لأننا لا نستطيع أن نلاحظ إلا ردود أفعال الجسم، لا حالاته الداخلية، وضمنها مختلف حالات المخ.
ولكي نصف هذه الحالات نستخدم طريقة غير مباشرة في الكلام، فنتحدث مثلا عن «الحالة التي تحدث لو رأى الشخص كلبا.» هذه الطريقة في الكلام تسمى «لغة المنبه
stimulus language » فنحن نميز حالة جسمية عن طريق وصف نوع المنبه الذي يؤدي إلى إحداث هذه الحالة.
ومن الممكن إيضاح هذا النوع من اللغة بمثل مستمد من الفيزياء. فعداد السرعة يقيس سرعة السيارة تبعا لحركة إبرة. ولهذا الغرض يتم الاتصال بين العجلات الدائرة للسيارة وبين الإبرة عن طريق تروس ومحور مرن على نحو من شأنه أن تؤدي زيادة السرعة إلى انحراف زاوية الإبرة، وهكذا يسجل على لوحة الأرقام السرعة المناظرة لكل موقع من مواقع الإبرة. فما تدل عليه الإبرة مباشرة هو حالة داخلية لعداد السرعة، ولكنه يدل على هذا النحو، بطريق غير مباشر، على سرعة، تقوم بدور أشبه بدور «المنبه»، فتجعل الآلة في هذه الحالة. وقد كنا نستطيع أن نستخدم الأرقام الموجودة على اللوحة لإيضاح الحالات الداخلية لعداد السرعة، بدلا من استخدامها مقياسا لسرعة السيارة. أي أننا نستطيع أن نقول، حين ننظر إلى الأرقام المسجلة على اللوحة، «إن عداد السرعة في حالة ستين ميلا في الساعة.» وهكذا فإننا نصف حالة الآلة بطريق غير مباشر، بلغة المنبه.
هذا المثل يساعد على توضيح طبيعة الأشياء الذاتية؛ فالأشياء التي ترى في حلم لها نوع الوجود الذي يكون لسرعة الستين ميلا في مثال عداد السرعة الذي ينظر إليه بمعزل عن السيارة. وفي هذه الحالة يكون للكلام عن الوجود ما يبرره بوصفه طريقة في الكلام، غير أن الوجود الفيزيائي يقتصر على حالات عداد السرعة التي توصف على هذا النحو وصفا غير مباشر؛ فثنائية حالة اليقظة وحالة الحلم لا تشكل صعوبات للفلسفة التجريبية. وهي لا تحتاج إلى إدخال أشياء «تتجاوز» عالم الأشياء الفيزيائية، ولا تفتح الطريق أمام النزعة المتعالية. بل إن من الممكن تفسيرها تفسيرا كاملا في إطار فلسفة متعلقة «بهذا العالم». ومن الممكن ترجمة معنى الأحكام المتعلقة بأشياء موجودة في الحلم، إلى معنى أحكام متعلقة بأشياء موضوعية.
هذا التحليل يتيح لنا إيضاح معنى السؤال عما إذا كان العالم واقعيا. فمن الممكن تفسير هذا السؤال على أنه يعني: هل نحن الآن في حالة يقظة أم في حلم؟ وهذا دون شك سؤال ذو معنى. بل إننا قد مررنا في الواقع بحالات حلم تساءلنا فيها هذا السؤال، واستنتجنا في إجابتنا أننا أيقاظ، ثم اكتشفنا فيما بعد أننا كنا على خطأ، أي أننا كنا لا نزال نحلم. فهل يمكن أن يكون نفس الشيء حادثا الآن؟ إننا لا نستطيع أن نستبعد احتمال أننا سنكتشف، بعد وقت معين، أننا كنا نحلم الآن، ونحن نشعر شعورا شبه مؤكد بأن هذا لن يحدث، ولكن ليس لدينا ضمان مطلق بأنه لن يحدث.
فإذا عدنا الآن إلى المثال المنطقي الذي ضربناه من قبل، وهو مثال اليوميات الكاملة، فإننا نستطيع صياغة هذه الفكرة على النحو الآتي: من الممكن أن نميز، داخل جملنا التقريرية، بين جمل الأحلام التي هي أشبه بجزر منعزلة. وبين بقية الجمل، لأن المجموع الباقي يسمح بتكوين ترتيب من خلال قوانين السببية. ولكنا لا نستطيع أن ندعي على وجه اليقين أن هذا الترتيب سيكون ممكنا على الدوام. فلتتخيل أنك درست الجمل الخمسمائة الأولى في اليوميات، واكتشف أن مجموع الجزر فيها 30 جملة، ونجحت في ترتيب الجمل الباقية، البالغ عددها 470 جملة. ثم تقول الآن: «إنني يقظ»، وبعد ذلك تستمر اليوميات، وتجد بعد ذلك 1000 جملة أخرى لا يمكن الجمع بينها وبين ال 470 جملة. وإنما يمكن ترتيبها فيما بينها ترتيبا معقولا. وسوف تستنتج من ذلك أن ال 470 جملة كانوا جزيرة. أي إنك كنت تحلم، ولم تصبح يقظا بحق إلا الآن. فهل أنت الآن واثق من أن الأمر لن يستمر على هذا النحو؟ ألا يجوز أن يظهر ألفا جملة أخرى ترغمك على أن تنظر إلى حالتك الراهنة على أنها حلم؟ ألا يجوز أن تتكرر نفس هذه التجربة المدمرة على الدوام؟
من حسن الحظ أن أمثال هذه التجارب لا تحدث، ولكننا لا نستطيع أن نستبعدها بحجة منطقية. وعلى ذلك فليس في استطاعتنا أن نقول إن أمثال هذه التجارب مستحيلة، ولو حدثت بالفعل، وانقطع خيط التجارب المرتبة، ثم عاد إلى الالتئام، ولكنه يعود على الدوام إلى الانقطاع؛ فعندئذ لن يمكننا الحديث عن عالم فيزيائي موضوعي. وهكذا فإن القضية القائلة إن ثمة عالما فيزيائيا موضوعيا لا يمكن الأخذ بها إلا على أساس أنها قوية الاحتمال ، لا على أساس أنها ذات يقين مطلق؛ فلدينا دلائل استقرائية قوية على وجود عالم فيزيائي - غير أن هذا هو كل ما يمكننا القول به. والكلام عن عالم فيزيائي موضوعي هو كلام ذو معنى لأن القضايا المتعلقة بمثل هذا العالم يمكن استخلاصها استقرائيا من الملاحظات.
ولنلاحظ أن اللغة التي نتحدث بها عن العالم الفيزيائي لا تتحدد بالملاحظات وحدها، فهي معرضة لمظاهر الغموض التي أشرنا إليها في الفصل الحادي عشر منسوبة إلى شخصية خيالية أطلقنا عليها اسم الفيلسوف اليوناني بروتاجوراس، فهناك كثرة من الأوصاف المتكافئة، وليست اللغة الواقعية المعتادة التي نصف بها العالم الفيزيائي إلا واحدا من هذه الأوصاف، هو ذلك الذي أطلقت عليه اسم «النظام السوي
normal system »، ولا تستطيع الاستدلالات الاستقرائية أن تثبت الصورة المألوفة للأحكام المتعلقة بعالم خارجي إلا بعد أن نكون قد وضعنا القاعدة القائلة بهوية القوانين فيما بين الموضوعات الملاحظة والموضوعات غير الملاحظة. ولهذه القاعدة طبيعة تعريف يحدد صورة اللغة، ومن الممكن تسميتها بقاعدة امتداد
صفحه نامشخص