ولقد كان ج. ف. ليبنتس
G. W. Leibniz (1646-1716م) معاصرا لنيوتن، وكان ندا له في مكانته العقلية، وقد اكتشف حساب التفاضل مستقلا عن نيوتن، وطبقه على حل كثير من المشكلات الرياضية. ومع ذلك لم يكن من أنصار نظرية الجاذبية عند نيوتن، بل رفضها على الرغم من نجاحها التجريبي؛ لأنها تؤدي إلى نظرة مطلقة إلى الحركة. وقد وضع ليبنتس نظرية في المكان مبنية على فكرة نسبية الحركة، التي استبق بها المبادئ المنطقية لنظرية النسبية عند أينشتين، ورأى بوضوح أن النظام الكوبرنيكي لا يختلف عن النظام البطليموسي إلا من حيث إنه طريقة مغايرة في الكلام. ويدل عدم وصوله إلى تقدير عادل لفيزياء نيوتن، على أن الاتجاه العقلي في داخله لم يخضع للمعيار التجريبي للحقيقة. أما كونه لم يستطع وضع فيزياء مثل فيزياء أينشتين فهو شيء لا يمكن أن يؤخذ عليه.
ولقد وجد الجانب العقلي للعلم الحديث أقوى تعبير عنه في فلسفة ليبنتس؛ ذلك لأن نجاح المناهج الرياضية في وصف الطبيعة قد جعله يعتقد أن من الممكن رد كل علم إلى الرياضة آخر الأمر، واجتذبته فكرة الحتمية، وفكرة الكون الذي يمر بمراحله كأنه ساعة ملآنة؛ إذ إن هذه الفكرة كانت تعني أن القوانين الفيزيائية قوانين رياضية، فطبق هذه الفكرة على نتاج من أغرب نواتج المذهب العقلي، وأعني به مذهبه في الانسجام المقدر
؛ ففي رأيه أن أذهان الأشخاص المختلفين لا يؤثر بعضها في بعض، وإنما يحدث ما نتوهم أنه تأثر كهذا؛ لأن الأذهان المختلفة، في مساراتها المقدرة مقدما، تمر على الدوام بمراحل يطابق بعضها بعضا بدقة، وكأنها ساعات مختلفة تدل على نفس الوقت دون أن يكون بينها ارتباط سببي. وأنا أذكر هذا المذهب لكي أبين أن النزعة الصوفية الرياضية عند فيثاغورس قد وجدت نظائر لها في فلسفات غيره من كبار الرياضيين.
إن المذهب العقلي عند ليبنتس، وإن يكن يستوحي العلم الرياضي، إنما هو تأمل نظري بحت في ثوب استدلال منطقي، وهو يتخلى عن الأرض الثابتة التي نما فيها العلم الحديث، وأعني بها ارتكازه على الملاحظة التجريبية. ولقد أدى تجاهل ليبنتس للعنصر التجريبي في المعرفة إلى اعتقاده أن كل معرفة إنما هي ضرب من المنطق. وعلى الرغم من أنه أدرك الطبيعة التحليلية للاستنباط المنطقي، فقد كان يعتقد أن المنطق لا يمكنه أن يمدنا بمعرفة فحسب، بل إنه يستطيع أيضا أن يحل محل المعرفة التجريبية؛ فهناك حقائق من النوع الواقعي، أي حقائق تجريبية، وحقائق عقلية، أي تحليلية، غير أن هذا التمييز ليس إلا نتيجة للجهل البشري. ولو كانت لدينا معرفة كاملة، كتلك التي لدى الله، لرأينا أن كل ما يحدث يتصف بالضرورة المنطقية. مثال ذلك أن الله كان يستطيع أن يستنبط من مفهوم الإسكندر أنه كان ملكا وغزا الشرق. هذا التفسير التحليلي للمعرفة التجريبية هو خطأ عقلي ارتكب مرارا على أمل أنه سيتيح تفسير الفيزياء الرياضية. وقد يكون في استطاعتنا تعريف مفهوم الإسكندر على نحو من شأنه أن يتلو تاريخ الرجل كله تحليليا منه، ولكنا لم نكن لنستطيع عندئذ أن نعرف بالمنطق الخالص إن كان الإسكندر، من حيث هو فرد نلاحظه، هو ذلك الذي يحدده التصور بحق. وبعبارة أخرى فالقضية القائلة إن للفرد الملاحظ الصفات التي يعبر عنها التصور تغدو قضية تركيبية، وتخضع لكل عوامل الشك التي تصيب المعرفة التجريبية؛ وإذن فلا سبيل إلى تجنب مشكلات النزعة التجريبية بالالتجاء إلى المنطق التحليلي.
على أن ليبنتس لم يشهد أبدا مذهبا تجريبيا متطرفا؛ فعندما مات كان هيوم في الخامسة من عمره، ونحن نعرف نقده لجون لوك، الذي رفض فيه الاعتراف بمبدأ لوك القائل إن كل معرفة مستمدة من الإدراك الحسي؛ إذ يرى أن التصورات التي تنطوي على ضرورة تتصف بأنها فطرية فينا. على أن هذه الحجة لم يعد لها اليوم أهمية كبيرة، ما دام قد اتضح أن المشكلة الرئيسية للمذهب التجريبي ليست مبدأ لوك القابل بأن للتصورات أصلا تجريبيا، وإنما هي مبدأ هيوم القائل إن التجربة هي الحكم الوحيد على صحة القضايا التركيبية، وهو مبدأ يؤدي إلى النتيجة القائلة إن التنبؤات لا يمكن تبريرها؛ وعلى ذلك فإن الأهم من هذا هو أن نعرف بماذا كان ليبنتس خليقا بأن يرد على هيوم. والأرجح أنه كان سيعترف بمبدأ الاستقراء عند هيوم، ولكنه كان سيراه قاصرا على استخدام البشر، وكان سيقول إن مشكلة الاستقراء لا توجد بالنسبة إلى الله، غير أن هذه ليست إجابة، حتى لو حدد معنى كلمة «الله» في هذه الحالة بأنه «المنطقي الكامل»، ما دام من المستحيل قبول رأي ليبنتس القائل برد المعرفة التجريبية إلى معرفة تحليلية؛ فليس في وسع النزعة العقلية القائلة بمعرفة تحليلية قبلية أن تحل مشكلة هيوم. ومع ذلك فليس هناك احتمال كبير في أن نقد هيوم القاطع كان حريا بأن يؤدي إلى تغيير آراء لبينتس، الذي كان السعي إلى اليقين لديه أقوى من أن يتيح له التغلب على أوهام المذهب العقلي.
