119

إنما الإرادة تفسر بالعمل، والعمل يقتضي له بذل الجهود؛ لذا لا نندهش عندما نرى من لا يبذل جهدا يئوب بالخيبة؛ فالمشروعات البشرية التي كان نصيبها الحبوط هي التي رافقها إفلاس إرادة القائمين بها.

إن تنفيذ الإرادة يتطلب جهدا كبيرا، وبدنا قويا سليما، ولكن الكثير من الرجال يتغلبون على بنيتهم الضعيفة بروحهم القوية، منهم بوزيدونيوس السوري، أستاذ شيشرون والموحي إليه رسائله الجميلة في الألوهية، والقدر، وطبيعة الآلهة. هذا الفيلسوف كان مصابا بداء النقطة، فيوما جاءه بومباي خصيصا ليسمع تعاليمه، وبينما هو يتكلم فاجأه عارض من أعراض مرضه المبرح، فغالب الألم وصرخ:

مهما تفننت في تعذيبي فلن تجبرني على الإقرار بكونك داء.

هذا مثال من قوة إرادة لم يكتف صاحبها بالتبشير بها، بل علمها بالمثل الحي.

قد نتساءل: لم فارق العزم شعوب هذه البلاد؟ وما هي أسباب هذا الانحطاط المؤلم؟ وماذا حل بسبيكة الذهب فتحولت إلى رصاص؟

لنعترف بدائنا مع اجتناب الغلو ما أمكن.

التبر الذي تركه الجدود لم يزل تبرا، ولكنه دفن في أرض رطبة فغطته النفايات والأوساخ، لقد رمانا الحكم الغابر في جمود عميق فتأكل الصداء عضلاتنا وأوصالنا، وأنقص من مقدرتنا على الدفاع.

أيها السادة، كيف يمكن أن يكون غير ما هو كائن؟ إن شأن الأمم ليس كشأن تلك الغادة الخرافية التي نامت في الغابة مائة سنة، وأفاقت فإذا هي لم تزل غضة جميلة، وإذا بالغاب لم يزل مخضلا. إن سباتنا الطويل قد ترك فينا الغضون، ومزروعاتنا المهملة لم تلمسها قوة السحر، ولم تبق لها ازدهار الربيع.

بينما نحن نغط في سباتنا، تداعت جسورنا ومعاهدنا، وانهالت الأتربة فملأت مرافئنا.

لم يصف كاتب موات الأشياء حولنا كما وصفه لامرتين يوم ألقت سفينته مرساتها في ميناء صيدا، فذكر الزمن الغابر، وذكر الأرصفة المرمرية وقد تزاحمت فيها أشرعة السفن كسرب النسور، ثم فتش عن المدينة البحرية العظمى، ولما لم يجد إلا صقالة صغيرة متداعية صرخ:

صفحه نامشخص