كافة المهن مع تأجيل مسألة الحقوق السياسية لليهود. ومن الواضح أن التصويت لصالح منح حقوق البروتستانت كان هائلا وفقا لما ورد عن المشاركين، وكتب أحد النواب في مذكراته عن «البهجة التي تجلت في أوضح صورها لحظة صدور المرسوم».
7
كان تبدل الآراء بشأن البروتستانت مذهلا؛ فقبل «مرسوم التسامح» الذي صدر عام 1787، لم يكن مسموحا للبروتستانت قانونيا أن يمارسوا دينهم أو يتزوجوا أو يورثوا ممتلكاتهم، وبعد عام 1787، بات بمقدورهم ممارسة عباداتهم الدينية، والزواج أمام المسئولين المحليين، وتقييد أبنائهم في سجل المواليد. غير أنهم حصلوا بذلك على الحقوق المدنية فقط وليس حقوق المشاركة السياسية المتساوية، علاوة على أنهم ظلوا لا ينعمون بحقهم في مزاولة عبادتهم الدينية على الملأ، فقد كان هذا حكرا على الكاثوليك وحدهم. وكانت بعض المحاكم العليا قد استمرت في مناهضة تطبيق المرسوم حتى عامي 1788 و1789. من ثم لم يكن واضحا بالمرة في أغسطس أن معظم النواب يؤيدون الحرية الحقيقية في اختيار الدين، غير أنه بحلول نهاية ديسمبر، منح النواب حقوقا سياسية متساوية للبروتستانت.
ما الذي يفسر تبدل رأيهم؟ عزا رباءوت سانت إتيان هذا التغير في الرأي والتوجه إلى إظهار النواب البروتستانت تحملهم للمسئولية المدنية؛ فقد اختير أربعة وعشرون نائبا بروتستانتيا، بمن فيهم هو نفسه، في عام 1789. وكان البروتستانتيون يتقلدون المناصب المحلية حتى قبل ذلك الحين على الرغم من الحظر الرسمي لهذا الأمر، وفي خضم الريبة التي سادت الشهور المبكرة من عام 1789، شارك العديد من البروتستانت في انتخابات الانضمام إلى «طبقة العوام». يرجع المؤرخ البارز للجمعية الوطنية، تيموثي تاكيت، تبدل الآراء بشأن البروتستانت إلى صراعات سياسية داخلية في الجمعية؛ إذ وجد النواب المعتدلون أن الأسلوب المعرقل الذي يتبناه اليمينيون بغيض للغاية ومن ثم انحازوا إلى اليساريين، الأمر الذي ساعد في منح الحقوق. غير أنه حتى المثال الرئيسي الذي استخدمه تاكيت للإشارة إلى أسلوب العرقلة، النائب المشاكس القس جان موري، كان في مصلحة حقوق البروتستانت. فموقف موري يقدم دليلا للعملية؛ لأنه ربط بين دعم الحقوق السياسية للبروتستانت وإنكار حقوق اليهود: «يدين البروتستانت بنفس ديننا وقوانيننا ... هم ينعمون بنفس الحقوق بالفعل.» وقد سعى موري بهذه الطريقة إلى أن يفرق بين البروتستانت واليهود. غير أن اليهود الإسبانيين والبرتغاليين الذين يقطنون جنوب فرنسا بدءوا على الفور في الإعداد لتقديم عريضة للجمعية الوطنية يزعمون فيها أنهم هم أيضا كانوا يمارسون بالفعل حقوقهم السياسية على المستوى المحلي، ولم تفلح محاولة ضرب إحدى الأقليات الدينية بأخرى سوى في توسيع الصدع.
8
تغير وضع البروتستانت عن طريق النظرية والممارسة، أي عن طريق نقاش المبادئ العامة لحرية الاعتقاد والمشاركة الفعالة للبروتستانت في الشئون المحلية والقومية. وكان برونيه دي لاتيك قد أشار إلى المبدأ العام عندما ادعى أن النواب لن يسمحوا «للآراء الدينية أن تكون سببا رسميا لحرمان بعض المواطنين والسماح للبعض الآخر». ولما لم يرغب موري في أن يعترف بالنقطة العامة، اضطر أن يقر بالنقطة العملية؛ فالبروتستانت مارسوا بالفعل نفس الحقوق مثل الكاثوليك. وكان النقاش العام الذي دار في أغسطس قد ترك عمدا هذه المسائل عالقة، ليفتح الباب أمام التأويلات اللاحقة، والأكثر أهمية، لكي لا يقطع الطريق على المشاركة في الشئون المحلية. وسارع البروتستانت وبعض اليهود لتحقيق الاستفادة القصوى من الفرص الجديدة المتاحة أمامهم.
على عكس البروتستانت الذين عاشوا قبل «مرسوم التسامح» الصادر عام 1787، لم يتعرض اليهود الفرنسيون لأي عقوبات بسبب مجاهرتهم بدينهم، لكنهم نعموا بالقليل من الحقوق المدنية ولم يذوقوا طعم الحقوق السياسية. في الواقع، كانت مسألة انتماء اليهود إلى فرنسا موضع تساؤل. إن الكالفينيين فرنسيون ضلوا الطريق باعتناق الهرطقة، في حين أن اليهود غرباء في الأصل شكلوا أمة منفصلة داخل فرنسا . من ثم كان اليهود الألزاسيون معروفين رسميا باسم «أمة الألزاس اليهودية»، غير أن اللفظة «أمة» كان لها معنى أقل وطنية في ذلك الحين عن معناها اللاحق في القرنين التاسع عشر والعشرين. وعلى غرار معظم اليهود في فرنسا، شكل اليهود الألزاسيون أمة، لدرجة أنهم عاشوا داخل مجتمع يهودي تحدد حقوقه وواجباته بموجب خطابات امتياز خاصة صادرة من الملك، وكانوا ينعمون بحق إدارة بعض شئونهم الخاصة، بل والبت في القضايا في محاكمهم الخاصة؛ غير أنهم عانوا أيضا من مجموعة متنوعة من القيود المفروضة على أنواع التجارة التي يمكنهم مزاولتها، والأماكن التي يمكنهم العيش فيها، والمهن التي يمكن أن يتطلعوا إليها.
9
كان كتاب عصر النهضة قد كتبوا مرارا وتكرارا عن اليهود، ولم تكن كتاباتهم إيجابية دائما، وبعد منح الحقوق المدنية للبروتستانت عام 1787، تحولت الأنظار شطر تحسين وضع اليهود. شكل الملك لويس السادس عشر لجنة لدراسة القضية في عام 1788، أي بعد فوات الأوان على اتخاذ أي إجراءات قبل اندلاع الثورة. ومع أن مسألة الحقوق السياسية لليهود حظيت بمرتبة أقل من حقوق البروتستانت من حيث إمكانية تصورها وتحقيقها، فإن اليهود استفادوا في نهاية الأمر من التفات الأنظار إليهم. غير أن النقاش الصريح لم يتحول فورا إلى حقوق ممنوحة. تحررت سبع وثلاثمائة قائمة تظلم في ربيع 1789 تذكر اليهود صراحة، غير أن الآراء حولها انقسمت انقساما حادا بين مؤيد ومعارض. دعا سبعون بالمائة من الآراء بقوة إلى تحديد عدد اليهود المسموح بوجودهم في فرنسا، وتسعة بالمائة أيدت طردهم، بينما دعا نحو تسعة إلى عشرة بالمائة فقط إلى تحسين ظروفهم. ومن دون الآلاف من قوائم التظلم، أيدت ثماني قوائم فحسب منح حقوق متساوية لليهود. ومع ذلك كان هذا الرقم أكبر من القوائم التي طالبت بنفس الحق للمرأة.
10
يبدو أن حقوق اليهود تتفق مع القاعدة العامة التي تقول إن الجهود الأولى لإثارة قضية الحقوق تأتي غالبا بنتائج عكسية. فموقف قوائم التظلم السلبي إلى حد كبير أذن برفض النواب منح الحقوق السياسية لليهود في ديسمبر عام 1789، غير أنه على مدار العشرين شهرا التالية، دفع منطق الحقوق النقاش إلى الأمام. وبعد مرور شهر واحد فحسب من إرجاء مناقشة حقوق اليهود، قدم اليهود الإسبانيون والبرتغاليون القاطنون في جنوب فرنسا عريضة إلى الجمعية الوطنية يدعون فيها أنهم كانوا، على غرار البروتستانت، يشاركون بالفعل في السياسة في بعض مدن جنوب فرنسا مثل مدينة بوردو. وقام الأسقف الكاثوليكي تشارلز موريس دي تاليران بريجور، بالإنابة عن اللجنة المعنية بوضع الدستور، بالتصديق على وضعهم؛ فقد أكد على أن اليهود لم يكونوا يطالبون بحقوق مواطنة جديدة، إنما يطالبون فقط «بالاستمرار في التمتع بهذه الحقوق»؛ لأنهم كانوا يمارسونها بالفعل شأنهم شأن البروتستانت. وعليه، منحت الجمعية الحقوق لبعض اليهود دون تغيير وضع اليهود بصفة عامة. وبهذه الطريقة، أمكن تحويل حجة الممارسة العملية الفعلية ضد أولئك الذين رغبوا في التمييز الفئوي.
11
أثار حديث تاليران سخطا عنيفا، لا سيما وسط نواب منطقة ألزاس-لورين، التي كانت تأوي أكبر عدد من السكان اليهود. وكان يهود شرقي فرنسا هم يهود أشكيناز الذين يتحدثون اللغة اليديشية. كان الرجال يعفون اللحية، على خلاف اليهود السفارديم القاطنين في بوردو، وقد قصرت عليهم القوانين الفرنسية إلى حد كبير امتهان مهن الربا والبيع المتجول. ولم يكن هناك الكثير من الود بينهم وبين الفلاحين المدينين لهم. وعليه، لم يتوان نواب هذه المنطقة عن توضيح العواقب الوخيمة الحتمية المترتبة على اتباع مبادرة تاليران: «إن الاستثناء الممنوح لليهود القاطنين في بوردو [أغلبهم من يهود السفارديم] سرعان ما سينتج عنه منح نفس الاستثناء لليهود الآخرين في أنحاء المملكة.» غير أنه وسط الاعتراضات العنيفة، صوت ثلاثمائة وأربعة وسبعون نائبا مقابل مائتين وأربعة وعشرين نائبا بأن «كل اليهود المعروفين كيهود برتغاليين، وإسبانيين، وأفينيونيين سوف يستمرون في ممارسة الحقوق التي كانوا يمارسونها حتى الوقت الحاضر» وعليه سوف «يمارسون حقوق المواطنين الفاعلين ما داموا يستوفون الشروط المنصوص عليها في مراسيم الجمعية الوطنية [المتعلقة بالمواطنة الفعالة]».
12
أدى التصويت لصالح منح الحقوق لبعض اليهود إلى أن أصبح رفض منحها للبعض الآخر أكثر صعوبة على المدى الطويل؛ ففي السابع والعشرين من سبتمبر عام 1791، ألغت الجمعية كافة التحفظات والاستثناءات السابقة فيما يتعلق باليهود، ومن ثم منحتهم جميعا حقوقا متساوية، وقد طلبت أيضا أن يحلف اليهود بالقسم المدني متنازلين عن الامتيازات الخاصة والإعفاءات الممنوحة لهم من الحكومة الملكية. يقول كليرمونت تونير: «لا بد أن نرفض كل شيء لليهود باعتبارهم أمة ونقر بكل شيء لليهود بصفتهم أفرادا.» وكمقابل لتخليهم عن محاكمهم وقوانينهم الخاصة، سيصبحون مواطنين فرنسيين أفرادا شأنهم شأن الجميع. وهكذا عملت النظرية والممارسة العملية معا مرة أخرى في علاقة ديناميكية تتسم بالفعالية. فبدون النظرية، بمعنى المبادئ المنصوص عليها في الإعلان، ما كانت الإشارة إلى بعض اليهود الذين يمارسون هذه الحقوق بالفعل لتحدث أثرا؛ وبدون الإشارة إلى الممارسة العملية، فلربما ظلت النظرية مجرد وثيقة ميتة (كما كان حالها فيما يتعلق بحقوق المرأة).
13
غير أن الحقوق لم تكن تمنحها الهيئة التشريعية فحسب؛ فقد حفزت النقاشات حول الحقوق مجتمعات الأقليات للتعبير عن نفسها والمطالبة بتقدير متساو. لقد تمتع البروتستانت بفرصة أعظم للتعبير؛ نظرا لأنهم كانوا يستطيعون التحدث من خلال نوابهم المنتخبين بالفعل في الجمعية الوطنية. إلا أن اليهود الباريسيين، الذين لم يكن لهم وضع مشترك وبلغ إجمالي عددهم بضع مئات فحسب، قدموا أول عريضة لهم إلى الجمعية الوطنية في أوائل أغسطس عام 1789، كانوا يطلبون من النواب بالفعل أن «يعترفوا بحقوقنا كمواطنين». وبعدها بأسبوع، نشر ممثلون من مجتمع أكبر بكثير من اليهود في ألزاس ولورين خطابا مفتوحا يطالبون فيه بالمواطنة أيضا. عندما اعترف النواب بحقوق يهود جنوب فرنسا في يناير 1790، اتحد يهود باريس وألزاس ولورين معا لتقديم عريضة مشتركة، ولما كان بعض النواب يتساءلون هل يريد اليهود فعلا الحصول على الجنسية الفرنسية، أوضح مقدمو العريضة موقفهم وضوح الشمس: «هم يطالبون بإلغاء الفروق المهينة التي يعانون منها حتى يومنا هذا وبإعلانهم «مواطنين».» وقد عرف مقدمو العريضة الوتر الحساس الذي ينقرون عليه بالضبط؛ فبعد استعراض طويل لكل الإجحاف والظلم المستمر منذ عهود طويلة، ختموا عريضتهم بتوسل للحتمية التاريخية: «كل شيء يتغير؛ ولا مفر من أن يتغير قدر اليهود مع هذا التغير؛ ولن تزيد دهشة الناس لرؤية هذا التغيير تحديدا وسط كل هذه التغيرات الحادثة من حولهم كل يوم ... لنربط التحسن في قدر اليهود بالثورة، أي أن ندمج، إذا جاز التعبير، هذه الثورة الجزئية في الثورة العمومية.» وأرخ مقدمو العريضة كتيبهم بنفس تاريخ اليوم الذي صوتت فيه الجمعية على منح الاستثناء ليهود جنوب فرنسا.
14
في غضون عامين، كانت الأقليات الدينية قد نالت حقوقا متساوية في فرنسا. بالطبع لم ينته التمييز والظلم، لا سيما فيما يخص اليهود. ومع ذلك يمكن قياس عظمة مثل هذا التغيير الذي حدث خلال فترة وجيزة من الزمن بإجراء مقارنة بسيطة؛ ففي بريطانيا العظمى، حصل الكاثوليك للمرة الأولى على حق الالتحاق بالقوات المسلحة، والجامعات، والقضاء في عام 1793، فيما اضطر اليهود البريطانيون إلى الانتظار حتى عام 1845 لنيل نفس الحقوق؛ وأمكن انتخاب الكاثوليك في البرلمان البريطاني بعد عام 1829، واليهود بعد عام 1858. وكان الوضع أفضل بعض الشيء في الولايات المتحدة؛ فلم يحظ السكان اليهود المحدودون في المستعمرات البريطانية بأمريكا الشمالية البالغ عددهم زهاء الألفين والخمسمائة فقط بأي مساواة سياسية. وبعد الاستقلال، استمرت معظم الولايات المتحدة الجديدة تقصر تولي المناصب (والتصويت في بعض الولايات) على البروتستانت. وكفل أول تعديل للدستور، الذي حرر في سبتمبر عام 1789 وصدق عليه في عام 1791، حرية الاعتقاد، وبعد ذلك الحين ألغت الولايات بالتدريج المعايير الدينية. وسارت العملية - كالعادة - على نفس المنوال الذي سارت عليه في بريطانيا: أن يحصل الكاثوليك أولا على كامل الحقوق السياسية ثم يتبعهم اليهود؛ فقد فتحت ولاية ماساتشوستس على سبيل المثال في عام 1780 باب تولي المناصب لأي شخص «ينتمي للديانة المسيحية»، في حين أنها لم تفتح هذا الباب لكل الأديان حتى عام 1833. وعقب مبادرة جيفرسون، تحركت ولاية فيرجينيا بخطى أسرع مانحة الحقوق المتساوية في عام 1785، ثم تبعتها ولايتا كارولينا الجنوبية وبنسلفانيا في عام 1790. أما ولاية رود آيلاند فلم تطبق هذا إلا في عام 1842.
15
السود الأحرار، والرق، والعرق
يمكن رؤية القوة الهائلة لمنطق الحقوق الثوري أكثر وضوحا في القرارات الفرنسية بشأن السود الأحرار والعبيد . ومرة أخرى ستكون المقارنة ذات مغزى هنا؛ فقد منحت فرنسا الحقوق السياسية المتساوية للسود الأحرار في عام 1792 وحررت العبيد في عام 1794، أي قبل أن تفعل ذلك أي أمة أخرى لديها عبيد بوقت طويل. ومع أن الدولة الجديدة في الولايات المتحدة بادرت بمنح الحقوق للأقليات الدينية قبل أن يفعل أبناء عمومتهم البريطانيون ذلك بوقت طويل، فإنها تلكأت للغاية عندما تعلق الأمر بالعبيد؛ فبعد سنوات من حملات العرائض التي تصدرها المؤيدون لجماعة الكويكرز من أجل إلغاء الرق، صوت البرلمان البريطاني على التوقف عن المشاركة في تجارة الرقيق في عام 1807، وقرر عام 1833 إلغاء تجارة الرقيق في المستعمرات البريطانية. وكان الوضع في الولايات المتحدة أكثر سوءا؛ لأن مؤتمر كتابة الدستور الذي انعقد عام 1787 لم يمنح الحكومة الفيدرالية حق التحكم في مسألة الرق. ومع أن الكونجرس صوت أيضا على منع استيراد الرقيق في عام 1807، فإن الولايات المتحدة لم تلغ الرق رسميا حتى عام 1865، عندما جرى التصديق على التعديل الثالث عشر في الدستور. زد على ذلك أن وضع السود الأحرار تردى بالفعل في العديد من الولايات بعد عام 1776، بالغا الحضيض في قضية دريد سكوت المشينة عام 1857 عندما أعلنت المحكمة العليا للولايات المتحدة أنه لا العبيد ولا السود الأحرار يعدون مواطنين. ولم ينقلب وضع دريد سكوت إلا في عام 1868 عندما صدق على التعديل الرابع عشر في دستور الولايات المتحدة، الذي كفل أن «جميع الأشخاص الذين ولدوا في الولايات المتحدة أو حصلوا على الجنسية فيها ويخضعون لسلطتها، هم مواطنون في الولايات المتحدة وفي الولاية التي يقيمون فيها».
16
اقتدى مؤيدو إلغاء الرق في فرنسا بالإنجليز عن طريق تكوين جمعية شقيقة في عام 1788 على غرار «الجمعية البريطانية لإلغاء تجارة الرقيق». ولما كانت «جمعية أصدقاء السود» تفتقر إلى الدعم الكبير من الجمهور، فقد كان من المحتمل أن تتعثر وتخفق لولا أحداث عام 1789 التي وضعتها في بؤرة الضوء. لم يكن تجاهل آراء «جمعية أصدقاء السود» ممكنا؛ إذ كان من ضمن أعضائها البارزين بريسوت، وكوندرسيه، ولافاييت، والقس بابتيست هنري جريجوار، وجميعهم من مؤيدي حملات حقوق الإنسان المعروفين في ميادين أخرى. كان جريجوار، وهو كاهن كاثوليكي من لورين، قد نادى حتى قبل عام 1789 بتخفيف القيود المفروضة على اليهود في شرق فرنسا، وفي عام 1789 نشر كتيبا يؤيد فيه منح الحقوق المتساوية للرجال الأحرار من الملونين. ولفت جريجوار الأنظار إلى العنصرية المتفشية في مستعمرات البيض قائلا: «أعلن البيض - مدعومين بالقوة إلى جانبهم - على نحو جائر أن البشرة الداكنة تقصي المرء عن الاستفادة من مزايا المجتمع.»
17
غير أن منح الحقوق للأحرار من السود والمولودين لوالد أبيض وآخر أسود، وإلغاء الرق، أمران لا يتحققان بواسطة الهتاف والتهليل فحسب؛ ففي الجمعية الوطنية الجديدة كان عدد أولئك الذين خشوا المساس بنظام الرق والثروات الطائلة التي يجلبها على فرنسا يفوق جدا عدد المؤيدين لإلغاء الرق. نجح المزارعون والتجار البيض في مدن الموانئ المطلة على الأطلنطي في تصوير «أصدقاء السود» على أنهم متحمسون عاقدون العزم على تهييج العبيد وتحريضهم على التمرد. وفي الثامن من مارس عام 1790، صوت النواب على إقصاء المستعمرات من الدستور، ومن ثم إقصاؤها من «إعلان حقوق الإنسان والمواطن». أوضح المتحدث الرسمي باسم اللجنة الاستعمارية أنطوان بارنيف أن: «التطبيق الصارم والشامل للمبادئ العامة لا يمكن أن يكون ملائما [للمستعمرات] ... فاختلاف الأماكن، والعادات، والمناخ، والمنتجات يقتضي - كما يتراءى لنا - قوانين مختلفة أيضا.» وقد جرم المرسوم أيضا إثارة الاضطرابات في المستعمرات.
