ويبدو أن «كانت » كان ينظر إلى تأسيسه للأخلاق على أنه عمل يفوق في أهميته نظريته في المعرفة بقدر ما تفوق الغاية في أهميتها الوسيلة، ويبدو أن هذه النظرة مميزة لجميع أنصار الموازاة بين المجالين الأخلاقي والمعرفي؛ إذ يبدو أن السعي إلى توجيهات أخلاقية هو الدافع إلى أبحاثهم، وأن السبب الرئيسي في نشدانهم لليقين المعرفي هو أنه يمدهم بوسيلة الاهتداء إلى اليقين الأخلاقي. على أن لهذا التحول في الاهتمام من الميدان المعرفي إلى الميدان الأخلاقي تأثيرا مؤسفا؛ إذ يؤدي إلى تأمل نظرية المعرفة الناتجة بصورة مشوهة، وبنائها من أجل غاية معينة، هي أن تكون دعامة للمذهب المطلق في الأخلاق؛ وبالتالي لا تكون تفسيرا منزها للمعرفة؛ وبذلك يصبح البحث عن التوجيهات الأخلاقية دافعا خارجا عن مجال المنطق، يتدخل في التحليل المنطقي للمعرفة. وينبغي أن نبين الآن إلى أي مدى أثرت النتيجة الناجمة عنه، وهي الموازاة بين مجالي الأخلاق والمعرفة، في الفلسفات المعرفية، وأصبحت مصدرا رئيسيا لنظريات باطلة في المعرفة.
لما كان الإنسان الفعلي لا يسلك، على وجه العموم، سلوكا أخلاقيا، فيبدو من الواضح تماما أن الأخلاق لا تبحث في السلوك الفعلي للإنسان. فالفرق بين الطريقة التي ينبغي أن يسلك بها الإنسان، والطريقة التي يسلك بها بالفعل، واضح تماما؛ ومن هنا يبدو أن علم الأخلاق يتعلق بسلوك الإنسان المثالي. ولكي يقدم الباحث النظري الأخلاقي تعليلا لهذا الفارق، فإنه يشير إلى التباين بين القوانين الهندسية والعلاقات التي تسري على الموضوعات الفيزيائية الفعلية، ويميز المثلث المثالي (أو العقلي) من المثلث الفعلي، ويذهب إلى أن الرياضي يكشف عن القوانين المعيارية للموضوعات الهندسية بنفس المعنى الذي يثبت به الفيلسوف الأخلاقي القوانين المعيارية للسلوك البشري. وهكذا يتصور النظريات الرياضية على أنها قضايا تتعلق بما ينبغي أن يكون، متميزا عما هو كائن، بنفس المعنى الذي يتصور به النظريات الأخلاقية.
على أن أية دراسة نزيهة للرياضة كفيلة بأن تكشف فورا عن بطلان هذا التشبيه. صحيح أن الأشكال الهندسة المثالية لا توجد في الواقع الفيزيائي، ولكن قوانين الهندسة تنبئنا على الأقل بعلاقات تسري تقريبا على الموضوعات الفعلية. والرياضة تصف الواقع الفيزيائي من حيث إنها تمدنا بمعرفة تقريبية للواقع، وهي لا تنبئنا بما ينبغي أن يكون عليه الواقع، وإنما بما هو عليه بالفعل. فأي معنى يمكن أن يكون للقول إن محيط الشجرة ينبغي أن يكون دائرة كاملة؟ إن الدائرة غير الكاملة التي يكونها هذا المحيط بالفعل تخضع للقوانين الهندسية بقدر ما تخضع لها الدائرة الكاملة، وقوانين الدائرة الكاملة مفيدة لنا؛ لأنها تنبئنا على وجه التقريب بالعلاقات التي تسري على دوائر غير كاملة مثل محيط الأشجار.
ولنحتفظ بهذا التشبيه، فنحاول تفسير الأخلاق على أنها ذات طبيعة مماثلة؛ أي إنها تنبئنا عن السلوك التقريبي للناس. صحيح أن الأخلاق الوصفية، أي الوصف الاجتماعي للقواعد الأخلاقية السائدة، لا تقدم عادة على هذا النحو، وإنما تقدم من خلال وصف للسلوك الفعلي للناس. ومع ذلك ففي استطاعتنا، نظريا على الأقل، أن نشيد أخلاقا وصفية عن طريق بحث الإنسان المثالي، مثلما يبحث عالم الهندسة في المثلث المثالي. وهذا ممكن لأن القوانين الأخلاقية المثالية تتحقق في حدود تقريبية معينة. والواقع أن معظم الناس، مثلا، لا يسرقون ولا يقتلون. فالمثل العليا الأخلاقية تتحقق تقريبيا لأنها لو لم تكن تتحقق لما أمكن أن يوجد الناس بوصفهم جماعة اجتماعية. وهكذا نستطيع أن نصل إلى أخلاق وصفية تنبئنا عن السلوك الأخلاقي التقريبي للبشر عن طريق وصف سلوكهم المثالي، مثلما تنبئنا الهندسة عن العلاقات التقريبية بين مقاييس المكان الفيزيائي عن طريق البحث في أشكال هندسية مثالية.
