Empedocles
نظرية مؤداها أن الأجسام الحية تنمو من الأرض كأجزاء مبتورة، ثم تحركت الأطراف والرءوس والأجسام الفردية، واتحدت بالصدفة في تكوينات شاذة، لم يكتب البقاء إلا للأصلح منها. غير أن الفكرة الجيدة التي ترد في إطار نظري غير كاف تفقد قدرتها التفسيرية، ويسدل عليها ستار من النسيان حتى يعاد كشفها وتدمج في نظرية مقنعة. وقد استطاع دارون أن يتوصل إلى مبدأ الانتقاء الطبيعي وبقاء الأصلح عن طريق أبحاث علمية، وعرضهما في إطار نظرية شاملة للتطور؛ ولهذا السبب أصبح لفظ «الدارونية» معبرا عن فكرة التطور بالانتقاء الطبيعي، وكان اتساع نطاق جهوده العلمية مبررا لتفضيله على معاصره الأصغر سنا «ولاس
Wallace »، الذي توصل إلى فكرة الانتقاء الطبيعي مستقلا عن دارون، وإن لم تكن أعماله العلمية تقارن بأعمال دارون في اتساع نطاقها.
إننا عندما نصنف الأنواع الموجودة تبعا لدرجة التنوع أو التعقيد في تركيبها، بحيث ننتقل على الدوام من نوع إلى النوع الذي هو الأقرب شبها إليه في التركيب التشريحي والبنيان العضوي، نصل إلى ترتيب منظم؛ أي إلى سلسلة تؤدي فيها علاقات التشابه إلى إعطاء كل نوع مكانه في السلم؛ فعند نهاية الخط نجد النوع البشري، ومن بعده تأتي القرود، ثم تعقبها بقية الثديات، ويستمر الخط مارا بالطيور والزواحف والأسماك، ثم مختلف الحيوانات البحرية، حتى يصل إلى الطرف الأدنى، وهو الكائنات العضوية الحية ذات الخلية الواحدة؛ أي الأميبا. وقد استنتج دارون أن الترتيب المنظم للأنواع الموجودة معا يمثل الترتيب التاريخي لظهورها، وأن الحياة بدأت بالأميبا ذات الخلية الواحدة، وانتقلت خلال ملايين السنين إلى أشكال تزداد علوا على الدوام.
مثل هذا الاستنتاج سليم من وجهة نظر المنطق الاستقرائي؛ إذ إن كل شخص على استعداد لتطبيقه على حالات أبسط. فلنتخيل أن ذبابة مايو
May fly
التي تعيش يوما واحدا، تشاهد أنواعا من البشر؛ أي إنها ترى مواليد رضعا، وأطفالا، ومراهقين، وبالغين، ومسنين، ولكنها لا تلاحظ أي نمو أو تغير في الأشخاص المنفردين؛ فإذا ما ظهرت بين ذباب مايو ذبابة مثل دارون، فإن مثل هذه الذبابة الممتازة قد تستنج أن ما تلاحظه من مراحل مختلفة للبشر، متعايشة معا، تمثل في واقع الأمر تعاقبا تاريخيا. ومع ذلك فإن ذبابة مايو في مركز أفضل منا بكثير، من حيث النسب الزمنية؛ إذ إن النسبة بين عمر الإنسان وبين طول مدة التطور، أقل بكثير من النسبة بين عمر ذبابة مايو الذي يدوم يوما واحدا، وبين أطول حياة بشرية؛ فلا عجب إذن أننا لا نستطيع أن نلاحظ التغير التطوري، الذي تعد الآلاف الستة من سنوات التاريخ البشري المسجل مجرد فترة ضئيلة جدا بالقياس إليه. وعلى ذلك فلا بد أن نعتمد دائما على استدلال لكي ننتقل من الترتيب المنظم إلى الترتيب التاريخي؛ أي على استدلال ينتقل من ترتيب التزامن إلى ترتيب التعاقب.
وهناك، بطبيعة الحال، أدلة أخرى يمكن الإتيان بها تأييدا لهذا الاستدلال. فهناك الكشوف الجيولوجية؛ إذ إن مختلف الطبقات الجيولوجية تحتوي على حفريات من أنواع متباينة، ولكنها مرتبة بحيث توجد الأنواع الأكثر تفاضلا (أو تعقدا) في الطبقات العليا. ويبدو أن لنا الحق في التوحيد بين الترتيب المكاني للطبقات وبين الترتيب الزمنى لترسبها. وهكذا فإن الجيولوجيا تحتفظ بسجل لحالة الحياة الحيوانية التي تم الوصول إليها في أي وقت نبحثه. وفضلا عن ذلك فإن الحفريات تمدنا بعينات لكثير من الأنواع التي تفوتنا في الترتيب المنظم للأنواع الموجودة؛ مما يؤدي إلى سد الثغرات القائمة في هذا الترتيب. وقد تم العثور، بوجه خاص، على الحلقة المفقودة بين الإنسان والقرد، في بعض عينات الجماجم التي تجمع بين جحوظ حواف العينين، المعروف عن القرود، وبين اتساع للجمجمة أكبر مما هو معروف في القرود، وإن يكن أقل مما هو في الإنسان؛ إذ إن الجبهة المتراجعة لم تكن تترك إلا حيزا ضئيلا للفص الأمامي من المخ. ولقد كان مخ هذا الإنسان القرد يتيح له القيام ببعض الأعمال الذهنية، وإن لم يكن قد اكتسب إلا قدرا محدودا جدا من القدرة على الانتفاع من التجارب عن طريق تذكر نتائج الاستجابات السابقة للتجارب، وهي القدرة التي توجد في الفص الأمامي للمخ. وبهذه المناسبة فإن الإنسان القرد يعد الآن الأصل الذي انحدر منه الإنسان والقرود الحالية، بحيث إن القرود تمثل فرعا جانبيا، لا أصلا للإنسان.
فإذا ما نظرنا إلى الأدلة التي أشرنا إليها على أنها قاطعة، فعلينا أن نعترف بحدوث تطور في الحياة من الأميبا إلى الإنسان، ولكن يظل أمامنا بعد ذلك السؤال عن سبب هذا التطور. فلماذا تطورت الحياة إلى أشكال أعلى؟ إن التطور يبدو أشبه بعملية تتم وفقا لخطة، بل إن المرء قد يميل إلى القول إن التطور هو أقوى ما يمكن تصوره من الأدلة المؤيدة للغائية.
وهنا يأتي دور الكشف الأعظم الذي توصل إليه دارون؛ فقد رأى أن من الممكن تفسير تقدم التطور على أساس السببية، وأن التطور لا يحتاج إلى أية مفاهيم غائية؛ فالتنوعات العشوائية التي تحدث عند التكاثر تؤدي إلى إيجاد فروق بين الأفراد تستتبع اختلافا في القدرة على التكيف من أجل البقاء، وفي الصراع من أجل الحياة يبقى الأصلح، ولما كان أصلح الأفراد ينقلون قدراتهم الأرفع إلى ذرياتهم، فإن هذا يؤدي إلى تغير تدريجي نحو أشكال تزداد علوا باستمرار. فالأنواع البيولوجية ترتب، كالحصى على الشاطئ، عن طريق سبب انتقائي، والصدفة مقترنة بالانتقاء تولد النظام.
صفحه نامشخص