اشتهرت عائشة بأفكارها الوطنية وسخر منها الناس فزادها ذلك إصرارا وعنادا وتمسكا بالفكرة، وحاولت مرارا أن تشارك بدريهماتها القليلة في مساعدة هذه الفكرة التي تعرف عنها أنها ترمي إلى الوطنية والتحرير. والتحرير في فهمها هو خروجها من هذا الماخور العفن إلى عالم رحب تجد فيه لقمة عيشها دون الاضطرار إلى بيع جسدها. والوطنية عندها هي أن يكون لها منزل وبعل محترمان. استولت عليها هذه الأفكار فتمسكت بها بشدة كما يتمسك الغريق بحبل النجاة.
قالت عائشة عن نفسها إنها وطنية، وآمنت بذلك إيمانا راسخا، واعتقدت اعتقادا قويا أنها لا بد من أن تجني ثمرة ذلك عاجلا. وشاء ربك ألا تنتظر طويلا، فقد انتشلتها هذه العقيدة المقدسة من خضم رذائلها، فأقلعت أولا عن تعاطي المخدرات لأن عقلها أوحى لها أن من يتحلى بهذه الأفكار يجب أن يقلع عن ذلك، ثم أعقبت المخدرات بالانقطاع عن المسكرات، ولم تكد تفعل حتى ضج منها محيطها الموبوء وأصبح لا يتحملها ولا يقوى على احتمال نزعتها الجديدة التي تتضارب ومصلحة العمل الذي تصادمت رغباته بإرادتها، فلم يشأ أن يتساهل معها ويخضع لإرادتها ولم تشأ هي أن تنثني عن فكرتها وتتخلى عما اعتقدته منقذها الأوحد. وكثر الجدل واشتد الخصام، ولم تنتبه عائشة إلى نفسها إلا وهي في الشارع تبحث عن عمل حر طاهر تتعيش منه، ولم يخفها الشارع، فقد أكسبتها التجارب المرة خبرة، ولم يطل بها البحث، فتحصلت على عمل خادم في فندق محترم، ثم وفقت للاهتداء إلى زوج متواضع صالح بنى بها دون أن يسألها عن ماضيها، ولم تشأ أن تسأله عن مستقبله، وإنما اكتفت بالعيش البسيط في أحضانه راضية وهي صامتة كالقبر، تدفن في نفسها ذكريات أليمة تبعث في نفسها الرعب وفي وجهها الخجل كلما تقهقرت بها الذاكرة إلى الوراء. ولكنه مرهم النسيان سريعا ما فعل مفعوله فاندمل الجرح وانمحى الرسم ولم يبق من تلك الإحن والمحن إلا بصيص ضئيل من الذكريات المريرة ...
العصامي
لا تنتظر مني أيها القارئ أن أعرض عليك هنا شخصية من الشخصيات البارزة التي ساعدها الحظ فارتفعت إلى الذرى في ميادين المال والأعمال، وأقول لك أيها القارئ لا تنتظر مني ذلك لأني أعرف أنك تعودت أن ترى مجتمعك لا يصف بالعصامية إلا هذا الصنف من الرجال، فكل فقير أثرى، وكل وضيع ارتفع (ولو نزلت عليهما الثروة والجاه من السماء دون كد أو جد) هما عصاميان عندنا يستحقان منا كل التبجيل والاحترام. وانحرفت هذه الكلمة عن مدلولها حتى كادت تختص بهذه الطائفة الخاصة من الشخصيات المرتجلة، مع أن العصامية أعم وأشمل، وهي الإرادة الحديدية والعزم القوي والاعتماد على النفس، وعدم الاستسلام للإخفاق وما يجره من يأس، والمثابرة على العمل إلى بلوغ النجاح الذي ينشده، والمثل الأعلى الذي يأمله ، مهما كان نوع هذا العمل ومهما كان كنه هذا النجاح.
إن عصامينا هذا لم يصل إلى الثروة، ولم يصل إلى الزعامة، وإنما توصل إلى ما اعتقده مثلا أعلى، وتوصل إلى ما أراده وتمناه باذلا جهودا جبارة وعزيمة فولاذية لا تقلان عن عزيمة وجهود أي من عظماء العالم ...
كان صاحبنا واسمه عبد الباقي، عاملا فلاحيا بسيطا يستأجره أصحاب الحقول والبساتين لخدمة الأشجار، ولا يكاد يعرف البطالة طيلة السنة وذلك لما عرف به من النصح في العمل، ولما منحه الله من قوة البنية وصحة الجسم والعقل.
التحق عبد الباقي في صباه بمكتب قرآني تعلم فيه الكتابة والقراءة، وحفظ أجزاء قليلة من القرآن، ولم يستطع مواصلة التعليم؛ لأن والده انتقل إلى رحمة الله، واضطرته لوازم العيش إلى احتراف العمل في الحقول والمزارع مقابل أجر يومي زهيد. ولكن الرجل خلق عصاميا له مثل أعلى في الحياة يريد أن يصل إليه وله رغبات نفسانية شريفة يود تحقيقها مهما كلفه من الجهد غير مبال بالعوائق الكثيرة التي تعترض طريقه.
