7
فليس يهمنا نحن في هذا السياق أن نسأل «كيف» يقوم الإنسان بتوحيد ما هو في حقيقته أشتات مفرقة، إنما الذي يهمنا أن نعلم أن الشيء الخارجي - والعالم بصفة عامة - هو هو ظواهره في تعددها وتكثرها وتحولها وتغيرها، والبحث عما يكون وراء ذلك من وحدانية وثبات ودوام هو بحث في غير موضوع.
إننا نذكر القارئ بمذهبنا في مهمة الفلسفة، وهو مذهب يجعل الفلسفة تحليلا منطقيا لقضايا العلوم، ولا يلقي على الفيلسوف تبعة الحديث عن العالم وأشيائه؛ فإن كنا نزعم هنا أن الشيء أو أن العالم إن هو إلا مجموعة ظواهره ولا شيء وراء ذاك، فلسنا نريد بهذا أكثر من القول بأننا في أية عبارة لغوية ذات معنى، نستطيع أن نستبدل بالأسماء الواردة فيها رموزا أخرى تشير إلى خبرات حسية؛ فإن صادفتنا عبارة تنطوي على كلمة أو كلمات مستحيل ترجمتها إلى مثل هذه الرموز الدالة على معطيات الحس، كانت عبارة بغير معني.
الفصل التاسع
مشكلة الحق
1
ألا إنه لمثل صارخ بمغزاه أن نرى الفيلسوف التأملي باحثا عن «الحق» في رأسه؛ فإن سألناه: ما هو «الاعتقاد» المعين الذي تبحث في أمره لترى إن كان حقا أو باطلا؟ أجاب بأنه لا يبحث عن الحق بالنسبة لهذا الاعتقاد المعين أو ذاك، بل هو يبحث في «الحق» مطلقا غير متقيد بأمثلته الجزئية، وبغض النظر عما يوصف به من آراء أو من عبارات تصف تلك الآراء، إنه يبحث في رأسه عن شيء اسمه «الحق» كأنما هو يبحث خلال منظار عن نجم في السماء دلت عمليات الحساب أنه لا بد واقع في موضع معين بين النجوم، ويريد الآن أن يحقق بالرؤية ما قد كشف عن وجوده بالفكر النظري.
ولو كان لفظ «الحق» اسما جاء في اللغة العربية ليسمي شيئا، كما جاء لفظ «قط» ولفظ «إنسان»، لجاز لفيلسوفنا أن يحاول تحديد هذا المسمي الذي أردنا الإشارة إليه بهذا الاسم، لكن تحليلا سريعا للكلمة واستعمالها يدل على أنها كلمة زائدة لا تضيف إلى الجملة التي ترد فيها معنى إلى معناها، حتى لتظل الجملة غير منقوصة المعنى إذا ما أضفت إليها هذه الكلمة إن لم تكن فيها أو حذفتها منها إن كانت؛ فإثباتك لواقعة ما في جملة معينة يكفي وحده لأداء المطلوب؛ فلو قلت مثلا إن «كليوباتره ماتت مسمومة» كان قولك هذا مساويا من الوجهة المنطقية لقولك إن «كليوباتره ماتت مسمومة وهذا حق». نعم إن هذه الإضافة قد تؤكد الإثبات، ولكن تأكيد الإثبات لا يجعل من الإثبات شيئا آخر غير الإثبات، والجملة التقريرية بحكم طبيعتها تثبت إن كان الحكم فيها موجبا؛ فلو رمزنا إلى أية قضية مثبتة بالرمز ق، فإن مجرد ذكرنا ل «ق» مساو لقولنا «ق حق».
إنك إذ تسأل عن طبيعة أي شيء مما يرد ذكره في الحديث، فأنت في الحقيقة تسأل عن تعريف الرمز الوارد خلال الحديث، الذي إنما ورد ليشير إلى ذلك الشيء المراد معرفة طبيعته؛ فسؤالك «ما طبيعة س؟» مساو دائما لمطالبتك بإبدال «س» بما يساويها من الرموز الأخرى التي تشير إلى أشياء معروفة لك في خبرتك، أو بعبارة أخرى فإن سؤالك عن طبيعة «س» معناه دائما مطالبتك بترجمة الجملة التي وردت فيها «س» إلى جملة أو طائفة من الجمل الأخرى تساويها معنى ولكنها تستغني عن استخدامها للرمز «س». وتطبيقا لهذا في حالة «الحق» نرى أن سؤالك عن طبيعة «الحق» معناه مطالبتك بترجمة أي جملة ترد فيها هذه الكلمة إلى جملة أخرى تساويها معنى ولكنها تستغني عن كلمة «الحق». ونحن نزعم لك الآن أن جملة «ق حق» يمكن تحويلها إلى «ق» مسقطين كلمة «حق»، ومع ذلك يظل الأصل والتحويل متساويين في المعنى؛ مما يدل عن أن الكلمة كانت في الأصل زائدة؛ ومن ثم فالبحث عن طبيعتها هو بحث في الهواء كما يقولون.
وكما أن القضية التي تقول عنها إنها «حق» هي هي نفسها القضية التي تسوقها في إثباتها غير موصوفة بهذه الكلمة، فكذلك كلمة «باطل» لا تعني شيئا؛ لأن كل قضية أضيفت إليها هذه الكلمة مساوية في معناها إلى القضية نفسها في صورة النفي؛ فمثلا قولي «مات أبو بكر مقتولا قول باطل» مساو لقولي «لم يمت أبو بكر مقتولا»؛ وبهذا نتخلص من كلمة لا مدلول لها في ذاتها، ولو تركناها لأغرت الفلاسفة أن يجردوها وحدها ليسألوا: ما طبيعة الباطل؟
صفحه نامشخص