إنه ليقال إن الفلسفة أول أمرها كانت تضم إلى حضنها كل ضروب المعرفة، ثم أخذت فروع من هذه المعرفة تستقل عن أمها الأولى فتكون علوما خاصة قائمة بذاتها، بحيث لم يبق للأم من أبنائها الأولين إلا عدد قليل؛ إذ بقيت لها الميتافيزيقا والأخلاق والمنطق، وذهبت عنها علوم الطبيعة من فلك وكيمياء ونبات وحيوان وغيرها، وهنالك اليوم صراع قائم يحاول به علمان جديدان أن ينسلخا من حضن الأم الرءوم، وهما علما النفس والاجتماع، فما يزال هذان جزءا من الفلسفة عند بعض، وجزءا من العلم عند بعض آخر، وشيئا بين بين عند بعض ثالث؛ وتفسير ذلك كله هو في انتقال الإنسان من مرحلة العلم الكيفي إلى مرحلة العلم الكمي؛ فلما كانت العلوم كلها كيفية ولا وسيلة هناك لضبط الكميات، كانت العلوم كلها أجزاء من بدن واحد هو الفلسفة، ثم حدث بعد ذلك لبعض جوانب المعرفة أن ينضبط انضباطا كميا، فكان معنى ذلك أنه استقل عن الفلسفة وقام وحده علما، ولبثت أنواع من المعرفة حتى يومنا لا ندري كيف نلتمس السبيل إلى تقديرها الكمي، كالفضيلة والجمال والحق والنفس والخلود وما إلى ذلك، فلبثت إلى يومنا فلسفة، وأما علما النفس والاجتماع فلأنهما قد وفقا بعض التوفيق إلى حساب ظواهرهما حسابا كميا، فهما علمان مستقلان عن الفلسفة بمقدار ما وفقا، وهما بعد جزءان من الفلسفة بمقدار ما أخفقا.
إنني إذ أنظر إلى الفكر الإنساني في تطوره وتقدمه، أراه في سير دائب ينتقل به من مرحلة الإدراك الكيفي إلى مرحلة الإدراك الكمي لظواهر العالم؛ فقد كانت ظواهر العالم عند أرسطو - مثلا - تقسم أنواعا أنواعا، بحيث لا يجوز لظاهرة تندرج تحت نوع ما أن تندرج في الوقت نفسه تحت نوع آخر؛ ومن ثم نشأت عند فلاسفة اليونان مشكلات غريبة، فهل يكون الشيء الواحد - مثلا - حارا وباردا في وقت واحد؟ ذلك مستحيل في حكم المنطق؛ لأن الضدين لا يصدقان معا، لكن الماء الفاتر حار بالنسبة للماء المثلوج، وبارد بالنسبة للماء الذي يغلي، فكيف أمكن لهذا الماء المعين أن يحكم عليه هو نفسه بالحرارة وبالبرودة معا؟ كان هذا هو الموقف عندما كان إدراك الحرارة والبرودة أمرا كيفيا، لكن انظر ماذا حدث لهذه المشكلة نفسها بعد أن تحول إدراكنا للحرارة من الناحية العلمية إلى إدراك كمي؛ فأولا - لم تعد الحرارة والبرودة نوعين من الكائنات، بل هما ظاهرة واحدة وإن تفاوتت درجاتها؛ فالماء المثلوج ذو حرارة كالماء الذي يغلي، وكل ما في الأمر اختلاف في درجة هذه الحرارة؛ فهي صفر في الحالة الأولى ومائة في الحالة الثانية. ولو قلنا عن ماء معين إن درجة حرارته 50 مئوية، لما أصبح لكلامنا معنى إذا قلنا: كيف أمكن لهذه الخمسين أن تكون أكبر من الصفر وأصغر من المائة؟
وإذا رأيت أناسا ما يزالون يقسمون لك الكائنات الحية قسمين، فكائنات عاقلة هي بنو الإنسان، وكائنات غير عاقلة هي أفراد الحيوان الأعجم والنباتات، فاعلم أنهم ما يزالون من العلم في مرحلة أرسطية؛ إذ هم يقسمون الظواهر على أساس كيفي، ولو أرادوا النظر من وجهة التفاوت الكمي للظاهرة الواحدة، لرأوا «العقل» في الإنسان درجة عليا من درجات تتفاوت في سلم الكائنات الحية جميعا؛ فليس الأمر «أنواعا» بل الأمر ظاهرة واحدة هي ظاهرة الحياة، وعلينا بعد ذلك أن نجد لها مقياسا يقيس درجاتها المتفاوتة في الكائنات الحية، كما وجدنا للحرارة مقياسا.
