ومن الغريب حقا أن هذا الحكم على التجريبية الإنجليزية يصل إلى نقد يناظر اعتراضنا سبق أن وجهناه إلى المذهب العقلي؛ فالتجريبية الإنجليزية، على الرغم من اختلافها الأساسي عن المذهب العقلي، قد كررت خطأ من أهم أخطاء هذا المذهب، ألا وهو البحث في المعرفة، لا بنزاهة الملاحظ الموضوعي، بل بقصد إثبات غاية محددة مقدما، ودراسة طبيعة وما هو إلا نوع من الإجابة الوسط، التي لا تكتمل إلا بوضع نظرية في الاحتمالات تفسر ما نعنيه ب «الاحتمالي»، وعلى أي أساس نستطيع تأكيد الاحتمالات. ولقد درس التجريبيون، ومنهم هيوم، طبيعة الاحتمالات مرارا، ولكنهم انتهوا إلى أن للاحتمال طبيعة ذاتية، وهو ينطبق على الظن أو الاعتقاد الذي ميزوا بينه وبين المعرفة. ولا شك أن الفكرة القائلة بأن هناك معرفة احتمالية، كانت خليقة بأن تبدو متناقضة في نظرهم. والواقع أن رأي هيوم القائل إن الاستدلال الاستقرائي ليس أداة مشروعة للمعرفة، يدل على أنه كان لا يزال واقعا تحت تأثير المذهب العقلي؛ فكل ما كان في استطاعته أن يفعله هو أن يثبت، كما فعل الشكاك القدامى، أن من المستحيل بلوغ المثل العقلي الأعلى للمعرفة، ولكنه لا يستطيع الاستعاضة عنه بنظرة أفضل إلى المعرفة. ولو كان هيوم قد درس رياضيات الاحتمالات، التي كانت قد وردت في عصره في كتابات باسكال وفيرما
Fermat
وجاكوب برنويي
Jacob Bernoulli ، لكان من الجائز أن يهتدي إلى معنى موضوعي للاحتمال، غير أن عدم إشارته إلى هذه الكتابات يدل على أنه لم يكن صاحب عقلية رياضية، ولم يكن بالرجل الذي يصلح لاستغلال نظرية الاحتمالات الرياضية في أغراض فلسفية.
وعلى الرغم من أن التحليل المنطقي لفكرة الاحتمال شرط ضروري لإيضاح المعرفة التنبئية، فلا بد من تغيير جذري في التفسير الفلسفي قبل أن يتسنى تقديم الإجابة النهائية التي تخلصنا من مآزق التجريبية. ونحن نعلم اليوم أن المعرفة التنبئية ذاتها لا يمكن إثبات كونها احتمالية، وأن فكرة المعرفة الاحتمالية تتعرض لنقد مماثل لذلك الذي أثاره هيوم بالنسبة إلى المعرفة التي تزعم لنفسها اليقين؛ وعلى ذلك فإن مشكلة المعرفة التنبئية تقتضي إعادة تفسير لطبيعة المعرفة. ولم يكن من الممكن الوصول إلى هذا الفهم الجديد للمعرفة في إطار فيزياء نيوتن، بل كان لا بد لحل مشكلة الاستقراء من انتظار ذلك التفسير الجديد للمعرفة، الذي ظهر بفضل فيزياء القرن العشرين.
الفصل السادس
الطبيعة المزدوجة للفيزياء الكلاسيكية
جانبها التجريبي وجانبها العقلي
كان حديثنا حتى الآن مقتصرا على الفلسفة. أما الآن، فلندرس تطور العلم خلال تلك الأعوام الألفين والخمسمائة، التي ظهرت خلالها، في مجال الفلسفة، المذاهب العقلية والتجريبية في شتى صورها.
إن الدور الذي أسهم به اليونانيون في مجال العلم يكاد يقتصر على العلوم الرياضية وحدها، ولقد أحرزت الهندسة على وجه التخصيص تقدما عظيما، وكان من أبرز الكشوف الهندسية التي توصل إليها اليونانيون، تلك النظرية التي تحمل اسم فيثاغورس، وهي كشف لا يعادله إلا بحثهم للقطاعات المخروطية، والمنحنيات التي تعرف باسم البيضاوي، والقطع الناقص والقطع الزائد. أما علم الحساب فلم يكن يتميز عندهم بذلك الأسلوب العددي الذي نطبقه اليوم بمثل هذا النجاح؛ فلم يكن اليونانيون يكتبون أرقامهم بالنظام العشري، الذي هو طريقة متأخرة في التدوين، توصل إليها العرب، ولا كانوا يعرفون اللوغاريتمات التي اخترعت في القرن السابع عشر.
صفحه نامشخص