فطافت إذ ذاك الحورية في الشوارع والأسواق، وكانت تبشر بالحب والإحسان، فلم يسمع صوتها الناس؛ لأن عويل النادبين وحشرجة المائتين أصمت آذانهم، ومنظر الدم أعمى عيونهم، صم بكم عمي لا يسمعون ولا ينظرون!
فلم تيأس الحورية، بل ظلت تسير بين الجبال والأودية واعظة مبشرة، وفي أحد الأيام رأت في بيت بعيد على رأس جبل كأنه عش للنسور ولدا صغيرا يبكي فوق جثث أبويه وإخوته، وكان اسم الولد أحمد، فأخذته ووضعته في هدب ثوبها، وسارت به على جوادها تنهب الأرض نهبا.
وفي فجر اليوم الثاني استيقظت مع الطيور، ورأت على عتبة بيتها ولدا صغيرا مطروحا بين حي وميت وقد قتل أهلوه في المنفى، فأتى به أبناء السبيل ورموه على باب الحب والإحسان.
وكان اسم الولد سركيس.
فحملته بين ذراعيها، وكان يرتجف بردا ، وقالت له: لا تبك يا حبيبي؛ سأضعك في كنف حبي وحناني فلا يصل إليك الأشقياء.
ثم ذهبت به إلى السرير حيث كان نائما يتيم الأمس بين الستائر الحريرية الناعمة، فوضعته إلى جانبه وقالت لهما: ناما كأخوين.
ولم تمض ساعة حتى سمعت صراخا غريبا، فهرولت ورأت الطفلين يختصمان كأنهما شبلان صغيران.
فتنهدت وغسلت الدماء وضمدت الجروح، وأخذت الولدين بيديها إلى جنة قريبة فيها أزهار عطرية وفاكهة ذهبية، فقطفت الورد وضفرت منه إكليلين كللت بهما رأسيهما، وقطعت أغصان الفاكهة وقالت لهما: «العبا كأخوين.»
ولم تغب دقيقة حتى اشتبك الولدان، فداسا الزهور، ورميا الفاكهة إلى الغدير، ونزلا برقاب بعضهما نهشا وعضا.
فرجعت وغسلت الدموع وضمدت الجراح، وحبست الولدين في غرفة، وقالت في نفسها: سألهيهما بالعمل، ثم وضعت بين يديهما الأقلام والدفاتر، ولم تتجاسر أن توصيهما بالحب والأخوة، بل قالت لهما: «اعملا».
صفحه نامشخص