18
وعلى الرغم من هذا الرفض، فإن الحديث عن الحقوق وصل إلى قاع السلم الاجتماعي في المستعمرات على نحو حتمي لا سبيل إلى اجتنابه. بدأ هذا الحديث من القمة بالمزارعين البيض في أكبر المستعمرات وأغناها، وهي مستعمرة سان دومينجو (هايتي الآن)، الذين طالبوا في منتصف عام 1788 بإصلاحات في تجارة المستعمرات وبتمثيلهم في اجتماعات «طبقة العوام» القادمة. ولم يمض وقت طويل حتى توعدوا بالمطالبة بالاستقلال، مثل مستعمرات أمريكا الشمالية، إذا ما حاولت الحكومة المحلية التدخل في نظام الرق. ومن ناحية أخرى، توقع البيض من الطبقات الأدنى أن تحقق لهم الثورة الفرنسية الإنصاف من البيض الأكثر ثراء الذين لم تكن لديهم أي رغبة في تشارك السلطة السياسية مع الحرفيين وأصحاب المتاجر.
كان الأمر الأكثر خطورة على الوضع الراهن هو المطالب المتزايدة للأحرار السود والمولودين لوالد أبيض وآخر أسود؛ فبمقتضى مرسوم ملكي أقصى من المشاركة في معظم المهن أو حتى من الانتساب إلى أقارب بيض الملونون الأحرار الذين كانوا بالرغم من ذلك يحوزون ممتلكات هائلة للغاية؛ إذ كانوا يملكون - على سبيل المثال - ثلث المزارع وربع العبيد في سان دومينجو؛ لذا أرادوا أن يعاملوا على قدم المساواة مع البيض حتى مع الإبقاء على نظام الرق. حاول فينسنت أوجي، أحد مفوضيهم إلى باريس في عام 1789، أن يقنع أصحاب المزارع من البيض بضرورة منحهم حقوقا متساوية من خلال التأكيد على مصالحهم المشتركة بصفتهم ملاك مزارع فقال: «سنشهد إراقة للدماء، واقتحاما للأراضي، وتخريبا للصناعة، وحرقا للمنازل ... سيستعر تمرد العبيد أكثر.» وكان الحل الذي اقترحه لدرء ذلك هو منح حقوق متساوية لأمثاله من الملونين الأحرار الذين بمقدورهم أن يساعدوا في احتواء العبيد، على الأقل في الوقت الراهن. وعندما فشل توسله إلى أصحاب المزارع البيض وتبين أن دعم «أصدقاء السود» عديم النفع أيضا، عاد إلى سان دومينجو، وفي ربيع عام 1790 أعلن تمرد الملونين الأحرار، وفشل التمرد، وسحقت عظامه على العجلة.
19
لكن دعم حقوق الملونين الأحرار لم يتوقف عند هذه النقطة؛ ففي باريس نجد أن التحريض المستمر الذي صنعه «أصدقاء السود» نجح في استصدار مرسوم في مايو عام 1791 بالحقوق السياسية لجميع الرجال الملونين الأحرار المولودين لآباء وأمهات أحرار. وبعد أن تمرد العبيد في سان دومينجو في أغسطس 1791، ألغى النواب المرسوم الذي تكبله قيود شديدة ليحل محله مرسوم أكثر كرما في أبريل عام 1792. ولم يكن مستغربا أن يتصرف النواب بارتباك؛ لأن الموقف على الأرض في المستعمرة كان محيرا. كان تمرد العبيد الذي بدأ في منتصف أغسطس 1791 قد جذب عددا كبيرا وصل إلى 10000 ثائر بنهاية الشهر، واستمر العدد في الزيادة بسرعة هائلة. ذبحت جماعات العبيد المسلحة البيض وحرقت حقول قصب السكر والمنازل. وعلى الفور ألقى أصحاب المزارع باللوم على «أصدقاء السود» وعلى انتشار «سخافات حقوق الإنسان».
20
وماذا كان موقف الملونين الأحرار من هذا الصراع؟ لقد كانوا من قبل يخدمون في الميليشيات المنوط بها إلقاء القبض على الرقيق الفارين، وأحيانا كانوا هم أنفسهم يمتلكون العبيد. وفي عام 1789، وصفهم «أصدقاء السود» بأنهم حصن يقف في وجه ثورة العبيد المحتملة، وأيضا وسطاء في أي إلغاء وارد للرقيق. والآن ها قد اندلعت ثورة العبيد بالفعل. وبدأت أعداد متزايدة من النواب في باريس، الذين كانوا قد رفضوا في البداية وجهة نظر «أصدقاء السود»، تعترف بوجهة النظر هذه في مطلع عام 1792. وتمنوا أن يتحالف الملونون الأحرار مع القوات الفرنسية والبيض من الطبقة الأدنى ضد المزارعين والعبيد. وطرح النائب أرماند جاي كيرسانت - الذي كان يعمل ضابطا سابقا رفيع الشأن بالبحرية وصاحب مزرعة - حجة تقول: «هذه الطبقة [البيض الفقراء] تتلقى الدعم من الملونين الأحرار الذين يقتنون الممتلكات؛ فهذا هو فرع الجمعية الوطنية على هذه الجزيرة ... لذا فإن مخاوف سكان مستعمراتنا [أصحاب المزارع البيض] لها ما يبررها؛ لأن لديهم كل المسوغات للخوف من تأثير ثورتنا على عبيدهم. إن حقوق الإنسان تقلب النظام الذي تعتمد عليه ثرواتهم ... ولن ينجوا [سكان المستعمرات] بحيواتهم وثرواتهم إلا عندما يغيرون مبادئهم.» ومضى النائب أرماند في دعوته إلى أن وصل إلى الإلغاء التدريجي للرق نفسه. وفي واقع الأمر، لعب الأحرار السود والسمر دورا غامضا طيلة فترة انتفاضة العبيد؛ فتارة يتحالفون مع البيض ضد العبيد وأخرى يتحالفون مع العبيد ضد البيض.
21
ومرة أخرى حفز المشرعين المزيج الفعال الذي يجمع بين النظرية (إعلان الحقوق) والممارسة العملية (في هذه الحالة الثورة والتمرد الصريحان). وكما أوضحت حجة أرماند، كانت حقوق الإنسان جزءا من النقاش لا سبيل إلى تجنبه حتى في الجمعية التي كانت قد أعلنت أن حقوق الإنسان غير قابلة للتطبيق في المستعمرات. ودفعت الأحداث النواب للاعتراف بقابليتها للتطبيق في أماكن وعلى جماعات أرادوا في الأصل أن يستثنوها من هذه الحقوق. فالنواب الذين عارضوا منح الحقوق للملونين الأحرار، اتفقوا على نقطة واحدة مركزية مع أولئك الذين كانوا يؤيدون منحهم الحقوق، ألا وهي أن حقوق الملونين الأحرار لا سبيل إلى فصلها عن نظام الرق نفسه. وما إن جرى الاعتراف بهذه الحقوق، حتى أصبحت الخطوة التالية أكثر حتمية.
بحلول صيف عام 1793، كانت المستعمرات الفرنسية في حالة جيشان واضطراب كامل. لقد أعلنت الجمهورية في فرنسا ووضعت الحرب الجمهورية الجديدة في مواجهة البريطانيين والإسبان في جزر الكاريبي. سعى أصحاب المزارع من البيض إلى التحالف مع البريطانيين، وانضم بعض من العبيد المتمردين في سان دومينجو إلى الإسبان الذين كانوا يهيمنون على النصف الشرقي من الجزيرة، سانتو دومينجو، في مقابل وعد بأن ينالوا هم أنفسهم الحرية. غير أن الإسبان لم تكن لديهم النية في إلغاء الرق. وفي أغسطس من عام 1793، وفي مواجهة انهيار تام للسلطة الفرنسية على الجزيرة، بدأ مفوضان مرسلان من فرنسا في إبداء استعدادهما لعتق العبيد الذين حاربوا من أجل الجمهورية الفرنسية، ثم أبديا استعدادهما لعتق أسرهم أيضا. بالإضافة إلى أنهما وعدا بالتنازل عن الأرض. وبنهاية الشهر، كان المفوضان يعرضان الحرية لمقاطعات بأكملها. وقد استهل مرسوم تحرير العبيد في الشمال بالمادة الأولى من «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»: «يولد الناس ويعيشون أحرارا متساوين في الحقوق.» وعلى الرغم من أن النواب في باريس كانوا يخشون في البداية من تدبير مخطط بريطاني لتقويض السلطة الفرنسية عن طريق تحرير العبيد، فإنهم صوتوا على إلغاء الرق في كافة المستعمرات في فبراير من عام 1794. وقد اتخذ النواب هذا الإجراء فور سماعهم لتقارير مباشرة من ثلاثة رجال - رجل أبيض، وآخر أسمر هجين مولود لوالد أبيض ووالدة سوداء، وعبد نال حريته - كانوا قد أرسلوا من سان دومينجو ليشرحوا ضرورة إعتاق العبيد. وبالإضافة إلى «إلغاء عبودية الزنوج في كل المستعمرات»، أصدر النواب مرسوما بأن «جميع الناس، بدون تمييز بناء على اللون، المقيمين في المستعمرات هم مواطنون فرنسيون، ولسوف ينعمون بكافة الحقوق المنصوص عليها في الدستور».
22
هل كان إلغاء الرق هو فعل إيثاري تنويري خالص؟ بالطبع لا؛ فثورة العبيد المستمرة في سان دومينجو واقترانها بالحرب في العديد من الجبهات لم تترك أمام المفوضين، ومن ثم النواب في باريس، الكثير من الخيارات إذا ما أرادوا أن يتشبثوا بأي جزء من الجزيرة المستعمرة. ومع ذلك، فمع انكشاف أفعال البريطانيين والإسبان، كان هناك مجال فسيح للغاية للمناورة من أجل الإبقاء على العبودية؛ فكان بمقدورهم أن يعدوا بالعتق التدريجي لأولئك الذين انحازوا إليهم دون إبداء أي نية لإلغاء الرق بصفة عامة. بيد أن انتشار «حقوق الإنسان» صعب جدا على الفرنسيين مسألة الإبقاء على الرق. وفيما انتشر نقاش الحقوق في فرنسا، فإنه قوض محاولة المجلس التشريعي الإبقاء على المستعمرات بعيدة عن سيادة الدستور، وفي الوقت عينه حفز النقاش على نحو حتمي الملونين الأحرار والعبيد أنفسهم على تقديم مطالب جديدة والقتال بضراوة من أجلها. وكان أصحاب المزارع ومؤيدوهم على دراية بهذا التهديد من البداية تماما؛ فقد كتب نواب المستعمرة في باريس إلى وطنهم سرا كي يوجهوا أصدقاءهم إلى «مراقبة الأشخاص والأشياء؛ وإلقاء القبض على المشتبه بهم؛ ومصادرة أي كتابات تذكر فيها كلمة «حرية»». ومع أن العبيد ربما لم يفهموا كل النقاط الحساسة في مذهب حقوق الإنسان، فإن الكلمات نفسها كان لها أثر سحري بلا ريب. صرح العبد السابق توسان لوفرتور، الذي سرعان ما صار زعيم الثورة، في أغسطس من عام 1793 قائلا: «أبتغي أن تسود الحرية والمساواة في سان دومينجو. أعمل جاهدا كي آتي بهما إلى حيز الوجود. أيها الإخوة [زملاءه من المتمردين]، ضموا عبيدكم لنا، وحاربوا معنا من أجل نفس القضية.» ولولا الإعلان المبدئي، لظل إلغاء الرق في عام 1794 أمرا مستحيلا ليس بالإمكان تصوره.
23
في عام 1802، أرسل نابليون حملة عسكرية هائلة من فرنسا للقبض على توسان لوفروتور وإعادة ترسيخ العبودية في المستعمرات الفرنسية. ولما أعيد توسان إلى فرنسا، مات في سجن بارد، وأبنه ويليام ووردسورث وأشاد به أنصار إلغاء العبودية في كل مكان. مدح ووردسورث حماسة توسان للحرية:
ومع أنك أنت نفسك رقدت رقاد الموت، ولن تنهض ثانية،
فعش، واهنأ؛ فقد تركت وراءك قوى
سوف تعمل من أجلك؛ هواء، وأرض، وسماوات؛
فما من نسمة رياح واحدة
سوف تنساك؛ ولك حلفاء عظام؛
وأصدقاؤك ابتهالات وحرقة وحب
وعقل الإنسان الذي لا يقهر.
أعاقت تصرفات نابليون الإلغاء الحاسم للعبودية في المستعمرات الفرنسية حتى عام 1848، عندما أمسكت جمهورية ثانية بمقاليد الحكم، غير أنه لم يفلح في الرجوع بالزمن إلى الوراء كما كان؛ إذ رفض العبيد في سان دومينجو أن يقبلوا بما فرض عليهم، وتصدوا بنجاح لقوات نابليون إلى أن انسحب الفرنسيون تاركين وراءهم أول أمة يقودها العبيد الأحرار؛ وهي دولة هايتي المستقلة. ومن بين ستين ألف جندي فرنسي، وسويسري، وألماني، وهولندي، أرسلوا إلى الجزيرة، لم يعد سوى بضعة آلاف جندي فحسب عبر المحيط، أما الباقون فقد فقدوا إما في معارك ضارية أو على إثر إصابتهم بالحمى الصفراء التي أهلكت الألوف بما فيهم رئيس أركان القوات المسلحة. غير أنه حتى في المستعمرات التي أعيدت فيها العبودية بنجاح، لم ينس العبيد مذاق الحرية. فبعد أن حلت ثورة عام 1830 في فرنسا محل الحكم الملكي المحافظ، زار أحد المناصرين لإلغاء العبودية جزيرة جوادلوب وأورد رد فعل العبيد تجاه علمه ثلاثي الألوان الذي اتخذته الجمهورية عام 1794، إذ صرخ زهاء خمسة عشر أو عشرين عبدا قائلين: «تحية لك منا! إنك لعلامة رائعة على تحررنا. مرحبا بك أيها العلم العظيم الذي جاء لينبئنا عبر البحار بنصر أصدقائنا وساعة عتقنا.»
24
إعلان حقوق المرأة
مع أن النواب وافقوا - تحت الضغط - على أن إعلان الحقوق يسري على «جميع الناس، دون تمييز بحسب اللون»، فإن عددا قليلا منهم هم الذين حملوا أنفسهم على القول إنه يسري على المرأة أيضا. على أن حقوق المرأة طرحت للنقاش، ووسع النواب الحقوق المدنية للمرأة في اتجاهات جديدة هامة؛ فقد منحت الفتيات حق المساواة في الميراث مع إخوتهن الصبيان، وحصلت الزوجات على حق الطلاق مساواة بأزواجهن. ولم يكن الطلاق مباحا في ظل القانون الفرنسي قبل سن قانون الطلاق عام 1792. وألغى النظام الملكي لدى عودته مرة أخرى إلى مقاليد الحكم الطلاق عام 1816، ولم يعمل به مرة أخرى حتى عام 1884، وعندما عاد الطلاق كان مقترنا هذه المرة بقيود أكثر من تلك التي كانت مفروضة في عام 1792. وفي ضوء الحرمان العالمي للمرأة من حقوق الإنسان في القرن الثامن عشر وعلى مر أغلب تاريخ البشرية - إذ لم تحصل المرأة على حق التصويت في الانتخابات القومية في أي مكان في العالم قبل نهاية القرن التاسع عشر - فإن نقاش حقوق المرأة من الأصل في الساحة العامة كان أكثر إثارة للدهشة من عدم حصولها على الحقوق في آخر المطاف.
حلت حقوق المرأة بوضوح في مرتبة أدنى على «مقياس قابلية التصور» من حقوق الجماعات الأخرى. ظهرت «قضية المرأة» في أوروبا على فترات إبان القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولا سيما فيما يخص تعليم المرأة، أو عدم تعليمها بالأحرى، غير أن حقوق المرأة لم تكن موضع اهتمام المناقشات المستمرة في السنوات التي سبقت الثورة الأمريكية أو الثورة الفرنسية. وعلى عكس البروتستانت أو اليهود أو حتى العبيد الفرنسيين، فإن وضع المرأة لم يكن موضوعا لحروب الكتيبات، أو مسابقات المقالات العامة، أو اللجان الحكومية، أو بالأخص مؤسسات الدعم المنظمة مثل «جمعية أصدقاء السود». وقد يرجع هذا الإهمال إلى حقيقة أن المرأة لم تكن قلة مضطهدة. لقد كانت المرأة مقهورة بموجب معايير المجتمع، وبسبب الجنس، إلا أن النساء لم يكن أقلية، وبالطبع لم يسع أحد إلى حملهن على تغيير هويتهن، كما الحال مع البروتستانت واليهود. وإذا كان البعض قد شبه حالهن بالعبيد، فإن قليلين هم من تجاوزوا التشبيه لينزلوا عالم الاستعارة إلى عالم الواقع. قيدت القوانين حقوق المرأة بلا ريب، لكن المرأة حظيت ببعض الحقوق، على عكس العبيد؛ عدت المرأة متكلة أخلاقيا، إن لم يكن فكريا أيضا، على والدها وزوجها، على أنه لم ينظر لهن على أنهن يفتقرن إلى الاستقلال الذاتي تماما؛ بل إن ميلهن وولعهن بالاستقلال تطلب حيطة مستمرة من جانب السلطات المفترضة من كل نوع. كما أنهن لم يكن معدومات الرأي، حتى في الشئون السياسية؛ وقد برهنت المظاهرات وأعمال الشغب التي كانت تندلع اعتراضا على أسعار الخبز على هذه الحقيقة قبل وأثناء الثورة الفرنسية.
25
كل ما هنالك أن النساء لم يشكلن فئة «سياسية » منفصلة انفصالا بينا وقابلة للتميز بوضوح قبل الثورة. ونموذج كوندرسيه، أكثر رجل جاهر بالدفاع عن الحقوق السياسية للمرأة إبان الثورة، هو نموذج له دلالته؛ ففي وقت مبكر، نحو عام 1781، نشر كوندرسيه كتيبا ينادي فيه بإلغاء العبودية. وفي قائمة اشتملت على الإصلاحات المقترحة من أجل الفلاحين، والبروتستانت، ونظام العدل الجنائي، بالإضافة إلى تأسيس التجارة الحرة، والتطعيم ضد الجدري، لم يكن ثمة ذكر للمرأة. ولم تهم قضية المرأة هذا الرائد في حقوق الإنسان إلا بعد مرور عام كامل على بدء الثورة.
26
ومع أن قلة من النساء صوتن من خلال توكيلات في انتخابات «طبقة العوام»، وظن عدد محدود من النواب أن النساء، أو على الأقل الأرامل ذوات الممتلكات منهن، قد يحصلن على حق التصويت في المستقبل، فإن هؤلاء النساء، أي الفئة التي يحتمل منحها الحقوق، لم يظهرن على الإطلاق في مناقشات الجمعية الوطنية في الفترة ما بين عامي 1789 و1791. ترد كلمة «نساء» في الجدول الأبجدي ل «سجل أعمال الجمعية الوطنية» الضخم في موضعين فحسب؛ مرة عندما كانت مجموعة من النساء البريطانيات يطالبن بحلف قسم مدني، وفي موضع آخر عندما كانت مجموعة من النساء الباريسيات يرسلن خطابا. وعلى النقيض، ناقش النواب قضية اليهود مناقشة مباشرة في سبع عشرة مناسبة مختلفة على الأقل. وبنهاية عام 1789، أمكن لعدد كبير من النواب على الأقل أن يتصوروا الممثلين، والجلادين، والبروتستانت، واليهود، والسود الأحرار، بل وحتى الرجال الفقراء، على أنهم مواطنون. وعلى الرغم من عملية إعادة المعايرة المستمرة لمقياس «قابلية التصور»، فإن الحقوق المتساوية للمرأة ظلت غير قابلة للتصور لدى جميع الناس تقريبا من الرجال والنساء على السواء.
27
ومع ذلك فحتى هنا، عمل منطق الحقوق عمله، وإن كان على نحو متقطع؛ ففي يوليو من عام 1790، فاجأ كوندرسيه قراءه بمقالة افتتاحية مذهلة في إحدى الصحف بعنوان «حول منح المرأة حقوق المواطنة»، شرح فيها بوضوح الأساس المنطقي لحقوق الإنسان التي كانت تتطور بثبات في النصف الثاني من القرن الثامن عشر: «تنبع حقوق الإنسان فقط من حقيقة أن البشر كائنات ذات إحساس، قادرة على اكتساب أفكار أخلاقية وعلى التأمل في هذه الأفكار.» ألا تتمتع النساء بنفس الخصال؟ الإجابة كما يؤكد كوندرسيه هي أنه: «لما كانت النساء تنعم بنفس الخصال، فهن يتمتعن بالضرورة بحقوق متساوية.» وتوصل كوندرسيه إلى النتيجة المنطقية التي واجه رفاقه الثوار صعوبة بالغة في التوصل إليها: «إما أنه لا يملك أي فرد في البشرية حقوقا حقيقية، وإما أن الجميع لهم نفس الحقوق؛ وعليه فإن أي إنسان يصوت ضد حقوق إنسان آخر أيا كان دين هذا الآخر أو لونه أو نوعه، فإنه بذلك ينكر حقوقه هو نفسه.»
هنا تتجلى الفلسفة الحديثة لحقوق الإنسان في أنقى صورها؛ فالخصائص الفردية للبشر (ربما بخلاف السن، فالأطفال غير قادرين بعد على التفكير بأنفسهم) لا ينبغي أن تحظى بأهمية، حتى فيما يتعلق بالحقوق السياسية. وعلل كوندرسيه أيضا السبب في أن عددا كبيرا من النساء - وكذلك الرجال - يقبل باستسلام الخضوع غير المبرر للمرأة: «يمكن أن تؤدي العادة إلى تكيف البشر مع انتهاك حقوقهم الطبيعية إلى الدرجة التي لا يحلم معها أي من أولئك الذين فقدوا حقوقهم باسترداد تلك الحقوق أو حتى يعتقد أنه تعرض لجور ما من الأساس.» وطالب كوندرسيه قراءه بالإقرار بأن النساء كانت لهن دائما حقوق، وبأن الأعراف الاجتماعية قد أعمت عيونهم عن تلك الحقيقة الجوهرية.