إن المثل الأعلى الذي نبتغيه للعلم الإنساني، مهما يكن موضوع ذلك العلم، هو أن نجد لكل مدرك من مدركاتنا وسيلة قياسية نقيس بها درجات ذلك المدرك في تفاوتها؛ فليس علما أن أقول عن الناس إن منهم الأذكياء ومنهم الأغبياء؛ لأن هذا وصف كيفي لا دقة فيه، وليس الذكاء والغباء نوعين من الظواهر، بل هما درجتان أو قل هما سلم مديد لظاهرة واحدة في درجاتها المتفاوتة؛ فعند من نصفه بالذكاء درجة أعلى من ظاهرة هي نفسها عند من نصفه بالغباء ولكنها عنده بدرجة أقل، ومجهودنا هو أن نعثر على أداة للقياس. والعجيب هنا هو أن تجد عند كثير جدا من الناس - حتى من أولئك الذين يسلكون أنفسهم في زمرة العلماء - نفورا شديدا إذا ما زعمت لهم أن العلم ينشد الضبط الكمي لشتى الظواهر، بما فيها الإنسان نفسه، إنهم ينفرون نفورا شديدا إذا ما علموا أنك تريد أن تقيس الفضيلة كما تقيس الحرارة، وأن تزن الحب كما تزن الأجسام، وعندهم أن التقدير الكمي إن جاز وأمكن في الطبيعة الجامدة، ثم إن جاز وأمكن إلى حد ما في النبات وفي الحيوان، فهو مستحيل بالنسبة إلى الإنسان؛ فللإنسان عندهم روح لا يقاس بالمكاييل والموازين. نعم إنه لا بأس عندهم من أن يقام يوم الحساب ميزان للحسنات والسيئات؛ لأنه لا بأس عندهم من الوقوع مع أنفسهم في تناقض، فيتصورون للشيء الواحد إمكانا واستحالة في آن معا.
إننا إذ نقول إن المثل الأعلى الذي ينشده العلم في تطوره هو أن يتحدث عن الظواهر كلها بلغة الكم لا بلغة الكيف، لا ننسى أن السير تجاه هذا الهدف قد بدأت خطاه الأولى في أقدم العصور الفكرية؛ فمن الفلاسفة اليونان الأقدمين من جعل اختلاف الكيف في الأشياء راجعا إلى اختلاف في الكم؛ فليس الذهب - مثلا - بمختلف عن النحاس في جوهر المادة المصنوع منها كل منهما، بل الجوهر واحد - عند هؤلاء - وإنما الاختلاف كله في طريقة الترتيب والتركيب، أو هو في اختلاف درجة الكثافة أو في اختلاف الكمية إلى آخر هذه الآراء التي تجدها عند ديمقريطس مثلا أو فيثاغورس، لكنه على الرغم من هذه المحاولات الأولى، كان السير نحو الهدف بطيئا أول الأمر، ثم أسرع في العلوم الطبيعية وحدها ولبث على بطئه في العلوم الإنسانية. وإني لمن القائلين إنه لا مبرر أبدا لتثبيط الهمة في العلوم الإنسانية؛ لأنه بمقدار ما يدخل الإنسان في عداد الظواهر الطبيعية لا بد من إخضاعه لما تخضع له سائر الظواهر من منهج علمي في البحث، وأما إن كان للإنسان جانب يتفرد به دون الظواهر الأخرى، كان معنى ذلك اعترافا منا بأن هذا الجانب الإنساني الفريد لا يجوز فيه التحدث إلا كما يتحدث الفنان حديثا ينفعل به، لكنه لا يقول عن دنيا الواقع العلمي شيئا.
2
يقدم «كولنجوود» اقتراحا جديرا بالنظر، يصف به طبيعة التفكير الفلسفي،
1
فيقول إن الاختلاف الكمي بين المدركات هو في حد ذاته ليس بذي شأن في التفكير الفلسفي؛ فليس مما يعني الفيلسوف أبدا أن يعلم كم درجة حرارية هنا وكم درجة هناك، وكم يكون ارتفاع هذا الجبل، أو كم تكون المسافة بين القاهرة ودمشق، بل إن من الفلاسفة من يرى أن المدركات الرئيسية التي تشغلهم قبل غيرها ليست بطبيعتها مما يخضع للقياس الكمي - كالخير والحق والجمال والوجود والعدم والمطلق والروح والجوهر - فهذه كلها مدركات عقلية لا تكال بالقدح ولا توزن بالرطل ولا تقاس بالمتر، إنها مدركات لا تجوز عليها القسمة إلى درجات إطلاقا ، فضلا عن أن تقاس تلك الدرجات قياسا فيه ضبط ودقة.
كلا ولا الاختلاف الكيفي نفسه هو في حد ذاته مما يشغل الفلاسفة؛ فلا يهتم الفيلسوف أبدا بالفرق - مثلا - بين الزواحف والطيور، وبين صخور المرمر وصخور الجرانيت، إنه قد يسأل نفسه: ما الحياة؟ لكنه لا يسأل نفسه قط عن الفوارق الكيفية بين نوع ونوع آخر من الأحياء، وقد يسأل نفسه: ما الإدراك الحسي؟ لكنه لا يسأل قط: ما الفرق الكيفي بين البصر والسمع؟
صفحه نامشخص