103

إن أقرب الآلات إلى الأصوات الطبيعية هي الآلات النافخة؛ كالقصب والناي والفلوت وسواها، ويتلو هذه ذوات الأوتار؛ كالكمنجة والعود والقيثارة

Guitare ، أما البيانو فمع أنها ناقصة - من جهة الأصوات - بالنسبة إلى ذوات الأوتار، فهي كآلة أكثر ضبطا من جميع الآلات؛ لأن من يعزف عليها لا يحتاج إلى ما يسمونه «الدوزان».

على أن البيانو لا تؤدي الألحان الشرقية كاملة؛ ذلك لأن الأصوات في الموسيقى الغربية تقسم إلى أنصاف، أما الأصوات الشرقية فتنقسم إلى أرباع وإلى أثمان؛ لهذا لا يمكن لأي موسيقي مهما كان بارعا أن يعزف على البيانو نغم «غيري على السلوان قادر» أو أي نغم سواه ويأتي به كاملا كما يأتي به العواد. •••

وقد خطر في بال الأستاذ وديع - وذلك منذ 15 سنة - أن من الممكن إيجاد طريقة تقيد بها الموسيقى الشرقية بأرباعها وأثمانها، وتطبيقها عمليا على آلة مثل البيانو، ولما عرض فكره هذا في إسطنبول سنة 1928 قال له أحدهم: لو كان هذا العمل ممكنا لسبقك إليه الغربيون.

لقد وصفوا الشرقي بقلة الثبات، على أن وديع صبرا يخفي وراء سكوته إرادة تفتت الصخر ولا تتفتت، فهو منذ خمس عشرة سنة يعمل لإيجاد الطريقة التي حلم بها عندما كان تلميذا في دار الموسيقى في باريس، إلى أن تكلل جهاده بالفوز، وتوصل إلى اكتشاف ما قضى الحياة بالتفتيش عنه.

أما سر نجاحه فهو الثبات أولا، ثم الانقطاع بالكلية إلى العمل الذي وجد لأجله، وقد اشتهر بهذه الصفة حتى شاع عنه أنه لا يعرف من أمور الدنيا شيئا إلا الأنغام، فلو تكلم أحد أمامه عن مسألة تجارية قال بكل بساطة: «هذه مسألة يفهمها جيدا التاجر الفلاني.» وإذا سأله أحد رأيه في السياسة أجاب: إن السياسة من اختصاصات الكوميساريا.

على أنه يفهم من الأمور أكثر من كثيرين غيره، ولكن مبدأه في التخصص ثابت لا يحول ولا يزول، وكثيرا ما يقول النكات المستظرفة في هذا الصدد.

أذكر أنه ذهب مرة إلى إدارة شركة الماء ليطالبها بواجبها نحوه كرجل يدفع الاشتراك ولا يأخذ شيئا، ولما سأله ذووه عن نتيجة تلك المقابلة قال:

استقبلني فلان وكلمني عن الموسيقى، ولما صرنا إلى البحث عن الأنغام الشرقية رأيت نفسي أمام رجل متضلع في الفن، فرجعت ولم أكلمه في مسألة الماء؛ لأنني قلت في نفسي: إن الرجل الذي يعرف الموسيقى إلى هذه الدرجة يجهل - ولا بد - كل ما هو متعلق بالماء وشركات الماء.

إن في هذه النكتة المضحكة مثالة كبيرة، فلو تخصص كل منا للموهبة التي أوجدها الخالق فيه لانقطع هذا الضجيج في لبنان وسوريا، وساد مكانه العمل الهادئ المثمر ...

صفحه نامشخص