28
في سبتمبر عام 1791، قلبت الكاتبة المسرحية المناهضة للعبودية أولمب دي جوج «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» رأسا على عقب؛ إذ أكدت فيما أسمته «إعلان حقوق المرأة» أن: «المرأة ولدت حرة وتعيش مساوية للرجل في الحقوق» (المادة الأولى)، «لا بد أن يكون لجميع المواطنات والمواطنين، باعتبارهم متساوين أمامه [القانون]، الحق في الوظائف والرتب العامة بحسب مقدرتهم، ولا يجوز أن يفضل إنسان على إنسان في هذا الصدد إلا بفضائله ومعارفه» (المادة السادسة). ولا يكاد الانقلاب في لغة الإعلان الرسمي لعام 1789 يبدو صادما لنا الآن، غير أنه بدا حينها صادما بالتأكيد. وفي إنجلترا، لم تصل ماري وولستونكرافت لما وصلت إليه قريناتها الفرنسيات في المطالبة بحقوق سياسية متساوية مساواة مطلقة للمرأة، غير أنها كتبت باستفاضة وبمشاعر حارة أن التعليم والتقاليد أعاقت نمو عقل المرأة. وفي كتابها «المطالبة بحقوق المرأة» الذي نشر عام 1792، ربطت تحرير المرأة بانفجار كل أشكال التسلسل الهرمي في المجتمع. وعانت وولستونكرافت، على غرار دي جوج، من التشنيع العلني بسبب جسارتها، بل إن مصير دي جوج كان أشد وطأة؛ فقد حكم عليها بالإعدام بقطع رأسها بتهمة أنها مناوئة «وقحة» للثورة، وإنسانة غير سوية («خنثى»).
29
ما إن تكون الزخم وزاد، لم تقتصر حقوق المرأة على منشورات قلة من الرواد؛ ففي الفترة بين 1791 و1793 أقامت النساء نوادي سياسية في خمسين مدينة وبلدة على الأقل بالإضافة إلى باريس. ونوقشت حقوق المرأة في النوادي، والصحف، والكتيبات. وفي أبريل من عام 1793، إبان الفترة التي كان ينظر فيها في مسألة المواطنة في ظل دستور مقترح جديد للجمهورية، طرح أحد النواب حجة مستفيضة لصالح منح المرأة حقوقا سياسية متساوية. وبينت حجته أن الفكرة كسبت بعض المناصرين لها. قال ذلك النائب معترفا ومقرا: «لا شك أن ثمة اختلافا بين الرجل والمرأة هو اختلاف الجنس ... لكني لا أعرف كيف يؤدي اختلاف الجنس إلى اختلاف في المساواة في الحقوق ... دعونا نحرر أنفسنا من التحيز ضد الجنس، تماما كما حررنا أنفسنا من التحيز العنصري ضد لون بشرة الزنوج.» غير أن باقي النواب لم يحذوا حذوه.
30
بدلا من أن يحذو النواب حذو ذلك النائب، تحركوا في أكتوبر عام 1793 ضد نوادي المرأة. وكرد فعل للمشاجرات التي نشبت في الشوارع بين النساء حول الشعارات الثورية، صوتت الجمعية على إيقاف كافة النوادي السياسية للمرأة بحجة أن هذه النوادي تصرفهن عن موالاة واجباتهن المنزلية كما ينبغي. ووفقا لرأي النائب الذي قدم مرسوم إيقاف النوادي، فإن النساء لا يملكن المعرفة، أو الخبرة، أو التفاني، أو نكران الذات، وهي أمور يجب التحلي بها في ممارسة السياسة والحكم . ويجدر بهن أن يلتزمن ب «المهام الخاصة التي قدرتها الطبيعة ذاتها للمرأة». لم يبد في منطقه شيء جديد؛ وإنما ما كان جديدا هو الحاجة إلى التصدي للمرأة ومنعها من تشكيل النوادي السياسية والمشاركة فيها. ربما كان وضع المرأة هو أقل وآخر موضوع نوقش، غير أن حقوقهن ظهرت أخيرا على جدول أعمال الجمعية، وما قيل عنهن في تسعينيات القرن الثامن عشر - لا سيما فيما يخص الحقوق - كان له أثر دام حتى يومنا هذا.
31
أخرج منطق الحقوق فكرة حقوق المرأة من منطقة الأعراف والعادات الضبابية الغامضة ودفعها إلى النور، على الأقل في فرنسا وإنجلترا. أما في الولايات المتحدة، فقد أثار إهمال حقوق المرأة نقاشا محدودا نسبيا في أوساط العامة قبل عام 1792، ولم تظهر أي كتابات أمريكية في عهد الثورة يمكنها أن ترقى إلى مستوى كتابات كوندرسيه، أو أولمب دي جوج، أو ماري وولستونكرافت. وفي الواقع، قبل نشر كتاب وولستونكرافت: «المطالبة بحقوق المرأة» في عام 1792، لم يلق مفهوم حقوق المرأة آذانا صاغية في إنجلترا أو أمريكا، بل إن ماري وولستونكرافت نفسها طورت أفكارها المؤثرة في هذا الصدد كرد فعل مباشر للثورة الفرنسية؛ ففي عملها الأول حول الحقوق في عام 1790، «المطالبة بحقوق الرجل»، ردت على نقد بيرك لحقوق الرجل في فرنسا، وأدى بها هذا إلى التفكير أيضا في حقوق المرأة.
32
وإذا نظرنا إلى ما هو أبعد من التصريحات والمراسيم الرسمية الصادرة عن الساسة الذكور، فسنجد أن تغير التوقعات بشأن حقوق المرأة أكثر لفتا للانتباه. فمثلا، على نحو مدهش، كان كتاب وولستونكرافت: «المطالبة بحقوق المرأة» متوفرا في المكتبات الأمريكية الخاصة في بداية عصر الجمهورية أكثر من كتاب توماس بين «حقوق الإنسان». ومع أن بين نفسه لم يلق بالا إلى حقوق المرأة، فإن آخرين اهتموا بها؛ ففي مطلع القرن التاسع عشر، تناولت بانتظام الأوساط المتجادلة، وخطب التخرج، والصحف الشعبية في الولايات المتحدة المسلمات القائمة على النوع وراء حق التصويت المقتصر على الرجل فقط، وانتهزت المرأة الفرص الجديدة في عالم النشر التي خلقتها حرية الصحافة لكتابة كتب وكتيبات أكثر عددا مما كتب في أي وقت مضى، وتسبب حق المرأة في المساواة في الإرث في عدد لا نهائي من القضايا؛ لأن النساء عقدن العزم على التمسك بما أصبح الآن حقهن شرعا، فعلى كل حال، الحقوق ليست عرضا من نوع «إما كل شيء أو لا شيء». فتحت الحقوق الجديدة - وإن لم تكن حقوقا سياسية - الباب على فرص جديدة للنساء، واغتنمت النساء تلك الفرص في الحال. وكما أوضحت الأفعال السابقة للبروتستانت واليهود والملونين، فإن المواطنة ليست مجرد شيء تمنحه السلطات؛ وإنما هي شيء ينتزعه المرء بنفسه؛ وتلك القدرة على المجادلة والإصرار، بل والقتال أيضا من وجهة نظر البعض، هي أحد معايير الاستقلال الأخلاقي.
33
بعد عام 1793، وجدت النساء أنفسهن واقعات تحت وطأة المزيد من القهر في عالم السياسة الفرنسية الرسمي، إلا أن الوعد بالحقوق لم ينس تماما؛ ففي مقال نقدي مطول نشر عام 1800 حول كتاب تشارلز ثيرمين «عن وضع المرأة في الجمهوريات»، أوضحت الشاعرة والكاتبة المسرحية كونستانس بيبليت (التي اشتهرت باسم كونستانس دي سالم) أنه لم يغب عن ناظري النساء الأهداف التي وضعت في السنوات الأولى للثورة:
يتسنى للمرء أن يفهم [في ظل الحكومة الفرنسية القديمة] أن الإنسان لم يظن أنه من الضروري أن يكفل لنصف البشرية (النساء) نصف الحقوق المخولة للبشرية؛ غير أنه من الأكثر صعوبة أن يستوعب قدرة الإنسان على تجاهل الإقرار بحقوق المرأة تماما طيلة السنوات العشر الأخيرة؛ أي في تلك الأوقات التي تدوي فيها أصداء كلمتي المساواة والحرية في كل مكان، تلك الأوقات التي تعمل فيها الفلسفة - مدعومة بالتجربة العملية - على تعريف الإنسان بحقوقه الأصيلة المشروعة.
وقد عزت هذا التجاهل لحقوق المرأة إلى حقيقة أن جموع الرجال اعتقدوا أن كبح قوة المرأة أو حتى محقها سوف يزيد من قوة الرجل. وتستشهد بيبليت في مقالها بكتاب وولستونكرافت عن حقوق المرأة، غير أنها لم تطالب بحق المرأة في التصويت أو تقلد المناصب.
34
أظهرت بيبليت فهما دقيقا للتوتر القائم بين منطق الحقوق الثوري وبين القيود المستمرة للأعراف والعادات: «أثناء الثورة تحديدا ... أمعنت النساء - مقتديات بالرجال - التفكير في جوهرها الحقيقي ثم تصرفت بناء على هذا.» ولو أن الغموض أو الالتباس ظل يشوب موضوع حقوق المرأة (وقد غلب التردد على العديد من فقرات بيبليت)، فيرجع هذا إلى أن عصر التنوير لم يتقدم بالدرجة الكافية بعد؛ فعامة الناس؛ ولا سيما النساء العاديات، ظلوا بلا أي تعليم. وأكدت بيبليت على أنه عندما تتلقى النساء التعليم، فإنهن سيبرهن حتما على قدراتهن ومواهبهن؛ لأن المقدرة لا تقتصر على جنس دون الآخر. وقد اتفقت مع رأي ثيرمين القائل إنه ينبغي أن توظف المرأة معلمة مدرسية ويسمح لها بالدفاع عن «حقوقها الطبيعية الثابتة» في المحاكم.
وإذا كانت بيبليت نفسها لم تصل إلى حد الدفاع عن نيل المرأة كامل حقوقها السياسية الكاملة، فقد كان هذا استجابة منها لما كانت تراه ممكنا - وقابلا للتصور والنقاش - في أيامها. غير أنها رأت، مثل كثيرين غيرها، أن فلسفة الحقوق الطبيعية لها منطق عنيد لا يهدأ، وإن لم يفلح بعد في إيجاد حل لقضية المرأة؛ ذلك النصف الآخر من البشرية. أفسحت فكرة «حقوق الإنسان» - شأنها شأن الثورة نفسها - مجالا غير متوقع للنقاش، والصراع، والتغيير، ويمكن نكران الوعد بتلك الحقوق، أو طمسه، أو إبقاؤه معلقا دون تحقيقه فعليا، غير أنه وعد لا يفنى.
الفصل الخامس
القوة الناعمة للإنسانية
لماذا أخفقت حقوق الإنسان في البداية قبل أن تنجح على المدى البعيد
هل كانت حقوق الإنسان مجرد «هراء منمق، وجعجعة فارغة» حقا كما ادعى الفيلسوف جيرمي بنتام؟ إن الفجوة الزمنية الطويلة في تاريخ حقوق الإنسان، التي تفصل بين نشأتها الأولى مع الثورتين الأمريكية والفرنسية وبين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948، تجبر أي إنسان على التوقف للتأمل وإنعام النظر. لم تختف الحقوق سواء على مستوى الفكر أو الفعل، غير أن المناقشات والمراسيم تكاد تجرى الآن على نحو حصري ضمن أطر قومية محددة. ظلت فكرة الحقوق التي يكفلها الدستور على اختلاف أنواعها - كالحقوق السياسية للعمال، والأقليات الدينية، والمرأة مثلا - تلقى المزيد من القبول في القرنين التاسع عشر والعشرين، غير أن الحديث عن حقوق طبيعية قابلة للتطبيق على صعيد عالمي خبا بريقه؛ فالعمال - على سبيل المثال - نالوا حقوقهم بصفتهم عمالا بريطانيين، أو فرنسيين، أو ألمانا، أو أمريكيين، وليس بصفتهم عمالا فحسب . عبر القومي الإيطالي جوسيبي ماتزيني، الذي عاش في القرن التاسع عشر، عن التركيز الجديد على فكرة الوطن عندما طرح السؤال البلاغي: «ما الوطن ... سوى المكان الذي تكفل فيه حقوقنا الفردية بأكبر قدر من الأمان؟» تطلب الأمر حربين عالميتين مدمرتين لتحطيم هذه الثقة في معنى الوطن.
1
نقائص حقوق الإنسان
سادت فكرة القومية باعتبارها الإطار المهيمن في مسألة الحقوق تدريجيا بعد عام 1815، مع سقوط نابليون ونهاية عهد الثورة. وفي الفترة بين 1789 و1815 تنازع مفهومان مختلفان للسلطة أحدهما مع الآخر: حقوق الإنسان من ناحية والمجتمع الهرمي التقليدي من ناحية أخرى. استخدم كل جانب منهما مفهوم الأمة والقومية، مع أن أيا منهما لم يقدم أي مزاعم بشأن تحديد الهوية بواسطة العرق. بطبيعة الحال، رفض مفهوم حقوق «الإنسان» أي فكرة تزعم أن الحقوق معتمدة على الجنسية، ومن ناحية أخرى، كان إدموند بيرك قد حاول أن يربط المجتمع الهرمي بمفهوم معين للوطن، عن طريق التأكيد على أن الحرية لا تكفلها سوى حكومة لها جذورها الراسخة في تاريخ الأمة، مع التأكيد على التاريخ، وأصر بيرك على أن الحقوق تنجح فقط عندما تنبع من تقاليد وممارسات عريقة.
أنكر مؤيدو حقوق الإنسان أهمية التقاليد والتاريخ، وأكد بيرك أن الإعلان الفرنسي لم يمتلك من القوة العاطفية ما يكفي لفرض الانصياع له؛ وذلك لأنه اعتمد بالتحديد على «أفكار تجريدية ميتافيزيقية». كيف يمكن «لقصاصات ورق حقوق الإنسان الحقيرة الغامضة» تلك أن تضاهي محبة الله، ورهبة الملوك، وطاعة القضاة، وتبجيل الكهنة، والإذعان للرؤساء؟ وانتهى بيرك بالفعل في عام 1790 إلى أن الثوار سيضطرون إلى استخدام العنف كي يبقوا في السلطة. وعندما أعدم الجمهوريون الفرنسيون الملك وانتقلوا إلى «حكم الإرهاب» باعتباره نظام حكم معترفا به - كما كان الحال في عامي 1793 و1794 - بدا أن نبوءة بيرك قد تحققت. ولم يمنع «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»، الذي وضع على الرف إلى جانب دستور 1791، من قمع المعارضة والإعدام الجماعي لأولئك الذين اعتبروا أعداء.
وعلى الرغم من نقد بيرك اللاذع، رحب العديد من الكتاب والساسة في أوروبا والولايات المتحدة بإعلان الحقوق بحماسة بالغة في عام 1789، على أنه عندما أصبحت الثورة الفرنسية أكثر تطرفا، بدأ الرأي العام ينقسم. كان رد فعل الحكومات الملكية تحديدا قويا في معارضة إعلان الجمهورية وإعدام الملك؛ ففي ديسمبر من عام 1792، أجبر توماس بين على الفرار إلى فرنسا عندما أدانته محكمة بريطانية بتهمة إثارة الفتنة لمهاجمته نظام الحكم الملكي الوراثي في الجزء الثاني من كتابه «حقوق الإنسان»، وأتبعت الحكومة البريطانية هذا بحملة تعسف واضطهاد ممنهجة ضد مؤيدي الأفكار الفرنسية. وفي عام 1798، أي بعد مرور اثنين وعشرين عاما فحسب على إعلان الولايات المتحدة الذي ينادي بالحقوق المتساوية لجميع الناس، أصدر الكونجرس الأمريكي «قوانين الفتنة والغرباء» للحد من الانتقادات الموجهة للحكومة الأمريكية، وتجلت الروح الجديدة لهذا العصر في التعليقات التي أبداها جون روبيسون - أستاذ الفلسفة الطبيعية بجامعة إدنبرة - عام 1797؛ ندد روبيسون بما أسماه: «ذلك المبدأ البغيض، الذي يسيطر الآن على كل العقول، ويدعونا إلى التفكير المستمر في حقوقنا، والمطالبة بها بلهفة من كل الجهات.» في رأي روبيسون، كان هذا الهوس بالحقوق هو «أعظم خراب في الحياة»؛ إذ حسب هذا الهوس السبب الرئيسي للجيشان السياسي المستمر حتى في اسكتلندا، وللحرب بين فرنسا وجيرانها؛ تلك الحرب التي تهدد الآن باجتياح أوروبا بأكملها.
2
كان تحفظ روبيسون على الحقوق واهنا باهتا بالمقارنة بالقذائف التي أطلقها أنصار الملكية المناوئين للثورة على القارة؛ فوفقا لما قاله لويس دي بونالد، أحد المحافظين الصريحين: «بدأت الثورة بإعلان حقوق الإنسان، ولن تنتهي إلا عندما تعلن حقوق الله.» وقد أكد أن إعلان الحقوق يجسد الأثر الخبيث لفلسفة عصر التنوير، والإلحاد، والمذهب البروتستانتي، والماسونيين الأحرار، وهي الأشياء التي جمعها كلها معا. شجع الإعلان الناس على إهمال واجباتهم وحصر تفكيرهم في رغباتهم الفردية، ولما عجز عن كبح مشاعرهم، قاد فرنسا مباشرة إلى الفوضى، والإرهاب، والتفسخ الاجتماعي . ولا توجد جهة تستطيع أن تغرس المبادئ الأخلاقية الحقيقية سوى كنيسة كاثوليكية يعاد تنشيطها وتقويتها تحت حماية النظام الملكي الشرعي بعد عودته للحكم. وبعد إعادة ملك آل بوربون إلى العرش مرة أخرى في عام 1815، أخذ بونالد زمام المبادرة في إبطال القوانين الثورية المتعلقة بالطلاق وإعادة تفعيل الرقابة الصارمة على المطبوعات.
3
وقبل عودة ملوك آل بوربون - عندما نشر الجمهوريون الفرنسيون ومن بعدهم نابليون رسالة الثورة الفرنسية من خلال الغزو العسكري - كانت حقوق الإنسان متداخلة مع العدوان الاستعماري، ومما يحسب لفرنسا أن تأثيرها دفع السويسريين والهولنديين إلى إلغاء التعذيب في عام 1798؛ وتبعتهما إسبانيا عام 1808 عندما توج شقيق نابليون ملكا عليهم. على أنه بعد سقوط نابليون، عاود السويسريون استخدام التعذيب، وأعاد الملك الإسباني تفعيل «محاكم التفتيش»، التي كانت تستخدم التعذيب بغية انتزاع الاعترافات، كما تشجع الفرنسيون أيضا على تحرير اليهود في أي منطقة تهيمن عليها الجيوش الفرنسية. ومع أن الحكام العائدين سلبوا بعضا من هذه الحقوق المكتسبة مؤخرا في إيطاليا وألمانيا، فإن تحرير اليهود ظل ثابتا في هولندا. ولما اعتبر تحرير اليهود عملا فرنسيا، فإن الخارجين على القانون الذين هاجموا القوات الفرنسية في بعض الأراضي التي غزتها فرنسا حديثا كانوا عادة يستهدفون اليهود أيضا.
4
بينت تدخلات نابليون المتناقضة أن الحقوق ليس بالضرورة أن ينظر إليها على أنها تشكل حزمة واحدة؛ فقد منح التسامح الديني والحقوق المدنية والسياسية المتساوية للأقليات الدينية أينما حكم، في حين أنه في وطنه فرنسا كبح بصرامة حرية كل فرد في التعبير، وألغى حرية الصحافة من الأساس. لقد كان الإمبراطور الفرنسي يرى أن «الناس لم يولدوا ليكونوا أحرارا ... فالحرية هي حاجة ملحة تراود فئة محدودة من البشر حبتهم طبيعتهم بعقول أكثر نبلا من عقول عامة الناس، وعليه يمكن كبحها بلا خوف من العقاب. ومن ناحية أخرى، فالمساواة تسر جموع الناس». لم يكن الفرنسيون إذن يرغبون في حرية حقيقية، من وجهة نظره؛ وكل ما هنالك أنهم يطمحون للارتقاء إلى قمة المجتمع، وكانوا سيضحون بحقوقهم السياسية في مقابل ضمان المساواة أمام القانون .
5
أما فيما يتعلق بالعبودية، فقد كان نابليون ثابتا على موقفه تماما؛ فأثناء فترة هدنة قصيرة إبان الصراع في أوروبا عام 1802، أرسل حملات عسكرية إلى مستعمرات جزر الكاريبي، ومع أنه تعمد عدم الإفصاح عن نواياه في بادئ الأمر لكي لا يثير انتفاضة عامة وسط العبيد المحررين، فإن التعليمات المعطاة لصهره، أحد الجنرالات، أفصحت عن نواياه؛ إذ ينبغي على الجنود أن يحتلوا بقاعا رئيسية فور وصولهم ويتفقدوا الأحوال، ومن ثم ينبغي عليهم «أن يتعقبوا المتمردين بلا هوادة»، ويجردوا كافة السود من الأسلحة، ويقبضوا على قادتهم ويرحلوهم إلى فرنسا، وبذا يمهدون الطريق أمام عودة العبودية. وكان نابليون على يقين من أن «احتمال قيام جمهورية للسود يزعج الإسبان، والإنجليز، والأمريكيين كما يزعجه تماما». وقد باءت خطته بالفشل في سان دومينجو، التي حصلت على استقلالها باسم هايتي، غير أنها نجحت في بقاع أخرى من المستعمرات الفرنسية. وبلغ عدد القتلى نحو مائة وخمسين ألف شخص في الصراع على سان دومينجو، أي إن عشر سكان جزر جوادلوب قتلوا أو رحلوا.
