ونعود إلى ما بدأنا به فنقول: إن «الحق» صفة لا نصف بها شيئا من الواقع نفسه، بل نصف بها «اعتقادا» لدى فرد من الناس عن ذلك الواقع؛ وبالتالي نصف بها «عبارة» يقولها صاحب الاعتقاد ليعبر بها عن اعتقاده؛ فليس «الحق» في ذاته كائنا موضوعيا خارجيا حتى يجوز للفلاسفة أن يبحثوا فيه على هذا الاعتبار، بل هو «علاقة» بين الاعتقاد من جهة وبين الأمر الواقعي المعتقد فيه من جهة أخرى، وتكون علاقة الحق قائمة بين طرفيها حين يكون بين الطرفين تطابق بأي معني من معانيه؛ فالاعتقاد الحق هو ما له طرف خارجي يشير إليه، والاعتقاد الباطل هو ما ليس له طرف خارجي يشير إليه، أو هو ما يشير إلى طرف خارجي إشارة لا تكشف عن طبيعته على نحو ما هي قائمة.
3
ليس «الحق» - إذن - كائنا قائما بذاته وحده قياما مستقلا يجيز لنا أن نبحث عنه كما يبحث الرحالة عن منابع النيل، ولكنه علاقة تقوم بين طرفين؛ فهنا - من ناحية - الصورة التي نتصورها عن هذا الجزء أو ذاك من أجزاء العالم الخارجي، وهنالك - من ناحية أخرى - العالم الخارجي نفسه بما فيه من أجزاء، وما نصفه بالحق هو التصور التي نتصوره حين يكون صورة مطابقة لما هنالك من واقع.
فليس السؤال المشروع هو: ما «الحق»؟ بل السؤال المشروع هو: ما الظروف التي إذا توافرت لقضية إخبارية قلنا عن هذه القضية إنها حق؟
وليس الفلاسفة جميعا على كلمة واحدة في الإجابة عن هذا السؤال؛ فمنهم - بين جماعة الوضعيين المنطقيين أنفسهم مثل «همبل» و«نوراث» - من يجعل «الاتساق» شرطا للحق ؛ فالقضية المعينة تكون صادقة لو كانت تربطها صلة لغوية بغيرها، تجيز لها أن تكون جزءا من معرفتنا ما دام الأصل الذي هي متصلة به جزءا من المعرفة معترفا بصوابه؛ فمثلا: هل من الحق أن يقال إن بروتس قتل قيصر؟ الجواب هو: نعم إن هذا القول حق لأنه مشتق من العبارة الفلانية، والعبارة الفلانية مما تراه مدونا في الوثيقة الفلانية؛ وإذن فهذا القول «مشتق» مع أقوال أخرى وردت في موضع معين بدأنا بافتراض أنه موثوق بصدقه؛ ومعنى ذلك أن علاقة الحق في قضية ما هي عدم تناقضها مع قضية أخرى، وليست علامة الحق - في نظر هؤلاء - هي أن تكون القضية مرتبطة ب «الواقع» على نحو ما؛ لأن الباحث - في رأي هذه الجماعة - لا يسعه عند تحقيق الصدق لقضية معينة سوى أن يدور في عالم من قضايا، فيظل ينتقل من كتاب إلى كتاب ومن وثيقة إلى وثيقة، مقارنا هذه الجملة هنا بتلك الجملة هناك، وأما أن يحطم هذا الحصار اللغوي لينفذ منه إلى ما هو واقع خارج أسواره في الدنيا الخارجية، دنيا الحوادث نفسها، فليس له قبل به.
على أن لنظرية «الاتساق» في الحق صورا أخرى لعلها أرسخ أساسا وأعمق جذورا في ميدان البحث الفلسفي من صورتها التي أوجزناها عن بعض رجال الوضعية المنطقية، والتي تجعل صدق الجملة متوقفا على بقية الجمل التي تكون معها نسقا معينا يبدأ بفرض معين، مع جواز أن تكون الجملة الواحدة حقا بالنسبة إلى نسق ما، وباطلة بالنسبة إلى نسق آخر؛ أقول إن هنالك إلى جانب هذه الصورة في تفسير «الحق» على أساس اتساق الأجزاء، صورا أخرى بالغة الخطر في عالم التفكير الفلسفي، يختلف بعضها عن بعض وإن تكن كلها تتفق في أنها تجعل من «الحق» كلا متسق الأجزاء، وتجعل من أية معرفة عقلية منظمة - كالمعرفة العلمية مثلا - مجموعة من القضايا مستندا بعضها إلى بعض في وحدة متصلة القضايا اتصال المقدمات بنتائجها.