غير أن هذا ليس ما يريده فيلسوف الأخلاق؛ فهو يريد توجيهات أخلاقية؛ أي قواعد تدلنا على الطريقة التي ينبغي أن نسلك بها، لا أوصافا للطريقة التي نسلك بها بالفعل. ولما كان يذهب إلى أن العقل، أو رؤية المثل الفكرية، يستطيع أن يكشف لنا عن هذه القواعد، فإنه يضطر في مقابل ذلك إلى أن ينظر إلى وظيفة الرياضة على أنها معيارية لا وصفية. وهكذا يصل إلى فهم يبدو الذهن فيه مشرعا، أو بتعبير أكثر تواضعا، يبدو العقل أداة للرؤية تدرك القوانين المعيارية بالتطلع إلى مجال أعلى للوجود. وهذا هو الأصل النفسي لفكرة تعدد عوالم الوجود، وهي الفكرة التي كان أفلاطون أكبر دعاتها. وفي هذه الحالة ينظر إلى الطابع غير الكامل للأشكال الهندسية للموضوعات الفيزيائية الفعلية على أنه نقص، أو عيب بالمعنى الأخلاقي، شأنه شأن عيوب السلوك الفعلية لدى البشر، ويقال بوجود عالم من الوجود الأعلى، متحرر من هذه النقائص، وذلك على المستوى المعرفي والمستوى الأخلاقي معا.
ويظهر التقويم الأخلاقي للعلاقات المعرفية في تغلغل الحجج الأخلاقية في العلم اليوناني، كعلم الفلك؛ فالمسارات السماوية للنجوم مثلا تعد دوائر كاملة لأسباب تتعلق بالكرامة، إن جاز هذا التعبير، أما أن محيط الأشجار يمثل دائرة غير كاملة فهذا دليل على نقصها؛ ونتيجة لهذه الآراء نظر إلى الأشياء الفعلية على أنها ناقصة بالقياس إلى الأشياء الفكرية أو المثالية. وتعبر نظرية المثل الأفلاطونية عن هذا التباين في القيمة بين العالم الفيزيائي والعالم المثالي.
ويقول «كانت» برأي مماثل، وإن كان يعرضه بحجج أقل سذاجة؛ فهو يفرق بين الظواهر والأشياء في ذاتها، فكل معرفة لنا تقتصر على الظواهر؛ لأن المعرفة تعرض موضوعات العالم الفيزيائي في إطار المبادئ القبلية. وهو يذهب إلى أن من الضروري أن تكون هناك من وراء المظاهر أشياء في ذاتها؛ أي الأشياء كما هي قبل إدماجها في مبادئ الهندسة ومبدأ العلية وما إلى ذلك. وهو يصل، مثل أفلاطون، إلى عالم متعال (ترنسندنتالي) يختلف عن العالم الذي تكشفه لنا الملاحظة والعلم ويعلو عليه.
1
ولا شك أن السبب الذي يحتاج «كانت» من أجله إلى الأشياء في ذاتها واضح؛ فهو يريد تشييد عالم يمكن أن تطبق فيه مبادئه الأخلاقية والدينية؛ ذلك لأن العلم، بما فيه من حتمية علية، لم يترك مكانا لحرية الفعل البشري أو للحكم الإلهي. وهكذا بدت أسس الأخلاق والدين مهددة في نظر «كانت»، وخيل إليه أن هناك مخرجا من هذا المأزق، هو أن يقتصر العلم على البحث في نوع من الوجود الأدنى مرتبة؛ وبذلك تتخلص الأشياء في ذاتها من حتمية الظواهر. ولقد كان من السهل أن يطبق هذا التفسير على المعرفة التركيبية القبلية عند «كانت» نظرا إلى طابعها الذاتي؛ فإذا كان الذهن هو الذي يفرض قوانين العلية والهندسة على الوجود المطلق فحسب، فإن هذا الوجود ذاته يكون حرا، ولا يعوقه شيء عن اتباع القانون الأخلاقي بدلا من القانون العلي. وإنه لمن المؤلم أن نرى كيف يبذل فيلسوف الفيزياء النيوتونية كل هذا الجهد لكي يتخلى عن فيزيائه بأكملها من أجل إنقاذ أخلاقه الدينية. والواقع أن «كانت» يعترف صراحة بأن هذا هو مقصد فلسفته؛ ففي مقدمة الطبعة الثانية لكتابه «نقد العقل الخالص» يقول: «كان علي أن أضع حدودا للمعرفة لكي أفسح مكانا للإيمان.» وتتضح النتائج المدمرة لهذا البرنامج في الطابع الأخير الذي أضفاه على فلسفته «النقدية»؛ ذلك لأن نفس الكتاب الذي يضع أساس نظريته في المعرفة ينتهي بباب يسمى ب «الديالكتيك الترنسندنتالي» يكاد يلغي كل نتائجه السابقة. ففي هذا الباب يزعم «كانت» أن العقل عندما يمتد إلى ما وراء عالم الظواهر يؤدي حتما إلى متناقضات، يطلق عليها اسم «النقائض
antinomies »، وأن المخرج الوحيد لحالة الانهيار التي تصيب العقل هذه هي الإيمان بالله والحرية والخلود، بوصفها مبادئ تسري على عالم يعلو على العالم المنظور.
صفحه نامشخص