6
حاول نابليون أن يخلق هجينا من حقوق الإنسان والمجتمع الهرمي التقليدي، لكن في نهاية المطاف، رفض الجانبان الذرية غير الشرعية لهذا التزاوج. أكد نابليون تأكيدا شديدا على التسامح الديني، والقضاء على النظام الإقطاعي، والمساواة أمام القانون لكي يرضي التقليديين، وحد الكثير من الحريات السياسية ليرضي الجانب الآخر. وقد استطاع أن ينهي الصراع مع الكنيسة الكاثوليكية، غير أنه لم يصر أبدا حاكما شرعيا في أعين التقليديين. ومن وجهة نظر المدافعين عن الحقوق، أخفق إصراره على المساواة أمام القانون في موازنة إحيائه لطبقة النبلاء وتأسيسه إمبراطورية وراثية. وبحلول الوقت الذي فقد فيه إمبراطور فرنسا السلطة، ندد به كل من التقليديين والمدافعين عن حقوق الإنسان بوصفه طاغية ومستبدا ومغتصبا للسلطة. صرحت الكاتبة جيرمين دي ستال، واحدة من أكثر نقاد نابليون حدة وإصرارا، في عام 1817، أن إرثه الوحيد هو «بعض الأسرار الإضافية في فن الاستبداد». وقد أشارت دي ستال - شأنها شأن كل النقاد الآخرين - إلى الزعيم المخلوع بكنية «بونابرت»، ولم تستخدم قط اسمه الإمبراطوري «نابليون».
7
القومية تتقدم
تبين على المدى الطويل أن الانتصار الذي حققه النظام القانوني عابر سريع الزوال، ويعود الفضل في ذلك بدرجة كبيرة إلى التطورات التي أحدثها خصمه الرهيب نابليون. على مدار القرن التاسع عشر ، هيمنت القومية على طرفي المناقشات الثورية، فغيرت مسار مناقشات الحقوق، وخلقت أنواعا جديدة من التسلسلات الهرمية التي هددت في نهاية المطاف النظام القانوني التقليدي. حفزت المغامرات الاستعمارية للطاغية المغرور المنحدر من جزيرة كورسيكا قوى القومية من وراسو إلى ليما عن غير قصد؛ فأينما ذهب أنشأ كيانات جديدة (مثل دوقية وارسو، والمملكة الإيطالية، واتحاد الراين)، أو خلق فرصا جديدة، أو أثار عداءات جديدة تصاعدت حتى تحولت إلى طموحات قومية. فقد ذكرت دوقية وارسو البولنديين أنه في يوم من الأيام كانت هناك دولة اسمها بولندا قبل أن تستولي عليها بروسيا، والنمسا، وروسيا. ومع أن حكومتي ألمانيا وإيطاليا الجديدتين قد اختفتا بعد سقوط نابليون، فقد أظهرتا أن التوحيد القومي أمر ممكن. وبخلع ملك إسبانيا، فتح الإمبراطور الفرنسي الباب أمام حركات الاستقلال في أمريكا الجنوبية في العقدين الثاني والثالث من القرن التاسع عشر. وقد تحدث سيمون بوليفار، محرر بوليفيا، وبنما، وكولومبيا، والإكوادور، وبيرو، وفنزويلا، بنفس لغة القومية الناشئة التي تحدث بها أقرانه في أوروبا. قال بوليفار بحماسة: «إن ترابنا الوطني يثير فينا مشاعر رقيقة وذكريات مبهجة ... فهل من ادعاءات بالحب والإخلاص أعظم من هذه؟» وقدمت مشاعر القومية تلك القوة العاطفية المفقودة في «قصاصات ورق حقوق الإنسان الحقيرة الغامضة» التي ازدراها بيرك.
8
كرد فعل للإمبريالية الفرنسية، رفض بعض الكتاب الألمان كل ما هو فرنسي - بما في ذلك حقوق الإنسان - وخلقوا إحساسا جديدا بالوطن يعتمد بكل وضوح على العرق. ولما كان الألمان المنادون بالقومية يفتقرون إلى هيكل دولة قومية موحدة، ركزوا بدلا من ذلك على خاصية الشعب العضوي، وهي سمة داخلية مميزة للشعب الألماني تميزه عن سائر الشعوب. ويمكن بالفعل رؤية الدلائل الأولى على الاضطرابات المستقبلية في آراء فريدريك جان الألماني المناصر للقومية التي أعرب عنها في مطلع القرن التاسع عشر. كتب جان: «كلما كان الشعب أنقى، كان هذا أفضل.» وأكد على أن قوانين الطبيعة تحول دون اختلاط الأجناس والشعوب، ومن وجهة نظر جان، فإن «الحقوق المقدسة» هي تلك الحقوق التي تخص الشعب الألماني دون سواه ، وكان ناقما بشدة على التأثير الفرنسي، حتى إنه حث إخوانه الألمان على الامتناع عن التحدث بالفرنسية تماما. وعلى غرار كافة المناصرين للقومية الذين جاءوا من بعده، حثهم على كتابة التاريخ الوطني ودراسته؛ فينبغي أن تركز كافة النصب التذكارية، والجنازات العامة، والمهرجانات الشعبية على الطابع الألماني وليس على أي مثل عالمية. وفي نفس اللحظة التي كان يخوض فيها الأوروبيون ذروة معاركهم في مواجهة طموحات نابليون الاستعمارية، اقترح جان توسيع حدود ألمانيا الجديدة بقدر مدهش، وشدد على أن هذه الحدود ينبغي أن تشمل سويسرا، والبلدان المنخفضة، والدنمارك، وبروسيا، والنمسا، كما ينبغي أن تبنى عاصمة جديدة لها ويطلق عليها اسم تيوتونا.
9
وعلى غرار جان، آثر معظم أنصار القومية الأوائل الشكل الديموقراطي للحكومة؛ لأنه من شأنه أن يعظم الإحساس بالانتماء الوطني إلى أقصى حد. ونتيجة لذلك، عارض التقليديون القومية والاتحاد الألماني أو الإيطالي في بداية الأمر بقدر ما عارضوا حقوق الإنسان. وكان أنصار القومية الأوائل يتحدثون باللغة الثورية للعالمية المسيحية، لكن من وجهة نظرهم كان الوطن، وليست الحقوق، هو نقطة الانطلاق إلى العالمية الشاملة. آمن بوليفار أن كولومبيا سوف تنير الطريق إلى الحرية والعدالة العالميتين. وصرح ماتزيني، مؤسس «جمعية يانج إيتالي» القومية، بأن الإيطاليين سوف يقودون حملة عالمية للشعوب المضطهدة من أجل الحرية. ورأى الشاعر آدم ميسكفيتش أن البولنديين سوف يقودون الطريق نحو الحرية العالمية. باتت حقوق الإنسان في ذلك الحين تعتمد على تقرير المصير القومي، وكانت الأولوية بالضرورة لتقرير المصير القومي.
بعد عام 1848، شرع التقليديون في استيعاب مطالب أنصار القومية، وانتقلت الحركة القومية من يسار إلى يمين الطيف السياسي. ومهد إخفاق الثورات القومية والدستورية في ألمانيا، وإيطاليا، والمجر، في عام 1848 الطريق لهذه التغيرات. أبدى أنصار القومية المعنيين بكفالة الحقوق في الأوطان المقترحة حديثا استعدادهم التام لرفض حقوق الجماعات العرقية الأخرى. حرر الألمان في اجتماعهم بفرانكفورت دستورا قوميا جديدا لألمانيا، غير أنهم أنكروا على الدنماركيين، والبولنديين، والتشيكيين حق تقرير المصير داخل حدودهم المقترحة. وتجاهل المجريون الذين طالبوا بالاستقلال عن النمسا مصالح الرومانيين، والسلوفاكيين، والكرواتيين ، والسلوفينيين، الذين كانوا يشكلون أكثر من نصف سكان المجر. دمرت المنافسة فيما بين الأعراق ثورات عام 1848 ومعها الرابطة التي تجمع بين الحقوق وحق تقرير المصير القومي، ونجح التوحيد القومي لكل من ألمانيا وإيطاليا في خمسينيات وستينيات القرن التاسع عشر بفعل الحرب والدبلوماسية؛ ولم يلعب ضمان الحقوق الفردية أي دور في هذا الاتحاد.
تحولت القومية - التي كانت في وقت من الأوقات مندفعة بكل حماسة باتجاه ضمان الحقوق من خلال نشر حق تقرير المصير القومي - نحو الانغلاق والدفاعية على نحو متزايد. وعكس هذا التحول مدى هول مهمة خلق الأمم؛ فقد خيبت الخريطة اللغوية نفسها فكرة أنه يمكن تقسيم أوروبا على نحو منظم إلى دول قومية من المجموعات العرقية والثقافية المتجانسة نسبيا؛ فكل دولة قومية كانت تؤوي أقليات لغوية وثقافية في القرن التاسع عشر، حتى الدول العريقة مثل بريطانيا العظمى وفرنسا. فعندما أعلنت الجمهورية في فرنسا في عام 1870، لم يكن نصف سكانها يستطيعون تحدث الفرنسية؛ أما الباقون فقد كانوا يتحدثون لهجات أو لغات إقليمية مثل اللغة البريتانية، والبروفنسالية الفرنسية، والباسكية، والألزاسية، والكتالانية، والكورسية، والقسطانية، أو اللغة الكريولية في المستعمرات. كان يقتضي الأمر حملة تعليمية هائلة لدمج كل فرد في الأمة، وواجهت الأمم الطموحة ضغوطا أعظم بسبب اختلافات عرقية أكبر؛ فقد كان الكونت كاميلو دي كافور، رئيس وزراء المملكة الإيطالية الجديدة، يتحدث اللغة البيدمونتية كلغته الأولى، وأقل من ثلاثة بالمائة من إخوانه المواطنين كانوا يتحدثون الإيطالية الفصحى، بل وكان الموقف أكثر فوضوية في شرقي أوروبا، حيث عاش العديد من الجماعات العرقية المختلفة جنبا إلى جنب. فعلى سبيل المثال: لم تشتمل بولندا الجديدة على مجتمع كبير لليهود فحسب، وإنما أيضا على لتوانيين، وأوكرانيين، وألمان، وبيلاروس، وكل بلغته وتقاليده.
ساهمت صعوبة خلق تجانس عرقي أو الحفاظ عليه في المخاوف المتنامية بشأن الهجرة على الصعيد العالمي. اعترض قليلون على الهجرة قبل ستينيات القرن التاسع عشر، غير أنها تعرضت للنقد الشديد في الدول المستقبلة في ثمانينيات وتسعينيات نفس القرن؛ فقد حاولت أستراليا أن تمنع تدفق المهاجرين الآسيويين إليها لعلها تحافظ على شخصيتها الإنجليزية والأيرلندية، ومنعت الولايات المتحدة الهجرة إليها من الصين في عام 1882 ومن كل أنحاء آسيا في عام 1917، ثم وضعت حصصا محددة للهجرة لجميع الأجناس الأخرى عام 1924 بناء على التركيب العرقي الحالي لسكان الولايات المتحدة، وأصدرت الحكومة البريطانية «قانون الغرباء» عام 1905؛ كي تحول دون هجرة «غير المرغوب فيهم»، العبارة التي فسرها كثيرون على أنه يقصد بها يهود شرق أوروبا. وحتى فيما بدأ العمال والعبيد يحصلون على الحقوق السياسية المتساوية في هذه البلاد، وقفت المعوقات في طريق أولئك الذين لا يتمتعون بنفس الأصول العرقية.
وسط هذا الجو الوقائي الجديد، تسربلت القومية بخاصية يشوبها المزيد من الكره للأجانب والعنصرية. ومع أن كره الأجانب قد يستهدف أي جماعة أجنبية (الصينيين في الولايات المتحدة، أو الإيطاليين في فرنسا، أو الأيرلنديين في ألمانيا)، فإن العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر شهدت زيادة كبيرة في معاداة السامية. استخدم الساسة اليمينيون في كل من ألمانيا، والنمسا، وفرنسا، الصحف والنوادي السياسية، وفي بعض الحالات الأحزاب السياسية الجديدة؛ كي يشعلوا نار كراهية اليهود باعتبارهم أعداء الأمة. وبعد مرور عقدين من حملة الصحف اليمينية لمعاداة السامية، جعل حزب المحافظين الألماني معاداة السامية بندا رسميا من بنود برنامجه في عام 1892. وفي الوقت نفسه تقريبا، أثارت قضية دريفوس اضطرابات هائلة في عالم السياسة الفرنسي، فقد أشاعت انقسامات دائمة بين مؤيدي ومناوئي دريفوس. بدأت القضية في عام 1894 عندما اتهم خطأ ضابط جيش يهودي اسمه ألفريد دريفوس بالتجسس لصالح ألمانيا، وعندما حكم عليه بالإدانة - على الرغم من الأدلة الكثيرة على براءته - نشر الروائي الشهير إيميل زولا مقالة جريئة في الصفحة الأولى لإحدى الصحف يتهم فيها الجيش والحكومة الفرنسيين بطمس الأدلة عمدا بهدف إدانة دريفوس. وكرد فعل للانحياز المتنامي إلى جانب دريفوس، أثارت عصبة فرنسية حديثة التشكيل معادية للسامية الشغب في العديد من المدن والبلدات، الأمر الذي تتطور في بعض الأحيان إلى هجوم آلاف المتظاهرين على ممتلكات اليهود، واستطاعت العصبة أن تحشد عددا كبيرا من الناس؛ لأن العديد من المدن كانت تصدر بها الصحف تعج بالسب والقذف المعادي للسامية بانتظام. ومنحت الحكومة دريفوس العفو في عام 1899، وأخيرا برأته في عام 1906. على أن معاداة السامية تفاقمت للغاية في كل مكان. وفي عام 1895، نجح كارل لوجر في الفوز بمنصب عمدة فيينا معتمدا على برنامج معاد للسامية، وقد أصبح فيما بعد أحد أبطال هتلر.
التفاسير البيولوجية للإقصاء
فيما باتت القومية أكثر تداخلا مع العرقية، تحولت إلى تأكيد متزايد على التفاسير البيولوجية للاختلاف. كانت مناقشات حقوق الإنسان قد اعتمدت على الافتراض أن طبيعة الإنسان عبر الثقافات والطبقات هي واحدة، وبعد الثورة الفرنسية، تزايدت صعوبة إعادة التأكيد ببساطة على الاختلافات على أساس التقاليد، أو العرف، أو التاريخ. وكان لا بد أن تتمتع الاختلافات بأساس أكثر متانة إذا كان مطلوبا أن يحتفظ الرجال بسموهم على النساء، أو البيض على السود، أو المسيحيون على اليهود. وباختصار، إذا كان من المفترض أن تقف الحقوق عند مستوى أقل عالمية، ومساواة، وطبيعية، فلا بد من عرض الأسباب. ونتيجة لذلك، شهد القرن التاسع عشر طفرة في التفاسير البيولوجية للاختلاف.
وما يدعو إلى السخرية هو أن فكرة حقوق الإنسان نفسها هي التي فتحت الباب سهوا أمام أشكال أكثر خبثا من التحيز على أساس الجنس، والعرق، ومعاداة السامية؛ ففي واقع الأمر، تسببت المزاعم الجارفة بشأن المساواة الطبيعية بين البشر جميعا في ظهور تأكيدات عالمية مماثلة على الفوارق الطبيعية، مما نتج عنه نوع جديد من المناوئين لحقوق الإنسان، أعتى من المناوئين التقليديين وأشد خطرا وتهديدا. وطرحت الأشكال الجديدة للعنصرية، ومعاداة السامية، والتحيز على أساس الجنس، تفاسير بيولوجية لفطرية اختلاف البشر، وفي ضوء العنصرية الجديدة، لم يكن اليهود فقط قتلة المسيح؛ وإنما دناءتهم العنصرية المتأصلة فيهم هددت بتلطيخ نقاوة البيض من خلال التزاوج معهم، ولم يعد السود أدنى لأنهم عبيدا ؛ فحتى مع انتشار إلغاء الرق في أنحاء الأرض، باتت العبودية أكثر سمية وليس أقل، ولم تكن المرأة أقل عقلانية من الرجل لأنها لم تحصل على التعليم الكافي، إنما حتم عليها تركيبها البيولوجي الحياة المنزلية الخاصة، وجعلها غير مؤهلة بالمرة للسياسة، أو التجارة، أو المهن الحرفية. وفي ظل هذه المذاهب البيولوجية الجديدة، ما كان التعليم أو التغيرات الطارئة على البيئة لتغير أبدا الهياكل الهرمية المتأصلة في الطبيعة البشرية.
كان التحيز على أساس الجنس هو أقل المذاهب البيولوجية الجديدة من حيث التنظيم السياسي، والمنهجية الفكرية، والسلبية العاطفية، فعلى أي حال، ما من أمة تستطيع أن تتكاثر بدون أمهات، لذا حين بدا ممكنا مناقشة أمر إعادة العبيد الأمريكيين من أصول أفريقية إلى أفريقيا أو منع اليهود من الإقامة في منطقة معينة، كان مستحيلا إقصاء النساء تماما، ومن ثم كان يسمح لهن ببعض المزايا الإيجابية التي قد تكون هامة في محيطهن الخاص. وعلاوة على ذلك، لما اختلفت المرأة اختلافا بيولوجيا واضحا عن الرجل (مع أن مقدار هذا الاختلاف ما زال موضوع نقاش)، فإن قليلين فقط هم من رفضوا النقاشات البيولوجية بشأن الاختلاف بين الجنسين، التي كان لها تاريخ أطول بكثير من النقاشات البيولوجية بشأن العرق. غير أن الثورة الفرنسية كانت قد بينت أنه حتى الاختلاف بين الجنسين، أو على الأقل علاقته بالسياسة، يمكن التشكيك فيه. فمع ظهور حجج صريحة تنادي بالمساواة السياسية للمرأة، تغيرت الحجة البيولوجية التي تؤكد على نقص المرأة؛ فلم تعد النساء تشغل منزلة أدنى على نفس السلم البيولوجي الذي يوجد عليه الرجال، بل أصبح ينظر إليهن باعتبارهن متشابهات بيولوجيا مع الرجال، وإن كن أدنى مرتبة. باتت الإناث توصفن على نحو متزايد بأنهن مختلفات بيولوجيا تماما عن الرجال؛ فقد صرن «الجنس الآخر».
10
لا يسهل أن نحدد بالضبط توقيت هذا التحول في طريقة التفكير بشأن المرأة أو حتى طبيعته، غير أن فترة الثورة الفرنسية تبدو مهمة في هذا الصدد. كان الثوار الفرنسيون قد اعتمدوا على مناقشات تقليدية إلى حد كبير بشأن اختلاف المرأة عندما منعوا لقاء النساء في النوادي السياسية عام 1793، صرح المتحدث الرسمي للحكومة حينها قائلا: «النساء غير قادرات بصفة عامة على الإتيان بأفكار سامية وتأملات جدية.» غير أنه في السنوات التالية اجتهد أطباء فرنسيون في ترسيخ هذه الأفكار الغامضة على أسس أكثر بيولوجية؛ أثبت عالم الفسيولوجيا الفرنسي البارز بيير كابانيس أن المرأة تملك أليافا عضلية أضعف، وأغشية دماغية أكثر حساسية، مما يجعلهن غير مؤهلات للمهن العامة، غير أن حساسيتهن الزائدة وسرعة تأثرهن المترتبة على ذلك أهلتهن لدور الزوجة والأم والممرضة، وساعد مثل هذا التفكير في ترسيخ تقليد جديد بدت فيه المرأة مخلوقة لتحقيق ذاتها في نطاق حدود الحياة المنزلية أو عالم أنثوي منفصل.
11
شكك الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل في مقاله المؤثر بعنون «خضوع المرأة» (1869) في وجود هذه الاختلافات البيولوجية، وأكد أننا لا نستطيع أن نعرف كيف يختلف الرجل والمرأة في طبيعتهما؛ لأننا لا نراهما إلا في أدوارهما الاجتماعية الحالية. أكد مل قائلا: «ما يطلق عليه الآن طبيعة المرأة هو قطعا شيء مصطنع زائف.» وربط مل إصلاح وضع المرأة بالتطور الاجتماعي والاقتصادي الشامل، وأكد أن التبعية القانونية للمرأة «خاطئة هي نفسها» و«ينبغي أن يحل محلها مبدأ المساواة الكاملة الذي لا يعترف بأن القوة والامتياز من نصيب جانب واحد، والعجز من نصيب الجانب الآخر». غير أنه لم يكن هناك حاجة إلى عصب أو أحزاب مماثلة لتلك المعادية للسامية للحفاظ على الجدل البيولوجي مستمرا بقوة؛ ففي واحدة من القضايا القانونية الهامة التي نظرت أمام المحكمة العليا في الولايات المتحدة عام 1908، استخدم القاضي لويس برانديس نفس الحجج القديمة مرة أخرى عندما علل سبب كون الجنس أساسا قانونيا للتصنيف؛ ف «البنية الجسدية للمرأة»، ووظائفها المتعلقة بالولادة، وتربية الأطفال، ورعاية المنزل، كل هذا يضع النساء في فئة منفصلة ومختلفة. وشاع استخدام مصطلح «النسوية» في تسعينيات القرن التاسع عشر (تعبيرا عن الحركة المنادية بالمساواة بين الرجل والمرأة)، وكانت مقاومة المطالب التي ينادي بها هذا المصطلح مقاومة ضارية. ولم تحصل المرأة على حق التصويت إلا عام 1902 في أستراليا، وعام 1920 في أمريكا، وعام 1928 في بريطانيا العظمى، وعام 1944 في فرنسا.