فمن الصور الهامة التي ظهر عليها مذهب الاتساق في الحق، الصورة الديكارتية التي ترتكز على المبدأ القائل بأنه لا يجوز للباحث عن الحقيقة أن يثبت شيئا على أنه الحق إلا ما يستطيع إدراكه إدراكا واضحا متميزا. ومثل هذا الإدراك لما هو حق معصوم من الخطأ مبرأ من الشك، إنما يتم بطريق العيان المباشر؛ أي إنه يتحقق لصاحبه بالحدس؛ فما ندرك بالحدس أنه حق واضح بذاته يكون كذلك بغير شك، لكننا لا ندرك مثل هذا الإدراك الحدسي إلا إن كان المعروض أمام العقل «فكرة بسيطة» أو «قضية بسيطة»، على أن هذه البساطة لا تعني أن تكون الفكرة خلوا من الكثرة الداخلة في تكوينها، بل إننا لنعدها فكرة بسيطة إذا ما كان قوامها أكثر من عنصر واحد، لكنها عناصر يتصل بعضها ببعض صلة ضرورية. وبعبارة أخرى، فإن ما يطلق عليه ديكارت اسم «فكرة بسيطة» أو «قضية بسيطة» هو حكم شرطي صيغ على نحو يجعل التالي فيه لازما بالضرورة عن المقدم، وإن يكن هذا التالي لا يستلزم بالضرورة صدق المقدم.
4
ولنضرب لذلك الأمثلة التي ضربها ديكارت نفسه؛ فالفكرة التي قوامها «إذا كان ثمة وعي ذاتي، كان ثمة وجود» فكرة بسيطة عند ديكارت، ولو أن بساطتها لا تتنافى مع أن يكون هنالك تركيب شرطي يتوقف فيه التالي على المقدم، بحيث يستحيل أن يصدق المقدم ولا يصدق التالي معه، على حين أن العكس يجوز ألا يكون صحيحا؛ أي إن التالي قد يصدق دون أن يصدق معه المقدم؛ فيكون هنالك «وجود» دون أن يستلزم ذلك «وعيا ذاتيا»، وكذلك القضية 2 × 2 = 4 هي بمثابة تركيب شرطي صورته إذا أضيفت 2 إلى 2 كان الناتج 4، فها هنا أيضا يستحيل أن يصدق المقدم دون أن يستلزم ذلك صدق التالي معه، لكن العكس غير صحيح، فلا نقول إنه إذا كانت هنالك أربعة فلا بد أن تكون اثنتان قد أضيفتا إلى اثنتين؛ لأن الأربعة قد تنتج عن إضافة أخرى، كإضافة ثلاثة إلى واحد .
نعود إلى ما كنا بصدد الحديث فيه، وهو أن الحق شرطه عند ديكارت هو الإدراك الواضح المتميز، وهذا الإدراك يكون عيانا مباشرا للحقيقة المعروضة، ومثل هذه الحقيقة لا بد أن تكون فكرة بسيطة أو قضية بسيطة، لكن هذه البساطة لا تتنافى مع أن يكون هنالك عنصران داخل القضية، لكنهما متماسكان على نحو يجعل عنصرا منهما مستحيلا بغير الآخر، كما هي الحال في صدق التالي إذا صدق المقدم في القضية الشرطية. ومع ذلك فإدراك المقدم والتالي لا يكون انتقالا من جزء إلى جزء، إنما هو إدراك لكل واحد متصل يتم بفعل حدسي واحد يكشف عما فيه من حق واضح بذاته ممتنع على الشك، ومثل هذا الحق هو الذي يصلح بعد ذلك أساسا ينبني عليه ما أردنا بناءه من علم أو فلسفة؛ لأن مثل هذا الحق هو بمثابة المبدأ الذي نشتق منه معرفتنا كلها في تناسق أجزائها، فما نستدله من المبادئ الواضحة بذاتها استدلالا صحيحا يكون بدوره حقا لا شبهة فيه، فكأنما ترتبط كل خطوة بالخطوة السابقة عليها كما ترتبط الحلقة التالية بالحلقة السابقة في السلسلة، تؤدي الواحدة منها إلى الأخرى مما يجعل الخالفة في يقين السالفة.
صفحه نامشخص