كان لعبد الباقي - أو للشيخ عبد الباقي كما يسميه مواطنوه - فكرة تخامر ذهنه منذ الصغر: وهي أن يتزعم حركة التربية والتعليم القرآني في بلدته. وشيخ الكتاب في بلدته هو كل شيء، يحترمه السكان ويبجلونه ويلجئون إليه لحل مشاكلهم، يعيش في شرف وعز تقف دونهما سلطة القضاء والحكم خاضعة ذليلة ...
استولت على أفكاره هذه الرغبة فعمل على تنفيذها، ولم يقف الفقر ولا حاجته إلى العمل حجر عثرة في طريقه، فاشترى مصحفا واشترى لوحا خشبيا وقلما ودواة وانكب على حفظ القرآن مع مواصلته العمل، فيعمل شطرا من الليل في إعداد لوحه وكتابته حتى إذا ما أصبح الصباح حمله معه وانكب على حفظه. وكان يشاهد وهو مرتق أعلى الأشجار أو عاملا في الحقول ولوحه مربوط إلى حزامه يلجأ إليه كلما ألزمه الأمر إلى مراجعته. قضى سنين وهو على هذه الحالة، إلى أن شاع أمره فأعجب به قوم وهزئ به آخرون، ولكن الرجل لم يعنه إعجاب المعجبين ولا سخرية الساخرين، بل استمر قدما يتابع سبيله ويواصل العمل بالعمل والليل بالنهار إلى أن حفظ القرآن حفظا متقنا وصلى به صلاة التراويح، ثم احتل حجرة في المسجد وفتح كتابا قرآنيا وأخذ يعلم القرآن، يعلمه بشدة وقوة محاولا دائما ابتكار طرق جديدة لتعليمه، وأخذ يعلم الصبيان في النهار والكبار في الليل، ولم يعهدوا في قريته تعليم الكبار فضرب لهم مثلا بنفسه، مثلا حيا ناطقا، فكثر الإقبال عليه وتوصل إلى أن تزعم حركة التعليم في القرية لا ينازعه فيها منازع.
ارتاح الشيخ بعض الشيء إلى ذلك، ولكن التقدم العلمي جرف القرية، فقد نزل بها شبان أتوا يحملون فنا جديدا تعلموه في جامع الزيتونة بتونس، اسمه النحو، واحتل بعضهم سواري المسجد، وتصدوا لإلقاء دروس فيه، وتعليم مباديه لمن يرغب في ذلك. تحدث الناس بهم ولهجوا بذكر فنهم الجديد، وقالوا إن الشيخ عبد الباقي لا يحسن النحو ... علم الشيخ بذلك وغاضه أن تنتزع منه الزعامة العلمية، ينتزعها منه شبان في سن الأطفال الذين يتولى تعليمهم، وصرح في مجمع كبير أنه يحسن النحو وهو يتحدى خصومه لتدريسه دون الالتجاء إلى كتاب ما، وضرب لهم موعدا لذلك، وبادر بالتحصيل على نسخة من شرح الشيخ خالد على الآجرومية؛ لأن الآجرومية متنا وشرحا هي البضاعة الوحيدة لخصومه. وانكب على الشيخ خالد يحفظ ما فيه من متن وشرح غير عابئ بفهم عباراته ومعانيه، وحل الموعد ونزل الشيخ إلى المسجد الذي ضم جمعا غفيرا من المعجبين والفضوليين، وألقى الشيخ درسه بصوت جهوري دوى له المسجد، فكان يسرد الفقرات من المتن ثم يتبعها بما يليه من الشرح، كل ذلك دون الالتجاء إلى كتاب، ونجح في الاختبار واستولى من جديد على زمام الزعامة العلمية، وكان هذا الحادث فاتحا جديدا له ففتح له أبوابا كانت موصودة دونه وعرف أن حفظ القرآن ليس هو كل العلم بل هناك علوم وفنون أخرى عليه أن يخوض غمارها. ولم ينتظر طويلا، فبادر لحينه بدراسة النحو دراسة متقنة، ثم انكب على الفقه المالكي فحفظ خليلا وطالع مرارا شراحه وحواشيه، كما درس التجويد والقرآن والفرائض ومعلومات عديدة، واستعان على ذلك بشيخ ضرير لا يدري أهل القرية من أين أتى به، أنزله عنده وخدمه وقام بجميع لوازمه. كل ذلك ولم يتخل يوما عن عمله في الكتاب أو يختل يوما برنامجه واتسعت دائرة عمله حيث لم يكتف بتعليم القرآن، بل أخذ يعلم مبادئ شتى العلوم والفنون التي تعلمها، وللرجل قدرة غريبة على هظم ما يتعلم وقدرة أغرب على ابتكار طرق جديدة مبسطة لتعليمه.
صفحه نامشخص