12
وعلى غرار التحيز على أساس الجنس، اتخذت كل من العنصرية ومعاداة السامية أشكالا جديدة بعد الثورة الفرنسية، فلم يعد أنصار حقوق الإنسان، على الرغم من أنهم لا يزالون هم أنفسهم يحتفظون بالعديد من القوالب النمطية السلبية لليهود والسود، يقبلون بوجود التحيز كأساس كاف للجدل، فما كان من التقييد الدائم لحقوق اليهود في فرنسا إلا أن أثبت أن العادة والعرف مارسا سطوة هائلة، وليس أن تلك القيود مبررة منطقيا. وبالمثل، لم ير أنصار إلغاء الرق أن الرق يثبت انحطاط الأفارقة السود، وإنما أماط اللثام عن جشع ملاك العبيد وأصحاب المزارع البيض، ومن ثم احتاج أولئك الذين رفضوا فكرة منح الحقوق المتساوية لليهود أو السود إلى مبدأ - قضية مبرهنة ببراهين دامغة - يدعم موقفهم، لا سيما بعدما حصل اليهود على الحقوق عام 1833 وألغي الرق عام 1848 في المستعمرات البريطانية والفرنسية. وعلى مدار القرن التاسع عشر، لجأ مناوئو حقوق اليهود والسود على نحو متزايد إلى العلم - أو ما اعتبر علما - بحثا عن هذا المبدأ.
يمكن اقتفاء أثر علم الأعراق إلى نهاية القرن الثامن عشر ومحاولات تصنيف شعوب العالم. ثمة خيطان كانا قد نسجا في القرن الثامن عشر ثم جدلا معا في القرن التاسع عشر؛ أولا: الزعم بأن التاريخ شهد تطور الشعوب المتوالي صوب الحضارة والتمدن، وأن البيض كانوا أكثر الشعوب تطورا. ثانيا: فكرة أن السمات الدائمة المتأصلة قسمت الناس حسب العرق. واعتمدت العرقية، باعتبارها مذهبا نظاميا، على دمج هذين الشقين معا. افترض مفكرو القرن الثامن عشر أن كل الشعوب سوف تصل في نهاية المطاف إلى الحضارة، فيما حسب واضعو النظريات العنصريون في القرن التاسع عشر أن أجناسا بعينها فحسب هي التي بمقدورها الوصول إلى التمدن نتيجة لخصالهم البيولوجية الأصيلة فيهم. ويمكن رؤية عناصر هذا الدمج في كتابات لعلماء تعود إلى مطلع القرن التاسع عشر؛ مثل عالم الطبيعة الفرنسي جورج كوفييه، الذي كتب في عام 1817 يقول: «ثمة قضايا داخلية معينة» كبحت تطور سلالتي المغول والزنوج . غير أن هذه الأفكار لم تتخذ شكلها الكامل بوضوح إلا بعد منتصف القرن.
13
يمكن رؤية خلاصة هذا النوع من الكتابات والأفكار في مقال آرثر دي جوبينيو «عن عدم المساواة بين الأعراق البشرية» (1853-1855)؛ فباستخدام مزيج من الحجج المستقاة من علوم الآثار، والأعراق البشرية، واللغة، والتاريخ، أكد الدبلوماسي والكاتب الفرنسي دي جوبينيو أن السلم الهرمي للأعراق الذي عماده البيولوجيا حدد تاريخ البشرية. رقد في قاع السلم العرقي أعراق ما دون البشر، غير المفكرين، أصحاب البشرة السوداء شديدو الشهوانية؛ وفوقهم أعراق الصفر، الفاترون، المتواضعون، ولكنهم العمليون في الوقت نفسه؛ واعتلى قمة السلم أعراق البيض المثابرون، النشطاء فكريا، والمغامرون، الذين امتلكوا توازنا بين «غريزة غير عادية للنظام» و«ولع واضح بالحرية». وبداخل الجنس الأبيض، كانت السيادة من نصيب الجنس الآري. وخلص جوبينيو إلى أن: «كل ما هو عظيم ونبيل ومثمر في حياة الإنسان على هذه الأرض في العلوم والفنون والحضارة» مستمد من الجنس الآري. ولما نزح الآريون عن وطنهم الأول في وسط آسيا، شكلوا أساس ووقود الحضارات الهندية، والمصرية، والصينية، والرومانية، والأوروبية، بل وحتى حضارتي الآزتك والإنكان، من خلال الاستعمار.
14
وطبقا لجوبينيو، سوغ الاختلاط بين الأجناس بالتزاوج نهضة الحضارات وسقوطها. كتب يقول: «تهيمن مسألة العرق على سائر مشكلات التاريخ الأخرى وتملك مفاتيحها.» غير أنه اعتقد - على خلاف بعض من أتباعه اللاحقين - أن الآريين فقدوا بالفعل مزيتهم من خلال التزاوج مع أجناس أخرى، وأن المساواة والديمقراطية سوف تنتصران في نهاية المطاف - مع أن هذه الفكرة تثير اشمئزازه - معلنتين نهاية الحضارة ذاتها. ومع أن أفكار جوبينيو الخيالية العجيبة لم تستهو الكثيرين في فرنسا، فإنها لاقت استحسان إمبراطور ألمانيا فيلهلم الأول (الذي حكم في الفترة بين عامي 1861 و1888)، حتى إنه منح جوبينيو الفرنسي المواطنة الفخرية. كما تبنى أفكاره أيضا الملحن الألماني ريتشارد فاجنر، ثم صهر فاجنر المؤلف الإنجليزي ومحب اللغة والأدب والحضارة الألمانية هيوستن ستيوارت تشامبرلين، ومن خلال تأثير تشامبرلين، بات الجنس الآري - كما وصفه جوبينيو - عنصرا محوريا في أيديولوجية هتلر العنصرية.
15
قدم جوبينيو قالبا علمانيا منهجيا لأفكار كانت متداولة بالفعل في معظم أنحاء العالم الغربي؛ ففي عام 1850 - على سبيل المثال - نشر خبير علم التشريح الاسكتلندي روبرت نوكس عمله «أعراق البشر» الذي زعم فيه أن «العرق - أو السلالة - هو كل شيء؛ فهو يدمغ الإنسان»، وفي العام التالي، قدم جون كامبيل، رئيس اتحاد فيلادلفيا لمنضدي الحروف الطباعية عمله «الهوس بالزنوج؛ فحص المساواة المزعومة خطأ بين الأجناس البشرية». ولم تقتصر العنصرية على جنوب الولايات المتحدة؛ فقد استشهد كامبيل بكوفييه ونوكس من بين آخرين ليؤكد على وحشية وبربرية الزنوج، وكي يفند أي إمكانية للمساواة بين البيض والسود. ولما كان جوبينيو نفسه قد انتقد المعاملة التي يعامل بها العبيد الأفارقة في الولايات المتحدة، اضطر مترجموه الأمريكيون إلى حذف هذه الفقرات؛ كي يجعلوا العمل أكثر قبولا لدى مؤيدي العبودية من أهل الجنوب عندما نشر بالإنجليزية في عام 1856. وهكذا فإن احتمال إلغاء الرق (الذي لم يصبح رسميا في الولايات المتحدة إلا في عام 1865) زاد من شدة الاهتمام بعلم الأعراق والأجناس.
16
كما توضح عناوين أعمال جوبينيو وكامبيل، كانت السمة المشتركة في معظم طرق التفكير العنصرية هي رد فعل باطني عميق مناهض لفكرة المساواة، وقد اعترف جوبينيو لتوكفيل بالاشمئزاز الذي أثاره في نفسه «أصحاب بدل العمل المتسخة» [العمال] الذين كانوا قد شاركوا في ثورة عام 1848 في فرنسا. أما كامبيل فقد شعر بالاشمئزاز من الوقوف على منصة سياسية واحدة مع ملونين. وما كان في وقت من الأوقات بمنزلة رفض أرستقراطي للمجتمع المعاصر - أي رفض الاختلاط بالطبقات الأدنى - اتخذ الآن دلالة عنصرية. ولعل ظهور السياسة الجماهيرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قوض تدريجيا معنى الفرق الطبقي (أو بدا وكأنه فعل هذا)، على أن هذه السياسة لم تمح الفروق كلية، وتحول الفرق من فرق في الطبقة إلى فرق في العرق والجنس، وتضافر إرساء حق الاقتراع العالمي للذكور مع إلغاء الرق وبداية الهجرة الجماعية لجعل المساواة أكثر واقعية وأكثر تهديدا.
17
فاقمت الإمبريالية هذه التطورات أكثر فأكثر؛ فحتى فيما ألغت القوى الأوروبية الرق في مستعمراتها، فقد وسعت نطاق هيمنتها في أفريقيا وآسيا. غزا الفرنسيون الجزائر في عام 1830، ثم ضموها أخيرا إلى فرنسا، واستولى البريطانيون على سنغافورا عام 1819، ونيوزيلاندا عام 1840، ثم أحكموا سيطرتهم على الهند، وبحلول عام 1914 كانت أفريقيا مقسمة بين فرنسا، وبريطانيا العظمى، وإيطاليا، والبرتغال، وبلجيكا ، وإسبانيا، ولم تكد تسلم من براثنهم أي دولة أفريقية. ومع أن الحكم الأجنبي قد ضاعف في بعض الحالات من «تخلف» البلدان؛ من خلال تدمير الصناعات المحلية لمصلحة الاستيراد من المركز الاستعماري، فإن الأوروبيين خرجوا من غزواتهم بعبرة واحدة بصفة عامة، ألا وهي: أن لهم حق - وعليهم واجب - «جلب الحضارة» إلى لأماكن الأكثر تخلفا التي حكموها.
ولم يكن جميع من أيدوا هذه المشاريع الاستعمارية يشجعون العنصرية الصريحة؛ فقد رفض جون ستيوارت مل - الذي عمل لسنوات عديدة في «شركة الهند الشرقية» البريطانية، وكان هو المدير الناجح للحكم البريطاني في الهند حتى عام 1858 - التفاسير البيولوجية للاختلاف، لكن حتى مل نفسه كان يعتقد أن المناطق الهندية الأصلية كانت «همجية، وليست لديها قوانين، أو أن لديها قدرا أدنى من القانون»، وتعيش في حالة «لا ترقى إلا قليلا فوق حالة أكثر الحيوانات تطورا». وبالرغم من رغبة مل، كون الاستعمار الأوروبي وعلم الأعراق علاقة تكافلية: فاستعمارية «الأعراق الغازية» جعلت مزاعم العنصرية أكثر مصداقية، وساعد علم الأعراق على تبرير الاستعمار. وقد تبنى المستكشف البريطاني ريتشارد برتون، في عام 1861، الخط الذي سرعان ما أصبح اتجاها شائعا في ذلك الوقت؛ إذ صرح أن الأفارقة: «يتقاسمون في الأغلب الأعم أسوأ صفات أنماط الشخصيات الشرقية الأدنى؛ من ركود ذهني، وخمول جسدي، ونقص أخلاقي، ومعتقدات خرافية، وعاطفة طفولية.» وبعد سبعينيات القرن التاسع عشر، وجدت هذه التوجهات الفكرية جمهورا عريضا في الصحف الجديدة الرخيصة، والمجلات الأسبوعية المصورة، والمعارض الخاصة بوصف الأعراق البشرية، وحتى في الجزائر، التي كانت تعتبر جزءا لا يتجزأ من فرنسا بعد عام 1848، لم يحصل السكان الأصليون على الحقوق إلا على المدى الطويل جدا. وفي عام 1865، أعلن الجزائريون الأصليون بموجب مرسوم حكومي رعايا وليسوا مواطنين، في حين أنه في عام 1870 جعلت الحكومة الفرنسية اليهود الجزائريين مواطنين حاصلين على الجنسية الفرنسية، ولم يحصل الذكور المسلمون على حقوق سياسية متساوية إلا في عام 1947، فلم تكن «حملة إدخال الشعوب إلى الحضارة» مشروعا قصير المدى.
18
لم يعتبر جوبينيو اليهود حالة خاصة في شرحه لعلم الأعراق، على أن أتباعه اعتبروهم كذلك. مزج هيوستن ستيوارت تشامبرلين في كتابه «أساسات القرن التاسع عشر» الذي نشر في ألمانيا عام 1899، أفكار جوبينيو حول العرق والصوفية الألمانية بالهجوم العنيف على اليهود، ذلك «الشعب الأجنبي» الذي استعبد «حكوماتنا، وقوانينا، وعلمنا، وتجارتنا، وأدبنا، وفنوننا». ولم يطرح تشامبرلين سوى حجة جديدة واحدة فحسب، غير أنه كان لها تأثيرها المباشر على هتلر: فالآريون واليهود وحدهم دون كل الشعوب هم الذين حافظوا على نقائهم العرقي، وعليه لا بد أن يتقاتلوا حتى الموت. في أوجه أخرى، حشد تشامبرلين مجموعات متنوعة من الأفكار الآخذة في الانتشار.
19
على الرغم من أن مذهب معاداة السامية الحديث يقوم على المعتقدات المسيحية النمطية السلبية بشأن اليهود والتي انتشرت طيلة قرون، فإنه اتصف بصفات جديدة بعد سبعينيات القرن التاسع عشر. وعلى خلاف السود، لم يعد اليهود يمثلون مرحلة أدنى من التطور التاريخي، كما كانوا في القرن الثامن عشر على سبيل المثال؛ بل إنهم تصدوا لتهديدات الحداثة نفسها: المادية المفرطة، وتحرير الأقليات ومشاركتهم في السياسة، والعالمية «المنحطة» «عديمة الجذور» للحياة الحضرية. صورت الرسوم الكاريكاتيرية في الصحف اليهود على أنهم أشخاص جشعون، مراءون، ماجنون؛ وكتب الصحفيون ومؤلفو الكتيبات عن سيطرة اليهود على رأس المال العالمي، والمناورات التآمرية للأحزاب البرلمانية (انظر الشكل رقم
5-1 ). ففي رسم كاريكاتيري أمريكي يرجع إلى عام 1894 - أقل كراهية وغلا من العديد من الرسومات الأوروبية المماثلة - تظهر قارات العالم تطوقها أرجل أخطبوط جالس في موضع الجزر البريطانية، والاسم المكتوب على الأخطبوط هو «روتشيلد»، في إشارة إلى عائلة روتشيلد اليهودية الثرية ذات النفوذ. وزاد من اشتعال محاولات التشنيع المعاصرة هذه «بروتوكولات حكماء صهيون»، تلك الوثيقة الاحتيالية التي يفهم منها أنها تكشف عن مؤامرة يهودية لإقامة حكومة كبرى تهيمن على العالم بأكمله. نشرت هذه البروتوكولات للمرة الأولى في روسيا عام 1903، وفضحت باعتبارها مزيفة عام 1921، وبالرغم من ذلك أعاد النازيون نشرها مرارا وتكرارا في ألمانيا، وتدرس إلى يومنا هذا على أنها حقائق في المدارس في بعض البلدان العربية. وهكذا مزجت معاداة السامية الحديثة بين عناصر تقليدية وأخرى حديثة: ينبغي حرمان اليهود من الحقوق، بل وطردهم من الوطن؛ لأنهم شديدو الاختلاف وأصحاب نفوذ واسع.
شكل 5-1: «الثورة الفرنسية، في الماضي واليوم»، كاران دي أش في «بست ...!» 1898. (كان كاران دي أش هو الاسم المستعار لرسام الكرتون السياسي الفرنسي إيمانويل بوار الذي نشر رسوما كاريكاتيرية معادية للسامية إبان «قضية دريفوس» في فرنسا. تلعب هذه الصورة على وتر فكرة شائعة من أيام الثورة الفرنسية عام 1789، وتصور الفلاح يحمل بشق الأنفس أحد النبلاء (لأن النبلاء كانوا معفيين من بعض الضرائب). وفي الوقت الحاضر، يتعين على الفلاح أن يحمل المزيد من الأعباء؛ فعلى منكبيه يركب أحد الساسة الجمهوريين، وفوقه أحد الماسونيين، وعلى القمة ممول يهودي. نشر كاران دي أش أيضا العديد من الصور التي تسخر من زولا. مأخوذة من «بست ...!» العدد 37، 15 أكتوبر، 1898.)
الاشتراكية والشيوعية
لم تكن القومية هي الحركة الجماهيرية الوحيدة في القرن التاسع عشر، فعلى غرار القومية تبلورت كل من الاشتراكية والشيوعية كرد فعل صريح للقيود المدركة لحقوق الأفراد التي صاغها الدستور، وحين أراد القوميون الأوائل كسب الحقوق لكافة الشعوب، وليس فقط للشعوب التي تملك أوطانا قائمة بالفعل، أراد الاشتراكيون والشيوعيون أن يضمنوا أن الطبقات الأدنى سوف تنعم بمساواة اجتماعية واقتصادية وليس بمجرد حقوق سياسية متساوية. لكن مع أن المنظمات الاشتراكية والشيوعية لفتت الانتباه إلى حقوق لم يمنحها أنصار حقوق الإنسان، فإنها حطت - على نحو حتمي - من أهمية الحقوق باعتبارها هدفا. وكانت وجهة نظر ماركس واضحة تماما: يمكن تحقيق التحرير السياسي عن طريق المساواة أمام القانون في المجتمعات البرجوازية، غير أن التحرير الحقيقي للإنسان يتطلب تدمير المجتمعات البرجوازية والحمايات الدستورية التي تسبغها على الملكية الخاصة. إلا أن الاشتراكيين والشيوعيين طرحوا سؤالين عسيرين حول الحقوق: هل الحقوق السياسية كافية؟ وهل يمكن أن يتعايش حق الفرد في حماية ممتلكاته الخاصة مع حاجة المجتمع إلى توفير العيش الكريم لأفراده الأقل حظا؟
تماما مثلما مرت القومية بطورين في القرن التاسع عشر، من الحماس المبكر لتقرير المصير نحو وقائية أكثر دفاعا عن الهوية العرقية، تغيرت الاشتراكية أيضا بمرور الوقت؛ إذ انتقلت من تشديد مبكر على إعادة بناء المجتمع بوسائل سلمية ولكن غير سياسية إلى انقسام حاد بين المؤيدين للممارسة البرلمانية للسياسة وأولئك الداعين للإطاحة بالحكومات بأسلوب عنيف. وفي خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، عندما كانت النقابات العمالية كيانات غير شرعية في معظم البلدان، ولم يكن يحق للعمال التصويت، ركز الاشتراكيون على إضافة الطابع الثوري على العلاقات الاجتماعية الجديدة التي خلقها تحول المجتمع إلى التصنيع، وما كان للاشتراكيين أن يأملوا في الفوز بالانتخابات ما لم يكن في مقدور العمال التصويت، الأمر الذي ظل قائما حتى سبعينيات القرن التاسع عشر على الأقل. وبدلا من ذلك، أقام الرواد الاشتراكيون مصانع مثالية، وجمعيات للمنتجين والمستهلكين، ومجتمعات تجريبية للتغلب على الصراع والغربة بين المجموعات الاجتماعية. لقد أرادوا أن يمكنوا العمال والفقراء من أن يستفيدوا من النظام الصناعي الجديد، وأن يحولوا الصناعة إلى ساحة اجتماعية، وأن يستبدلوا التعاون بالمنافسة.
تشارك كثيرون من أولئك الاشتراكيين الأوائل مشاعر عدم الثقة تجاه «حقوق الإنسان». أكد تشارلز فورييه، الاشتراكي الفرنسي الذي برز في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر، أن الدساتير والمناداة بالحقوق الثابتة هي زيف. ماذا يمكن أن تعني «حقوق المواطن التي لا يجوز المساس بها» عندما «لا يملك الفقير الحرية ليعمل» ولا السلطة ليطلب وظيفة؟ ومن وجهة نظره، فاق الحق في العمل كافة الحقوق الأخرى. وعلى غرار فورييه، استشهد كثيرون من الاشتراكيين الأوائل بالإخفاق في منح المرأة حقوقها كعلامة على عجز مذاهب حقوق الإنسان السابقة. فهل يمكن بحال أن تتحرر المرأة دون إلغاء الملكية الخاصة والتشريعات الداعمة للسلطة الأبوية الذكورية؟
20
ثمة عاملان غيرا مسار الاشتراكية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: ظهور حق الاقتراع العالمي للذكور، وظهور الشيوعية (ظهرت لفظة «شيوعي» للمرة الأولى كمصطلح في عام 1840)، وعندئذ انقسم الاشتراكيون والشيوعيون بين أولئك الذين رموا إلى تأسيس حركة سياسية برلمانية ذات أحزاب وحملات لتولي السلطة، وأولئك الذين أصروا على أن الحكم المطلق للبروليتاريا (طبقة العمال) والثورة الكاملة وحدهما من شأنهما أن يبدلا الأحوال الاجتماعية، ومن هؤلاء البلاشفة الروس. وآمن أنصار الفكر الأول بأن إرساء حق التصويت العالمي لجميع الرجال إرساء تدريجيا قد أتاح إمكانية أن يبلغ العمال أهدافهم في إطار سياسة برلمانية؛ على سبيل المثال: تألف حزب العمال البريطاني في عام 1900 من مجموعة متنوعة من الاتحادات والأحزاب والنوادي الموجودة سلفا لتعزيز مصالح العمال. ومن ناحية أخرى شجعت الثورة الروسية التي اندلعت عام 1917 الشيوعيين في كل مكان على أن يؤمنوا بأن التحول الاجتماعي والاقتصادي الشامل يلوح في الأفق، وأن المشاركة في السياسة البرلمانية يركز الطاقات اللازمة للتصدي لصراعات أخرى.
وكما يمكن أن نتوقع، اختلف هذان الفكران أيضا في رأيهما بشأن الحقوق؛ فالاشتراكيون والشيوعيون الذين اعتنقوا العملية السياسية تبنوا أيضا قضية الحقوق. أكد جان جوريس، أحد مؤسسي الحزب الاشتراكي الفرنسي، أن الدولة الاشتراكية «تحافظ على شرعيتها بالقدر الذي تكفل به الحقوق الفردية». وقد أيد آراء دريفوس، وحق التصويت العام للرجال، وفصل الكنيسة عن الدولة، وباختصار، دعا جوريس إلى حقوق سياسية متساوية لجميع الرجال بالإضافة إلى تحسين حياة العمال، واعتبر «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» وثيقة لها أهمية عالمية. أما أصحاب الرأي الآخر فقد اتبعوا ماركس في زعمهم - مثلما فعل أحد الاشتراكيين الفرنسيين المناوئين لجوريس - أن الدولة البرجوازية لا يمكن إلا أن تكون «أداة للمذهب المحافظ والقمع الاجتماعي».
