نکبات
النكبات: خلاصة تاريخ سورية منذ العهد الأول بعد الطوفان إلى عهد الجمهورية بلبنان
ژانرها
3
فيفشل عند أسوار عكا، ويفتك بعسكره الطاعون، فيأمر - وهو مثل كل الفاتحين - بقتل جميع الجرحى والمرضى من عساكره كي لا يعوقوه في تقهقره.
لم تتغير أحوال البلاد بعد ارتحال نابوليون بونابرت، وكيف تتغير وفيها الجزار المشهور الذي حكم بأمره وسيفه تسعا وعشرين سنة، فجعلها جنة غناء جن فيها عباد الله، جنوا مما كانوا يسمعون، جنوا مما كانوا يرون، جنوا مما كانوا يقاسون، جنوا من جنون هذا الأجنبي البشناقي، الذي جاءنا هاربا من مصر، وكان فيها من جماعة الأمير الحاكم علي بك.
حكم أحمد البشناقي الجزار تسعا وعشرين سنة (1775-1804م)، فبرز بمظالمه على كل من تقدمه من الظالمين، ولحقت جرائره بالمسلمين والمسيحيين والإسرائيليين على السواء. إني أكتفي بذكر مثلين منها:
استهل الجزار حكمه في عكا بأن ملأ السجون من جميع الناس؛ الفقراء والأغنياء والعمال والعلماء وأصحاب الحرف وكتبة الدواوين؛ وذلك ترويعا للرعية. ثم أمر إرهابا لها بقتلهم أجمعين. «وطرحت القتلى كالغنم خارج عكا، ونادى المنادي: تعالوا ادفنوا موتاكم، وكل امرأة ترفع صوتها تقتل حالا.»
كان الجزار يكره الناس جميعا، وكان كرهه الأشد للنساء. حج هذا السفاح مرة فحدث في أثناء تغيبه حادث بين حريمه ومماليكه، علم به عند رجوعه، فأبعد المماليك، نفاهم، ثم أمر بأن تشب النار في ساحة القصر. وجاء العبيد بالنساء، نسائه، الواحدة تلو الأخرى، حتى بلغ عددهن ثلاثين. وكان العبيد يلقون بالواحدة منهن إلى النار المتأججة، فيتقدم الجزار ويطأ ظهرها ورقبتها بجزمته، كذلك فعل بالثلاثين اللواتي تحولن رمادا أمام عينيه.
وكان ابن عثمان، السلطان الجالس على العرش بالآستانة، راضيا عن أحمد البشناقي الجزار؛ لأنه كان يحسن جمع الخراج، ويضيف إليه في بعض الأحايين شيئا من ماله الخاص. والجزار هو القائل: «السلطان كالبنات، يعطي نفسه لمن يعطيه أكثر.»
قبل أن نودع الجزار، الغريب الأطوار، المكون من طين ومن نار، يجب أن نذكر، فلا نظلمه، ما ذكره صاحب «الخطط»؛ إذ قال: «لا جرم أن التبعة في بعض أعماله تعود على عماله ورجاله، وأكثرهم من أبناء هذه البلاد الذين أفسدتهم تلك العصور، وباءوا بالنقص والقصور.»
4
ويجب أن أذكر حسنة واحدة، شاهدت أثرها عندما زرت الجامع الكبير بعكا؛ هناك مكتبة فيها الكتب - وأكثرها خطية - التي جمعها الجزار رضاء أو قهرا كما كان يجمع الخراج. أليس من الغريب العجيب أن يكون هذا الرجل مولعا بالكتب مبالغا في حرزها؟ «هذا الكتاب وقف أحمد باشا الجزار، لا يباع ولا يعار ولا ينقل.» هي الكلمة المطبوعة على كل مجلد من تلك المكتبة.
صفحه نامشخص