ولقد أتى رد المذهب العقلي على هيوم من جانب «كانت»، الذي لم يكن يصغر هيوم إلا بثلاثة عشر عاما، وإن يكن كتابه الرئيسي قد ظهر بعد وفاة هيوم. وقد سبق أن عرضنا فلسفة المعرفة التركيبية القبلية عند «كانت» في الفصل الثالث، وإنه لمن مزايا هذه الفلسفة أنها تسير في طريق مستقل عن ادعاء ليبنتس غير المفهوم بأنه رد المعرفة المتعلقة بالعالم إلى معرفة تحليلية؛ فلنبحث إذن كيف حاول المذهب العقلي في المعرفة التركيبية القبلية أن يرد على هيوم.
في رأي «كانت» أن مبدأ السببية تركيبي قبلي؛ فهو يرى أننا نعلم علم اليقين أن لكل حادث علة، وكل ما يتبقى أمام الملاحظة هو الاهتداء إلى العلة الفردية. وأود أن أوضح ذلك بمثال كان «كانت» ذاته خليقا بأن يستخدمه؛ فعندما نرى المد البحري في إيقاعه الدوري، نعلم بالعقل الخالص أن لهذا الحادث سببا، والأمر الذي تعلمنا إياه الملاحظة مقترنة بالاستدلال الاستقرائي لا يعدو أن يكون أن السبب في هذه الحالة يتحدد بموقع القمر؛ وعلى ذلك فإن الاستدلال الاستقرائي يقتصر على الاهتداء إلى القوانين الفيزيائية الفردية، غير أنه لا يستخدم في إثبات الحقائق العامة للفيزياء، مثل مبدأ السببية، وهي الحقائق التي يفرضها علينا العقل. ولما كنا نعلم علم اليقين أن هناك علة، فإن للاستقراء ما يبرره بوصفه أداة الاهتداء إليها؛ وبهذه الحجة يعتقد «كانت» أنه تغلب على نقد هيوم للاستقراء. فيقين المعرفة التركيبية القبلية يحل محل الشك الذي استسلم له التجريبي، تلك هي ماهية فلسفة «كانت».
وإنه لمن الصعب أن يفهم المرء كيف استطاع «كانت» أن يرى في هذه النظرية عاملا على إيقاظه من السبات القطعي؛ فحجة «كانت» لا تنطوي على إجابة على سؤال هيوم. ولو كان هيوم قد عاش ليقرأ كتاب «نقد العقل الخالص»، فربما كان قد أجاب على «كانت» بقوله: «كيف يمكن أن يكون إدراكنا لوجود سبب عاملا مساعدا لنا عندما يكون هدفنا هو معرفة هذا السبب؟ صحيح أننا لو كنا نعلم أنه ليس ثمة سبب لكان من العبث أن نبحث عن مثل هذا السبب، غير أن هذا ليس موقفنا؛ فنحن لا نعلم إن كان هناك سبب، وفي مثل هذا الموقف نقوم باستدلالات استقرائية مبنية على الملاحظة، ونستنتج مثلا أن القمر سبب ظاهرة المد. هذا الاستدلال الاستقرائي هو ما أضعه موضع الشك، وهو سيظل معرضا لنفس القدر من الشك لو استطعت أن تثبت القضية العامة القائلة إن ثمة سببا؛ وبهذه المناسبة، فإن برهانك على المبدأ العام لا يبدو لي مقبولا.»
فلأوضح هذا الدفاع المتخيل لهيوم بمثال. لنفرض أن شخصا يبحث عن الذهب في بيرو، ولكنه لا يعلم في أي مكان ينبغي عليه أن يحفر، ولكنك تقول له: نعم، إن هناك ذهبا في بيرو. فهل يمكن أن يساعده قولك هذا في شيء؟ إنه لم يتقدم خطوة واحدة عما كان عليه من قبل؛ إذ إن ما يريد معرفته هو ما إذا كانت البقعة التي يحفر فيها ستخرج له ذهبا، وهو لا يستطيع أن يحفر كل بقعة في بيرو. ولو عرف أن هناك ذهبا في مساحة صغيرة معينة من هذا البلد، لظل يعمل على حفر متر مربع بعد الآخر، ولاهتدى إلى الذهب بعد عدد معين من المحاولات، غير أن بيرو أكبر من أن تسمح بإجراء محاولات تشملها كلها؛ وعلى ذلك فإن معرفة مجرد وجود الذهب لا قيمة لها، ولو قلت له إنه لا يوجد ذهب في بيرو، لكانت هذه المعلومات مفيدة له؛ إذ إنها تدفعه إلى الكف عن الحفر. أما القول بأن هناك ذهبا في بيرو فلا يساعده أكثر مما يساعده القول إنك لا تعلم إن كان هناك ذهب في بيرو.
صفحه نامشخص