21
لم يناقش كارل ماركس نفسه حقوق الإنسان بأي قدر من الاستفاضة سوى في شبابه؛ ففي مقاله «حول القضية اليهودية»، الذي نشر عام 1843، أي قبل صدور «البيان الشيوعي» بخمسة أعوام، أدان بالتحديد الأسس التي يقوم عليها «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»؛ فقد تبرم قائلا: «لا يتعدى أي حق من الحقوق المفترضة للإنسان حدود الإنسان الأناني.» فتلك الحرية المزعومة تنظر للإنسان وكأنما هو مخلوق منعزل، وليس جزءا من طبقة أو مجتمع، وحق الملكية لا يضمن سوى الحق في السعي وراء المصلحة الذاتية دون اعتبار للآخرين، وحقوق الإنسان تكفل حرية الاعتقاد واختيار الدين في حين أن ما يحتاجه الإنسان هو التحرر من الدين؛ وهي تؤكد على الحق في اقتناء الممتلكات في حين أن ما يحتاجه الإنسان هو التحرر من الممتلكات؛ كما اشتملت على الحق في الانخراط في الأعمال التجارية في حين أن ما يحتاجه الإنسان هو التحرر من الأعمال التجارية. وقد مقت ماركس بالتحديد التأكيد على السياسة في حقوق الإنسان؛ إذ حسب أن الحقوق السياسية تتعلق بالوسائل وليس الغايات؛ ففي رأيه «الرجل الممارس للسياسة» هو «رجل تجريدي» و«زائف» وليس رجلا حقيقيا أصيلا، ولا يستطيع الرجل أن يسترد أصالته إلا عندما يدرك أن تحرير الإنسان لا سبيل إلى تحقيقه من خلال السياسة، وإنما يحتاج إلى ثورة تركز على العلاقات الاجتماعية وإلغاء حق الملكية الخاصة.
22
أثرت تلك الآراء وبعض تنويعاتها اللاحقة على الحركة الاشتراكية والشيوعية تأثيرا دام أجيالا. أصدر البلاشفة «إعلان حقوق جماهير الشعب العاملة المستغلة» في عام 1918، غير أن هذا الإعلان لم يتضمن حقا سياسيا أو قانونيا واحدا، وكان هدفه هو «إلغاء كافة أوجه استغلال الإنسان للإنسان، والقضاء الكامل على تقسيم المجتمع إلى طبقات، وسحق مقاومة المستغلين بلا هوادة، وتأسيس منظمة اشتراكية من أفراد المجتمع». استشهد لينين نفسه بماركس في رفض أي تأكيد على الحقوق الفردية، وأكد على أن فكرة الحق المتساوي هي في حد ذاتها انتهاك للمساواة، وتنطوي على جور؛ لأنها قائمة على «قانون برجوازي»، فتلك الحقوق المتساوية المزعومة - من وجهة نظره - تحمي الملكية الخاصة، ومن ثم تستغل العمال. وأصدر جوزيف ستالين دستورا جديدا في عام 1936 زعم أنه يكفل حرية القول، والصحافة، والدين، غير أن حكومته لم تتوان عن إرسال مئات الآلاف من أعداء الطبقة، والمعارضين، بل وحتى بعض رفاقهم من أعضاء الحزب، إلى المعتقلات، أو إعدامهم فورا.
23
الحربان العالميتان والبحث عن حلول جديدة
حتى فيما استهل البلاشفة تأسيس الحكم الديكتاتوري للبروليتاريا في روسيا، كانت الأعداد الفلكية للقتلى الذين سقطوا في الحرب العالمية الأولى تحث قادة ما سمي بعد ذلك بوقت قصير «الحلفاء» المنتصرين على التوصل إلى آلية جديدة لضمان السلام، وعندما وقع البلاشفة معاهدة سلام مع الألمان في مارس عام 1918، كانت روسيا قد فقدت قرابة مليوني شخص. وبحلول وقت انتهاء الحرب على الجبهة الغربية في نوفمبر عام 1918، كان أربعة عشر مليون شخص قد لقوا مصرعهم، معظمهم من الجنود. وانتهى الحال بثلاثة أرباع الرجال الذين حشدوا للقتال في روسيا وفرنسا ما بين قتيل وجريح. وفي عام 1919، أنشأ الدبلوماسيون الذين حرروا اتفاقيات السلام ما يسمى «عصبة الأمم» من أجل حفظ السلام، ومراقبة نزع الأسلحة، والتحكيم في النزاعات بين الأمم، وكفالة حقوق الأقليات القومية والمرأة والطفل. وأخفقت عصبة الأمم في مهمتها على الرغم من الجهود النبيلة المبذولة. رفض مجلس الشيوخ الأمريكي إقرار المشاركة الأمريكية؛ وحرمت كل من ألمانيا وروسيا العضوية من الأصل؛ وفيما كانت العصبة تعزز حق تقرير المصير القومي في أوروبا، فإنها أشرفت على إدارة المستعمرات الألمانية السابقة والأقاليم التابعة للإمبراطورية العثمانية البائدة من خلال نظام «الانتداب» الذي برر مرة أخرى بالتقدم الأوروبي على الشعوب الأخرى. وعلاوة على ذلك، عجزت عصبة الأمم عن إيقاف الصعود المستمر للفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا، ومن ثم لم تتمكن من الحيلولة دون اندلاع الحرب العالمية الثانية.
سجلت الحرب العالمية الثانية رقما قياسيا في الوحشية بعدد قتلى يصعب تصوره وصل إلى ستين مليون قتيل. وعلاوة على ذلك فإن أغلبية الذين قتلوا هذه المرة من المدنيين، ومنهم ستة ملايين يهودي لم يقتلوا لأي سبب سوى أنهم يهود، وخلفت الفوضى ملايين اللاجئين في نهاية الحرب، كثيرون منهم بالكاد يستطيعون أن يتطلعوا إلى المستقبل ويأملوا في العيش في مخيمات «اللاجئين»، إلا أن آخرين أجبروا على الهجرة لأسباب عرقية (على سبيل المثال، طرد مليونان ونصف المليون ألماني من تشيكوسلوفاكيا عام 1946)، واستهدفت جميع القوى المشاركة في الحرب المدنيين في وقت أو آخر، إلا أنه مع انتهاء الحرب، فزع العامة لدى الكشف عن حجم الفظائع التي ارتكبها الألمان عمدا؛ فقد كشفت الصور التي التقطت عند تحرير معسكرات الموت النازية عن الأهوال المروعة التي ترتبت على معاداة السامية، والتي سوغتها المناداة بالسيادة العرقية للجنس الآري والتطهير القومي. لم يقتصر دور محاكمات نورمبرج في عامي 1945-1946 على لفت أنظار جمهور عريض من الناس إلى مثل هذه الأعمال الوحشية ، لكنها أرست أيضا حادثة غير مسبوقة، هي أن الحكام، ورجال الدولة، والعسكريين، يمكن أن يعاقبوا على ارتكابهم جرائم «ضد الإنسانية».
وحتى قبل أن تنتهي الحرب، عزم الحلفاء - لا سيما الولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي، وبريطانيا العظمى - على تحسين أداء «عصبة الأمم»، وعليه وضعوا في مؤتمر عقد في سان فرانسيسكو في ربيع عام 1945 الهيكل الأساسي لهيئة دولية جديدة هي «الأمم المتحدة»، على أن يكون لهذه الهيئة «مجلس أمن» تهيمن عليه القوى العظمى، و«جمعية عامة» تضم مندوبين من كافة الدول الأعضاء، و«أمانة عامة» يرأسها أمين يقوم بدور الموظف التنفيذي. أسفر المؤتمر أيضا عن إنشاء «محكمة العدل الدولية» في لاهاي بهولندا؛ كي تحل محل محكمة مشابهة كانت قد أسستها عصبة الأمم في عام 1921، ووقعت إحدى وخمسون دولة ميثاق الأمم المتحدة بصفتها الدول المؤسسة في السادس والعشرين من يونيو عام 1945.
وعلى الرغم من الأدلة الدامغة المكتشفة على الجرائم النازية ضد اليهود، والغجر، والسلافيين، وغيرهم، فإنه كانت هناك حاجة لدفع وتحفيز الدبلوماسيين المجتمعين في سان فرانسيسكو كي يضعوا مسألة حقوق الإنسان ضمن بنود جدول الأعمال. في عام 1944، كانت كل من بريطانيا العظمى والاتحاد السوفييتي قد رفضتا اقتراحات تضمين حقوق الإنسان في ميثاق الأمم المتحدة. أما بريطانيا فقد خشيت التشجيع الذي قد يقدمه هذا الإجراء لحركات الاستقلال في مستعمراتها، وأما الاتحاد السوفييتي فلم يرغب في أي تدخل في نطاق تأثيره الآخذ في الاتساع في ذلك الوقت. وبالإضافة إلى ذلك فإن الولايات المتحدة عارضت في البداية اقتراحا تقدمت به الصين بأن يتضمن الميثاق بيانا ينص على المساواة بين جميع الأعراق.
جاء الضغط من اتجاهين مختلفين؛ إذ حثت العديد من البلدان صغيرة ومتوسطة الحجم في أمريكا اللاتينية وآسيا على منح المزيد من الاهتمام لحقوق الإنسان، ويرجع هذا جزئيا إلى أنهم استاءوا من الهيمنة الاستبدادية للقوى العظمى على وقائع الجلسات. وعلاوة على ذلك، فقد ضغط عدد غفير من المنظمات الدينية والعمالية والنسائية والمدنية - معظمها كائن في الولايات المتحدة - على مفوضي المؤتمر مباشرة، وساعدت التماسات عاجلة رفعها مندوبو «اللجنة اليهودية الأمريكية»، و«اللجنة المشتركة للحرية الدينية»، و«ملتقى المنظمات الصناعية»، و«الجمعية الوطنية لتحسين حال الملونين»، في تغيير المسئولين بوزارة الخارجية الأمريكية رأيهم، فوافقوا على تضمين حقوق الإنسان في ميثاق الأمم المتحدة، ووافق أيضا كل من الاتحاد السوفييتي وبريطانيا العظمى لما ضمن الميثاق عدم تدخل الأمم المتحدة مطلقا في الشئون الداخلية لأي بلد.
24
كان الالتزام بحقوق الإنسان لا يزال غير مضمون على الإطلاق؛ فقد شدد ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945 على قضايا الأمن العالمي، ولم يخصص سوى بضعة أسطر ل «الاحترام والمراعاة العالميين لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية دونما تمييز من أي نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين». غير أن الميثاق أسس «لجنة حقوق الإنسان» التي قررت أن تكون أولى مهامها صياغة ميثاق لحقوق الإنسان. لعبت إلينور رزوفلت، بوصفها رئيس اللجنة، دورا محوريا في صياغة الإعلان، ثم رعايته حتى إتمام العملية المعقدة المتمثلة في الحصول على موافقة الدول الأعضاء عليه. أعد جون هامفري، أستاذ القانون بجامعة ماكجيل بكندا، والبالغ من العمر أربعين عاما، المسودة الأولية للإعلان، وكان لا بد بعدئذ من أن يراجعها كافة أعضاء اللجنة، ثم تمرر إلى كافة الدول الأعضاء، وعندئذ يراجعها المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وفي حال الموافقة عليها ترسل إلى الجمعية العامة؛ حيث لا بد أن تنظرها أولا اللجنة الثالثة للشئون الاجتماعية والإنسانية والثقافية. وكان للجنة الثالثة مفوضون من كافة الدول الأعضاء، وفيما طرحت المسودة للنقاش اقترح الاتحاد السوفييتي إدخال تعديلات على جميع مواد الإعلان تقريبا. وبعد انعقاد ثلاثة وثمانين اجتماعا (للجنة الثالثة وحدها)، وإدخال قرابة مائة وسبعين تعديلا فيما بعد، اعتمدت المسودة للتصويت عليها. وأخيرا في العاشر من ديسمبر عام 1948، أقرت الجمعية العامة «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان». صوتت ثمان وأربعون دولة بالموافقة، وامتنعت ثماني دول تابعة للكتلة السوفييتية عن التصويت، ولم تعارض أي دولة.
25
وعلى غرار إعلاني القرن الثامن عشر السابقين لإعلان الأمم المتحدة، أوضح الإعلان العالمي في الديباجة الأسباب التي جعلت إصدار مثل هذه الوثيقة الرسمية ضرورة ملحة . أكد الإعلان أن: «تجاهل حقوق الإنسان وازدراءها قد أفضيا إلى أعمال أثارت بربريتها الضمير الإنساني.» وكان الاختلاف الطفيف في لغة هذا الإعلان عن لغة الإعلان الفرنسي الأصلي لعام 1789 معبرا وذا دلالة؛ ففي عام 1789، أكد الإعلان الفرنسي أن: «الجهل والإهمال وعدم احترام حقوق الإنسان هي وحدها أسباب شقاء المجتمع وفساد الحكومات.» ولم يعد «الجهل» ولا حتى «الإهمال» البسيط واردا؛ فبحلول عام 1948، كان من المفترض أن الناس جميعا يعرفون ما الذي تعنيه حقوق الإنسان. وعلاوة على ذلك، فإن التعبير الذي استخدم عام 1789، «شقاء المجتمع»، لا يعبر بأي حال عن هول الأحداث التي وقعت مؤخرا. إن التجاهل المتعمد لحقوق الإنسان وازدراءها قد أفضيا إلى أعمال يكاد لا يمكن لإنسان أن يتخيل وحشيتها.
لم يعد الإعلان العالمي يؤكد على أفكار الحقوق الفردية التي بزغت في القرن الثامن عشر من مساواة أمام القانون، وحرية التعبير، وحرية المعتقد، والحق في المشاركة في السياسة، وحماية الممتلكات الخاصة، ورفض التعذيب والعقاب الوحشي فحسب (انظر ملحق الكتاب)، وإنما حظر أيضا بكل وضوح العبودية، وأقر حق تصويت عالمي ومتساو عن طريق الاقتراع السري. وبالإضافة إلى ذلك، نادى الإعلان العالمي بحرية الانتقال، والحق في التمتع بجنسية، والحق في الزواج، والأمور الأكثر إثارة للجدل؛ مثل الحق في الضمان الاجتماعي، والحق في العمل والحصول على أجر متساو عن العمل المتساوي، يكفل العيش الكريم، والحق في الراحة وأوقات الفراغ، والحق في التعليم الذي يجب أن يتوفر مجانا في المراحل الابتدائية. وقد عبر الإعلان العالمي - إبان فترة تصاعد حدة الصراع في الحرب الباردة - عن مجموعة من التطلعات، وليس عن واقع يمكن بلوغه بسهولة؛ لقد حدد مجموعة من الالتزامات الأخلاقية للمجتمع الدولي، بيد أنه لم يملك آلية لتنفيذها، ولو أنه اشتمل على آلية للتنفيذ، لما كان ليعلن أبدا ؛ فما كانت الدول لتوافق عليه مطلقا. لكن على الرغم من كافة أوجه القصور، فإن وثيقة الإعلان تركت آثارا مشابهة لتلك التي كانت لإعلاني القرن الثامن عشر السابقين، فقد وضع الإعلان لما ينيف على الخمسين عاما معايير النقاش والعمل الدوليين فيما يتعلق بحقوق الإنسان.
بلور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مائة وخمسين عاما من الصراع من أجل الحقوق؛ فطيلة القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حفظت المجتمعات الخيرة شعلة حقوق الإنسان العالمية مشتعلة، بينما انغلقت باقي الأمم على نفسها. وكان من أبرز تلك المجتمعات الجماعات التي قامت مستلهمة نموذج جماعة الكويكرز التي تأسست من أجل مكافحة الرق وتجارة الرقيق، وزعت «الجمعية البريطانية لإلغاء تجارة الرقيق»، التي تأسست في عام 1787، مواد مطبوعة وصورا تدعو لمكافحة تجارة العبيد، ونظمت حملات التماس جماعية موجهة للبرلمان، ووطد قادة هذه الجمعية علاقاتهم مع مناهضي الرق في الولايات المتحدة، وفرنسا، وجزر الكاريبي. وعندما أقر البرلمان عام 1807 قانونا لوقف المشاركة البريطانية في تجارة الرقيق، أعاد أنصار إلغاء الرق تسمية جمعيتهم ب «جمعية مكافحة الرق»، واتجهت إلى تنظيم حملات التماس جماعية كي تجعل البرلمان يلغي الرق نفسه كما ألغى تجارة الرقيق، الأمر الذي أقره البرلمان أخيرا عام 1833. عندئذ حملت «الجمعية البريطانية والأجنبية لمكافحة الرق» على عاتقها مسئولية القضاء على الرق في أماكن أخرى، وخاصة في الويات المتحدة.
وبناء على اقتراح من أنصار إلغاء الرق الأمريكيين، نظمت الجمعية البريطانية مؤتمرا عالميا لمكافحة الرق في لندن عام 1840 كي تنسق المقاومة الدولية للرق، وعلى الرغم من أن المفوضين رفضوا السماح لأنصار إلغاء الرق من النساء بالمشاركة بأي شكل رسمي، ومن ثم ساعدوا في تعجيل خطوات حركة حق النساء في التصويت، فإنهم أعطوا دفعة قوية لقضية مكافحة الرق عالميا بتكوين علاقات دولية جديدة، وبمعلومات حول ظروف العبيد، وقرارات نددت بالرق باعتباره «خطيئة في حق الله»، وأدانوا الكنائس التي تؤيد الرق، ولا سيما في جنوب الولايات المتحدة. ومع أن المؤتمر «العالمي» كان يخضع لهيمنة البريطانيين والأمريكيين، فقد كان بمنزلة نموذج لحملات دولية مستقبلية من أجل منح النساء حق التصويت، ومناهضة عمالة الأطفال، وحقوق العمال، ومجموعة متنوعة من القضايا الأخرى، وكانت بعض الحقوق متصلة والبعض الآخر غير ذات صلة؛ مثل حملة الاعتدال في شرب الخمر.
26
إبان خمسينيات وستينيات القرن العشرين، نحيت قضية حقوق الإنسان الدولية جانبا لصالح صراعات الاستقلال ومناهضة الاستعمار؛ ففي ختام الحرب العالمية الأولى، أصر الرئيس وودرو ويلسون - كما هو معروف - على أن السلام الدائم لا بد أن يكون قائما على مبدأ حق تقرير المصير القومي. قال ويلسون بإصرار: «لكل شعب الحق في اختيار السلطة التي سيعيش في ظلها.» كان يقصد حينها البولنديين، والتشيكوسلوفاكيين، والصرب - وليس الأفارقة - وقد منح هو وحلفاؤه الاستقلال لبولندا، وتشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا؛ لأنهم اعتبروا أنهم يملكون حق التصرف في الأراضي التي كانت تسيطر عليها من قبل القوى المهزومة، ووافقت بريطانيا العظمى على أن تلحق حق تقرير المصير القومي بميثاق الأطلنطي الذي صدر عام 1941، والذي يحدد المبادئ البريطانية الأمريكية المشتركة في خوض الحرب، غير أن وينستون تشرشل أصر على أن هذا يسري على أوروبا فحسب، وليس على مستعمرات بريطانيا، أما المفكرون الأفارقة فقد خالفوهم الرأي، وجعلوا هذا المبدأ جزءا من حملتهم المتصاعدة من أجل الاستقلال. ومع أن الأمم المتحدة فشلت في سنواتها الأولى في اتخاذ موقف قوي بشأن تفكيك الاستعمار ومنح الاستقلال للدول المحتلة، فقد وافقت بحلول عام 1952 على جعل حق تقرير المصير جزءا رسميا من برنامجها. وفي ستينيات القرن العشرين، استردت معظم الدول الأفريقية استقلالها؛ إما بوسائل سلمية أو بالقوة. ومع أن الدول الأفريقية المستقلة حديثا دمجت أحيانا في دساتيرها الحقوق المنصوص عليها في «الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية» لعام 1950 - على سبيل المثال - فكثيرا ما وقعت الضمانة القانونية للحقوق فريسة للتقلبات السياسية بين الدول وبين القبائل.
27
في العقود التي تلت عام 1948، تشكل إجماع دولي على أهمية الدفاع عن حقوق الإنسان على نحو متقطع. لقد بدأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان العملية ولم يكن هو ذروتها. لم يتجل تطور حقوق الإنسان في أي مكان أكثر مما تجلى في أوساط الشيوعيين، الذين قاوموا هذه الدعوة زمنا طويلا؛ فبدءا من سبعينيات القرن العشرين، رجعت الأحزاب الشيوعية في غرب أوروبا إلى تبني موقف يشبه كثيرا ذلك الذي قدمه جوريس في فرنسا في مطلع القرن؛ فقدموا الديمقراطية والمصادقة على حقوق الإنسان صراحة، بديلا عن «الحكم الاستبدادي لطبقة البروليتاريا» في برامجهم الرسمية. ونحو نهاية ثمانينيات القرن العشرين، بدأت الكتلة السوفييتية تتحرك في نفس الاتجاه. واقترح الأمين العام للحزب الشيوعي، ميخائيل جورباتشوف، على مؤتمر الحزب الشيوعي لعام 1988 في موسكو أن الاتحاد السوفييتي ينبغي أن يكون من الآن فصاعدا دولة تخضع لسيادة القانون، ينعم فيها «المواطن السوفييتي بالحماية القصوى لحقوقه وحرياته». وفي العام نفسه، أنشئ قسم حقوق الإنسان للمرة الأولى في كلية حقوق سوفييتية. لقد حدث تقارب تدريجي في الفكر؛ إذ اشتمل الإعلان العالمي لعام 1948 على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية - كالحق في التمتع بالضمان الاجتماعي، والحق في العمل، والحق في التعليم على سبيل المثال - وبحلول ثمانينيات القرن العشرين كانت معظم الأحزاب الاشتراكية والشيوعية قد تخلت عن معارضتها السابقة للحقوق السياسية والمدنية.
28
ولم تتوار المنظمات غير الحكومية البتة، وإنما اكتسبت المزيد من التأثير الدولي بدءا من ثمانينيات القرن العشرين، ويعزى هذا في المقام الأول إلى انتشار العولمة نفسها. قدمت منظمات غير حكومية - مثل «منظمة العفو الدولية» (التي تأسست عام 1961)، و«الجمعية الدولية لمكافحة الرق» (امتداد ل «جمعية مكافحة الرق»)، ومنظمة «مراقبة حقوق الإنسان» (الشهيرة باسم «هيومان رايتس ووتش»، التي تأسست عام 1978)، ومنظمة «أطباء بلا حدود» (تأسست عام 1971)، ناهيك عن عدد لا حصر له من الجماعات المحلية التي لم يذع صيت أنشطتها خارج مجتمعاتها المحلية - دعما غاية في الأهمية لحقوق الإنسان في العقود العديدة المنصرمة. وكثيرا ما تسببت المنظمات غير الحكومية في زيادة الضغط على الحكومات المنتهكة لحقوق الإنسان، وقامت بالكثير من أجل الحد من المجاعات، وانتشار الأمراض، والمعاملة الوحشية التي يتعرض لها المعارضون والأقليات، فاق ما قامت به الأمم المتحدة نفسها، غير أنها جميعا تقريبا بنت برامجها على الحقوق المنصوص عليها بوضوح في جزء أو آخر من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
29
غني عن القول أن حقوق الإنسان ما زال قبولها أيسر من تطبيقها؛ فالفيض الهائل من المؤتمرات والاتفاقيات الدولية من أجل مناهضة القتل الجماعي، والرق، والتعذيب، والعنصرية، ومن أجل حماية المرأة والأطفال والأقليات، يدل على أن حقوق الإنسان لا تزال في حاجة إلى إنقاذ. تبنت الأمم المتحدة «الاتفاقية التكميلية لإبطال الرق وتجارة الرقيق والنظم والممارسات الشبيهة بالرق» في عام 1956، ومع ذلك يقدر عدد الرقيق في العالم اليوم بسبعة وعشرين مليون عبد. كما أقرت الأمم المتحدة «اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة» في عام 1984؛ لأن التعذيب لم يختف عندما ألغيت أشكاله القضائية في القرن الثامن عشر، فبدلا من استخدام التعذيب في منظومة مجازة قانونا، انتقل إلى الغرف السرية وغير السرية للشرطة والقوات العسكرية في الدولة المعاصرة. أجازت النازية استخدام «الاستجواب الصارم» مع الشيوعيين، وشهود يهوه، والمخربين، والارهابيين، والمعارضين، و«العناصر المعادية للمجتمع»، والمتشردين من «البولنديين أو السوفييت». لم تعد الفئات هي نفسها بالضبط، غير أن إجراء التعذيب نفسه مستمر؛ في جنوب أفريقيا، وعلى يد الفرنسيين في الجزائر، وفي تشيلي، واليونان، والأرجنتين، والعراق، وعلى يد الأمريكيين في سجن أبو غريب؛ والقائمة طويلة بلا نهاية، ولم يتحقق بعد الأمل في وقف «الأعمال البربرية».
30
حدود التعاطف
ما الذي نستنتجه من عودة التعذيب والتطهير العرقي، والاستخدام المتواصل للاغتصاب باعتباره سلاحا للحرب والاضطهاد المستمر للمرأة، والاتجار الجنسي المتنامي بالأطفال والنساء، وممارسات الرق الباقية حتى يومنا هذا؟ هل خذلتنا حقوق الإنسان بثبوت عدم أهليتها لإنجاز المهمة؟ إن مفارقة البعد والقرب تلعب دورا في عصرنا الحديث؛ فمن ناحية مكن انتشار القراءة والكتابة وتطور الروايات، والصحف، والراديو، والسينما، والتليفزيون، من أن يتعاطف الكثير والكثير من الناس مع أناس لا يعيشون معهم بل يعيشون في ظروف مختلفة، ويمكن لصور الأطفال المتضورين جوعا في بنجلاديش، أو حكايات آلاف القتلى من الرجال والصبيان في سربرنيتشا بالبوسنة، أن تحشد ملايين الناس من أجل إرسال الأموال والسلع، وفي بعض الأحيان الذهاب بأنفسهم لمساعدة أشخاص في أماكن أخرى، أو حث حكوماتهم أو المنظمات الدولية كي تتدخل. ومن ناحية أخرى، تروي الحكايات المستقاة من مصادرها كيف تقاتل الجيران القريبون في رواندا بضراوة بالغة بسبب مسألة العرق، وقتلوا بعضهم بعضا بكل وحشية. هذا العنف البالغ ليس استثنائيا بالمرة أو حديث المنشأ؛ فلطالما حاول اليهود، والمسيحيون، والمسلمون، أن يعللوا سبب قتل قابيل، ابن آدم وحواء، لأخيه هابيل. وفيما مرت السنون على الأعمال الوحشية النازية، بينت الأبحاث الدقيقة أن البشر العاديين، الذين لا يعانون أي اضطرابات نفسية أو قناعات سياسية أو دينية ملتهبة بالحماس الشديد، يمكن استفزازهم في ظروف «مناسبة» ليرتكبوا ما يعرفون أنه قتل جماعي في الأماكن القريبة منهم؛ فالقائمون على التعذيب في الجزائر، والأرجنتين، وسجن أبو غريب، جميعهم كانوا في بادئ الأمر جنودا عاديين، هؤلاء القائمون على التعذيب والقتل هم أناس مثلي ومثلك، وهم عادة ما يعذبون أناسا قريبين منهم لدرجة أنهم يقفون أمامهم مباشرة.
31
وهكذا، في حين وسعت أشكال التواصل الحديثة وسائل التعاطف مع الآخرين، فإنها لم تستطع أن تضمن أن الناس سوف يتصرفون بناء على شعور المشاركة الوجدانية. يمكن اقتفاء أثر التناقض بشأن قوة التعاطف رجوعا إلى منتصف القرن الثامن عشر، وقد عبر عنه حتى أولئك الذين اضطلعوا بشرح آلية عمله. يتأمل آدم سميث في كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية»، ردة فعل «رجل الإنسانية في أوروبا» الذي يتناهى إلى مسامعه نبأ عن وقوع زلزال في الصين مات على إثره مئات الملايين من الناس، يتوقع سميث أن هذا الرجل سيقول كل ما يليق قوله، ثم يمضي لشأنه وكأن شيئا لم يكن. وعلى النقيض، إن علم أنه سوف يفقد خنصره في اليوم التالي، فلن يغمض له جفن طوال الليل. فهل يعني هذا أن ذلك الرجل على استعداد للتضحية بمئات الملايين من الصينين مقابل خنصره؟ كلا، ليس كذلك، كما يؤكد سميث. لكن ما الذي يجعل الإنسان يقاوم هذه الصفقة؟ يؤكد سميث قائلا: «ليست القوة الناعمة للبشرية» هي التي تمكننا من مقاومة المصلحة الشخصية، بل لا بد أنها قوة أكبر؛ قوة الضمير : «العقل، والمبدأ، والضمير، الكامن في الصدور، والإنسان الداخلي، ذلك القاضي الأعظم الحكم على سلوكياتنا.»
32
تشير قائمة سميث التي ترجع إلى عام 1759 - والتي تضم العقل، والمبدأ، والضمير، والإنسان الداخلي - إلى عنصر مهم في الجدل الحالي حول التعاطف. ما الدافع القوي بما يكفي لدفعنا إلى التصرف انطلاقا من مشاعر المشاركة الوجدانية؟ إن التباين الذي يشوب قائمة سميث يدل على أنه عانى هو نفسه شيئا من الصعوبة في إجابة هذا السؤال؛ هل «العقل» معدود مرادفا ل «الضمير، الكامن في الصدور»؟ لقد بدا أن سميث يؤمن - شأنه في ذلك شأن العديد من نشطاء حقوق الإنسان في وقتنا هذا - بأن مزيجا من الابتهالات العقلية لمبادئ الحقوق والمناشدات العاطفية لمشاعر المشاركة الوجدانية يمكن أن يجعل التعاطف فعالا من الناحية الأخلاقية. كان النقاد في ذلك الحين - وكثيرون من النقاد اليوم - سيجيبون بأن شيئا من الاحساس بالواجب الديني الأسمى يحتاج تفعيله كي يفلح التعاطف. من وجهة نظرهم، لا يستطيع البشر التغلب على الميل الفطري الطبيعي إلى عدم الاكتراث أو إلى الشر من تلقاء أنفسهم وبدون مساعدة. أطلق أحد الرؤساء السابقين لنقابة المحامين الأمريكية تعبيرا عن وجهة النظر السائدة هذه فقال: «عندما لا يظهر البشر على صورة الله، عندئذ قد تفقد حقوقهم الأساسية السبب الغيبي الأسمى لوجودها.» إن فكرة المشاركة الإنسانية غير كافية وحدها.
33
يركز آدم سميث على قضية واحدة، في حين أن هناك قضيتين في حقيقة الأمر؛ يعتبر سميث أن التعاطف مع من هم بعيدون عنا من نفس طبقة المشاعر التي نكنها للقريبين منا، مع أنه يعترف بأن ما نتعرض له تعرضا مباشرا أكثر تحفيزا بكثير من المشكلات التي يواجهها من هم بعيدون عنا. إذن القضيتان هما: ما الذي يمكن أن يحفزنا للتصرف بناء على مشاعرنا تجاه البعيدين عنا؟ وما الذي يمكنه أن يسحق مشاعر المشاركة الوجدانية سحقا بحيث نستطيع أن نعذب، أو نشوه، أو حتى نقتل القريبين منا؟ لا بد أن تشتمل المسألة على عناصر البعد والقرب، والمشاعر الإيجابية والسلبية جميعها.
بداية من منتصف القرن الثامن عشر فصاعدا، وبالتحديد بسبب بزوغ فكرة حقوق الإنسان، باتت هذه التوترات أكثر تدميرا. سلط أنصار مناهضة الرق، والتعذيب الشرعي، والعقوبات القاسية في أواخر القرن الثامن عشر، الضوء على الوحشية في رواياتهم المعذبة للمشاعر؛ لقد عمدوا إلى إثارة الاشمئزاز، بيد أن إثارة الأحاسيس عن طريق قراءة ورؤية صور صارخة للمعاناة لم يمكن توجيهها بعناية على الداوم. وعلى نحو مشابه، اتخذت الروايات التي تلفت الانتباه بشدة إلى المعاناة التي تتكبدها الفتيات العاديات أشكالا أخرى أكثر خبثا بنهاية القرن الثامن عشر؛ صورت الرواية القوطية - ومن أمثلتها رواية «الراهب» (1796) لماثيو لويس - مشاهد لزنا المحارم، والاغتصاب، والتعذيب، والقتل، وبدا على نحو متزايد أن تلك المشاهد الحسية المثيرة هي الغرض المنشود من الكتابة، وليس فحص المشاعر الداخلية أو النتائج الأخلاقية. تقدم الماركيز دي ساد بالرواية القوطية خطوة إضافية لتأخذ شكل دعارة صريحة من الألم، مختزلا عن عمد مشاهد الإغراء الطويلة المسهبة الموصوفة في روايات سابقة مثل رواية ريتشاردسون، «كلاريسا»، في جوهر جنسي. أراد دي ساد كشف المعاني المستترة للروايات السابقة: الجنس والهيمنة والألم والنفوذ، وليس الحب والتعاطف وحب الخير. من وجهة نظره، لم يعن «الحق الطبيعي» سوى الحق في الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من السلطة والتمتع بممارستها على الآخرين. وليس من قبيل المصادفة أن دي ساد كتب كل رواياته تقريبا في تسعينيات القرن الثامن عشر إبان الثورة الفرنسية.
34
وهكذا جلبت فكرة حقوق الإنسان في أعقابها سلسلة كاملة من التناقضات البغيضة. فقد أثارت الدعوة إلى حقوق عالمية متساوية طبيعية إلى نمو أيديولوجيات اختلاف جديدة ومتعصبة في بعض الأحيان، وفتحت الأنماط الجديدة لاكتساب فهم تعاطفي الطريق أمام المذهب الحسي للعنف. والجهد الرامي إلى القضاء على الوحشية من أساسها القانوني والقضائي والديني جعل الوحشية أكثر وجودا كأداة يومية للهيمنة والتجريد من الإنسانية، ولم يكن من الممكن تصور جرائم القرن العشرين غير الإنسانية إلا عندما أمكن لكل إنسان أن يزعم ويؤكد كونه فردا متساويا في الأسرة البشرية. معرفة هذه الازدواجيات أمر ضروري من أجل مستقبل حقوق الإنسان؛ فالتعاطف لم يفن كما ادعى البعض؛ وإنما أصبح قوة أكثر فعالية من أي وقت مضى، غير أن التأثير المكافئ فيما يخص العنف والألم والهيمنة أصبح أيضا أكبر من أي وقت مضى.
35
حقوق الإنسان هي حصننا الوحيد المشترك ضد هذه الشرور، وما زال علينا أن نعمل باستمرار على إدخال التحسينات على نسخة حقوق الإنسان التي ظهرت في القرن الثامن عشر، مؤكدين على أن لفظة «الإنسان» المذكورة في «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» لا يشوبها أي غموض، كالذي شاب لفظة «الفرد» في تعبير «حقوق الفرد». ويستمر فيض الحقوق في التدفق، مع أنه دائما ما يواجه صراعا هائلا حول الطريقة التي ينبغي أن يتدفق بها: حق المرأة في الاختيار في مقابل حق الجنين في العيش، حق الموت بكرامة في مقابل الحق المطلق في الحياة، حقوق المعاقين، حقوق المثليين، حقوق الأطفال، حقوق الحيوانات، ولم ولن تنته المجادلات. أدان أنصار حقوق الإنسان في القرن الثامن عشر مناوئيهم باعتبارهم تقليديين عديمي الشعور، ولا يهمهم إلا الحفاظ على نظام اجتماعي عماده عدم المساواة والتمييز والعادات التاريخية، وليس الحقوق المتساوية العالمية الطبيعية، غير أننا لم نعد ننعم برفاهية أن نرفض ببساطة وجهة نظر أقدم. وعلى الجانب الآخر للصراع من أجل حقوق الإنسان، عندما بات الإيمان بتلك الحقوق أكثر انتشارا، أصبح علينا أن نواجه العالم الذي تشكل بفضل هذه الجهود، لا بد أن نكتشف كيف نتصرف حيال المعذبين والقتلة، وكيف نمنع ظهورهم في المستقبل، مدركين في الوقت نفسه أن هؤلاء أيضا منا نحن البشر؛ فلا يمكننا أن نترأف بهم ولا أن نجردهم من إنسانيتهم أيضا.
قد يكون إطار عمل حقوق الإنسان، بهيئاتها الدولية، ومحاكمها الدولية، واتفاقياتها الدولية، مثيرا للاستياء الشديد؛ بسبب البطء في الاستجابة، أو العجز المتكرر عن تحقيق الأهداف السامية لحقوق الإنسان، غير أنه ما من هيكل أفضل متاح لمواجهة هذه القضايا؛ فالاعتبارات السياسية الحكومية دائما ستعطل عمل المحاكم والمنظمات غير الحكومية، مهما كان نطاق اختصاصها دوليا. ويبين تاريخ حقوق الإنسان أن خير مدافع عن الحقوق في نهاية المطاف هو مشاعر وقناعات وأفعال جموع الأفراد الذين يطالبون باستجابات تتفق مع إحساسهم الداخلي بالظلم والإساءة. أدرك القس البروتستانتي رباءوت سانت إتيان تلك الحقيقة من قبل في عام 1787، عندما كتب إلى الحكومة الفرنسية شاكيا عيوب المرسوم الجديد الذي يمنح البروتستانت التسامح الديني قائلا: «لقد حان الوقت الذي لم يعد مقبولا فيه لأي قانون أن ينقض جهارا حقوق الإنسانية التي باتت معروفة حق المعرفة للعالم أجمع.» وقدمت إعلانات الحقوق - الصادرة في أعوام 1776، و1789، و1948 - معيارا لحقوق الإنسانية تلك، معتمدة على معنى ما «لم يعد مقبولا»، وفي المقابل ساعدت على جعل الانتهاكات غير مقبولة على الإطلاق. فلطالما تمتعت العملية ولا تزال تتمتع بخاصية دائرية لا يمكن إنكارها: بمعنى أننا نعرف معنى حقوق الإنسان لأننا نشعر بالانزعاج عند انتهاكها، وقد تكون حقائق حقوق الإنسان متناقضة من هذا المنظور، غير أنها تظل مع ذلك بديهية.
ملحق
ثلاثة إعلانات: 1776، 1789، و1948
إعلان الاستقلال، 1776
داخل الكونجرس، في الرابع من يوليو 1776
الإعلان الجماعي للولايات المتحدة الأمريكية الثلاث عشرة
حين يتعين على شعب من الشعوب في سباق الأحداث البشرية، أن يفصم عرى الروابط السياسية التي تربطه بشعب آخر، وأن يحتل بين دول المعمورة المكانة المنفصلة والمتساوية التي تؤهله لها قوانين الطبيعة وسنن خالقها، فإن الاحترام الحق للبشر يفرض عليه الإعلان عن الأسباب التي دفعته إلى هذا الانفصال.
نحن نؤمن بأن الحقائق التالية من البديهيات، وهي أن جميع البشر قد خلقوا متساوين، وأن خالقهم قد حباهم حقوقا معينة لا يمكن انتزاعها، من بين هذه الحقوق حق الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة. وأنه لضمان هذه الحقوق قامت الحكومات بين البشر، مستمدة سلطانها المشروع من رضى المحكومين، وأنه متى أصبح أي شكل من أشكال الحكم خطرا على هذه الغايات، فإن من حق الشعب أن يغيره أو يلغيه، وأن يقيم نظاما جديدا للحكم على أساس من هذه المبادئ، وينظم سلطاته على نحو يجعله أقرب ما يكون لضمان أمنه وتحقيق سعادته. والواقع أن الحكمة تملي علينا ألا نغير الحكومات التي طال استقرارها لأسباب واهية وعابرة، وقد دلت جميع التجارب على ذلك، وعلى أن البشر أميل إلى تحمل المعاناة ما دامت الشرور محتملة منهم إلى الانتصاف لأنفسهم بإلغاء تلك الأشكال من النظم الحكومية التي ألفوها. ولكن حينما تتكرر مواقف الابتزاز وسوء استخدام السلطة، ويتبين أن الغرض الذي تتطلع إليه الحكومة القائمة هو الاستبداد والطغيان، فمن حق الشعب - بل من واجبه - أن يسقط مثل هذه الحكومة، وأن يقيم مكانها حراسا جددا على أمنه في المستقبل. ولقد كان هذا ما عانته هذه المستعمرات بكل الصبر، كما أنها - في الوقت ذاته - الضرورة التي تحملها على تغيير نظام حكمها السابق. إن تاريخ ملك بريطانيا العظمى الحالي تاريخ حافل بالإهانات والابتزازات المتكررة، وهدفه المباشر هو فرض الحكم الاستبدادي المطلق على هذه الولايات، وللتدليل على صحة ذلك، فإننا نضع الحقائق التالية أمام أنظار العالم:
لقد رفض الموافقة على قوانين كانت أصح وأصلح ما يكون، وضرورية لتحقيق المصلحة العامة.
حظر على حكومته إقرار قوانين ذات أهمية فورية وملحة، وأوقف العمل بها حتى تتم موافقته عليها، وانتهى به الأمر إلى التغاضي عنها كلية.
رفض إصدار قوانين أخرى في صالح قطاعات عريضة من الشعب ما لم يتخلوا عن المطالبة بحق التمثيل في المجلس التشريعي، وهو حق لهم غال وثمين لا يقدم على إنكاره إلا الطغاة.
دعوته للهيئات التشريعية إلى الاجتماع في أماكن غير مألوفة، وخالية من سبل الراحة، وبعيدة عن مستودعات سجلاتها العامة، لا لهدف سوى إنهاكها حتى تذعن لمطالبه.
إقدامه على حل مجالس النواب مرارا لمعارضتها بحزم ورجولة لانتهاكاته حقوق الشعوب.
رفضه لفترة طويلة، بعد هذا الحل، الدعوة لانتخاب مجالس نيابية جديدة، في حين أن الحل يعني أن سلطات التشريع - التي يستحيل إلغاؤها - قد عادت إلى الشعب بأسره ليمارسها، وظلت البلاد في هذه الأثناء معرضة لكل مخاطر الغزو الخارجي والتوتر الداخلي.
محاولاته المضنية لمنع عمران هذه الولايات، وذلك بإعاقة قوانين منح الجنسية للأجانب، ورفض إصدار قوانين أخرى لتشجيع هجرتهم إليها، وزيادة شروط تخصيص الأراضي الجديدة.
عطل تطبيق العدالة، وذلك برفضه الموافقة على القوانين المنشئة للسلطات القضائية.
جعل بقاء القضاة في مناصبهم، وتحديد رواتبهم، وطريقة دفعها لهم، مرهونة بمشيئته وحده.
أنشأ عددا كبيرا من المناصب الجديدة، وبعث إلى بلادنا بجحافل ضخمة من الموظفين لإرهاق شعبنا واستنزاف موارده.
أبقى بين ظهرانينا جيوشا مستديمة في وقت السلم، ودون موافقة هيئاتنا التشريعية .
ساعد على جعل العسكريين مستقلين عن السلطات المدنية، وفي مكانة أسمى منها.
اشترك مع آخرين لجعلنا خاضعين لولاية قانونية غريبة عن دستورنا، ولا تعترف بها قوانيننا؛ وذلك بموافقته على قراراتها التشريعية المزعومة.
ولأنه أقام قوات مسلحة كبيرة بين ظهرانينا؛
وحماهم، بمحاكمات هزلية من العقاب على جرائم القتل التي يمكن أن يقترفوها ضد أهالي هذه الولايات؛
ولأنه أوقف تجارتنا مع مختلف أرجاء العالم؛
ولأنه فرض علينا ضرائب دون رضانا؛
ولأنه حرمنا، في كثير من الحالات، من مزايا المحاكمة بواسطة هيئة من المحلفين؛
ولأنه أرسلنا عبر البحار للمثول للمحاكمة على ادعاءات مزعومة؛
ولأنه ألغى النظام الحر للقوانين الإنجليزية في مقاطعات مجاورة، واستبدل به حكومة مستبدة، وبسط حدودها كي يجعل منها مثلا يحتذى به، وذريعة لإدخال نظام الحكم المطلق ذاته إلى هذه المستعمرات؛
ولأنه ألغى مواثيقنا، ومعظم قوانيننا القيمة، وغير من أشكال حكوماتنا بصورة جوهرية؛
ولأنه عطل مجالسنا التشريعية، وخول لنفسه السلطة كي يشرع لنا وفق ما يشاء.
لقد تخلى عن الحكم هنا، وسحب حمايته عنا، وشن الحرب علينا.
ونهب بحارنا، وخرب شواطئنا، وأحرق مدننا، وحطم حياة شعبنا.
وأقدم في الوقت الراهن على نقل جيوش جرارة من الجنود المرتزقة الأجانب ليستكمل إحكام أعمال الموت، والإفقار، والطغيان التي بدأها بالفعل ضدنا في ظل ظروف من القسوة والغدر لا مثيل لها حتى في أعتى عصور البربرية التي لا تليق بحاكم لأمة متحضرة.
وأكره إخواننا المواطنين الذين احتجزهم في أعالي البحار على حمل السلاح ضد بلادهم، وجعل منهم إما قتلة لأصدقائهم وإخوانهم، وإما قتلى بأيدي هؤلاء الأصدقاء والإخوة.
وأثار العصيان المحلي بيننا، وسعى لجلب سكان المناطق المتاخمة لحدودنا من الهنود الحمر المتوحشين المعروفين بالحرب المدمرة التي لا تميز بين الكبير والصغير، أو بين الرجال والنساء .
وفي كل مرحلة من مراحل الظلم والاضطهاد قمنا بكل تواضع بتقديم الالتماسات بغية تحقيق العدل والإنصاف، غير أن التماساتنا المتكررة لم تكن تقابل إلا بنفس الظلم والاضطهاد. ومن هذا المنطلق، فإن أميرا هذه صفاته لا يعدو أن يكون طاغية لا يصلح لأن يكون حاكما لشعب حر. •••
ولم يفتنا أن نلفت انتباه أشقائنا البريطانيين، وأن نحذرهم بين الحين والآخر من محاولات مجلسهم التشريعي الرامية إلى مد نطاق اختصاصه غير المشروع علينا، كما أننا نذكرهم بظروف هجرتنا وإقامتنا في هذه البلاد، وناشدنا عدالتهم وشهامتهم الأصيلة، والتمسنا منهم بحكم روابط الأصل المشترك استنكار هذه الاغتصابات التي تؤرق حتما روابطنا وعلاقاتنا، غير أنهم أيضا قد أصموا آذانهم عن الاستماع لصوت العدل وصلة الدم والقرابة. ومن ثم، كان لزاما علينا أن نذعن لضرورة انفصالنا، وأن نعاملهم، كما نعامل غيرهم من البشر؛ أعداء في الحرب وأصدقاء في السلم. •••
وعليه، فقد التقينا نحن ممثلو الولايات المتحدة الأمريكية في اجتماع هام راجين عدالة القاضي الأعلى للعالم على صدق نوايانا؛ لكي نعلن، بعد استيفاء كافة الشروط القانونية، وباسم وسلطة الشعوب الطيبة التي تعيش في هذه المستعمرات، بأنه من حق هذه المستعمرات المتحدة، بل ومن واجبها، أن تكون حرة ومستقلة، وأنها قد تحللت من جميع صور الإذعان للتاج البريطاني، ومن كل الروابط السياسية بينها وبين بريطانيا العظمى، وأن من حقها بوصفها ولايات حرة ومستقلة ممارسة جميع السلطات الخاصة بإعلان الحرب، وتوقيع اتفاقات السلام، وإتمام التحالفات الدولية، وممارسة الأنشطة التجارية، وغيرها من الأعمال والأشياء التي يحق للدول المستقلة ممارستها. وفي سبيل دعم هذا الإعلان فإننا من منطلق اعتمادنا الراسخ على العناية الإلهية قد قطعنا على أنفسنا عهدا بحماية أرواحنا وثرواتنا وشرفنا المقدس.
المصدر
بول ليستر فورد، كتاب «كتابات توماس جيفرسون»، 10 مجلدات. (نيويورك: جي بي باتنامز صنز، 1892-1899)، المجلد 2، الصفحات 42-58؛
www.archives.gov/national-archives- experience/charters/declaration_transcript.html .
إعلان حقوق الإنسان والمواطن، 1789
إن ممثلي الشعب الفرنسي، الملتئمين في جمعية وطنية، إذ يؤكدون أن الجهل والإهمال وعدم احترام حقوق الإنسان هي وحدها أسباب شقاء المجتمع وفساد الحكومات، يعلنون أنه قد قر عزمهم على أن يعرضوا في إعلان للعموم حقوق الإنسان الطبيعية، المقدسة، غير القابلة للخلع؛ وذلك لكي يبقى هذا الإعلان حاضرا باستمرار في جميع أعضاء الجسم الاجتماعي، يذكر الناس على الدوام بحقوقهم وواجباتهم، ولكي تكون أعمال السلطات التشريعية وتصرفات السلطات التنفيذية قابلة لأن توزن في كل لحظة بالهدف من كل مؤسسة سياسية فتحظى بذلك باحترام أكبر، ولكي تظل مطالب المواطنين، التي ستبنى من الآن فصاعدا على مبادئ بسيطة وغير قابلة للاعتراض عليها، ميالة دائما نحو الحفاظ على الدستور وعلى سعادة الجميع.
وبناء عليه، فإن الجمعية الوطنية تقرر وتعلن، أمام الكيان الأسمى (الله) وتحت رعايته، حقوق الإنسان والمواطن الآتي ذكرها: (1)
يولد الناس ويعيشون أحرارا متساوين في الحقوق، ولا يمتاز بعضهم عن بعض إلا فيما يختص بالمصلحة العمومية. (2)
غرض كل اجتماع سياسي حفظ الحقوق الطبيعة التي للإنسان، والتي لا يجوز مسها؛ وهذه الحقوق هي: حق الملكية، وحق الأمن، وحق مقاومة الظلم والاستبداد. (3)
الأمة هي مصدر كل سلطة، وكل سلطة للأفراد والجمهور من الناس لا تكون صادرة عنها تكون سلطة فاسدة. (4)
كل الناس أحرار، والحرية هي إباحة كل عمل لا يضر أحدا. وبناء عليه، لا قيد على حقوق الإنسان الفرد إلا القيود التي تضمن تمتع باقي أفراد المجتمع بنفس الحقوق التي يتمتع بها هو نفسه. ووضع هذه الحدود منوط بالقانون دون سواه. (5)
ليس للقانون حق في أن يحرم شيئا إلا متى كان فيه ضرر للهيئة الاجتماعية، وكل ما لا يحرمه القانون يكون مباحا، ولا يجوز أن يرغم الإنسان على فعل شيء لا يفرضه القانون عليه. (6)
إن القانون هو عبارة عن إرادة الجمهور؛ فلكل واحد من الجمهور أن يشترك في وضعه، سواء أكان ذلك الاشتراك بنفسه أم بواسطة نائب عنه. ويجب أن يكون هذا القانون واحدا للجميع في الثواب والعقاب. وطالما أن الجميع متساوون لديه، فلكل واحد منهم الحق في الوظائف والرتب بحسب استعداده ومقدرته، ولا يجوز أن يفضل رجل على رجل في هذا الصدد إلا بفضائله ومعارفه. (7)
لا يجوز إلقاء الشبهة على رجل أيا كان ، ولا القبض عليه، ولا سجنه، إلا في المسائل التي ينص عليها القانون، وبموجب الطرق التي يذكرها. وكل من يغري أولي الأمر بعمل جائر، أو كل موظف يعمل عملا جائرا لا ينص عليه القانون، يعاقب لا محالة. وعلى كل رجل يدعى عليه أو يقبض عليه باسم القانون أن يخضع في الحال، وإذا تمرد استحق العقاب. (8)
لا يجوز أن يعاقب القانون إلا العقاب اللازم الضروري، ولا يجوز أن يعاقب أحد إلا بموجب نظام مسنون قبل الجرم، ومعمول به قانونيا قبله. (9)
كل إنسان يحسب بريئا إلى أن يثبت ذنبه، وإذا دعت الحاجة إلى القبض عليه فيجب أن يقبض عليه بلا شدة، إلا متى دعت الحاجة إلى ذلك. وكل شدة غير ضرورية يعاقب صاحبها. (10)
لا يجوز التعرض لأحد لما يبديه من أفكار، حتى في المسائل الدينية، على شرط أن تكون هذه الأفكار غير مخلة بالأمن العام كما يصفه القانون. (11)
إن حرية نشر الأفكار والآراء حق من أغلى الحقوق لكل إنسان؛ فلكل إنسان أن يتكلم ويكتب وينشر آراءه بحرية، وعليه تحمل مسئولية أي إساءة لاستخدام هذه الحرية في الحالات التي ينص القانون عليها. (12)
إن السهر على حقوق الناس يستوجب إنشاء سلطات عمومية، أي هيئة حاكمة؛ فهذه الهيئة تنشأ إذن لمنفعة الجميع، وليس لتحقيق منافع خاصة للقائمين عليها. (13)
بما أن الهيئة الحاكمة تحتاج إلى نفقات لإدارة الشئون فيجب فرض ضريبة عمومية على جميع المواطنين، أما مقدار هذه الضريبة فيجب أن يكون مناسبا لقدرة الذين يدفعونها. (14)
لكل المواطنين الحق في أن يراقبوا إنفاق أموال الضرائب، سواء أكانت المراقبة بأنفسهم أو بواسطة نوابهم، ولهم أيضا البحث عن الوجوه التي تنفق فيها وتعيين مدة جبايتها. (15)
للمجتمع الحق في أن يحاسب كل موظف عمومي على أعماله ويناقشه فيها. (16)
كل هيئة لا تكون فيها حقوق الأفراد مضمونة ضمانة فعلية ولا يكون الفصل بين السلطات فيها قائما ومحددا بوضوح تكون هيئة غير دستورية. (17)
بما أن حق الملكية من الحقوق المقدسة التي لا تنقض فلا يجوز نزع الملكية من أحد إلا إذا اقتضت المصلحة العمومية ذلك اقتضاء صريحا وبموجب القانون، وفي هذه الحالة يعطى الذي تنزع منه ملكيته مقدما تعويضا كافيا.
المصدر
الدستور الفرنسي، مقدم للملك من الجمعية الوطنية، 3 سبتمبر 1791 (باريس، 1791)، ترجمه المؤلف إلى الإنجليزية.
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، 1948
الديباجة
لما كان الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم، ومن حقوق متساوية وثابتة، يشكل أساس الحرية والعدل والسلام في العالم.
ولما كان تجاهل حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال أثارت بربريتها الضمير الإنساني، وكان البشر قد نادوا ببزوغ عالم يتمتعون فيه بحرية القول والعقيدة وبالتحرر من الخوف والفاقة، كأسمى ما ترنو إليه نفوسهم.
ولما كان من الأساسي أن تتمتع حقوق الإنسان بحماية النظام القانوني إذا أريد للبشر ألا يضطروا آخر الأمر إلى اللياذ بالتمرد على الطغيان والاضطهاد.
ولما كان من الجوهري العمل على تنمية علاقات ودية بين الأمم.
ولما كانت شعوب الأمم المتحدة قد أعادت في الميثاق تأكيد إيمانها بحقوق الإنسان الأساسية، وبكرامة الإنسان وقدره، وبتساوي الرجال والنساء في الحقوق، وحزمت أمرها على النهوض بالتقدم الاجتماعي وبتحسين مستويات الحياة في جو من الحرية أفسح.
ولما كانت الدول الأعضاء قد تعهدت بالعمل - بالتعاون مع الأمم المتحدة - على ضمان تعزيز الاحترام والمراعاة العالميين لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية.
ولما كان التقاء الجميع على فهم مشترك لهذه الحقوق والحريات أمرا بالغ الضرورة لتمام الوفاء بهذا التعهد.
فإن الجمعية العامة تنشر على الملأ هذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بوصفه المثل الأعلى المشترك الذي ينبغي أن تبلغه كافة الشعوب وكافة الأمم، كيما يسعى جميع أفراد المجتمع وهيئاته، واضعين هذا الإعلان نصب أعينهم على الدوام، ومن خلال التعليم والتربية، إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات، وكيما يكفلوا، بالتدابير المطردة الوطنية والدولية، الاعتراف العالمي بها ومراعاتها الفعلية، فيما بين شعوب الدول الأعضاء ذاتها، وفيما بين شعوب الأقاليم الموضوعة تحت ولايتها على السواء.
المادة 1:
يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان، وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء.
المادة 2:
لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخر. وفضلا عن ذلك لا يجوز التمييز على أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلا، أم موضوعا تحت الوصاية، أم غير متمتع بالحكم الذاتي، أم خاضعا لأي قيد آخر علي سيادته.
المادة 3:
لكل فرد حق في الحياة والحرية، وفي الأمان على شخصه.
المادة 4:
لا يجوز استرقاق أحد أو استعباده، ويحظر الرق والاتجار بالرقيق بجميع صورهما.
المادة 5:
لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة.
المادة 6:
لكل إنسان، في كل مكان، الحق بأن يعترف له بالشخصية القانونية.
المادة 7:
الناس جميعا سواء أمام القانون، وهم يتساوون في حق التمتع بحماية القانون دونما تمييز، كما يتساوون في حق التمتع بالحماية من أي تمييز ينتهك هذا الإعلان، ومن أي تحريض على مثل هذا التمييز.
المادة 8:
لكل شخص حق اللجوء إلى المحاكم الوطنية المختصة لإنصافه الفعلي من أي أعمال تنتهك الحقوق الأساسية التي يمنحه إياها الدستور أو القانون.
المادة 9:
لا يجوز اعتقال أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفا.
المادة 10:
لكل إنسان، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحق في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة ومحايدة، نظرا منصفا وعلنيا، للفصل في حقوقه والتزاماته، وفي أي تهمة جزائية توجه إليه.
المادة 11: (1) كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن يثبت ارتكابه لها قانونا في محاكمة علنية تكون قد وفرت له فيها جميع الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه. (2) لا يدان أي شخص بجريمة بسبب أي عمل أو امتناع عن عمل لم يكن في حينه يشكل جرما بمقتضى القانون الوطني أو الدولي، كما لا توقع عليه أي عقوبة أشد من تلك التي كانت سارية في الوقت الذي ارتكب فيه الفعل الجرمي.
المادة 12:
لا يجوز تعريض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو في شئون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، ولا لحملات تمس شرفه وسمعته. ولكل شخص حق في أن يحميه القانون من مثل ذلك التدخل أو تلك الحملات.
المادة 13: (1) لكل فرد حق في حرية التنقل وفي اختيار محل إقامته داخل حدود الدولة. (2) لكل فرد حق في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، وفي العودة إلى بلده.
المادة 14: (1) لكل فرد حق التماس ملجأ في بلدان أخرى والتمتع به خلاصا من الاضطهاد. (2) لا يمكن التذرع بهذا الحق إذا كانت هناك ملاحقة ناشئة بالفعل عن جريمة غير سياسية، أو عن أعمال تناقض مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها.
المادة 15: (1) لكل فرد حق التمتع بجنسية ما. (2) لا يجوز، تعسفا، حرمان أي شخص من جنسيته ولا من حقه في تغيير جنسيته.
المادة 16: (1) للرجل والمرأة، متى أدركا سن البلوغ، حق الزواج وتأسيس أسرة، دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين. وهما متساويان في الحقوق لدى الزواج وخلال قيام الزواج ولدى انحلاله. (2) لا يعقد الزواج إلا برضا الطرفين المزمع زواجهما رضاء كاملا لا إكراه فيه. (3) الأسرة هي الخلية الطبيعية والأساسية في المجتمع، ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة.
المادة 17: (1) لكل فرد حق في التملك، بمفرده أو بالاشتراك مع غيره. (2) لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفا.
المادة 18:
لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة.
المادة 19:
لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأي وسيلة ودونما اعتبار للحدود.
المادة 20: (1) لكل شخص حق في حرية الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية. (2) لا يجوز إرغام أحد على الانتماء إلى جمعية ما.
المادة 21: (1) لكل شخص حق المشاركة في إدارة الشئون العامة لبلده ، إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون في حرية. (2) لكل شخص، بالتساوي مع الآخرين، حق تقلد الوظائف العامة في بلده. (3) إرادة الشعب هي مناط سلطة الحكم، ويجب أن تتجلى هذه الإرادة من خلال انتخابات نزيهة تجرى دوريا بالاقتراع العام، وعلى قدم المساواة بين الناخبين، وبالتصويت السري أو بإجراء مكافئ من حيث ضمان حرية التصويت.
المادة 22:
لكل شخص، بوصفه عضوا في المجتمع، حق في الضمان الاجتماعي، ومن حقه أن توفر له، من خلال المجهود القومي والتعاون الدولي، وبما يتفق مع هيكل كل دولة ومواردها، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لا غنى عنها لكرامته ولتنامي شخصيته في حرية.
المادة 23: (1) لكل شخص حق في العمل، وفي حرية اختيار عمله، وفي شروط عمل عادلة ومرضية، وفي الحماية من البطالة. (2) لجميع الأفراد، دون أي تمييز، الحق في أجر متساو على العمل المتساوي. (3) لكل فرد يعمل حق في مكافأة عادلة ومرضية تكفل له ولأسرته عيشة لائقة بالكرامة البشرية، وتستكمل، عند الاقتضاء، بوسائل أخرى للحماية الاجتماعية. (4) لكل شخص حق إنشاء النقابات مع آخرين والانضمام إليها من أجل حماية مصالحه.
المادة 24:
لكل شخص حق في الراحة وأوقات الفراغ، وخصوصا في تحديد معقول لساعات العمل وفي إجازات دورية مأجورة.
المادة 25: (1) لكل شخص حق في مستوى معيشة يكفى لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته، وخاصة على صعيد المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية، وصعيد الخدمات الاجتماعية الضرورية، وله الحق في ما يأمن به الغوائل في حالات البطالة أو المرض أو العجز أو الترمل أو الشيخوخة، أو غير ذلك من الظروف الخارجة عن إرادته التي تفقده أسباب عيشه. (2) للأمومة والطفولة حق في رعاية ومساعدة خاصتين. ولجميع الأطفال حق التمتع بذات الحماية الاجتماعية سواء ولدوا في إطار الزواج أو خارج هذا الإطار.
المادة 26: (1) لكل شخص حق في التعليم. ويجب أن يوفر التعليم مجانا، على الأقل في مراحله الأولى والأساسية. ويكون التعليم الابتدائي إلزاميا. ويكون التعليم الفني والمهني متاحا للعموم. ويكون التعليم العالي متاحا للجميع تبعا لكفاءتهم. (2) يجب أن يستهدف التعليم التنمية الكاملة لشخصية الإنسان وتعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، كما يجب أن يعزز التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الأمم وجميع الفئات العنصرية أو الدينية، وأن يؤيد الأنشطة التي تضطلع بها الأمم المتحدة لحفظ السلام. (3) للآباء، على سبيل الأولوية، حق اختيار نوع التعليم الذي يعطى لأولادهم .
المادة 27: (1) لكل شخص حق المشاركة الحرة في حياة المجتمع الثقافية، وفي الاستمتاع بالفنون، والإسهام في التقدم العلمي، وفي الفوائد التي تنجم عنه. (2) لكل شخص حق في حماية المصالح المعنوية والمادية المترتبة على أي إنتاج علمي أو أدبي أو فني من صنعه.
المادة 28:
لكل فرد حق التمتع بنظام اجتماعي ودولي يمكن أن تتحقق في ظله الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان تحققا تاما.
المادة 29: (1) على كل فرد واجبات إزاء الجماعة، التي فيها وحدها يمكن أن تنمو شخصيته النمو الحر الكامل. (2) لا يخضع أي فرد، في ممارسة حقوقه وحرياته، إلا للقيود التي يقررها القانون مستهدفا منها، حصرا، ضمان الاعتراف الواجب بحقوق وحريات الآخرين واحترامها، والوفاء بالعادل من مقتضيات الفضيلة والنظام العام ورفاه الجميع في مجتمع ديمقراطي. (3) لا يجوز في أي حال أن تمارس هذه الحقوق على نحو يناقض مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها.
المادة 30:
ليس في هذا الإعلان أي نص يجوز تأويله على نحو يفيد انطواءه على تخويل أي دولة أو جماعة، أو أي فرد، أي حق في القيام بأي نشاط أو بأي فعل يهدف إلى هدم أي من الحقوق والحريات المنصوص عليها فيه.
المصدر
ماري آن جليندون، «عالم أصبح جديدا: إلينور روزفلت والإعلان العالمي لحقوق الإنسان» (نيويورك: راندوم هاوس، 2001)، الصفحات 310-314؛
www.un.org/overview/rights.html .
الهوامش
مقدمة
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
صفحه نامشخص